بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١
نسخ
مشاركة
التفسير
صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١
تفسير سورة ص [ وهي ] مكية .
* قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان.
ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور.
قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص.
فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.
وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمذاني قال: قال عبدالله فذكر نحوه.
وحُكي مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم.
وروينا أيضا من حديث شريك بن عبدالله بن عطاء بن السائب عن أبى الضحى عن ابن عباس: الم قال أنا الله أعلم وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى.
قال وأبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلألائه ليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم.
قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب: فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة.
هذا لفظ ابن أبي حاتم ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى "وجد عليه أمة من الناس يسقون" وقوله تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجها ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معا ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم.
ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني وقفت.
وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لا يـ ينقد عنه جلده إذا يـ فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر: بالخير خيرات وان شرا فـ ولا أريد الشر إلا أن تـ يقول وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم.
قال القرطبي وفي الحديث "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل"ا قـ" وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها"ق وص وحم وطسم والر" وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير.
قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي - ال م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن- يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر.
وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف.
قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة.
وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته.
وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وههنا ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاما فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلمة فقد أخطأ خطأ كبيرا فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا "آمنا به كل من عند ربنا" ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف أيضا لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها ليس كذلك ولو كـان كذلك أيضا لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.
وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري فى كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.
قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق- وحرفين مثل "حم" وثلاثة مثل "الم" وأربعة مثل "المر" و "المص" وخمسة مثل "كهيعص- و- حم عسق" لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك "قلت" ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" "الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه" "المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه" "الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم" "الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين" "حم تنزيل من الرحمن الرحيم" "حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم" وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم.
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" فأتى أخاه بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه "الم ذلك الكتاب لا ريب فيه" فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلوا فيما أنزل الله عليك "الم ذلك الكتاب"؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بلى" فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال "نعم" قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك.
فقام حي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره فقال "نعم" قال ما ذاك؟ قال "المص" قال هذا أثقل وأطول الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة.
هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال "نعم" قال ما ذاك؟ قال "الر" قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة.
فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال "نعم" قال ماذا قال "المر" قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا.
ثم قال قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.
وقوله تعالى "والقرآن ذي الذكر" أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى " ذي الذكر" كقوله تعالى " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم" أي تذكيركم وكذا قال قتادة وأختاره ابن جرير.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي "ذي الذكر" ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم هو قوله تعالى "إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب " وقيل قوله تعالى "إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير وضعفه ابن جرير وقال قتادة جوابه "بل الذين كفروا في عزة وشقاق " واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه "ص" بمعنى صدق حق "والقرآن ذي الذكر " وقيل جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها والله أعلم.
صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١
سورة ص
سورة ص .
مكية في قول الجميع ، وهي ست وثمانون آية . وقيل ثمان وثمانون آية .
بسم الله الرحمن الرحيم .
ص والقرآن ذي الذكر
قوله تعالى : ص قراءة العامة " ص " بجزم الدال على الوقف ; لأنه حرف من حروف الهجاء مثل : الم و المر . وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم " صاد " بكسر الدال بغير تنوين . ولقراءته مذهبان : أحدهما أنه من صادى يصادي إذا عارض ، ومنه فأنت له تصدى أي تعرض . والمصاداة المعارضة ، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الخالية . فالمعنى صاد القرآن بعملك ، أي : عارضه بعملك وقابله به ، فاعمل بأوامره ، وانته عن نواهيه . النحاس : وهذا المذهب يروى عن الحسن أنه فسر به قراءته رواية صحيحة . وعنه أن المعنى اتله وتعرض لقراءته . والمذهب الآخر : أن تكون الدال مكسورة لالتقاء الساكنين . وقرأ عيسى بن عمر " صاد " بفتح الدال مثله : " قاف " و " نون " بفتح آخرها . وله في ذلك ثلاثة مذاهب : أحدهن : أن يكون بمعنى اتل . والثاني : أن يكون فتح لالتقاء الساكنين واختار الفتح للإتباع ، ولأنه أخف الحركات . والثالث : أن يكون منصوبا على القسم بغير حرف ، كقولك : الله لأفعلن ، وقيل : نصب على الإغراء . وقيل : معناه صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا " صاد " بكسر الدال والتنوين على أن يكون مخفوضا على حذف حرف القسم ، وهذا بعيد وإن كان سيبويه قد أجاز مثله . ويجوز أن يكون مشبها بما لا يتمكن من الأصوات وغيرها . وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع : " صاد " و " قاف " و " نون " بضم آخرهن : لأنه المعروف بالبناء في غالب الحال ، نحو منذ وقط وقبل وبعد . و " ص " إذا جعلته اسما للسورة لم ينصرف ، كما أنك إذا سميت مؤنثا بمذكر لا ينصرف وإن قلت حروفه . وقال ابن عباس وجابر بن عبد الله وقد سئلا عن ص فقالا : لا ندري ما هي . وقال عكرمة : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن ص فقال : ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار . وقال سعيد بن جبير : ص بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين . وقال الضحاك : معناه صدق الله . وعنه أن ص قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى . وقال السدي ، وروي عن ابن عباس . وقال محمد بن كعب : هو مفتاح أسماء الله تعالى : صمد ، وصانع المصنوعات ، وصادق الوعد . وقال قتادة : هو اسم من أسماء الرحمن . وعنه أنه اسم من أسماء القرآن . وقال مجاهد : هو فاتحة السورة . وقيل : هو مما استأثر الله تعالى بعلمه وهو معنى القول الأول . وقد تقدم جميع هذا في [ البقرة ] .
قوله تعالى : والقرآن خفض بواو القسم ، والواو بدل من الباء ، أقسم بالقرآن تنبيها على جلالة قدره ، فإن فيه بيان كل شيء ، وشفاء لما في الصدور ، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم .
ذي الذكر خفض على النعت ، وعلامة خفضه الياء ، وهو اسم معتل ، والأصل فيه ذوى على فعل . قال ابن عباس : ومقاتل معنى ذي الذكر ذي البيان . الضحاك : ذي الشرف أي : من آمن به كان شرفا له في الدارين ، كما قال تعالى : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أي : شرفكم . وأيضا القرآن شريف في نفسه لإعجازه واشتماله على ما لا يشتمل عليه غيره . وقيل : ذي الذكر أي : فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين . وقيل : ذي الذكر أي : فيه ذكر أسماء الله وتمجيده . وقيل : أي : ذي الموعظة والذكر . وجواب القسم محذوف . واختلف فيه على أوجه : فقيل جواب القسم ص ; لأن معناه حق ، فهي جواب لقوله : والقرآن كما تقول : حقا والله ، نزل والله ، وجب والله ، فيكون الوقف من هذا الوجه على قوله : والقرآن ذي الذكر حسنا ، وعلى في عزة وشقاق تماما . قال ابن الأنباري . وحكى معناه الثعلبي عن الفراء . وقيل : الجواب بل الذين كفروا في عزة وشقاق لأن بل نفي لأمر سبق وإثبات لغيره ، قاله القتبي ، فكأنه قال : والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق عن قبول الحق وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم . أو والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقولون من أنك ساحر كذاب ; لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة بل هم في تكبر عن قبول الحق . وهو كقوله : ق والقرآن المجيد . بل عجبوا . وقيل : الجواب كم أهلكنا كأنه قال : والقرآن لكم أهلكنا ، فلما تأخرت كم حذفت اللام منها ، كقوله تعالى : والشمس وضحاها ثم قال : قد أفلح أي : لقد أفلح . قال المهدوي : وهذا مذهب الفراء . ابن الأنباري : فمن هذا الوجه لا يتم الوقف على قوله : في عزة وشقاق . وقال الأخفش : جواب القسم إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ونحو منه قوله تعالى : تالله إن كنا لفي ضلال مبين وقوله : والسماء والطارق إلى قوله إن كل نفس ابن الأنباري : وهذا قبيح ; لأن الكلام قد طال فيما بينهما وكثرت الآيات والقصص . وقال الكسائي : جواب القسم قوله : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . ابن الأنباري : وهذا أقبح من الأول ; لأن الكلام أشد طولا فيما بين القسم وجوابه . وقيل : الجواب قوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . وقال قتادة : الجواب محذوف تقديره والقرآن ذي الذكر لتبعثن ونحوه .
صٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِي ٱلذِّكۡرِ ١
هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن، وحال المكذبين به معه ومع من جاء به، فقال: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي: ذي القدر العظيم والشرف، المُذَكِّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من العلم، بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية، ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء، فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه.
وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه، فإن حقيقة الأمر، أن المقسم به وعليه شيء واحد، وهو هذا القرآن، الموصوف بهذا الوصف الجليل، فإذا كان القرآن بهذا الوصف، علم ضرورة العباد إليه، فوق كل ضرورة، وكان الواجب عليهم تَلقِّيه بالإيمان والتصديق، والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه.
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ ٢
وقوله : ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) أي : إن في هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر . وإنما لم ينتفع به الكافرون ؛ لأنهم ) في عزة ) أي : استكبار عنه وحمية ) وشقاق ) أي : مخالفة له ومعاندة ومفارقة .
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ ٢
قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة أي في تكبر وامتناع من قبول الحق ، كما قال - جل وعز - : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم والعزة عند العرب : الغلبة والقهر . يقال : من عز بز ، يعني من غلب سلب . ومنه : وعزني في الخطاب أراد غلبني . وقال جرير :
يعز على الطريق بمنكبيه كما ابترك الخليع على القداح
أراد يغلب .
قوله تعالى : وشقاق أي في إظهار خلاف ومباينة . وهو من الشق ، كأن هذا في شق وذلك في شق . وقد مضى في [ البقرة ] مستوفى .
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٖ وَشِقَاقٖ ٢
فهدى اللّه من هدى لهذا، وأبى الكافرون به وبمن أنزله، وصار معهم { عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } عزة وامتناع عن الإيمان به، واستكبار وشقاق له، أي: مشاقة ومخاصمة في رده وإبطاله، وفي القدح بمن جاء به.
كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ ٣
ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء فقال : ( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) أي : من أمة مكذبة ، ( فنادوا ) أي : حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله . وليس ذلك بمجد عنهم شيئا . كما قال تعالى : ( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ) ] الأنبياء : 12 [ أي : يهربون ، ( لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ) ] الأنبياء : 13 [
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال : سألت ابن عباس عن قول الله : ( فنادوا ولات حين مناص ) قال : ليس بحين نداء ، ولا نزو ولا فرار
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ليس بحين مغاث .
وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس : نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تذكر ليلى لات حين تذكر
.
وقال محمد بن كعب في قوله : ( فنادوا ولات حين مناص ) يقول : نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم ، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم .
وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء .
وقال مجاهد : ( فنادوا ولات حين مناص ) ليس بحين فرار ولا إجابة .
وقد روي نحو هذا عن عكرمة ، وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة .
وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : ( ولات حين مناص ) ولا نداء في غير حين النداء .
وهذه الكلمة وهي " لات " هي " لا " التي للنفي ، زيدت معها " التاء " كما تزاد في " ثم " فيقولون : " ثمت " ، و " رب " فيقولون : " ربت " . وهي مفصولة والوقف عليها . ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره [ ابن جرير ] أنها متصلة بحين : " ولا تحين مناص " . والمشهور الأول . ثم قرأ الجمهور بنصب " حين " تقديره : وليس الحين حين مناص . ومنهم من جوز النصب بها ، وأنشد :
تذكر حب ليلى لات حينا وأضحى الشيب قد قطع القرينا
ومنهم من جوز الجر بها ، وأنشد :
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
وأنشد بعضهم أيضا :
ولات ساعة مندم
بخفض الساعة ، وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر ، والبوص : التقدم . ولهذا قال تعالى : ( ولات حين مناص ) أي : ليس الحين حين فرار ولا ذهاب .
كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ ٣
قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن أي قوم كانوا أمنع من هؤلاء . و " كم " لفظة التكثير
فنادوا أي بالاستغاثة والتوبة . والنداء رفع الصوت ، ومنه الخبر : ( ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتا ) أي : أرفع .
ولات حين مناص قال الحسن : نادوا بالتوبة وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل . النحاس : وهذا تفسير منه لقوله - عز وجل - : ولات حين مناص فأما إسرائيل فروى عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : ولات حين مناص قال : ليس بحين نزو ولا فرار ، قال : ضبط القوم جميعا قال الكلبي : كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض : مناص ، أي : عليكم بالفرار والهزيمة ، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص ، فقال الله - عز وجل - : ولات حين مناص قال القشيري : وعلى هذا فالتقدير : فنادوا مناص فحذف لدلالة بقية الكلام عليه ، أي : ليس الوقت وقت ما تنادون به . وفي هذا نوع تحكم ، إذ يبعد أن يقال : كل من هلك من القرون كانوا يقولون مناص عند الاضطرار . وقيل : المعنى ولات حين مناص أي : لا خلاص ، وهو نصب بوقوع " لا " عليه . قال القشيري : وفيه نظر لأنه لا معنى على هذا للواو في ولات حين مناص وقال الجرجاني : أي : فنادوا حين لا مناص ، أي : ساعة لا منجى ولا فوت . فلما قدم " لا " وأخر " حين " اقتضى ذلك الواو ، كما يقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا ، مثل قولك : جاء زيد راكبا ، فإذا جعلته مبتدأ وخبرا اقتضى الواو مثل : جاءني زيد وهو راكب ، فحين ظرف لقوله : فنادوا . والمناص بمعنى التأخر والفرار والخلاص ، أي : نادوا لطلب الخلاص في وقت لا يكون لهم فيه خلاص . قال الفراء : .
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص
يقال : ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي : فر وزاغ . النحاس : ويقال : ناص ينوص إذا تقدم .
قلت : فعلى هذا يكون من الأضداد ، والنوص الحمار الوحشي . واستناص أي : تأخر ، قاله الجوهري . وتكلم النحويون في ولات حين وفي الوقف عليه ، وكثر فيه أبو عبيدة القاسم بن سلام في كتاب القراءات وكل ما جاء به إلا يسيرا مردود . فقال سيبويه : لات مشبهة بليس والاسم فيها مضمر ، أي : ليست أحياننا حين مناص . وحكى أن من العرب من يرفع بها فيقول : ولات حين مناص . وحكى أن الرفع قليل ، ويكون الخبر محذوفا كما كان الاسم محذوفا في النصب ، أي : ولات حين مناص لنا . والوقف عليها عند سيبويه والفراء ولات بالتاء ثم تبتدئ حين مناص هو قول ابن كيسان والزجاج . قال أبو الحسن بن كيسان : والقول كما قال سيبويه ; لأنه شبهها بليس ، فكما يقال ليست يقال لات . والوقوف عليها عند الكسائي بالهاء : ولاه . وهو قول المبرد محمد بن يزيد . وحكى عنه علي بن سليمان أن الحجة في ذلك أنها دخلت عليها الهاء لتأنيث الكلمة ، كما يقال ثمه وربه . وقال القشيري : وقد يقال ثمت بمعنى ثم ، وربت بمعنى رب ، فكأنهم زادوا في لا هاء فقالوا : لاه ، كما قالوا في ثمه عند الوصل صارت تاء . وقال الثعلبي : وقال أهل اللغة : و " لات حين " مفتوحتان كأنهما كلمة واحدة ، وإنما هي " لا " زيدت فيها التاء نحو رب وربت ، وثم وثمت . قال أبو زبيد الطائي :
طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال آخر :
تذكر حب ليلى لات حينا وأمسى الشيب قد قطع القرينا
ومن العرب من يخفض بها ، وأنشد الفراء :
فلتعرفن خلائقا مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم
وكان الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش يذهبون إلى أن " ولات حين " التاء منقطعة من حين ، ويقولون معناها وليست . وكذلك هو في المصاحف الجدد والعتق بقطع التاء من حين . وإلى هذا كان يذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : الوقف عندي على هذا الحرف " ولا " والابتداء " تحين مناص " فتكون التاء مع حين . وقال بعضهم : " لات " ثم يبتدئ فيقول : " حين مناص " . قال المهدوي : وذكر أبو عبيد أن التاء في المصحف متصلة بحين ، وهو غلط عند النحويين ، وهو خلاف قول المفسرين . ومن حجة أبي عبيد أن قال : إنا لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن ، وأنشد لأبي وجزة السعدي :
العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم
وأنشد لأبي زبيد الطائي :
طلبوا صلحنا ولا تأوان فأجبنا أن ليس حين بقاء
فأدخل التاء في " أوان " . قال أبو عبيد : ومن إدخالهم التاء في الآن ، حديث ابن عمر وسأله رجل عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، فذكر مناقبه ثم قال : اذهب بها تلان معك . وكذلك قول الشاعر :
نولي قبل نأي داري جمانا وصلينا كما زعمت تلانا
قال أبو عبيد : ثم مع هذا كله إني تعمدت النظر في الذي يقال له الإمام - مصحف عثمان - فوجدت التاء متصلة مع " حين " قد كتبت " تحين " . قال أبو جعفر النحاس : أما البيت الأول الذي أنشده لأبي وجزة فرواه العلماء باللغة على أربعة أوجه ، كلها على خلاف ما أنشده ، وفي أحدها تقديران ، رواه أبو العباس محمد بن يزيد :
العاطفون ولات ما من عاطف
والرواية الثانية :
العاطفون ولات حين تعاطف
والرواية الثالثة رواها ابن كيسان :
العاطفونة حين ما من عاطف
جعلها هاء في الوقف وتاء في الإدراج ، وزعم أنها لبيان الحركة ، شبهت بهاء التأنيث . الرواية الرابعة :
العاطفونه حين ما من عاطف
وفي هذه الرواية تقديران ، أحدهما وهو مذهب إسماعيل بن إسحاق أن الهاء في موضع نصب ، كما تقول : الضاربون زيدا ، فإذا كنيت قلت : الضاربوه . وأجاز سيبويه في الشعر الضاربونه ، فجاء إسماعيل بالتأنيث على مذهب سيبويه في إجازته مثله . والتقدير الآخر : العاطفونه على أن الهاء لبيان الحركة ، كما تقول : مر بنا المسلمونه في الوقف ، ثم أجريت في الوصل مجراها في الوقف ، كما قرأ أهل المدينة : ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه وأما البيت الثاني فلا حجة له فيه ; لأنه يوقف عليه : " ولات أوان " غير أن فيه شيئا مشكلا ; لأنه يروى : " ولات أوان " بالخفض ، وإنما يقع ما بعد لات مرفوعا أو منصوبا . وإن كان قد روي عن عيسى بن عمر أنه قرأ " ولات حين مناص " بكسر التاء من لات والنون من حين ، فإن الثبت عنه أنه قرأ " ولات حين مناص " فبنى " لات " على الكسر ونصب " حين " . فأما : ولات أوان ففيه تقديران ، قال الأخفش : فيه مضمر ، أي : ولات حين أوان . قال النحاس : وهذا القول بين الخطأ . والتقدير الآخر عن أبي إسحاق قال : تقديره ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه فوجب ألا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين . وأنشده محمد بن يزيد ولات أوان بالرفع . وأما البيت الثالث فبيت مولد لا يعرف قائله ولا تصح به حجة . على أن محمد بن يزيد رواه : كما زعمت الآن . وقال غيره : المعنى كما زعمت أنت الآن . فأسقط الهمزة من أنت والنون . وأما احتجاجه بحديث ابن عمر ، لما ذكر للرجل مناقب عثمان فقال له : اذهب بها تلان إلى أصحابك ، فلا حجة فيه ; لأن المحدث إنما يروي هذا على المعنى . والدليل على هذا أن مجاهدا يروي عن ابن عمر هذا الحديث وقال فيه : اذهب فاجهد جهدك . ورواه آخر : اذهب بها الآن معك . وأما احتجاجه بأنه وجدها في الإمام " تحين " . فلا حجة فيه ; لأن معنى الإمام أنه إمام المصاحف ، فإن كان مخالفا لها فليس بإمام لها ، وفي المصاحف كلها " ولات " فلو لم يكن في هذا إلا هذا الاحتجاج لكان مقنعا . وجمع مناص مناوص .
كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ فَنَادَواْ وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٖ ٣
فتوعدهم بإهلاك القرون الماضية المكذبة بالرسل، وأنهم حين جاءهم الهلاك، نادوا واستغاثوا في صرف العذاب عنهم ولكن { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أى: وليس الوقت، وقت خلاص مما وقعوا فيه، ولا فرج لما أصابهم، فَلْيَحْذَرْ هؤلاء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم، فيصيبهم ما أصابهم.
وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ ٤
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة الرسول بشرا ، كما قال تعالى : ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) وقال هاهنا : ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ) أي : بشر مثلهم ، ( وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا ) أي : أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو ؟ ! أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى - وتعجبوا من ترك الشرك بالله ، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا :
وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ ٤
قوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم أن في موضع نصب ، والمعنى من أن جاءهم . قيل : هو متصل بقوله : في عزة وشقاق أي : في عزة وشقاق وعجبوا ، وقوله : كم أهلكنا معترض . وقيل : لا بل هذا ابتداء كلام ، أي : ومن جهلهم أنهم أظهروا التعجب من أن جاءهم منذر منهم .
فقال الكافرون هذا ساحر أي يجيء بالكلام المموه الذي يخدع به الناس ، وقيل : يفرق بسحره بين الوالد وولده والرجل وزوجته
كذاب أي في دعوى النبوة .
وَعَجِبُوٓاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٞ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ هَٰذَا سَٰحِرٞ كَذَّابٌ ٤
{ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ } أي: عجب هؤلاء المكذبون في أمر ليس محل عجب، أن جاءهم منذر منهم، ليتمكنوا من التلقي عنه، وليعرفوه حق المعرفة، ولأنه من قومهم، فلا تأخذهم النخوة القومية عن اتباعه، فهذا مما يوجب الشكر عليهم، وتمام الانقياد له.
ولكنهم عكسوا القضية، فتعجبوا تعجب إنكار وَقَالُوا من كفرهم وظلمهم: { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ }
أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥
"أجعل الآلهة إلها واحدا"أي : أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو ؟ ! أنكر المشركون ذلك - قبحهم الله تعالى - وتعجبوا من ترك الشرك بالله ، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب).
أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥
قوله تعالى : أجعل الآلهة إلها واحدا مفعولان أي : صير الآلهة إلها واحدا .
إن هذا لشيء عجاب أي عجيب . وقرأ السلمي : " عجاب " بالتشديد . والعجاب والعجاب والعجب سواء . وقد فرق الخليل بين عجيب وعجاب فقال : العجيب العجب ، والعجاب الذي قد تجاوز حد العجب ، والطويل الذي فيه طول ، والطوال ، الذي قد تجاوز حد الطول . وقال الجوهري : العجيب الأمر الذي يتعجب منه ، وكذلك العجاب بالضم ، والعجاب بالتشديد أكثر منه ، وكذلك الأعجوبة . وقال مقاتل : " عجاب " لغة أزد شنوءة . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءت قريش إليه ، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، قال : وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم ، فقال : وما هي ؟ قال : لا إله إلا الله . قال : فقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا قال : فنزل فيهم القرآن : ص والقرآن ذي الذكر . بل الذين كفروا في عزة وشقاق حتى بلغ إن هذا إلا اختلاق خرجه الترمذي أيضا بمعناه . وقال : هذا حديث حسن صحيح . وقيل : لما أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - شق على قريش إسلامه فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا : اقض بيننا وبين ابن أخيك . فأرسل أبو طالب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا ابن أخي ، هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تمل كل الميل على قومك . قال : وماذا يسألونني ؟ قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتعطونني كلمة واحدة وتملكون بها العرب ، وتدين لكم بها العجم ، فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قولوا لا إله إلا الله . فنفروا من ذلك وقاموا ، فقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا فكيف يسع الخلق كلهم إله واحد . فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى قوله : كذبت قبلهم قوم نوح .
أَجَعَلَ ٱلۡأٓلِهَةَ إِلَٰهٗا وَٰحِدًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عُجَابٞ ٥
وذنبه -عندهم- أنه { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } أى: كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد، ويأمر بإخلاص العبادة للّه وحده. { إِنَّ هَذَا } الذي جاء به { لَشَيْءٌ عُجَابٌ } أي: يقضي منه العجب لبطلانه وفساده.
وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ ٦
وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين : ( [ أن ] امشوا ) أي : استمروا على دينكم ( واصبروا على آلهتكم ) ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد .
وقوله : ( إن هذا لشيء يراد ) قال ابن جرير : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء ، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا مجيبيه إليه .
ذكر سبب نزول هذه الآيات :
قال السدي : إن أناسا من قريش اجتمعوا فيهم : أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه ، فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده ; فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء ، فتعيرنا [ به ] العرب يقولون : تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه " . فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب " فاستأذن لهم على أبي طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك . قال : أدخلهم . فلما دخلوا عليه قالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه . قال : فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك . قال : " يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم ؟ " قال : وإلام تدعوهم ؟ قال : " أدعوهم [ إلى ] أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم " . فقال أبو جهل من بين القوم : ما هي وأبيك ؟ لنعطينها وعشرة أمثالها ، قال : تقولون : " لا إله إلا الله " . فنفر وقال : سلنا غير هذا ، قال : " لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها " فقاموا من عنده غضابا ، وقالوا : والله لنشتمنك وإلهك الذي أمرك بهذا . ( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد )
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد : فلما خرجوا دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه إلى قول : " لا إله إلا الله " فأبى وقال : بل على دين الأشياخ . ونزلت : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ القصص : 56 ]
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا : حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته ؟ فبعث إليه فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال : فخشي أبو جهل إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه . فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب . فقال له أبو طالب : أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ، يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال : وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة ! يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية " ففزعوا لكلمته ولقوله وقالوا كلمة واحدة ! نعم وأبيك عشرا فقالوا : وما هي ؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ فقال : " لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) قال : ونزلت من هذا الموضع إلى قوله : ( لما يذوقوا عذاب ) لفظ أبي كريب
وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير ، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد - غير منسوب - به نحوه . ورواه الترمذي ، والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر نحوه . وقال الترمذي : حسن .
وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ ٦
قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا الملأ الأشراف ، والانطلاق الذهاب بسرعة ، أي : انطلق هؤلاء الكافرون من عند الرسول - عليه السلام - يقول بعضهم لبعض : أن امشوا أي : امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه واصبروا على آلهتكم . وقيل : هو إشارة إلى مشيهم إلى أبي طالب في مرضه كما سبق . وفي رواية محمد بن إسحاق أنهم أبو جهل بن هشام ، وشيبة وعتبة أبناء ربيعة بن عبد شمس ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، وأبو معيط ، وجاءوا إلى أبي طالب فقالوا : أنت سيدنا وأنصفنا في أنفسنا ، فاكفنا أمر ابن أخيك وسفهاء معه ، فقد تركوا آلهتنا وطعنوا في ديننا ، فأرسل أبو طالب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : إن قومك يدعونك إلى السواء والنصفة . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما أدعوهم إلى كلمة واحدة . فقال أبو جهل : وعشرا . قال : تقولون لا إله إلا الله . فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا الآيات . " أن امشوا " أن في موضع نصب ، والمعنى بأن امشوا . وقيل : أن بمعنى أي : أي : وانطلق الملأ منهم أي : امشوا ، وهذا تفسير انطلاقهم لا أنهم تكلموا بهذا اللفظ .
وقيل : المعنى انطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام : امشوا واصبروا على آلهتكم أي : على عبادة آلهتكم .
إن هذا أي هذا الذي جاء به محمد - عليه السلام -
لشيء يراد أي يراد بأهل الأرض من زوال نعم قوم وغير تنزل بهم . وقيل : إن هذا لشيء يراد كلمة تحذير ، أي : إنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا ، ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد ، فاحذروا أن تطيعوه . وقال مقاتل : إن عمر لما أسلم وقوي به الإسلام شق ذلك على قريش فقالوا : إن إسلام عمر في قوة الإسلام لشيء يراد .
وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُواْ وَٱصۡبِرُواْ عَلَىٰٓ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٞ يُرَادُ ٦
{ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ } المقبول قولهم، محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك. { أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } أى: استمروا عليها، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى عبادتها، ولا يردكم عنها راد، ولا يصدنكم عن عبادتها، صاد. { إِنَّ هَذَا } الذي جاء به محمد، من النهي عن عبادتها { لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي: يقصد، أي: له قصد ونية غير صالحة في ذلك، وهذه شبهة لا تروج إلا على السفهاء، فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق، لا يرد قوله بالقدح في نيته، فنيته وعمله له، وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده، من الحجج والبراهين، وهم قصدهم، أن محمدا، ما دعاكم إلى ما دعاكم، إلا ليرأس فيكم، ويكون معظما عندكم، متبوعا.
مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ ٧
وقولهم : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) أي : ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة .
قال مجاهد وقتادة وابن زيد : يعنون دين قريش .
وقال غيرهم : يعنون النصرانية ، قاله محمد بن كعب والسدي .
وقال العوفي عن ابن عباس : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) يعني : النصرانية . قالوا : لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى .
( إن هذا إلا اختلاق ) قال مجاهد ، وقتادة كذب ، وقال ابن عباس : تخرص .
مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ ٧
قوله تعالى : ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة قال ابن عباس والقرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي : يعنون ملة عيسى النصرانية وهي آخر الملل . والنصارى يجعلون مع الله إلها . وقال مجاهد وقتادة أيضا : يعنون ملة قريش . وقال الحسن : ما سمعنا أن هذا يكون في آخر الزمان . وقيل : أي : ما سمعنا من أهل الكتاب أن محمدا رسول حق .
إن هذا إلا اختلاق أي كذب وتخرص ، عن ابن عباس وغيره . يقال : خلق واختلق أي : ابتدع . وخلق الله - عز وجل - الخلق من هذا ، أي : ابتدعهم على غير مثال .
مَا سَمِعۡنَا بِهَٰذَا فِي ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡأٓخِرَةِ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا ٱخۡتِلَٰقٌ ٧
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } القول الذي قاله، والدين الذي دعا إليه { فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } أي: في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا، ولا آباؤنا أدركوا آباءهم عليه، فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم، فإنه الحق، وما هذا الذي دعا إليه محمد إلا اختلاق اختلقه، وكذب افتراه، وهذه أيضا شبهة من جنس شبهتهم الأولى، حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول، وهو أنه قول مخالف لما عليه آباؤهم الضالون، فأين في هذا ما يدل على بطلانه ؟.
أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ٨
وقولهم : ( أؤنزل عليه الذكر من بيننا ) يعني : أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قالوا في الآية الأخرى : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) [ الزخرف : 31 ] قال الله تعالى : ( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) [ الزخرف : 32 ] ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم ، قال الله تعالى : ( بل لما يذوقوا عذاب ) أي : إنما يقولون هذا ؛ لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله ونقمته سيعلمون غب ما قالوا ، وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعا .
أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ٨
قوله تعالى : أأنزل عليه الذكر من بيننا هو استفهام إنكار ، والذكر هاهنا القرآن . أنكروا اختصاصه بالوحي من بينهم . فقال الله تعالى : بل هم في شك من ذكري أي : من وحيي وهو القرآن . أي : قد علموا أنك لم تزل صدوقا فيما بينهم ، وإنما شكوا فيما أنزلته عليك هل هو من عندي أم لا .
بل لما يذوقوا عذاب أي إنما اغتروا بطول الإمهال ، ولو ذاقوا عذابي على الشرك لزال عنهم الشك ، ولما قالوا ذلك ، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ . و " لما " بمعنى لم ، وما زائدة كقوله : عما قليل و فبما نقضهم ميثاقهم
أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ ٨
{ أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي: ما الذي فضله علينا، حتى ينزل الذكر عليه من دوننا، ويخصه اللّه به؟ وهذه أيضا شبهة، أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل إلا بهذا الوصف، يَمُنُّ اللّه عليهم برسالته، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى اللّه، ولهذا، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم لا يصلح شيء منها لرد ما جاء به الرسول، أخبر تعالى من أين صدرت، وأنهم { فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } ليس عندهم علم ولا بينة.
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به، وجاءهم الحق الواضح، وكانوا جازمين بإقامتهم على شكهم، قالوا ما قالوا من تلك الأقوال لدفع الحق، لا عن بينة من أمرهم، وإنما ذلك من باب الائتفاك منهم.
ومن المعلوم، أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد، إن قوله غير مقبول، ولا قادح أدنى قدح في الحق، وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلامه، ولهذا توعدهم بالعذاب فقال: { بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } أي: قالوا هذه الأقوال، وتجرأوا عليها، حيث كانوا ممتعين في الدنيا، لم يصبهم من عذاب اللّه شيء، فلو ذاقوا عذابه، لم يتجرأوا.
أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ ٩
ثم قال مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء ، الذي يعطي من يشاء ما يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ، ويختم على قلب من يشاء ، فلا يهديه أحد من بعد الله وإن العباد لا يملكون شيئا من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير ; ولهذا قال تعالى منكرا عليهم : ( أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب ) أي : العزيز الذي لا يرام جنابه ، الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد .
وهذه الآية شبيهة بقوله : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ) [ النساء : 53 : 55 ] وقوله ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) [ الإسراء : 10 ] وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري وكما أخبر تعالى عن قوم صالح [ عليه السلام ] حين قالوا : ( أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ) [ القمر : 25 : 26 ]
أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ ٩
قوله تعالى : أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب قيل : أم لهم هذا فيمنعوا محمدا - عليه السلام - مما أنعم الله - عز وجل - به عليه من النبوة . و " أم " قد ترد بمعنى التقريع إذا كان الكلام متصلا بكلام قبله ، كقوله تعالى : الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه وقد قيل إن قوله : أم عندهم خزائن رحمة ربك متصل بقوله : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم فالمعنى أن الله - عز وجل - يرسل من يشاء ; لأن خزائن السماوات والأرض له .
أَمۡ عِندَهُمۡ خَزَآئِنُ رَحۡمَةِ رَبِّكَ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡوَهَّابِ ٩
{ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } فيعطون منها من شاءوا، ويمنعون منها من شاءوا، حيث قالوا: { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } أي: هذا فضله تعالى ورحمته، وليس ذلك بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه.
أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ ٠١
وقوله : ( أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب ) أي : إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب .
قال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : يعني طرق السماء .
وقال الضحاك : فليصعدوا إلى السماء السابعة .
أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ ٠١
أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما أي فإن ادعوا ذلك : فليرتقوا في الأسباب أي فليصعدوا إلى السماوات ، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد . يقال : رقي يرقى وارتقى إذا صعد . ورقى يرقي رقيا مثل رمى يرمي رميا من الرقية . قال الربيع بن أنس : الأسباب أرق من الشعر ، وأشد من الحديد ، ولكن لا ترى . والسبب في اللغة كل ما يوصل به إلى المطلوب من حبل أو غيره . وقيل : الأسباب أبواب السماوات التي تنزل الملائكة منها ، قاله مجاهد وقتادة . قال زهير :
ولو رام أسباب السماء بسلم
وقيل : الأسباب السماوات نفسها ، أي : فليصعدوا سماء سماء . وقال السدي في الأسباب في الفضل والدين . وقيل : أي : فليعلوا في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة . وهو معنى قول أبي عبيدة . وقيل : الأسباب الحبال ، يعني إن وجدوا حبلا أو سببا يصعدون فيه إلى السماء فليرتقوا ، وهذا أمر توبيخ وتعجيز .
أَمۡ لَهُم مُّلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ فَلۡيَرۡتَقُواْ فِي ٱلۡأَسۡبَٰبِ ٠١
{ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون. { فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } الموصلة لهم إلى السماء، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه، فكيف يتكلمون، وهم أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند، والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود لا يتم لهم، بل سعيهم خائب، وجندهم مهزوم، ولهذا قال: { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ }
جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ ١١
ثم قال : ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) أي : هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهذه كقوله : ( أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر ) وكان ذلك يوم بدر ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) [ القمر : 44 : 46 ] .
جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ ١١
ثم وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - النصر عليهم فقال : جند ما هنالك " ما " صلة وتقديره : هم جند ، ف " جند " خبر ابتداء محذوف . مهزوم أي : مقموع ذليل قد انقطعت حجتهم ; لأنهم لا يصلون إلى أن يقولوا هذا لنا . ويقال : تهزمت القربة إذا انكسرت ، وهزمت الجيش كسرته . والكلام مرتبط بما قبل ، أي : بل الذين كفروا في عزة وشقاق وهم جند من الأحزاب مهزومون ، فلا تغمك عزتهم وشقاقهم ، فإني أهزم جمعهم وأسلب عزهم . وهذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد فعل بهم هذا في يوم بدر . قال قتادة : وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر . و " هنالك " إشارة لبدر وهو موضع تحزبهم لقتال محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد بالأحزاب الذين أتوا المدينة وتحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم . وقد مضى ذلك في [ الأحزاب ] . والأحزاب الجند ، كما يقال : جند من قبائل شتى . وقيل : أراد بالأحزاب القرون الماضية من الكفار . أي : هؤلاء جند على طريقة أولئك ، كقوله تعالى : فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني أي : على ديني ومذهبي . وقال الفراء : المعنى هم جند مغلوب ، أي : ممنوع عن أن يصعد إلى السماء . وقال القتبي : يعني أنهم جند لهذه الآلهة مهزوم ، فهم لا يقدرون على أن يدعوا لشيء من آلهتهم ، ولا لأنفسهم شيئا من خزائن رحمة الله ، ولا من ملك السماوات والأرض .
جُندٞ مَّا هُنَالِكَ مَهۡزُومٞ مِّنَ ٱلۡأَحۡزَابِ ١١
{ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } بحيث يكونون قادرين على ما يريدون. { فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } الموصلة لهم إلى السماء، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه، فكيف يتكلمون، وهم أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند، والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود لا يتم لهم، بل سعيهم خائب، وجندهم مهزوم، ولهذا قال: { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ }
كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ٢١
يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء القرون الماضية ، وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة .
كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ٢١
قوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح ذكرها تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتسلية له ، أي : هؤلاء من قومك يا محمد جند من الأحزاب المتقدمين الذين تحزبوا على أنبيائهم ، وقد كانوا أقوى من هؤلاء فأهلكوا . وذكر الله تعالى القوم بلفظ التأنيث ، واختلف أهل العربية في ذلك على قولين : أحدهما : أنه قد يجوز فيه التذكير والتأنيث . الثاني : أنه مذكر اللفظ لا يجوز تأنيثه ، إلا أن يقع المعنى على العشيرة والقبيلة ، فيغلب في اللفظ حكم المعنى المضمر تنبيها عليه ، كقوله تعالى : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره ولم يقل ذكرها ; لأنه لما كان المضمر فيه مذكرا ذكره ، وإن كان اللفظ مقتضيا للتأنيث . ووصف فرعون بأنه ذو الأوتاد . وقد اختلف في تأويل ذلك ، فقال ابن عباس : المعنى ذو البناء المحكم . وقال الضحاك : كان كثير البنيان ، والبنيان يسمى أوتادا . وعن ابن عباس أيضا وقتادة وعطاء : أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب له عليها . وعن الضحاك أيضا : ذو القوة والبطش . وقال الكلبي ومقاتل : كان يعذب الناس بالأوتاد ، وكان إذا غضب على أحد مده مستلقيا بين أربعة أوتاد في الأرض ، ويرسل عليه العقارب والحيات حتى يموت . وقيل : كان يشبح المعذب بين أربع سوار ، كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه وتد من حديد ويتركه حتى يموت . وقيل : ذو الأوتاد أي : ذو الجنود الكثيرة ، فسميت الجنود أوتادا ; لأنهم يقوون أمره كما يقوي الوتد البيت . وقال ابن قتيبة : العرب تقول : هم في عز ثابت الأوتاد ، يريدون دائما شديدا . وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد . وقال الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد
وواحد الأوتاد وتد بالكسر ، وبالفتح لغة . وقال الأصمعي : يقال وتد واتد كما يقال : شغل شاغل . وأنشد [ للشاعر أبي محمد الفقعسي ] :
لاقت على الماء جذيلا واتدا ولم يكن يخلفها المواعدا
قال : شبه الرجل بالجذل .
كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ ٢١
يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ما فعل بالأمم من قبلهم، الذين كانوا أعظم قوة منهم وتحزبا على الباطل، { قَوْم نُوحٍ وَعَاد } قوم هود { وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } أى: الجنود العظيمة، والقوة الهائلة.
وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لَۡٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لَۡٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ ٣١
وقوله : ( أولئك الأحزاب ) أي : كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال :
وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لَۡٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ ٣١
وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أي الغيضة . وقد مضى ذكرها في [ الشعراء ] . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : " ليكة " بفتح اللام والتاء من غير همز . وهمز الباقون وكسروا التاء . وقد تقدم هذا .
أولئك الأحزاب أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة ، كقولك : فلان هو الرجل .
وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطٖ وَأَصۡحَٰبُ لَۡٔيۡكَةِۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَحۡزَابُ ٣١
{ وَثَمُود } قوم صالح، { وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ } أي: الأشجار والبساتين الملتفة، وهم قوم شعيب، { أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } الذين اجتمعوا بقوتهم وعَدَدِهمْ وعُدَدِهمْ على رد الحق، فلم تغن عنهم شيئا.
إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ٤١
( إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ) فجعل علة هلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر .
إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ٤١
إن كل بمعنى ما كل . إلا كذب الرسل فحق عقاب أي : فنزل بهم العذاب لذلك التكذيب . وأثبت يعقوب الياء في " عذابي " و " عقابي " في الحالين وحذفها الباقون في الحالين . ونظير هذه الآية قوله - عز وجل - : وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود فسمى هذه الأمم أحزابا .
إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ٤١
{ إِنْ كُلُّ } من هؤلاء { إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ } عليهم { عِقَابِ } اللّه، وهؤلاء، ما الذي يطهرهم ويزكيهم، أن لا يصيبهم ما أصاب أولئك.
وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ ٥١
وقوله : ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) قال مالك عن زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية أي : ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي : فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها ، فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله - عز وجل - .
وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ ٥١
قوله تعالى : وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ينظر بمعنى ينتظر ، ومنه قوله تعالى : انظرونا نقتبس من نوركم هؤلاء يعني كفار مكة . إلا صيحة واحدة أي : نفخة القيامة . أي : ما ينتظرون بعد ما أصيبوا ببدر إلا صيحة القيامة . وقيل : ما ينتظر أحياؤهم الآن إلا الصيحة التي هي النفخة في الصور ، كما قال تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهو يخصمون فلا يستطيعون توصية وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت . وقيل : أي : ما ينتظر كفار آخر هذه الأمة المتدينين بدين أولئك إلا صيحة واحدة وهي النفخة . وقال عبد الله بن عمرو : لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله - عز وجل - على أهل الأرض .
ما لها من فواق أي من ترداد ، عن ابن عباس . مجاهد : ما لها رجوع . قتادة : ما لها من مثنوية . السدي : ما لها من إفاقة . وقرأ حمزة والكسائي : " ما لها من فواق " بضم الفاء . الباقون بالفتح . الجوهري : والفواق والفواق ما بين الحلبتين من الوقت ; لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب . يقال : ما أقام عنده إلا فواقا ، وفي الحديث : ( العيادة قدر فواق الناقة ) . وقوله تعالى : ما لها من فواق يقرأ بالفتح والضم أي : ما لها من نظرة وراحة وإفاقة . والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين : صارت الواو ياء لكسر ما قبلها ، قال الأعشى يصف بقرة :
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
والجمع فيق ثم أفواق ، مثل : شبر وأشبار ، ثم أفاويق . قال ابن همام السلولي :
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء ، فهو يمطر ساعة بعد ساعة . وأفاقت الناقة إفاقة أي : اجتمعت الفيقة في ضرعها ، فهي مفيق ومفيقة - عن أبي عمرو - والجمع مفاويق . وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما : من فواق بفتح الفاء أي : راحة لا يفيقون فيها ، كما يفيق المريض والمغشي عليه . و " من فواق " بضم الفاء : من انتظار . وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين .
قلت : والمعنى المراد أنها ممتدة لا تقطيع فيها . وروى أبو هريرة قال : حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في طائفة من أصحابه . . . الحديث . وفيه : يأمر الله - عز وجل - إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها . يقول الله - عز وجل - : ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق . . . وذكر الحديث ، خرجه علي بن معبد وغيره كما ذكرناه في كتاب التذكرة .
وَمَا يَنظُرُ هَٰٓؤُلَآءِ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ مَّا لَهَا مِن فَوَاقٖ ٥١
فلينتظروا { صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } أي: من رجوع ورد، تهلكهم وتستأصلهم إن أقاموا على ما هم عليه.
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٦١
وقوله : ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) هذا إنكار من الله على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب ، فإن القط هو الكتاب وقيل : هو الحظ والنصيب .
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد : سألوا تعجيل العذاب - زاد قتادة كما قالوا : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال : 32 ]
وقيل : سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة أن يلقوا ذاك في الدنيا . وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب .
وقال ابن جرير : سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي قاله جيد ، وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم .
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٦١
قوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب قال مجاهد : عذابنا . وكذا قال قتادة : نصيبنا من العذاب . الحسن : نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا . وقال سعيد بن جبير . ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط ، وللكتاب المكتوب بالجائزة قط . قال الفراء : القط في كلام العرب الحظ والنصيب . ومنه قيل للصك قط . وقال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز ، والجمع القطوط ، قال الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
يعني كتب الجوائز . ويروى : بأمته بدل بغبطته ، أي : بنعمته وحاله الجليلة ، ويأفق : يصلح . ويقال : في جمع قط أيضا قططة ، وفي القليل أقط وأقطاط . ذكره النحاس . وقال السدي : سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به . وقال إسماعيل بن أبي خالد : المعنى عجل لنا أرزاقنا . وقيل : معناه عجل لنا ما يكفينا ، من قولهم : قطني ، أي : يكفيني . وقيل : إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتبهم التي يعطونها بأيمانهم وشمائلهم حين تلي عليهم بذلك القرآن . وهو قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه وراء ظهره وأصل القط القط وهو القطع ، ومنه قط القلم ، فالقط اسم للقطعة من الشيء كالقسم والقسم ، فأطلق على النصيب والكتاب والرزق لقطعه عن غيره ، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالا وأقوى حقيقة . قال أمية بن أبي الصلت :
قوم لهم ساحة العراق وما يجبى إليه والقط والقلم
قبل يوم الحساب أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد . وكل هذا استهزاء منهم .
وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٦١
أي: قال هؤلاء المكذبون، من جهلهم ومعاندتهم الحق، مستعجلين للعذاب: { رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا } أي: قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجلا { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } ولَجُّوا في هذا القول، وزعموا أنك يا محمد، إن كنت صادقا، فعلامة صدقك أن تأتينا بالعذاب
ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٧١
ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر .
يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود - عليه السلام - : أنه كان ذا أيد ، والأيد : القوة في العلم والعمل .
قال [ ابن عباس ] وابن زيد والسدي : الأيد : القوة وقرأ ابن زيد : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) [ الذاريات : 47 ]
وقال مجاهد : الأيد : القوة في الطاعة .
وقال قتادة : أعطي داود [ عليه السلام ] قوة في العبادة وفقها في الإسلام ، وقد ذكر لنا أنه - عليه السلام - كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر .
وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود وأحب الصيام إلى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى " وإنه كان أوابا ، وهو الرجاع إلى الله - عز وجل - في جميع أموره وشئونه .
ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٧١
قوله تعالى : اصبر على ما يقولون أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر لما استهزءوا به . وهذه منسوخة بآية السيف .
قوله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم ، وسلاه بكل ما تقدم ذكره . ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء ، ليتسلى بصبر من صبر منهم ، وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء . وقيل : المعنى اصبر على قولهم ، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء ، لتكون برهانا على صحة نبوتك . ذا الأيد : ذا القوة في العبادة . وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، وذلك أشد الصوم وأفضله ، وكان يصلي نصف الليل ، وكان لا يفر إذا لاقى العدو ، وكان قويا في الدعاء إلى الله تعالى . وقوله : " عبدنا " إظهارا لشرفه بهذه الإضافة
ويقال : الأيد والآد كما تقول : العيب والعاب . قال [ العجاج ] :
لم يك ينآد فأمسى انآدا
ومنه رجل أيد أي : قوي . وتأيد الشيء تقوى ، قال الشاعر :
إذا القوس وترها أيد رمى فأصاب الكلى والذوا
يقول : إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم . يعني من النبات الذي يكون من المطر .
" إنه أواب " قال الضحاك : أي : تواب . وعن غيره : أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة . ويقال آب يئوب إذا رجع ، كما قال :
وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب
فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر ، فهو أهل لأن يقتدى به .
ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَيۡدِۖ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٧١
{ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } كما صبر مَنْ قبلك من الرسل، فإن قولهم لا يضر الحق شيئا، ولا يضرونك في شيء، وإنما يضرون أنفسهم.{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده، ويتذكر حال العابدين، كما قال في الآية الأخرى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا }
ومن أعظم العابدين، نبي اللّه داود عليه الصلاة والسلام { ذَا الْأَيْدِ } أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه تعالى، في بدنه وقلبه. { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور بالإنابة إليه، بالحب والتأله، والخوف والرجاء، وكثرة التضرع والدعاء، رجاع إليه عندما يقع منه بعض الخلل، بالإقلاع والتوبة النصوح.
إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ ٨١
وقوله : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) أي : إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار ، كما قال تعالى : ( يا جبال أوبي معه والطير ) [ سبأ : 10 ] وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا تستطيع الذهاب بل تقف في الهواء وتسبح معه ، وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعا له .
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس أنه بلغه : أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات ، قال ابن عباس : قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة يقول الله تعالى : ( يسبحن بالعشي والإشراق )
ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى ، قال : فأدخلته على أم هانئ فقلت : أخبري هذا ما أخبرتني به . فقالت أم هانئ : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات ، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء ، قريب بعضهن من بعض ، فخرج ابن عباس وهو يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن : ( يسبحن بالعشي والإشراق ) وكنت أقول : أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول : صلاة الإشراق .
إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ ٨١
قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق .
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن يسبحن في موضع نصب على الحال . ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه . قال مقاتل : كان داود إذا ذكر الله - جل وعز - ذكرت الجبال معه ، وكان يفقه تسبيح الجبال . وقال ابن عباس : يسبحن يصلين . وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه . وقال محمد بن إسحاق : أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن ، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه ، فهذا تسبيح الجبال والطير . وقيل : سخرها الله - عز وجل - لتسير معه فذلك تسبيحها ; لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين . وقد مضى القول في هذا في [ سبأ ] وفي [ سبحان ] عند قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال . والله أعلم .
بالعشي والإشراق الإشراق أيضا ابيضاض الشمس بعد طلوعها . يقال : شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت . فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها . .
الثانية : روي عن ابن عباس أنه قال : كنت أمر بهذه الآية : بالعشي والإشراق ولا أدري ما هي ، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها ، فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلى صلاة الضحى ، وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق . وقال عكرمة قال ابن عباس : كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن يسبحن بالعشي والإشراق . قال عكرمة : وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد . وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس : إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين . فقال ابن عباس : وأنا أوجدك في القرآن ، ذلك في قصة داود : يسبحن بالعشي والإشراق . .
الثالثة : صلاة الضحى نافلة مستحبة ، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي ، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة ، ويرتفع كدرها ، وتشرق بنورها ، كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس . وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة الأوابين حين ترمض الفصال الفصال والفصلان جمع فصيل ، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل . والرمضاء شدة الحر في الأرض . وخص الفصال هنا بالذكر ; لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها ، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل ، وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها ، قاله القاضي أبو بكر بن العربي . ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا ، لأجل شغله فيخسر عمله ; لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له .
الرابعة : روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة قال : حديث غريب . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر . وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت : صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر لفظ البخاري . وقال مسلم : وركعتي الضحى . وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة . وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة . والله أعلم . وأصل السلامى ( بضم السين ) عظام الأصابع والأكف والأرجل ، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله . وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن كبر الله ، وحمد الله ، وهلل الله ، وسبح الله ، واستغفر الله ، وعزل حجرا عن طريق الناس ، أو شوكة ، أو عظما عن طريق الناس ، وأمر بمعروف ، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى ، فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار قال أبو توبة : وربما قال : يمسي كذا . خرجه مسلم . وقوله : ويجزي من ذلك ركعتان أي : يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان . وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد ، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل . والله أعلم .
إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ يُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ ٨١
ومن شدة إنابته لربه وعبادته، أن سخر اللّه الجبال معه، تسبح معه بحمد ربها { بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } أول النهار وآخره.
وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٩١
ولهذا قال : ( والطير محشورة ) أي : محبوسة في الهواء ، ( كل له أواب ) أي : مطيع يسبح تبعا له .
قال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد : ( كل له أواب ) أي : مطيع .
وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٩١
قوله تعالى : والطير محشورة معطوف على الجبال . قال الفراء : ولو قرئ " والطير محشورة " لجاز ; لأنه لم يظهر الفعل . قال ابن عباس : كان داود - عليه السلام - إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه . فاجتماعها إليه حشرها . فالمعنى : وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح الله معه . وقيل : أي : وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه . أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور .
" كل له " أي لداود " أواب " أي مطيع ، أي : تأتيه وتسبح معه . وقيل : الهاء لله عز وجل .
وَٱلطَّيۡرَ مَحۡشُورَةٗۖ كُلّٞ لَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٩١
{ و } سخر { الطَّيْرَ مَحْشُورَةً } معه مجموعة { كُلٌّ } من الجبال والطير، لله تعالى { أَوَّابٌ } امتثالا لقوله تعالى: { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } فهذه مِنَّةُ اللّه عليه بالعبادة.
وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ ٠٢
[ وقوله ] ( وشددنا ملكه ) أي : جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك .
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطانا .
وقال السدي : كان يحرسه في كل يوم أربعة آلاف .
وقال بعض السلف : بلغني أنه كان حرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثين ألفا لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل .
وقال غيره : أربعون ألفا مشتملون بالسلاح . وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس : أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود - عليه السلام - أنه اغتصبه بقرا فأنكر الآخر ، ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما . فلما كان الليل أمر داود - عليه السلام - في المنام بقتل المدعي فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال : يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري ؟ فقال : إن الله - عز وجل - أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة . فقال : والله يا نبي الله إن الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه ، وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ، ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود [ عليه السلام ] فقتل .
قال ابن عباس : فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله - عز وجل - : ( وشددنا ملكه )
وقوله : ( وآتيناه الحكمة ) قال مجاهد : يعني : الفهم والعقل والفطنة . وقال مرة : الحكمة والعدل . وقال مرة : الصواب .
وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه .
وقال السدي : ( الحكمة ) النبوة .
وقوله : ( وفصل الخطاب ) قال شريح القاضي والشعبي فصل الخطاب : الشهود والأيمان .
وقال قتادة : شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل - أو قال : المؤمنون والصالحون - وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي .
وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهمه .
وقال مجاهد أيضا : هو الفصل في الكلام وفي الحكم
وهذا يشمل هذا كله وهو المراد ، واختاره ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبة النميري ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : أول من قال : " أما بعد " داود - عليه السلام - وهو فصل الخطاب .
وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب : " أما بعد " .
وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ ٠٢
قوله تعالى : وشددنا ملكه أي قويناه حتى ثبت . قيل : بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب . وقيل : بكثرة الجنود . وقيل : بالتأييد والنصر . وهذا اختيار ابن العربي . فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا . كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل ، فإذا أصبح قيل : ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله . والملك عبارة عن كثرة الملك ، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك ، فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية . وقد مضى هذا المعنى في [ براءة ] وحقيقة الملك في [ النمل ] مستوفى .
قوله تعالى : وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : وآتيناه الحكمة أي النبوة ، قاله السدي . مجاهد : العدل . أبو العالية : العلم بكتاب الله تعالى . قتادة : السنة . شريح : العلم والفقه .
" وفصل الخطاب " قال أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة : يعني الفصل في القضاء . وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل . وقال ابن عباس : بيان الكلام . علي بن أبي طالب : هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر . وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا . وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا : هو قوله أما بعد ، وهو أول من تكلم بها . وقيل : فصل الخطاب البيان الفاصل بين الحق والباطل . وقيل : هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . والمعنى في هذه الأقوال متقارب . وقول علي - رضي الله عنه - يجمعه ; لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى .
الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد ، وفصل منه مؤكد ، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ، ففي الحديث : أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل . وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال ، عارفا بالحلال والحرام ، ولا يقوم بفصل القضاء . يروى أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لما بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد ، فوقع فيها الأسد ، وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر ، وتعلق الآخر بآخر ، حتى صاروا أربعة ، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا ، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال ، قال فأتيتهم فقلت : أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة إناس! تعالوا أقض بينكم بقضاء ، فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم ، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أحق بالقضاء . فجعل للأول ربع الدية ، وجعل للثاني ثلث الدية ، وجعل للثالث نصف الدية ، وجعل للرابع الدية ، وجعل الديات على من حفر الزبية على قبائل الأربعة ، فسخط بعضهم ورضي بعضهم ، ثم قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصوا عليه القصة ، فقال : أنا أقضي بينكم ، فقال قائل : إن عليا قد قضى بيننا . فأخبروه بما قضى علي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القضاء كما قضى علي . في رواية : فأمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاء علي . وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال : إن ابن أبي ليلى - وكان قاضيا بالكوفة - جلد امرأة مجنونة قالت لرجل : يا ابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة . فقال : أخطأ من ستة أوجه . قال ابن العربي : وهذا الذي قاله أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء . فأما قضية علي فلا يدركها الشادي ، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادي . وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها ، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة ، قاتل ثلاثة بالمجاذبة ، فله الدية بما قتل ، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم . وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالاثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة . وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف ; لأنه قتل واحدا بالمجاذبة ، فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه . وهذا من بديع الاستنباط . وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرآها ستة : الأول أن المجنون لا حد عليه ; لأن الجنون يسقط التكليف . وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون ، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته . والثاني : قولها يا ابن الزانيين ، فجلدها حدين ، لكل أب حد ، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد القذف يتداخل ، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى ، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي ، فيتعدد بتعدد المقذوف . الثالث : أنه جلد بغير مطالبة المقذوف ، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى ، ومن يقول إنه حق الآدمي . وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي ، إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى . الرابع : أنه والى بين الحدين ، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما ، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب ، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر . الخامس : أنه حدها قائمة ، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة ، قال بعض الناس : في زنبيل . السادس : أنه أقام الحد في المسجد ، ولا تقام الحدود فيه إجماعا . وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف . قال القاضي : فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء ، الذي وقعت الإشارة إليه على أحد التأويلات في الحديث المروي : أقضاكم علي . وأما من قال : إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم ، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - دون العرب ، وقد بين هذا بقوله : وأوتيت جوامع الكلم . وأما من قال : إنه قوله : أما بعد ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته : أما بعد . ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل ، وهو أول من آمن بالبعث ، وأول من توكأ على عصا ، وعمر مائة وثمانين سنة . ولو صح أن داود - عليه السلام - قالها ، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم ، وإنما كان بلسانه . والله أعلم .
وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَيۡنَٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ ٠٢
ثم ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي: قويناه بما أعطيناه من الأسباب وكثرة الْعَدَد والْعُدَدِ التي بها قوَّى اللّه ملكه، ثم ذكر منته عليه بالعلم فقال: { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي: النبوة والعلم العظيم، { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } أي: الخصومات بين الناس.
۞ وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ ١٢
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ; لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله - عز وجل - فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا .
وقوله : ( [ إذ دخلوا على داود ] ففزع منهم ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه ، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي : احتاطا به يسألانه عن شأنهما .
وقوله : ( وعزني في الخطاب ) أي : غلبني يقال : عز يعز : إذا قهر وغلب .
وقوله : ( وظن داود أنما فتناه ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي اختبرناه .
وقوله : ( وخر راكعا ) أي : ساجدا ) وأناب ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا ، ( فغفرنا له ذلك ) أي : ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة " ص " هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب عن ابن عباس أنه قال في السجود في " ص " : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها .
ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية : أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو المقسمي - حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في " ص " وقال : " سجدها داود - عليه السلام - توبة ونسجدها شكرا " .
تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع :
أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي ، أخبرنا أبو سعيد الكنجروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود .
قال ابن عباس : فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة
رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أوما تقرأ : ( ومن ذريته داود وسليمان ) [ الأنعام : 84 ] ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] فكان داود - عليه السلام - ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود - عليه السلام - فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني - أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال : فقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يسجد بها بعد . تفرد به [ الإمام ] أحمد
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود ، فقال : " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم " . فنزل وسجد وسجدوا . تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح .
۞ وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ ١٢
قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ; لأن أصله المصدر . قال الشاعر :
وخصم غضاب ينفضون لحاهم كنفض البراذين العراب المخاليا
النحاس : ولا خلاف بين أهل التفسير أنه يراد به هاهنا ملكان . وقيل : تسوروا ، وإن كان اثنين حملا على الخصم ، إذ كان بلفظ الجمع ومضارعا له ، مثل الركب والصحب . تقديره للاثنين ذوا خصم وللجماعة ذوو خصم . ومعنى : تسوروا المحراب أتوه من أعلى سوره . يقال : تسور الحائط تسلقه ، والسور حائط المدينة ، وهو بغير همز ، وكذلك السور جمع سورة ، مثل بسرة وبسر ، وهي كل منزلة من البناء . ومنه سورة القرآن ; لأنها منزلة بعد منزلة مقطوعة عن الأخرى . وقد مضى في مقدمة الكتاب بيان هذا . وقول النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
يريد شرفا ومنزلة . فأما السؤر بالهمز فهو بقية الطعام في الإناء . ابن العربي : والسؤر الوليمة بالفارسي . وفي الحديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الأحزاب : إن جابرا قد صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم . والمحراب هنا الغرفة ; لأنهم تسوروا عليه فيها ، قال يحيى بن سلام . وقال أبو عبيدة : إنه صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد . وقد مضى القول فيه في غير موضع .
۞ وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُواْ ٱلۡمِحۡرَابَ ١٢
لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا بذلك مقصودا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، وغفر له، وقيض له هذه القضية، فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ } فإنه نبأ عجيب { إِذْ تَسَوَّرُوا } على داود { الْمِحْرَابَ } أي: محل عبادته من غير إذن ولا استئذان.
إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ ٢٢
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ; لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله - عز وجل - فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا .
وقوله : ( [ إذ دخلوا على داود ] ففزع منهم ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه ، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي : احتاطا به يسألانه عن شأنهما .
وقوله : ( وعزني في الخطاب ) أي : غلبني يقال : عز يعز : إذا قهر وغلب .
وقوله : ( وظن داود أنما فتناه ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي اختبرناه .
وقوله : ( وخر راكعا ) أي : ساجدا ) وأناب ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا ، ( فغفرنا له ذلك ) أي : ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة " ص " هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب عن ابن عباس أنه قال في السجود في " ص " : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها .
ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية : أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو المقسمي - حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في " ص " وقال : " سجدها داود - عليه السلام - توبة ونسجدها شكرا " .
تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع :
أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي ، أخبرنا أبو سعيد الكنجروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود .
قال ابن عباس : فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة
رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أوما تقرأ : ( ومن ذريته داود وسليمان ) [ الأنعام : 84 ] ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] فكان داود - عليه السلام - ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود - عليه السلام - فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني - أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال : فقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يسجد بها بعد . تفرد به [ الإمام ] أحمد
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود ، فقال : " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم " . فنزل وسجد وسجدوا . تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح .
إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ ٢٢
إذ دخلوا على داود جاءت إذ مرتين ، لأنهما فعلان . وزعم الفراء : أن إحداهما بمعنى لما . وقول آخر : أن تكون الثانية مع ما بعدها تبيينا لما قبلها . قيل : إنهما كانا إنسيين ، قاله النقاش . وقيل : ملكين ، قاله جماعة . وعينهما جماعة فقالوا : إنهما جبريل وميكائيل . وقيل : ملكين في صورة إنسيين بعثهما الله إليه في يوم عبادته . فمنعهما الحرس الدخول ، فتسوروا المحراب عليه ، فما شعر وهو في الصلاة إلا وهما بين يديه جالسين ، وهو قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب أي : علوا ونزلوا عليه من فوق المحراب ، قاله سفيان الثوري وغيره . وسبب ذلك ما حكاه ابن عباس أن داود - عليه السلام - حدث نفسه إن ابتلي أن يعتصم . فقيل له : إنك ستبتلى وتعلم اليوم الذي تبتلى فيه ، فخذ حذرك . فأخذ الزبور ودخل المحراب ومنع من الدخول عليه ، فبينا هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر كأحسن ما يكون من الطير ، فجعل يدرج بين يديه . فهم أن يتناوله بيده ، فاستدرج حتى وقع في كوة المحراب ، فدنا منه ليأخذه فطار ، فاطلع ليبصره فأشرف على امرأة تغتسل ، فلما رأته غطت جسدها بشعرها . قال السدي : فوقعت في قلبه . قال ابن عباس : وكان زوجها غازيا في سبيل الله وهو أوريا بن حنان ، فكتب داود إلى أمير الغزاة أن يجعل زوجها في حملة التابوت ، وكان حملة التابوت إما أن يفتح الله عليهم أو يقتلوا ، فقدمه فيهم فقتل ، فلما انقضت عدتها خطبها داود ، واشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة بعده ، وكتبت عليه بذلك كتابا ، وأشهدت عليه خمسين رجلا من بني إسرائيل ، فلم تستقر نفسه حتى ولدت سليمان وشب ، وتسور الملكان ، وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه . ذكره الماوردي وغيره . ولا يصح . قال ابن العربي : وهو أمثل ما روي في ذلك .
قلت : ورواه مرفوعا بمعناه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن يزيد الرقاشي ، سمع أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن داود النبي - عليه السلام - حين نظر إلى المرأة فهم بها قطع على بني إسرائيل بعثا وأوصى صاحب البعث فقال : إذا حضر العدو قرب فلانا وسماه ، قال فقربه بين يدي التابوت - قال - وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ، فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله ، فقدم فقتل زوج المرأة ، ونزل الملكان على داود فقصا عليه القصة . وقال سعيد عن قتادة : كتب إلى زوجها وذلك في حصار عمان مدينة بلقاء أن يأخذوا بحلقة الباب ، وفيه الموت الأحمر ، فتقدم فقتل . وقال الثعلبي قال قوم من العلماء : إنما امتحن الله داود بالخطيئة ; لأنه تمنى يوما على ربه منزلة إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وسأله أن يمتحنه نحو ما امتحنهم ، ويعطيه نحو ما أعطاهم . وكان داود قد قسم الدهر ثلاثة أيام ، يوم يقضي فيه بين الناس ، ويوم يخلو فيه بعبادة ربه ، ويوم يخلو فيه بنسائه وأشغاله . وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب . فقال : يا رب إن الخير كله قد ذهب به آبائي ، فأوحى الله تعالى إليه : إنهم ابتلوا ببلايا لم يبتلى بها غيرهم فصبروا عليها ، ابتلي إبراهيم بنمروذ وبالنار وبذبح ابنه ، وابتلي إسحاق بالذبح ، وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، ولم تبتل أنت بشيء من ذلك . فقال داود - عليه السلام - : فابتلني بمثل ما ابتليتهم ، وأعطني مثل ما أعطيتهم ، فأوحى الله تعالى إليه : إنك مبتلى في شهر كذا في يوم الجمعة . فلما كان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه ، وجعل يصلي ويقرأ الزبور . فبينا هو كذلك إذ مثل له الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فيها من كل لون حسن ، فوقف بين رجليه ، فمد يده ليأخذها فيدفعها لابن له صغير ، فطارت غير بعيد ولم تؤيسه من نفسها ، فامتد إليها ليأخذها فتنحت ، فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة ، فذهب ليأخذها فطارت ، ونظر داود يرتفع في إثرها ليبعث إليها من يأخذها ، فنظر امرأة في بستان على شط بركة تغتسل ، قاله الكلبي . وقال السدي : تغتسل عريانة على سطح لها ، فرأى أجمل النساء خلقا ، فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطى بدنها ، فزاده إعجابا بها . وكان زوجها أوريا بن حنان ، في غزوة مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود ، فكتب داود إلى أيوب أن ابعث بأوريا إلى مكان كذا وكذا ، وقدمه قبل التابوت ، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله عليه أو يستشهد . فقدمه ففتح له ، فكتب إلى داود يخبره بذلك . قال الكلبي : وكان أوريا سيف الله في أرضه في زمان داود ، وكان إذا ضرب ضربة وكبر كبر جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله ، وكبرت ملائكة السماء بتكبيره حتى ينتهي ذلك إلى العرش ، فتكبر ملائكة العرش بتكبيره . قال : وكان سيوف الله ثلاثة ، كالب بن يوفنا في زمن موسى ، وأوريا في زمن داود ، وحمزة بن عبد المطلب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كتب أيوب إلى داود يخبره أن الله قد فتح على أوريا كتب داود إليه : أن ابعثه في بعث كذا وقدمه قبل التابوت ، ففتح الله عليه ، فقتل في الثالث شهيدا . فتزوج داود تلك المرأة حين انقضت عدتها . فهي أم سليمان بن داود . وقيل : سبب امتحان داود - عليه السلام - أن نفسه حدثته أنه يطيق قطع يوم بغير مقارفة شيء . قال الحسن : إن داود جزأ الدهر أربعة أجزاء ، جزءا لنسائه ، وجزءا للعبادة ، وجزءا لبني إسرائيل يذاكرونه ويذاكرهم ويبكونه ويبكيهم ، ويوما للقضاء . فتذاكروا هل يمر على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا ؟ فأضمر داود أنه يطيق ذلك ، فأغلق الباب على نفسه يوم عبادته ، وأمر ألا يدخل عليه أحد ، وأكب على قراءة الزبور ، فوقعت حمامة من ذهب بين يديه . وذكر نحو ما تقدم . قال علماؤنا : وفي هذا دليل وهي : الثانية : على أنه ليس على الحاكم أن ينتصب للناس كل يوم ، وأنه ليس للإنسان أن يترك وطء نسائه وإن كان مشغولا بالعبادة . وقد مضى هذا المعنى في [ النساء ] . وحكم كعب بذلك في زمن عمر بمحضره - رضي الله عنهما . وقد قال - عليه السلام - لعبد الله بن عمرو : إن لزوجك عليك حقا . . . الحديث . وقال الحسن أيضا ومجاهد : إن داود - عليه السلام - قال لبني إسرائيل حين استخلف : والله لأعدلن بينكم ، ولم يستثن فابتلي بهذا . وقال أبو بكر الوراق : كان داود كثير العبادة ، فأعجب بعمله وقال : هل في الأرض أحد يعمل كعملي . فأرسل الله إليه جبريل ، فقال : إن الله تعالى يقول لك : أعجبت بعبادتك ، والعجب يأكل العبادة كما تأكل النار الحطب ، فإن أعجبت ثانية وكلتك إلى نفسك . قال : يا رب كلني إلى نفسي سنة . قال : إن ذلك لكثير . قال : فشهرا . قال : إن ذلك لكثير . قال : فيوما . قال : إن ذلك لكثير . قال : يا رب فكلني إلى نفسي ساعة . قال : فشأنك بها . فوكل الأحراس ، ولبس الصوف ، ودخل المحراب ، ووضع الزبور بين يديه ، فبينما هو في عبادته إذ وقع الطائر بين يديه ، فكان من أمر المرأة ما كان . وقال سفيان الثوري : قال داود ذات يوم : يا رب ما من يوم إلا ومن آل داود لك فيه صائم ، وما من ليلة إلا ومن آل داود لك فيها قائم . فأوحى الله إليه : يا داود منك ذلك أو مني ؟ وعزتي لأكلنك إلى نفسك . قال : يا رب اعف عني . قال : أكلك إلى نفسك سنة . قال : لا بعزتك . قال : فشهرا . قال : لا بعزتك . قال : فأسبوعا . قال : لا بعزتك . قال : فيوما . قال : لا بعزتك . قال : فساعة . قال : لا بعزتك . قال : فلحظة . فقال له الشيطان : وما قدر لحظة . قال : كلني إلى نفسي لحظة . فوكله الله إلى نفسه لحظة . وقيل : له : هي في يوم كذا في وقت كذا . فلما جاء ذلك اليوم جعله للعبادة ، ووكل الأحراس حول مكانه . قيل : أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثين ألفا أو ثلاثة وثلاثين ألفا . وخلا بعبادة ربه ، ونشر الزبور بين يديه ، فجاءت الحمامة فوقعت له ، فكان من أمره في لحظته مع المرأة ما كان . وأرسل الله - عز وجل - إليه الملكين بعد ولادة سليمان ، وضربا له المثل بالنعاج ، فلما سمع المثل ذكر خطيئته فخر ساجدا أربعين ليلة على ما يأتي .
قوله تعالى : ففزع منهم لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم . وقيل : لدخولهم عليه بغير إذنه . وقيل : لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب . قال ابن العربي : وكان محراب داود - عليه السلام - من الامتناع بالارتفاع ، بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة إلا أن يقيم إليه أياما أو أشهرا بحسب طاقته ، مع أعوان يكثر عددهم ، وآلات جمة مختلفة الأنواع . ولو قلنا : إنه يوصل إليه من باب المحراب لما قال الله تعالى مخبرا عن ذلك : تسوروا المحراب إذ لا يقال تسور المحراب والغرفة لمن طلع إليها من درجها ، وجاءها من أسفلها إلا أن يكون ذلك مجازا ، وإذا شاهدت الكوة التي يقال إنه دخل منها الخصمان علمت قطعا أنهما ملكان ; لأنها من العلو بحيث لا ينالها إلا علوي . قال الثعلبي : وقد قيل : كان المتسوران أخوين من بني إسرائيل لأب وأم . فلما قضى داود بينهما بقضية قال له ملك من الملائكة : فهلا قضيت بذلك على نفسك يا داود . قال الثعلبي : والأول أحسن أنهما كانا ملكين نبها داود على ما فعل .
قلت : وعلى هذا أكثر أهل التأويل . فإن قيل : كيف يجوز أن يقول الملكان خصمان بغى بعضنا على بعض وذلك كذب ، والملائكة عن مثله منزهون . فالجواب عنه : أنه لا بد في الكلام من تقدير ، فكأنهما قالا : قدرنا كأننا خصمان بغى بعضنا على بعض ، فاحكم بيننا بالحق ، وعلى ذلك يحمل قولهما : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة لأن ذلك وإن كان بصورة الخبر فالمراد إيراده على طريق التقدير لينبه داود على ما فعل ، والله أعلم .
إن قيل : لم فزع داود وهو نبي ، وقد قويت نفسه بالنبوة ، واطمأنت بالوحي ، ووثقت بما آتاه الله من المنزلة ، وأظهر على يديه من الآيات ، وكان من الشجاعة في غاية المكانة ؟ قيل له : ذلك سبيل الأنبياء قبله ، لم يأمنوا القتل والأذية ، ومنهما كان يخاف . ألا ترى إلى موسى وهارون عليهما السلام كيف قالا : إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فقال الله - عز وجل - : لا تخافا . وقالت الرسل للوط : لا تخف إنا رسل ربك لن يصلوا إليك وكذا قال الملكان هنا : لا تخف . قال محمد بن إسحاق : بعث الله إليه ملكين يختصمان إليه وهو في محرابه - مثلا ضربه الله له ولأوريا ، فرآهما واقفين على رأسه ، فقال : ما أدخلكما علي ؟ قالا : لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فجئناك لتقضي بيننا .
قال ابن العربي : فإن قيل كيف لم يأمر بإخراجهما إذ قد علم مطلبهما ، وهلا أدبهما وقد دخلا عليه بغير إذن ؟ فالجواب عليه من أربعة أوجه : الأول : أنا لم نعلم كيفية شرعه في الحجاب والإذن ، فيكون الجواب بحسب تلك الأحكام ، وقد كان ذلك في ابتداء شرعنا مهملا في هذه الأحكام ، حتى أوضحها الله تعالى بالبيان . الثاني : أنا لو نزلنا الجواب على أحكام الحجاب ، لاحتمل أن يكون الفزع الطارئ عليه أذهله عما كان يجب في ذلك له . الثالث : أنه أراد أن يستوفي كلامهما الذي دخلا له حتى يعلم آخر الأمر منه ، ويرى هل يحتمل التقحم فيه بغير إذن أم لا ؟ وهل يقترن بذلك عذر لهما أم لا يكون لهما عذر فيه ؟ فكان من آخر الحال ما انكشف أنه بلاء ومحنة ، ومثل ضربه الله في القصة ، وأدب وقع على دعوى العصمة . الرابع : أنه يحتمل أن يكون في مسجد ، ولا إذن في المسجد لأحد إذ لا حجر فيه على أحد .
قلت : وقول خامس ذكره القشيري ، وهو أنهما قالا : لما لم يأذن لنا الموكلون بالحجاب ، توصلنا إلى الدخول بالتسور ، وخفنا أن يتفاقم الأمر بيننا . فقبل داود عذرهم ، وأصغى إلى قولهم .
قوله تعالى : خصمان إن قيل : كيف قال : خصمان وقبل هذا : إذ تسوروا المحراب فقيل : لأن الاثنين جمع ، قال الخليل : كما تقول نحن فعلنا إذا كنتما اثنين . وقال الكسائي : جمع لما كان خبرا ، فلما انقضى الخبر وجاءت المخاطبة ، خبر الاثنان عن أنفسهما فقالا خصمان . وقال الزجاج : المعنى نحن خصمان . وقال غيره : القول محذوف ، أي : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض قال الكسائي : ولو كان بغى بعضهما على بعض ، لجاز . الماوردي : وكانا ملكين ، ولم يكونا خصمين ولا باغيين ، ولا يتأتى منهما كذب ، وتقدير كلامهما ما تقول : إن أتاك خصمان قالا بغى بعضنا على بعض . وقيل : أي : نحن فريقان من الخصوم بغى بعضنا على بعض . وعلى هذا يحتمل أن تكون الخصومة بين اثنين ومع كل واحد جمع . ويحتمل أن يكون لكل واحد من هذا الفريق خصومة مع كل واحد من الفريق الآخر ، فحضروا الخصومات ولكن ابتدأ منهم اثنان ، فعرف داود بذكر النكاح القصة . وأغنى ذلك عن التعرض للخصومات الأخر . والبغي التعدي والخروج عن الواجب . يقال : بغى الجرح إذا أفرط وجعه وترامى ، إلى ما يفحش ، ومنه بغت المرأة إذا أتت الفاحشة .
قوله تعالى : فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط أي لا تجر ، قاله السدي . وحكى أبو عبيد : شططت عليه وأشططت أي : جرت . وفي حديث تميم الداري : ( إنك لشاطي ) أي : جائر علي في الحكم . وقال قتادة : لا تمل . الأخفش : لا تسرف . وقيل : لا تفرط . والمعنى متقارب . والأصل فيه البعد ، من شطت الدار أي : بعدت ، شطت الدار تشط وتشط شطا وشطوطا بعدت . وأشط في القضية أي : جار ، وأشط في السوم واشتط أي : أبعد ، وأشطوا في طلبي أي : أمعنوا . قال أبو عمرو : الشطط مجاوزة القدر في كل شيء . وفي الحديث : لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط أي : لا نقصان ولا زيادة . وفي التنزيل : لقد قلنا إذا شططا أي جورا من القول وبعدا عن الحق .
واهدنا إلى سواء الصراط أي أرشدنا إلى قصد السبيل .
إِذۡ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فَٱحۡكُم بَيۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَٰطِ ٢٢
ولم يدخلوا عليه مع باب، فلذلك لما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف، فقالوا له: نحن { خَصْمَانِ } فلا تخف { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } بالظلم { فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } أي: بالعدل، ولا تمل مع أحدنا { وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ }
والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف، وإذا كان ذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي اللّه داود من وعظهما له، ولم يؤنبهما.
إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ ٣٢
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ; لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله - عز وجل - فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا .
وقوله : ( [ إذ دخلوا على داود ] ففزع منهم ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه ، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي : احتاطا به يسألانه عن شأنهما .
وقوله : ( وعزني في الخطاب ) أي : غلبني يقال : عز يعز : إذا قهر وغلب .
وقوله : ( وظن داود أنما فتناه ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي اختبرناه .
وقوله : ( وخر راكعا ) أي : ساجدا ) وأناب ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا ، ( فغفرنا له ذلك ) أي : ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة " ص " هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب عن ابن عباس أنه قال في السجود في " ص " : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها .
ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية : أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو المقسمي - حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في " ص " وقال : " سجدها داود - عليه السلام - توبة ونسجدها شكرا " .
تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع :
أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي ، أخبرنا أبو سعيد الكنجروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود .
قال ابن عباس : فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة
رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أوما تقرأ : ( ومن ذريته داود وسليمان ) [ الأنعام : 84 ] ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] فكان داود - عليه السلام - ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود - عليه السلام - فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني - أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال : فقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يسجد بها بعد . تفرد به [ الإمام ] أحمد
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود ، فقال : " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم " . فنزل وسجد وسجدوا . تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح .
إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ ٣٢
قوله تعالى : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا إن هذا أخي أي : على ديني ، وأشار إلى المدعى عليه . وقيل : أخي أي : صاحبي . له تسع وتسعون نعجة وقرأ الحسن : " تسع وتسعون نعجة " بفتح التاء فيهما ، وهي لغة شاذة ، وهي الصحيحة من قراءة الحسن ، قال النحاس . والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ، لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب . وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة ; لأن الكل مركوب . قال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاث هنه رابعة في البيت صغراهنه
ونعجتي خمسا توفيهنه ألا فتى سمح يغذيهنه
طي النقا في الجوع يطويهنه ويل الرغيف ويله منهنه
وقال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي فتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة والشاة ممكنة لمن هو مرتم
فكأنما التفتت بجيد جداية رشأ من الغزلان حر أرثم
وقال آخر :
فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها
وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء . قال الحسين بن الفضل : هذا من الملكين تعريض وتنبيه ، كقولهم : ضرب زيد عمرا ، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق ، كأنه قال : نحن خصمان هذه حالنا . قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة ، كما تقول : رجل يقول لامرأته كذا ، ما يجب عليه ؟ .
قلت : وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره : هو لك يا عبد بن زمعة على نحو هذا ، قال المزني : يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد ، ولا على زمعة قول ابنه : إنه ولد زنى ، لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره . وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره . وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة ، إذ دخلوا عليه ففزع منهم ، قالوا : لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين ، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه . فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم في هذه القصة على المسألة ، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث ، فإنه عندي صحيح . والله أعلم .
قال النحاس : وفي قراءة ابن مسعود " إن هذا أخي كان له تسع وتسعون نعجة أنثى " و " كان " هنا مثل قوله - عز وجل - : وكان الله غفورا رحيما فأما قوله : " أنثى " فهو تأكيد ، كما يقال : هو رجل ذكر وهو تأكيد . وقيل : لما كان يقال هذه مائة نعجة ، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير ، جاز أن يقال : أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها . وفي التفسير : له تسع وتسعون امرأة . قال ابن العربي : إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه ، وإن كن إماء فذلك شرعنا . والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد ، وإنما الحصر في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لضعف الأبدان وقلة الأعمار . وقال القشيري : ويجوز أن يقال : لم يكن له هذا العدد بعينه ، ولكن المقصود ضرب مثل ، كما تقول : لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك ، أي : مرارا كثيرة . قال ابن العربي : قال بعض المفسرين : لم يكن لداود مائة امرأة ، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا ، المعنى : هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها . وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن العدول عن الظاهر بغير دليل ، لا معنى له ، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا . الثاني : أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل أمرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ، ونسي أن يقول إن شاء الله وهذا نص
قوله تعالى : ولي نعجة واحدة أي امرأة واحدة
فقال أكفلنيها أي انزل لي عنها حتى أكفلها . وقال ابن عباس : أعطنيها . وعنه : تحول لي عنها . وقال ابن مسعود . وقال أبو العالية : ضمها إلي حتى أكفلها . وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي .
وعزني في الخطاب أي غلبني . قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني . يقال : عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه . وفي المثل : من عز بز ، أي : من غلب سلب . والاسم العزة وهي القوة والغلبة . قال الشاعر :
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير : " وعازني في الخطاب " أي : غالبني ، من المعازة وهي المغالبة ، عازه أي : غالبه . قال ابن العربي : واختلف في سبب الغلبة ، فقيل : معناه غلبني ببيانه . وقيل : غلبني بسلطانه ; لأنه لما سأله لم يستطع خلافه . كان ببلادنا أمير يقال له : سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها . فقلت : أما إذا كان عدلا فلا . فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته ، كما عجب من جوابي له واستغربه .
إِنَّ هَٰذَآ أَخِي لَهُۥ تِسۡعٞ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةٗ وَلِيَ نَعۡجَةٞ وَٰحِدَةٞ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ ٣٢
فقال أحدهما: { إِنَّ هَذَا أَخِي } نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره. { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه.
{ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } فطمع فيها { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي: دعها لي، وخلها في كفالتي. { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } أي: غلبني في القول، فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد.
قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩ ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩ ٤٢
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده ; لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة . فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله - عز وجل - فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا .
وقوله : ( [ إذ دخلوا على داود ] ففزع منهم ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه ، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي : احتاطا به يسألانه عن شأنهما .
وقوله : ( وعزني في الخطاب ) أي : غلبني يقال : عز يعز : إذا قهر وغلب .
وقوله : ( وظن داود أنما فتناه ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي اختبرناه .
وقوله : ( وخر راكعا ) أي : ساجدا ) وأناب ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا ، ( فغفرنا له ذلك ) أي : ما كان منه مما يقال فيه : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين .
وقد اختلف الأئمة رضي الله عنهم في سجدة " ص " هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رحمه الله أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب عن ابن عباس أنه قال في السجود في " ص " : ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها .
ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية : أخبرني إبراهيم بن الحسن - هو المقسمي - حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في " ص " وقال : " سجدها داود - عليه السلام - توبة ونسجدها شكرا " .
تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع :
أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي ، أخبرنا أبو سعيد الكنجروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج : يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود .
قال ابن عباس : فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة
رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال : سألت مجاهدا عن سجدة " ص " فقال : سألت ابن عباس : من أين سجدت ؟ فقال : أوما تقرأ : ( ومن ذريته داود وسليمان ) [ الأنعام : 84 ] ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] فكان داود - عليه السلام - ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود - عليه السلام - فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر - هو ابن عبد الله المزني - أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب " ص " فلما بلغ إلى التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال : فقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يسجد بها بعد . تفرد به [ الإمام ] أحمد
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود ، فقال : " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم " . فنزل وسجد وسجدوا . تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيح .
قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩ ٤٢
قوله تعالى : قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه قال النحاس : فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام ; لأنه قال : " لقد ظلمك " من غير تثبت ببينة ، ولا إقرار من الخصم ، هل كان هذا كذا أو لم يكن . فهذا قول .
وسيأتي بيانه في المسألة بعد هذا ، وهو حسن إن شاء الله تعالى . وقال أبو جعفر النحاس : فأما قول العلماء الذين لا يدفع قولهم ، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس ، فإنهم قالوا : ما زاد داود صلى الله على نبينا وعليه على أن قال للرجل انزل لي عن امرأتك . قال أبو جعفر : فعاتبه الله - عز وجل - على ذلك ونبهه عليه ، وليس هذا بكبير من المعاصي ، ومن تخطى إلى غير هذا فإنما يأتي بما لا يصح عن عالم ، ويلحقه فيه إثم عظيم . كذا قال : في كتاب إعراب القرآن . وقال : في كتاب معاني القرآن له بمثله . قال - رضي الله عنه - : قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود - عليه السلام - وأوريا ، وأكثرها لا يصح ولا يتصل إسناده ، ولا ينبغي أن يجترأ على مثلها إلا بعد المعرفة بصحتها . وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : ما زاد داود - عليه السلام - على أن قال : أكفلنيها أي : انزل لي عنها . وروى المنهال عن سعيد بن جبير قال : ما زاد داود - صلى الله عليه وسلم - على أن قال : أكفلنيها أي : تحول لي عنها وضمها إلي . قال أبو جعفر : فهذا أجل ما روي في هذا ، والمعنى عليه أن داود - عليه السلام - سأل أوريا أن يطلق امرأته ، كما يسأل الرجل الرجل أن يبيعه جاريته ، فنبهه الله - عز وجل - على ذلك ، وعاتبه لما كان نبيا وكان له تسع وتسعون ، أنكر عليه أن يتشاغل بالدنيا بالتزيد منها ، فأما غير هذا فلا ينبغي الاجتراء عليه . قال ابن العربي : وأما قولهم إنها لما أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعا ، فإن داود - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه ، وإنما كان من الأمر أن داود قال لبعض أصحابه : انزل لي عن أهلك ، وعزم عليه في ذلك ، كما يطلب الرجل من الرجل الحاجة برغبة صادقة ، كانت في الأهل أو في المال . وقد قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف حين آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما : إن لي زوجتين أنزل لك عن أحسنهما ، فقال له : بارك الله لك في أهلك . وما يجوز فعله ابتداء يجوز طلبه ، وليس في القرآن أن ذلك كان ، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها ، ولا ولادتها لسليمان ، فعمن يروى هذا ويسند ؟ ! وعلى من في نقله يعتمد ، وليس يأثره عن الثقات الأثبات أحد . أما أن في سورة [ الأحزاب ] نكتة تدل على أن داود قد صارت له المرأة زوجة ، وذلك قوله : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل يعني في أحد الأقوال : تزويج داود المرأة التي نظر إليها ، كما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش ، إلا أن تزويج زينب كان من غير سؤال الزوج في فراق ، بل أمره بالتمسك بزوجته ، وكان تزويج داود للمرأة بسؤال زوجها فراقها . فكانت هذه المنقبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على داود مضافة إلى مناقبه العلية صلى الله عليه وسلم . ولكن قد قيل : إن معنى سنة الله في الذين خلوا من قبل تزويج الأنبياء بغير صداق من وهبت نفسها لهم من النساء بغير صداق . وقيل : أراد بقوله : سنة الله في الذين خلوا من قبل أن الأنبياء صلوات الله عليهم فرض لهم ما يمتثلونه في النكاح وغيره . وهذا أصح الأقوال . وقد روى المفسرون أن داود - عليه السلام - نكح مائة امرأة ، وهذا نص القرآن . وروي أن سليمان كانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة جارية ، وربك أعلم . وذكر الكيا الطبري في أحكامه في قول الله - عز وجل - : وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب الآية : ذكر المحققون الذين يرون تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن الكبائر ، أن داود - عليه السلام - كان قد أقدم على خطبة امرأة قد خطبها غيره ، يقال : هو أوريا ، فمال القوم إلى تزويجها من داود راغبين فيه ، وزاهدين في الخاطب الأول ، ولم يكن بذلك داود عارفا ، وقد كان يمكنه أن يعرف ذلك فيعدل عن هذه الرغبة ، وعن الخطبة بها ، فلم يفعل ذلك ، من حيث أعجب بها إما وصفا أو مشاهدة على غير تعمد ، وقد كان لداود - عليه السلام - من النساء العدد الكثير ، وذلك الخاطب لا امرأة له ، فنبهه الله تعالى على ما فعل بما كان من تسور الملكين ، وما أورداه من التمثيل على وجه التعريض ، لكي يفهم من ذلك موقع العتب فيعدل عن هذه الطريقة ، ويستغفر ربه من هذه الصغيرة .
قوله تعالى : قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فيه الفتوى في النازلة بعد السماع من أحد الخصمين ، وقبل أن يسمع من الآخر بظاهر هذا القول . قال ابن العربي : وهذا مما لا يجوز عند أحد ، ولا في ملة من الملل ، ولا يمكن ذلك للبشر . وإنما تقدير الكلام : أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلم في الدعوى ، فوقعت بعد ذلك الفتوى . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر وقيل : إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك . وقيل : تقديره : لقد ظلمك إن كان كذلك . والله أعلم بتعيين ما يمكن من هذه الوجوه .
قلت : ذكر هذين الوجهين القشيري والماوردي وغيرهما . قال القشيري : وقوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك من غير أن يسمع كلام الخصم مشكل ، فيمكن أن يقال : إنما قال هذا بعد مراجعة الخصم الآخر وبعد اعترافه . وقد روي هذا وإن لم تثبت روايته ، فهذا معلوم من قرائن الحال ، أو أراد لقد ظلمك إن كان الأمر على ما تقول ، فسكته بهذا وصبره إلى أن يسأل خصمه . قال ويحتمل أن يقال : كان من شرعهم التعويل على قول المدعي عند سكوت المدعى عليه ، إذا لم يظهر منه إنكار بالقول . وقال الحليمي أبو عبد الله في كتاب منهاج الدين له : ومما جاء في شكر النعمة المنتظرة إذا حضرت ، أو كانت خافية فظهرت : السجود لله عز وجل . قال : والأصل في ذلك قوله - عز وجل - : وهل أتاك نبأ الخصم إلى قوله : وحسن مآب . أخبر الله - عز وجل - عن داود - عليه السلام - : أنه سمع قول المتظلم من الخصمين ، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر ، إنما حكى أنه ظلمه ، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة ، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول ، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم ، فقال له مستعجلا : لقد ظلمك مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول : كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا ، فسرق مني هذه النعجة ، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها ، وما قلت له أكفلنيها ، وعلم أني مرافعه إليك ، فجرني قبل أن أجره ، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره ، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم . ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه ، علم أن الله - عز وجل - خلاه ونفسه في ذلك الوقت ، وهو الفتنة التي ذكرناها ، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه ، فاستغفر ربه وخر راكعا لله تعالى شكرا على أن عصمه ، بأن اقتصر على تظليم المشكو ، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما ، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم ،فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه ،
قوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء يقال : خليط وخلطاء ، ولا يقال : طويل وطولاء ، لثقل الحركة في الواو . وفيه وجهان : أحدهما أنهما الأصحاب . الثاني أنهما الشركاء .
قلت : إطلاق الخلطاء على الشركاء فيه بعد ، وقد اختلف العلماء في صفة الخلطاء ، فقال أكثر العلماء : هو أن يأتي كل واحد بغنمه فيجمعهما راع واحد والدلو والمراح . وقال طاوس وعطاء : لا يكون الخلطاء إلا الشركاء . وهذا خلاف الخبر ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : لا يجمع بين مفترق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وروي فإنهما يترادان الفضل . ولا موضع لتراد الفضل بين الشركاء ، فاعلمه . وأحكام الخلطة مذكورة في كتب الفقه . ومالك وأصحابه وجمع من العلماء لا يرون الصدقة على من ليس في حصته ما تجب فيه الزكاة . وقال الربيع والليث وجمع من العلماء منهم الشافعي : إذا كان في جميعها ما تجب فيه الزكاة أخذت منهم الزكاة . قال مالك : وإن أخذ المصدق بهذا ترادوا بينهم للاختلاف في ذلك ، وتكون كحكم حاكم اختلف فيه .
قوله تعالى : ليبغي بعضهم على بعض أي يتعدى ويظلم . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يظلمون أحدا . وقليل ما هم يعني الصالحين ، أي : وقليل هم ف " ما " زائدة . وقيل : بمعنى الذين ، وتقديره
: وقليل الذين هم . وسمع عمر - رضي الله عنه - رجلا يقول في دعائه : اللهم اجعلني من عبادك القليل . فقال له عمر : ما هذا الدعاء . فقال : أردت قول الله - عز وجل - : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم فقال عمر : كل الناس أفقه منك يا عمر !
قوله تعالى : وظن داود أنما فتناه أي ابتليناه . وظن معناه أيقن . قال أبو عمرو والفراء : ظن بمعنى أيقن ، إلا أن الفراء شرحه بأنه لا يجوز في المعاين أن يكون الظن إلا بمعنى اليقين . والقراءة " فتناه " بتشديد النون دون التاء . وقرأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - " فتناه " بتشديد التاء والنون على المبالغة . وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميقع " فتناه " بتخفيفهما . ورواه علي بن نصر عن أبي عمرو ، والمراد به الملكان اللذان دخلا على داود عليه السلام .فقال : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة ، التي توخاه بها بعد المغفرة ، أن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم ، والمبادرة إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه . ثم جاء عن ابن عباس أنه قال : سجدها داود شكرا ، وسجدها النبي - صلى الله عليه وسلم - اتباعا ، فثبت أن السجود للشكر سنة متواترة عن الأنبياء صلوات الله عليهم . بسؤال نعجتك أي : بسؤاله نعجتك ، فأضاف المصدر إلى المفعول ، وألقى الهاء من السؤال ، وهو كقوله تعالى : لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أي من دعائه الخير .
قيل : لما قضى داود بينهما في المسجد ، نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك فلم يفطن داود ، فأحبا أن يعرفهما ، فصعدا إلى السماء حيال وجهه ، فعلم داود - عليه السلام - أن الله تعالى ابتلاه بذلك ، ونبهه على ما ابتلاه .
قلت : وليس في القران ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآية ، وبها استدل من قال بجواز القضاء في المسجد ، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي لما أقرهم داود على ذلك . ويقول : انصرفا إلى موضع القضاء . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء يقضون في المسجد ، وقد قال مالك : القضاء في المسجد من الأمر القديم . يعني في أكثر الأمور . ولا بأس أن يجلس في رحبته ، ليصل إليه الضعيف والمشرك والحائض ، ولا يقيم فيه الحدود ، ولا بأس بخفيف الأدب . وقد قال أشهب : يقضي في منزله وأين أحب .
قال مالك رحمه الله : وكان الخلفاء يقضون بأنفسهم ، وأول من استقضى معاوية . قال مالك : وينبغي للقضاة مشاورة العلماء . وقال عمر بن عبد العزيز : لا يستقضي حتى يكون عالما بآثار من مضى ، مستشيرا لذوي الرأي ، حليما نزها . قال : ويكون ورعا . قال مالك : وينبغي أن يكون متيقظا كثير التحذر من الحيل ، وأن يكون عالما بالشروط ، عارفا بما لا بد له منه من العربية ، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات والدعاوى والإقرارات والشهادات والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له . وينبغي له أن يقول قبل إنجاز الحكم للمطلوب : أبقيت لك حجة ؟ فإن قال لا ، حكم عليه ، ولا يقبل منه حجة بعد إنفاذ حكمه إلا أن يأتي بما له وجه أو بينة . وأحكام القضاء والقضاة فيما لهم وعليهم مذكورة في غير هذا الموضع .
قوله تعالى : فاستغفر ربه اختلف المفسرون في الذنب الذي استغفر منه على أقوال ستة :
[ الأول ] أنه نظر إلى المرأة حتى شبع منها . قال سعيد بن جبير : إنما كانت فتنته النظرة . قال أبو إسحاق : ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه عاود النظر إليها ، فصارت الأولى له والثانية عليه .
[ الثاني ] أنه أغزى زوجها في حملة التابوت .
[ الثالث ] أنه نوى إن مات زوجها أن يتزوجها .
[ الرابع ] أن أوريا كان خطب تلك المرأة ، فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته ، فاغتم لذلك أوريا . فعتب الله على داود إذ لم يتركها لخاطبها . وقد كان عنده تسع وتسعون امرأة .
[ الخامس ] أنه لم يجزع على قتل أوريا ، كما كان يجزع على من هلك من الجند ، ثم تزوج امرأته ، فعاتبه الله تعالى على ذلك ; لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله .
[ السادس ] أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر .
قال القاضي ابن العربي : أما قول من قال : إنه حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر فلا يجوز على الأنبياء ، وكذلك تعريض زوجها للقتل . وأما من قال : إنه نظر إليها حتى شبع فلا يجوز ذلك عندي بحال ; لأن طموح النظر لا يليق بالأولياء المتجردين للعبادة ، فكيف بالأنبياء الذين هم وسائط الله المكاشفون بالغيب! وحكى السدي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : لو سمعت رجلا يذكر أن داود - عليه السلام - قارف من تلك المرأة محرما لجلدته ستين ومائة ; لأن حد قاذف الناس ثمانون ، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة . ذكره الماوردي والثعلبي أيضا . قال الثعلبي : وقال الحارث الأعور عن علي : من حدث بحديث داود على ما ترويه القصاص معتقدا جلدته حدين ، لعظم ما ارتكب برمي من قد رفع الله محله ، وارتضاه من خلقه رحمة للعالمين ، وحجة للمجتهدين . قال ابن العربي : وهذا مما لم يصح عن علي . فإن قيل : فما حكمه عندكم ؟ قلنا : أما من قال إن نبيا زنى فإنه يقتل ، وأما من نسب إليه ما دون ذلك من النظر والملامسة ، فقد اختلف نقل الناس في ذلك ، فإن صمم أحد على ذلك فيه ونسبه إليه قتلته ، فإنه يناقض التعزير المأمور به ، فأما قولهم : إنه وقع بصره على امرأة تغتسل عريانة ، فلما رأته أسبلت شعرها فسترت جسدها ، فهذا لا حرج عليه فيه بإجماع من الأمة ; لأن النظرة الأولى تكشف المنظور إليه ولا يأثم الناظر بها ، فأما النظرة الثانية فلا أصل لها . وأما قولهم : إنه نوى إن مات زوجها تزوجها ، فلا شيء فيه إذ لم يعرضه للموت . وأما قولهم : إنه خطب على خطبة أوريا فباطل يرده القرآن والآثار التفسيرية كلها . وقد روى أشهب عن مالك قال : بلغني أن تلك الحمامة أتت فوقعت قريبا من داود - عليه السلام - وهي من ذهب ، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده ، ثم صنع مثل ذلك مرتين ، ثم طارت واتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل ، فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينه . قال ابن العربي : وأما قول المفسرين : إن الطائر درج عنده فهم بأخذه واتبعه ، فهذا لا يناقض العبادة ; لأنه مباح فعله ، لا سيما وهو حلال ، وطلب الحلال فريضة ، وإنما اتبع الطير لذاته لا لجماله ، فإنه لا منفعة له فيه ، وإنما ذكرهم لحسن الطائر خرق في الجهالة . أما أنه روي أنه كان طائرا من ذهب فاتبعه ليأخذه ; لأنه من فضل الله سبحانه وتعالى كما روي في الصحيح : ( إن أيوب - عليه السلام - كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحثي منه ويجعل في ثوبه ، فقال الله تعالى له : " يا أيوب ألم أكن أغنيتك " قال : ( بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك ) . وقال القشيري : فهم داود بأن يأخذه ليدفعه إلى ابن له صغير فطار ووقع على كوة البيت ، وقاله الثعلبي أيضا وقد تقدم .
قوله تعالى : وخر راكعا وأناب أي خر ساجدا ، وقد يعبر عن السجود بالركوع . قال الشاعر :
فخر على وجهه راكعا وتاب إلى الله من كل ذنب
قال ابن العربي : لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود ، فإن السجود هو الميل ، والركوع هو الانحناء ، وأحدهما يدخل على الآخر ، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته ، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر ، فسمي السجود ركوعا . وقال المهدوي : وكان ركوعهم سجودا . وقيل : بل كان سجودهم ركوعا . وقال مقاتل : فوقع من ركوعه ساجدا لله عز وجل . أي : لما أحس بالأمر قام إلى الصلاة ، ثم وقع من الركوع إلى السجود ، لاشتمالهما جميعا على الانحناء . وأناب أي : تاب من خطيئته ورجع إلى الله . وقال الحسن بن الفضل : سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قول الله - عز وجل - : " وخر راكعا " فهل يقال للراكع خر ؟ .
قلت : لا . قال : فما معنى الآية ؟ قلت : معناها فخر بعد أن كان راكعا أي : سجد .
واختلف في سجدة داود ، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أم لا ؟ فروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على المنبر : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأ بها فتشزن الناس للسجود ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها توبة نبي ، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود ، ونزل وسجد . وهذا لفظ أبي داود . وفي البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال : " ص " ليست من عزائم القرآن ، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها . وقد روي من طريق عن ابن مسعود أنه قال : " ص " توبة نبي ، ولا يسجد فيها ، وعن ابن عباس : أنها توبة نبي ، ونبيكم ممن أمر أن يقتدي به . قال ابن العربي : والذي عندي أنها ليست موضع سجود ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها فسجدنا بالاقتداء به . ومعنى السجود أن داود سجد خاضعا لربه ، معترفا بذنبه . تائبا من خطيئته ، فإذا سجد أحد فيها فليسجد بهذه النية ، فلعل الله أن يغفر له بحرمة داود الذي اتبعه ، وسواء قلنا : إن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ فإن هذا أمر مشروع في كل أمة لكل أحد . والله أعلم .
قال ابن خويز منداد : قوله : وخر راكعا وأناب فيه دلالة على أن السجود للشكر مفردا لا يجوز ; لأنه ذكر معه الركوع ، وإنما الذي يجوز أن يأتي بركعتين شكرا ، فأما سجدة مفردة فلا ، وذلك أن البشارات كانت تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده ، فلم ينقل عن أحد منهم أنه سجد شكرا ، ولو كان ذلك مفعولا لهم لنقل نقلا متظاهرا لحاجة العامة إلى جوازه وكونه قربة .
قلت : وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم بشر برأس أبي جهل ركعتين . وخرج من حديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه أمر يسره - أو يسر به - خر ساجدا شكرا لله . وهذا قول الشافعي وغيره . الثانية والعشرون : روى الترمذي وغيره واللفظ للغير : أن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل يستتر بشجرة وهو يقرأ : " ص والقرآن ذي الذكر " فلما بلغ السجدة سجد وسجدت معه الشجرة ، فسمعها وهي تقول : اللهم أعظم لي بهذه السجدة أجرا ، وارزقني بها شكرا .
قلت : خرج ابن ماجه في سننه عن ابن عباس قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتاه رجل فقال : إني رأيت البارحة فيما يرى النائم ، كأني أصلي إلى أصل شجرة ، فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها تقول : اللهم احطط بها عني وزرا ، واكتب لي بها أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا . قال ابن عباس فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ " السجدة " فسجد ، فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة . ذكره الثعلبي عن أبي سعيد الخدري ، قال : قلت : يا رسول الله ، رأيتني في النوم كأني تحت شجرة ، والشجرة تقرأ " ص " فلما بلغت السجدة سجدت فيها ، فسمعتها تقول في سجودها : اللهم اكتب لي بها أجرا ، وحط عني بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته . فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : أفسجدت أنت يا أبا سعيد فقلت : لا والله يا رسول الله . فقال : لقد كنت أحق بالسجود من الشجرة . ثم قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - " ص " حتى بلغ السجدة فسجد ، ثم قال مثل ما قالت الشجرة .
قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ ۩ ٤٢
فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما، أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقول القائل: { لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر } ؟ { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم، فقال: { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } لأن الظلم من صفة النفوس. { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، يمنعهم من الظلم. { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } كما قال تعالى { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } { وَظَنَّ دَاوُدُ } حين حكم بينهما { أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } لما صدر منه، { وَخَرَّ رَاكِعًا } أي: ساجدا { وَأَنَابَ } للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.
فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٥٢
وقوله : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) أي : وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله - عز وجل - بها وحسن مرجع وهو الدرجات العاليات في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح : " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا "
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر " . ورواه الترمذي من حديث فضيل - وهو ابن مرزوق الأغر - عن عطية به وقال : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار ، حدثنا جعفر بن سليمان : سمعت مالك بن دينار في قوله : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) قال : يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول : يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا . فيقول : وكيف وقد سلبته ؟ فيقول : إني أرده عليك اليوم . قال : فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان .
فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٥٢
قوله تعالى : فغفرنا له ذلك أي فغفرنا له ذنبه . قال ابن الأنباري : فغفرنا له ذلك تام ، ثم تبتدئ " وإن له " وقال القشيري : ويجوز الوقف على فغفرنا له ثم تبتدئ ذلك وإن له كقوله : هذا وإن للطاغين أي الأمر ذلك . وقال عطاء الخراساني وغيره : إن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه فنودي : أجائع فتطعم ، أو أعار فتكسى ، فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه ، فغفر له وستر بها . فقال : يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته ، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل ، تركت أولادهم أيتاما ، ونساءهم أرامل ؟ قال : يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم ، أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة . قال : يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة . ثم قيل : يا داود ارفع رأسك . فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض ، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها . رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء . قال الوليد : وأخبرني منير بن الزبير ، قال : فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله . قال الوليد قال ابن لهيعة : فكان يقول في سجوده : سبحانك هذا شرابي دموعي ، وهذا طعامي في رماد بين يدي . في رواية : إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ، فبكى حتى نبت العشب من دموعه . وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه ، وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده : يا رب ، داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب ، رب إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده ، فقال له جبريل بعد أربعين سنة : يا داود ، إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به وقال وهب : إن داود - عليه السلام - نودي إني قد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال : لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال : يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا . فقال الله لجبريل : اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه ، فأنا أسمعه نداءه . فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى : يا أوريا ، فقال : لبيك! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال : أنا أخوك داود ، أسألك أن تجعلني في حل ، فإني عرضتك للقتل . قال : عرضتني للجنة فأنت في حل . وقال الحسن وغيره : كان داود - عليه السلام - بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، ويقول : تعالوا إلى داود الخطاء ، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه . وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه ، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول : هذا أكل الخاطئين . وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر . ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله . وقال : يا رب اجعل خطيئتي في كفي ، فصارت خطيئته منقوشة في كفه . فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته ، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء ، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه . وروى الوليد بن مسلم : حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ، ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض .
قال الوليد : وحدثنا عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول داود إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين ، إن كان يقول : اللهم لا تغفر للخطائين . ثم صار إلى أن يقول : اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم ، سبحان خالق النور . إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي ، فكلهم عليك يدلني . إلهي أخطأت
خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها ، سبحان خالق النور . إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي .
وفي الخبر : أن داود - عليه السلام - كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته ، فكان ينادي : إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، رب اغفر للخاطئين كي تغفرلداود معهم . وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من الأفرشة كلها . وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رءوس الجبال وأفواه الغيران : ألا إن هذا يوم نوح داود ، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده ، فيهبط السياح من الغيران والأودية ، وترتج الأصوات حول منبره ، والوحوش والسباع والطير عكف ، وبنو إسرائيل حول منبره ، فإذا أخذ في العويل والنوح ، وأثارت الحرقات منابع دموعه ، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء ، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم . ومات داود - عليه السلام - فيما قيل يوم السبت فجأة ، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل ، فقال : جئت لأقبض روحك . فقال : دعني حتى أنزل أو أرتقي . فقال : ما لي إلى ذلك سبيل ، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا . قال : فسجد داود على مرقاة من الدرج ، فقبض نفسه على تلك الحال . وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة . وقيل : تسع وسبعون ، وعاش مائة سنة ، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة .
قوله تعالى : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : وإن له عندنا لزلفى قربة بعد المغفرة . وحسن مآب قالا : والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود . وقال مجاهد عن عبد الله بن عمر : الزلفى الدنو من الله - عز وجل - يوم القيامة . وعن مجاهد : يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده : فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى . قال : ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له : هاهنا ، حتى يقرب فيسكن ، فذلك قوله - عز وجل - : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ذكره الترمذي الحكيم . قال : حدثنا الفضل بن محمد ، قال حدثنا عبد الملك بن الأصبغ قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره . قال الترمذي : ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله : ربنا عجل لنا قطنا والقط الصحيفة في اللغة ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم : فأما من أوتي كتابه بيمينه وقال لهم : ( إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم ) قالوا : ربنا عجل لنا قطنا أي : صحيفتنا قبل يوم الحساب قال الله تعالى : اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد فقص قصة خطيئته إلى منتهاها ، فكنت أقول : أمره بالصبر على ما قالوا ، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه ، حتى هداني الله له يوما فألهمته : أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم ، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله ، وقالوا : ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب فأوجعه ذلك من استهزائهم ، فأمره بالصبر على مقالتهم ، وأن يذكر عبده داود ، سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه ، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه ، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم ، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه ، وهو حبيبه ووليه وصفيه ، فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا ، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه ، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود ، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف ، وقد أخبر الله عنهم فقال : فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها . وقد روينا في الحديث : إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له : هاهنا ، ثم يرى فيقلق ثم يقال : هاهنا ، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن .
فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٥٢
{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } الذي صدر منه، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات، فقال: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي: منزلة عالية، وقربة منا، { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي: مرجع.
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٦٢
هذه وصية من الله - عز وجل - لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله وقد توعد [ الله ] تعالى من ضل عن سبيله ، وتناسى يوم الحساب ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد ، حدثنا مروان بن جناح ، حدثني إبراهيم أبو زرعة - وكان قد قرأ الكتاب - أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول ، وقرأت القرآن وفقهت ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أقول ؟ قال : قل في أمان . قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود ؟ إن الله - عز وجل - جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال : ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون ) الآية .
وقال عكرمة : ( لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا .
وقال السدي : لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب .
وهذا القول أمشى على ظاهر الآية فالله أعلم .
يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٦٢
قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب .
فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : إنا جعلناك خليفة في الأرض أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين . وقد مضى في [ البقرة ] القول في الخليفة وأحكامه مستوفى ، والحمد لله .
الثانية : قوله تعالى : فاحكم بين الناس بالحق أي بالعدل ، وهو أمر على الوجوب ، وقد ارتبط هذا بما قبله ، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل . فقيل له بعد هذا : فاحكم بين الناس بالعدل ولا تتبع الهوى أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله . فيضلك عن سبيل الله أي عن طريق الجنة . إن الذين يضلون عن سبيل الله أي يحيدون عنها ويتركونها لهم عذاب شديد في النار بما نسوا يوم الحساب أي بما تركوا من سلوك طريق الله ، فقوله : نسوا أي : تركوا الإيمان به ، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين . ثم قيل : هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة . وقيل : بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته .
الثالثة : الأصل في الأقضية قوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق وقوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله تعالى : لتحكم بين الناس بما أراك الله وقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط الآية . وقد تقدم الكلام فيه .
الرابعة : قال ابن عباس في قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قال : إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى ، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلج على صاحبه ، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي ، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي . فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع ، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أوصداقة ، أو غيرهما . وقال ابن عباس : إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام ; لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل ، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علما ، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك ، وإذا هو قصر عرف ذلك ، فقيل له : ادخل منزلك ، ثم مد يدك في جدارك ، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا ، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء ، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه ، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه ، وإن قصرت عن الحق قصر بك ، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق ، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا ، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط ، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب . فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء ، أقبل إليه رجلان يريدانه : فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه ، وكان أحدهما له صديقا وخدنا ، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له ، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه ، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم ، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف ، وإذا هو لا يبلغه ، فخر ساجدا وهو يقول : يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده ، فبينه لي . فقيل له : أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك ، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به ، قد أردته وأحببته ، ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره . وعن ليث قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما ، ثم عادا فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهما ، فقيل له في ذلك ، فقال : تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه ، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك ، ثم عادا فوجدت بعض ذلك له ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما . وقال الشعبي : كان بين عمر وأبي خصومة ، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت ، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته ، فقال عمر : هذا أول جورك ، أجلسني وإياه مجلسا واحدا ، فجلسا بين يديه .
الخامسة : هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه ; لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به . ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر ، قال : لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري . وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له : احكم لي على فلان بكذا ، فإنك تعلم ما لي عنده . فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم ، وأما الحكم فلا . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد ، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اشترى فرسا فجحده البائع ، فلم يحكم عليه بعلمه وقال : من يشهد لي ؟ فقام خزيمة فشهد فحكم . خرج الحديث أبو داود وغيره ، وقد مضى في [ البقرة ] .
يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٦٢
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية، { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } أي: العدل، وهذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة على تنفيذ الحق، { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } فتميل مع أحد، لقرابة أو صداقة أو محبة، أو بغض للآخر { فَيُضِلَّكَ } الهوى { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ويخرجك عن الصراط المستقيم، { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } خصوصا المتعمدين منهم، { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.
وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٧٢
يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم ليوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ) أي : الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار فقط ، ( فويل للذين كفروا من النار ) أي : ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم .
وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٧٢
قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا أي هزلا ولعبا . أي : ما خلقناهما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا . ذلك ظن الذين كفروا أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلا فويل للذين كفروا من النار
وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا بَٰطِلٗاۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ٧٢
يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات والأرض، وأنه لم يخلقهما باطلا، أي: عبثا ولعبا من غير فائدة ولا مصلحة.
{ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } بربهم، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } فإنها التي تأخذ الحق منهم، وتبلغ منهم كل مبلغ.
وإنما خلق اللّه السماوات والأرض بالحق وللحق، فخلقهما ليعلم العباد كمال علمه وقدرته وسعة سلطانه، وأنه تعالى وحده المعبود، دون من لم يخلق مثقال ذرة من السماوات والأرض، وأن البعث حق، وسيفصل اللّه بين أهل الخير والشر.
أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٨٢
ثم بين تعالى أنه من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمن والكافر فقال : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) أي : لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله ، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر . وهذا الإرشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا . وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة . ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة
أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٨٢
ثم وبخهم فقال : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات والميم صلة ، تقديره : أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض فكان في هذا رد على المرجئة ; لأنهم يقولون : يجوز أن يكون المفسد كالصالح أو أرفع درجة منه . وبعده أيضا : نجعل المتقين كالفجار أي أنجعل أصحاب محمد - عليه السلام - كالكفار ، قاله ابن عباس . وقيل : هو عام في المسلمين المتقين والفجار الكافرين ، وهو أحسن ، وهو رد على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد .
أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٨٢
ولا يظن الجاهل بحكمة اللّه أن يسوي اللّه بينهما في حكمه، ولهذا قال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا.
كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٩٢
قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) أي : ذوو العقول وهي الألباب ، جمع لب ، وهو العقل .
قال الحسن البصري : والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن [ كله ] ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل . رواه ابن أبي حاتم .
كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٩٢
قوله تعالى : كتاب أي هذا كتاب أنزلناه إليك مبارك يا محمد ليدبروا آياته أي ليتدبروا ، فأدغمت التاء في الدال . وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن ، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ ، إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار . وقال الحسن : تدبر آيات الله اتباعها . وقراءة العامة " ليدبروا " . وقرأ أبو حنيفة وشيبة : " لتدبروا " بتاء وتخفيف الدال ، وهي قراءة علي - رضي الله عنه - ، والأصل لتتدبروا ، فحذف إحدى التاءين تخفيفا
وليتذكر أولو الألباب أي أصحاب العقول ، واحدها لب ، وقد جمع على ألب ، كما جمع بؤس على أبؤس ، ونعم على أنعم ، قال أبو طالب :
قلبي إليه مشرف الألب
وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر ، قال الكميت :
إليكم ذوي آل النبي تطلعت نوازع من قلبي ظماء وألبب
كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٩٢
{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } فيه خير كثير، وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه.
{ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
{ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب.
وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٠٣
يقول تعالى مخبرا أنه وهب لداود سليمان ، أي : نبيا كما قال : ( وورث سليمان داود ) أي : في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره ، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر .
وقوله : ( نعم العبد إنه أواب ) ثناء على سليمان - عليه السلام - بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله - عز وجل - .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مكحول قال : لما وهب الله لداود سليمان - عليه السلام - قال له : يا بني ما أحسن ؟ قال : سكينة الله وإيمان . قال : فما أقبح ؟ قال : كفر بعد إيمان . قال : فما أحلى ؟ قال : روح الله بين عباده . قال : فما أبرد ؟ قال : عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض . قالداود - عليه السلام - : فأنت نبي .
وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٠٣
قوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب . لما ذكر داود ذكر سليمان و " أواب " معناه مطيع
وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَيۡمَٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٌ ٠٣
لما أثنى تعالى على داود، وذكر ما جرى له ومنه، أثنى على ابنه سليمان عليهما السلام فقال: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ } أي: أنعمنا به عليه، وأقررنا به عينه.
{ نِعْمَ الْعَبْدُ } سليمان عليه السلام، فإنه اتصف بما يوجب المدح، وهو { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع أحواله، بالتأله والإنابة، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة اللّه، وتقديمها على كل شيء.
إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ ١٣
وقوله : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) أي : إذ عرض على سليمان في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات .
قال مجاهد : وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة ، والجياد : السراع . وكذا قال غير واحد من السلف .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) قال : كانت عشرين فرسا ذات أجنحة . كذا رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال : كانت الخيل التي شغلت سليمان ، عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس ، فعقرها وهذا أشبه والله أعلم .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني عمارة بن غزية : أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك - أو خيبر - وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة - لعب - فقال : " ما هذا يا عائشة ؟ " قالت : بناتي . ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال : " ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ " قالت : فرس . قال : " وما هذا الذي عليه ؟ " قالت : جناحان قال : " فرس له جناحان ؟ ! " قالت : أما سمعت أن لسليمان خيل لها أجنحة ؟ قالت : فضحك حتى رأيت نواجذه - صلى الله عليه وسلم -
إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ ١٣
. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد يعني الخيل ، جمع جواد ، للفرس إذا كان شديد الحضر ، كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها ، يقال : قوم أجواد وخيل جياد ، جاد الرجل بماله يجود جودا فهو جواد ، وقوم جود مثال قذال وقذل ، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة ، وأجواد وأجاود وجوداء ، وكذلك امرأة جواد ونسوة جود مثل نوار ونور ، قال الشاعر : [ هو أبو شهاب الهذلي ]
صناع بإشفاها حصان بشكرها جواد بقوت البطن والعرق زاخر
وتقول : سرنا عقبة جوادا ، وعقبتين جوادين ، وعقبا جيادا . وجاد الفرس أي : صار رائعا يجود جودة بالضم فهو جواد للذكر والأنثى ، من خيل جياد وأجياد وأجاويد . وقيل : إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق ; لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فراهتها . وفي الصافنات أيضا وجهان : أحدهما أن صفونها قيامها . قال القتبي والفراء : الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها . ومنه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار أي : يديمون له القيام ، حكاه قطرب أيضا وأنشد قول النابغة :
لنا قبة مضروبة بفنائها عتاق المهارى والجياد الصوافن
وهذا قول قتادة . الثاني : أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث ، كما قال الشاعر :
ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا
وهذا قول مجاهد . قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس . وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس ، وكان أبوه أصابها من العمالقة . وقال الحسن : بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة . وقاله الضحاك . وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة . ابن زيد : أخرج الشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر ، وكانت لها أجنحة . وكذلك قال علي - رضي الله عنه - : كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة . وقيل : كانت مائة فرس . وفي الخبر عن إبراهيم التيمي : أنها كانت عشرين ألفا ، فالله أعلم .
إِذۡ عُرِضَ عَلَيۡهِ بِٱلۡعَشِيِّ ٱلصَّٰفِنَٰتُ ٱلۡجِيَادُ ١٣
لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي: التي من وصفها الصفون، وهو رفع إحدى قوائمها عند الوقوف، وكان لها منظر رائق، وجمال معجب، خصوصا للمحتاج إليها كالملوك، فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب، فألهته عن صلاة المساء وذكره.
فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ ٢٣
وقوله : ( فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، من ذلك عن جابر قال : جاء عمر ، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والله ما صليتها " فقال : فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب
ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال . والخيل تراد للقتال . وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة ، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب ; لأنه قال بعدها : ( ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق )
قال الحسن البصري . قال : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك . ثم أمر بها فعقرت . وكذا قال قتادة .
وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : جعل يمسح أعراف الخيل ، وعراقيبها حبالها . وهذا القول اختاره ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها . وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر ; لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله - عز وجل - بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ; ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت - قالا أتينا على رجل من أهل البادية ، فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال : " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله - عز وجل - إلا أعطاك الله خيرا منه "
فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ ٢٣
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي يعني بالخير الخيل ، والعرب تسميها كذلك ، وتعاقب بين الراء واللام ، فتقول : انهملت العين وانهمرت ، وختلت وخترت إذا خدعت . قال الفراء : الخير في كلام العرب والخيل واحد . النحاس : في الحديث : الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة فكأنها سميت خيرا لهذا . وفي الحديث : لما وفد زيد الخيل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال له : أنت زيد الخير وهو زيد بن مهلهل الشاعر . وقيل : إنما سميت خيرا لما فيها من المنافع . وفي الخبر : إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب ، وقيل له : اختر منها واحدا ، فاختار الفرس ، فقيل له : اخترت عزك ، فصار اسمه الخير من هذا الوجه . وسمي خيلا ; لأنها موسومة بالعز . وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا ، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شيء خبطا وتناولا . وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت ، وإسماعيل عربي ، فصارت له نحلة من الله ، فسمي عربيا . و " حب " مفعول في قول الفراء . والمعنى إني آثرت حب الخير . وغيره يقدره مصدرا أضيف إلى المفعول ، أي : أحببت الخير حبا فألهاني عن ذكر ربي . وقيل : إن معنى أحببت قعدت وتأخرت ، من قولهم : أحب البعير إذا برك وتأخر . وأحب فلان أي : طأطأ رأسه . قال أبو زيد : يقال : بعير محب ، وقد أحب إحبابا ، وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت . وقال ثعلب : يقال أيضا للبعير الحسير محب ، فالمعنى قعدت عن ذكر ربي . و " حب " على هذا مفعول له . وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : أحببت بمعنى لزمت ، من قوله :
مثل بعير السوء إذ أحبا
حتى توارت بالحجاب يعني الشمس ، كناية عن غير مذكور ، مثل قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة أي على ظهر الأرض ، وتقول العرب : هاجت باردة أي : هاجت الريح باردة . وقال الله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم أي : بلغت النفس الحلقوم . وقال تعالى : إنها ترمي بشرر كالقصر ولم يتقدم للنار ذكر . وقال الزجاج : إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر ، وقد جرى هاهنا الدليل وهو قوله : بالعشي . والعشي ما بعد الزوال ، والتواري الاستتار عن الأبصار ، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق ، قاله قتادة وكعب . وقيل : هو جبل قاف . وقيل : جبل دون قاف . والحجاب الليل ، سمي حجابا لأنه يستر ما فيه . وقيل : حتى توارت أي : الخيل في المسابقة . وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل ، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة ; لأن الشمس لم يجر لها ذكر . وذكر النحاس أن سليمان - عليه السلام - كان في صلاة فجيء إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات .
فَقَالَ إِنِّيٓ أَحۡبَبۡتُ حُبَّ ٱلۡخَيۡرِ عَن ذِكۡرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتۡ بِٱلۡحِجَابِ ٢٣
فقال ندما على ما مضى منه، وتقربا إلى اللّه بما ألهاه عن ذكره، وتقديما لحب اللّه على حب غيره: { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ } وضمن { أحببت } معنى { آثرت } أي: آثرت حب الخير، الذي هو المال عموما، وفي هذا الموضع المراد الخيل { عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ }
رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ ٣٣
وقوله : ( فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه ، من ذلك عن جابر قال : جاء عمر ، رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والله ما صليتها " فقال : فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب
ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال . والخيل تراد للقتال . وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة ، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر ، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب ; لأنه قال بعدها : ( ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق )
قال الحسن البصري . قال : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك . ثم أمر بها فعقرت . وكذا قال قتادة .
وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : جعل يمسح أعراف الخيل ، وعراقيبها حبالها . وهذا القول اختاره ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها . وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر ; لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله - عز وجل - بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ; ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء - وكانا يكثران السفر نحو البيت - قالا أتينا على رجل من أهل البادية ، فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال : " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله - عز وجل - إلا أعطاك الله خيرا منه "
رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ ٣٣
فلما فرغ من صلاته قال : ردوها علي فطفق مسحا أي : فأقبل يمسحها مسحا . وفي معناه قولان : أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها ، وليري أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله . وقال قائل هذا القول : كيف يقتلها وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له ؟ . وقيل : المسح هاهنا هو القطع ، أذن له في قتلها . قال الحسن والكلبي ومقاتل : صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه ، وكانت ألف فرس ، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر ، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة ، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم ، فقال : ردوها علي فردت فعقرها بالسيف قربة لله ، وبقي منها مائة ، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل . قال القشيري : وقيل : ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر ، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها . وكان سليمان - عليه السلام - رجلا مهيبا ، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا ، فتذكر سليمان تلك الصلاة الفائتة ، وقال على سبيل التلهف : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي أي : عن الصلاة ، وأمر برد الأفراس إليه ، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها ، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس ، إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة ، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة . ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار ، ثم ذبحها في الحال ، ليتصدق بلحمها ، أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله ، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله ، فأثنى الله عليه بهذا ، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح ، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا . وقد قيل : إن الهاء في قوله : ردوها علي للشمس لا للخيل . قال ابن عباس : سألت عليا عن هذه الآية فقال : ما بلغك فيها ؟ فقلت : سمعت كعبا يقول : إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة ، قال : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي أي : آثرت حب الخير عن ذكر ربي الآية ردوها علي يعني الأفراس ، وكانت أربع عشرة ، فضرب سوقها وأعناقها بالسيف ، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما ; لأنه ظلم الخيل . فقال علي بن أبي طالب : كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي : غربت الشمس بالحجاب ، فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس : ردوها يعني الشمس ، فردوها حتى صلى العصر في وقتها ، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون .
قلت : الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس ، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ويتعلق بذكرها ، حسب ما تقدم بيانه . وكثيرا ما يضمرون الشمس ، قال لبيد :
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
والهاء في ردوها للخيل ، ومسحها قال الزهري وابن كيسان : كان يمسح سوقها وأعناقها ، ويكشف الغبار عنها حبا لها . وقال الحسن وقتادة وابن عباس . وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رئي وهو يمسح فرسه بردائه . وقال : إني عوتبت الليلة في الخيل خرجه الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلا . وهو في غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس . وقد مضى في [ الأنفال ] قوله - عليه السلام - : وامسحوا بنواصيها وأكفالها وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف .
قلت : وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان هذا . وهو استدلال فاسد ; لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد . والمفسرون اختلفوا في معنى الآية ، فمنهم من قال : مسح على أعناقها وسوقها إكراما لها ، وقال : أنت في سبيل الله ، فهذا إصلاح . ومنهم من قال : عرقبها ثم ذبحها ، وذبح الخيل وأكل لحمها جائز .
وقد مضى في [ النحل ] بيانه . وعلى هذا فما فعل شيئا عليه فيه جناح . فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز . ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل ، ولا يكون في شرعنا . وقد قيل : إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله - جل وعز - له ذلك . وقد قيل : إن مسحه إياها وسمها بالكي وجعلها في سبيل الله ، فالله أعلم . وقد ضعف هذا القول من حيث إن السوق ليست بمحل للوسم بحال . وقد يقال : الكي على الساق علاط ، وعلى العنق وثاق . والذي في الصحاح للجوهري : علط البعير علطا كواه في عنقه بسمة العلاط . والعلاطان جانبا العنق .
قلت : ومن قال إن الهاء في ردوها ترجع للشمس فذلك من معجزاته . وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم . خرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي ، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصليت يا علي قال : لا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس . قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها بعدما غربت طلعت على الجبال والأرض ، وذلك بالصهباء في خيبر . قال الطحاوي : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات .
قلت : وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال : وغلو الرافضة في حب علي - عليه السلام - حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله ، منها أن الشمس غابت ففاتت عليا - عليه السلام - العصر فردت له الشمس ، وهذا من حيث النقل محال ، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد لا يرد الوقت . ومن قال : إن الهاء ترجع إلى الخيل ، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق ، ففيه دليل على المسابقة بالخيل ، وهو أمر مشروع . وقد مضى القول فيه في [ يوسف ] .
رُدُّوهَا عَلَيَّۖ فَطَفِقَ مَسۡحَۢا بِٱلسُّوقِ وَٱلۡأَعۡنَاقِ ٣٣
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } فردوها { فَطَفِقَ } فيها { مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } أي: جعل يعقرها بسيفه، في سوقها وأعناقها.
وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ ٤٣
يقول تعالى : ( ولقد فتنا سليمان ) أي : اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة ، ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم : يعني شيطانا . ( ثم أناب ) أي : رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته .
قال ابن جرير : وكان اسم ذلك الشيطان صخرا . قاله ابن عباس ، وقتادة . وقيل : آصف . قاله مجاهد وقيل : آصروا . قاله مجاهد أيضا . وقيل : حبقيق . قاله السدي . وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة .
وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : قال أمر سليمان - عليه السلام - ببناء بيت المقدس فقيل له : ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد . فقال : فطلب ذلك فلم يقدر عليه . فقيل له : إن شيطانا في البحر يقال له : " صخر " شبه المارد . قال : فطلبه وكانت عين في البحر يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماؤها وجعل فيها خمر ، فجاء يوم ورده فإذا هو بالخمر فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا . ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا . ثم شربها حتى غلبت على عقله ، قال : فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل . قال : وكان ملكه في خاتمه فأتي به سليمان فقال : إنه قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا : لا يسمعن فيه صوت حديد . قال : فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها ، فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه . فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة . وكان سليمان [ عليه السلام ] إذا أراد أن يدخل الخلاء - أو : الحمام - لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه ، وذلك عند مقارفة قارف فيه بعض نسائه . قال : فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ، ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان . قال : فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه . قال : فجعل يقضي بينهم ، وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا : لقد فتن نبي الله . وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال : والله لأجربنه . قال : فقال : يا نبي الله - وهو لا يرى إلا أنه نبي الله - أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى عليه بأسا ؟ فقال : لا . قال : فبينا هو كذلك أربعين ليلة حتى وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم ، ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : هو الشيطان صخر
وقال السدي : ( ولقد فتنا سليمان ) أي : ابتلينا سليمان ، ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : جلس الشيطان على كرسيه أربعين يوما . قال : وكان لسليمان - عليه السلام - مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها : " جرادة " ، وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فقال : هاتي الخاتم . فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه ، فقالت : ألم تأخذه قبل ؟ قال : لا . وخرج مكانه تائها . قال : ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما ، قال : فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا : إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه . قال : فبكى النساء عند ذلك قال : فأقبلوا يمشون حتى أتوا فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوا . قال : فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه . ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر . قال : وأقبل سليمان في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه . فاستطعمهم من صيدهم وقال : إني أنا سليمان . فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته . قال : إنه زعم أنه سليمان . قال : فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم فلم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شط البحر فشق بطونهما فجعل يغسل [ دمه ] فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه ، وجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان - عليه السلام - فقام القوم يعتذرون مما صنعوا [ به ] فقال : ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم ، كان هذا الأمر لا بد منه . قال : فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ، ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة . وكان اسمه حبقيق قال : وسخر له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله : ( وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب )
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( وألقينا على كرسيه جسدا ) قال : شيطانا يقال له : آصف . فقال له سليمان : كيف تفتنون الناس ؟ قال : أرني خاتمك أخبرك . فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان وذهب ملكه ، وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن - ولم يقربنه وأنكرنه . قال : فكان سليمان يستطعم فيقول : أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه ، حتى أعطته امرأة يوما حوتا فجعل يطيب بطنه ، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر فارا .
وهذه كلها من الإسرائيليات ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا : حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] ( وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) قال : أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه - وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه - فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي . فأعطته إياه . فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان من الخلاء قال لها : هاتي خاتمي . قالت : قد أعطيته سليمان . قال : أنا سليمان . قالت : كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول له : " أنا سليمان " ، إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة . فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله - عز وجل - . قال : وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان . قال : فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن : أتنكرن من سليمان شيئا ؟ قلن : نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك . فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر ، فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس . وقالوا : بهذا كان يظهر سليمان على الناس [ ويغلبهم ] فأكفر الناس سليمان - عليه السلام - فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته . وكان سليمان يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان فقال : تحمل لي هذا السمك ؟ فقال : نعم . قال : بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك . قال : فحمل سليمان - عليه السلام - السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان فشق بطنها ، فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه . قال : فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى دخل جزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان في طلبه وكان شيطانا مريدا فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه الرصاص قال : فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان ، فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله : ( ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ) قال : يعني الشيطان الذي كان سلط عليه .
إسناده إلى ابن عباس قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس - إن صح عنه - من أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان - عليه السلام - فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله منه تشريفا وتكريما لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف ، كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله أعلم بالصواب .
وقال يحيى بن أبي عمرو السيباني : وجد سليمان خاتمه في عسقلان ، فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعا لله - عز وجل - رواه ابن أبي حاتم .
وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال : حدثنا أبي رحمه الله ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار ; أنه لما فرغ من حديث " إرم ذات العماد " قال له معاوية : يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود وما كان عليه ; ومن أي شيء هو ؟ فقال : كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مفصصا بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ . وقد جعل له درجة منها مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل ، نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ . وجعل على رءوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب ، ثم جعل على رءوس النخل التي على يسار الكرسي نسور من ذهب مقابلة الطواويس ، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتا صنوبر من ذهب ، وعن يسارها أسدان من ذهب وعلى رءوس الأسدين عمودان من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر . ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا . فإذا أراد سليمان أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان - عليه السلام - ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان . ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد ، فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ، ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد [ سليمان ] على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة . فقال معاوية رضي الله عنه : وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال : تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي درن إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رءوسهن على رأس سليمان [ ابن داود ] - عليه السلام - وهو جالس ثم ينضحن جميعا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان - عليه السلام - . ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان على الناس .
وذكر تمام الخبر وهو غريب جدا .
وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ ٤٣
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة ، وملك بعد الفتنة عشرين سنة ، ذكره الزمخشري . و " فتنا " أي : ابتلينا وعاقبنا . وسبب ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : اختصم إلى سليمان - عليه السلام - فريقان أحدهما من أهل جرادة امرأة سليمان ، وكان يحبها فهوى أن يقع القضاء لهم ، ثم قضى بينهما بالحق ، فأصابه الذي أصابه عقوبة لذلك الهوى . وقال سعيد بن المسيب : إن سليمان - عليه السلام - احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد ، ولا ينصف مظلوما من ظالم ، فأوحى الله تعالى إليه : " إني لم أستخلفك لتحتجب عن عبادي ولكن لتقضي بينهم وتنصف مظلومهم " .
وقال شهر بن حوشب ووهب بن منبه : إن سليمان - عليه السلام - سبى بنت ملك غزاه في البحر ، في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون . فألقيت عليه محبتها ، وهي تعرض عنه ، لا تنظر إليه إلا شزرا ، ولا تكلمه إلا نزرا ، وكان لا يرقأ لها دمع حزنا على أبيها ، وكانت في غاية من الجمال ، ثم إنها سألته أن يصنع لها تمثالا على صورة أبيها حتى تنظر إليه ، فأمر فصنع لها فعظمته وسجدت له ، وسجدت معها جواريها ، وصار صنما معبودا في داره وهو لا يعلم ، حتى مضت أربعون ليلة ، وفشا خبره في بني إسرائيل وعلم به سليمان فكسره ، وحرقه ثم ذراه في البحر . وقيل : إن سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون واسمها جرادة - فيما ذكر الزمخشري - أعجب بها ، فعرض عليها الإسلام فأبت ، فخوفها فقالت : اقتلني ولا أسلم ، فتزوجها وهي مشركة فكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت ، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما . وقال كعب الأحبار : إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه . وقال الحسن : إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره . وقيل : إنه أمر ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غيرهم ، فعوقب على ذلك ، والله أعلم .
قوله تعالى : وألقينا على كرسيه جسدا قيل : شيطان في قول أكثر أهل التفسير ، ألقى الله شبه سليمان - عليه السلام - عليه ، واسمه صخر بن عمير صاحب البحر ، وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر سليمان ببناء بيت المقدس ، فصوتت الحجارة لما صنعت بالحديد ، فأخذوا الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والفصوص وغيرها ولا تصوت . قال ابن عباس : كان ماردا لا يقوى عليه جميع الشياطين ، ولم يزل يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان بن داود ، وكان سليمان لا يدخل الكنيف بخاتمه ، فجاء صخر في صورة سليمان حتى أخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان أم ولد له يقال لها الأمينة ، قاله شهر ووهب .
وقال ابن عباس وابن جبير : اسمها جرادة . فقام أربعين يوما على ملك سليمان وسليمان هارب ، حتى رد الله عليه الخاتم والملك . وقال سعيد بن المسيب : كان سليمان قد وضع خاتمه تحت فراشه ، فأخذه الشيطان من تحته . وقال مجاهد : أخذه الشيطان من يد سليمان ; لأن سليمان سأل الشيطان وكان اسمه آصف : كيف تضلون الناس ؟ فقال له الشيطان : أعطني خاتمك حتى أخبرك . فأعطاه خاتمه ، فلما أخذ الشيطان الخاتم جلس على كرسي سليمان ، متشبها بصورته ، داخلا على نسائه ، يقضي بغير الحق ، ويأمر بغير الصواب . واختلف في إصابته لنساء سليمان ، فحكي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنه كان يأتيهن في حيضهن . وقال مجاهد : منع من إتيانهن ، وزال عن سليمان ملكه ، فخرج هاربا إلى ساحل البحر يتضيف الناس ، ويحمل سموك الصيادين بالأجر ، وإذا أخبر الناس أنه سليمان أكذبوه . قال قتادة : ثم إن سليمان بعد أن استنكر بنو إسرائيل حكم الشيطان أخذ حوته من صياد . قيل : إنه استطعمها . وقال ابن عباس : أخذها أجرة في حمل حوت . وقيل : إن سليمان صادها ، فلما شق بطنها وجد خاتمه فيها ، وذلك بعد أربعين يوما من زوال ملكه ، وهي عدد الأيام التي عبد فيها الصنم في داره ، وإنما وجد الخاتم في بطن الحوت ; لأن الشيطان الذي أخذه ألقاه في البحر . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : بينما سليمان على شاطئ البحر وهو يعبث بخاتمه ، إذ سقط منه في البحر وكان ملكه في خاتمه . وقال جابر بن عبد الله : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلا الله محمد رسول الله .
وحكى يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن سليمان وجد خاتمه بعسقلان ، فمشى منها إلى بيت المقدس تواضعا لله تعالى . قال ابن عباس وغيره : ثم إن سليمان لما رد الله عليه ملكه ، أخذ صخرا الذي أخذ خاتمه ، ونقر له صخرة وأدخله فيها ، وسد عليه بأخرى وأوثقها بالحديد والرصاص ، وختم عليها بخاتمه وألقاها في البحر ، وقال : هذا محبسك إلى يوم القيامة . وقال علي - رضي الله عنه - : لما أخذ سليمان الخاتم ، أقبلت إليه الشياطين والجن والإنس والطير والوحش والريح ، وهرب الشيطان الذي خلف في أهله ، فأتى جزيرة في البحر ، فبعث إليه الشياطين فقالوا : لا نقدر عليه ، ولكنه يرد عينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما ، ولا نقدر عليه حتى يسكر! قال : فنزح سليمان ماءها وجعل فيها خمرا ، فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر ، فقال : والله إنك لشراب طيب إلا أنك تطيشين الحليم ، وتزيدين الجاهل جهلا . ثم عطش عطشا شديدا ثم أتاه فقال مثل مقالته ، ثم شربها فغلبت على عقله ، فأروه الخاتم فقال : سمعا وطاعة . فأتوا به سليمان فأوثقه وبعث به إلى جبل ، فذكروا أنه جبل الدخان ، فقالوا : إن الدخان الذي ترون من نفسه ، والماء الذي يخرج من الجبل من بوله . وقال مجاهد : اسم ذلك الشيطان آصف . وقال السدي اسمه حبقيق ، فالله أعلم .
وقد ضعف هذا القول من حيث إن الشيطان لا يتصور بصورة الأنبياء ، ثم من المحال أن يلتبس على أهل مملكة سليمان الشيطان بسليمان حتى يظنوا أنهم مع نبيهم في حق ، وهم مع الشيطان في باطل . وقيل : إن الجسد ولد ولد لسليمان ، وأنه لما ولد اجتمعت الشياطين ، وقال بعضهم لبعض : إن عاش له ابن لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسخرة ، فتعالوا نقتل ولده أو نخبله . فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته إلى السحاب ، وغدا ابنه في السحاب خوفا من مضرة الشياطين ، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين ، فلم يشعر إلا وقد وقع على كرسيه ميتا . قال معناه الشعبي . فهو الجسد الذي قال الله تعالى : وألقينا على كرسيه جسدا .
وحكى النقاش وغيره : إن أكثر ما وطئ سليمان جواريه طلبا للولد ، فولد له نصف إنسان ، فهو كان الجسد الملقى على كرسيه ، جاءت به القابلة فألقته هناك . وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال سليمان لأطوفن الليلة على تسعين امرأة ، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ، فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، وايم الذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون . وقيل : إن الجسد هو آصف بن برخيا الصديق كاتب سليمان ، وذلك أن سليمان لما فتن سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه ، فأعاده إلى يده فسقط فأيقن بالفتنة ، فقال له آصف : إنك مفتون ، ولذلك لا يتماسك في يدك ، ففر إلى الله تعالى تائبا من ذلك ، وأنا أقوم مقامك في عالمك إلى أن يتوب الله عليك ، ولك من حين فتنت أربعة عشر يوما . ففر سليمان هاربا إلى ربه ، وأخذ آصف الخاتم فوضعه في يده فثبت ، وكان عنده علم من الكتاب . وقام آصف في ملك سليمان وعياله ، يسير بسيره ويعمل بعمله ، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله تعالى ، ورد الله عليه ملكه ، فأقام آصف في مجلسه ، وجلس على كرسيه وأخذ الخاتم . وقيل : إن الجسد كان سليمان نفسه ، وذلك أنه مرض مرضا شديدا حتى صار جسدا . وقد يوصف به المريض المضنى فيقال : كالجسد الملقى .
صفة كرسي سليمان وملكه : روي عن ابن عباس قال : كان سليمان يوضع له ستمائة كرسي ، ثم يجيء أشراف الناس فيجلسون مما يليه ، ثم يأتي أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس ، ثم يدعو الطير فتظلهم ، ثم يدعو الريح فتقلهم ، وتسير بالغداة الواحدة مسيرة شهر . وقال وهب وكعب وغيرهما : إن سليمان - عليه السلام - لما ملك بعد أبيه ، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء ، وأمر أن يعمل بديعا مهولا بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيب ، فأمر أن يعمل من أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد ، وأن يحف بنخيل الذهب ، فحف بأربع نخلات من ذهب ، شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، على رأس نخلتين منهما طاووسان من ذهب ، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض ، وجعلوا من جنبي الكرسي أسدين من ذهب ، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر . وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر ، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر ، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي . وكان سليمان - عليه السلام - إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى ، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة ، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ، ويبسط الأسدان أيديهما ، ويضربان الأرض بأذنابهما . وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان ، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأسه ، ثم يستدير الكرسي بما فيه ، ويدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلان برءوسهما إلى سليمان ، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر ، ثم تناوله حمامة من ذهب قائمة على عمود من أعمدة الجواهر فوق الكرسي التوراة ، فيفتحها سليمان - عليه السلام - ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء .
قالوا : ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة بالجواهر ، وهي ألف كرسي عن يمينه ، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره ، وهي ألف كرسي ، ثم تحف بهم الطير تظلهم ، ويتقدم الناس لفصل القضاء . فإذا تقدمت الشهود للشهادات ، دار الكرسي بما فيه وعليه دوران الرحى المسرعة ، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما ، وينشر النسران والطاووسان أجنحتهما ، فتفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق .
وقيل : إن الذي كان يدور بذلك الكرسي تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه ، وهو عظم مما عمله له صخر الجني ، فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه ، فإذا وقفن وقفن كلهن على رأس سليمان ، وهو جالس ، ثم ينضحن جميعا على رأسه ما في أجوافهن من المسك والعنبر . فلما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي فحمله إلى أنطاكية ، فأراد أن يصعد إليه ولم يكن له علم كيف يصعد إليه ، فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله فكسرها ، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا . ومات بختنصر وحمل الكرسي إلى بيت المقدس ، فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه ، ولكن لم يدر أحد عاقبة أمره ، ولعله رفع .
قوله تعالى : ثم أناب أي رجع إلى الله وتاب . وقد تقدم .
وَلَقَدۡ فَتَنَّا سُلَيۡمَٰنَ وَأَلۡقَيۡنَا عَلَىٰ كُرۡسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ ٤٣
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي: ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا } أي: شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان، { ثُمَّ أَنَابَ } سليمان إلى اللّه تعالى وتاب.
قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٥٣
( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ) قال بعضهم : معناه : لا ينبغي لأحد من بعدي أي : لا يصلح لأحد أن يسلبنيه كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس . والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبه وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان : ( رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي )
قال روح : فرده خاسئا
وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعناه يقول : " أعوذ بالله منك " . ثم قال : " ألعنك بلعنة الله " - ثلاثا - وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله ، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك ؟ قال : " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك - ثلاث مرات - ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة . فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة "
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال : رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي ، فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال : " لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد ، يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " .
وقد روى أبو داود منه : " من استطاع منكم ألا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله الديلمي قال : دخلت على عبد الله بن عمرو ، وهو في حائط له بالطائف يقال له : " الوهط " ، وهو مخاصر فتى من قريش يزن بشرب الخمر ، فقلت : بلغني عنك حديث أنه " من شرب شربة خمر لم يقبل الله - عز وجل - له توبة أربعين صباحا ، وإن الشقي من شقي في بطن أمه وإنه من أتى بيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه ، خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه ، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق . فقال عبد الله بن عمرو إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من شرب من الخمر شربة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه . فإن عاد - قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة - فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة " قال : وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله - عز وجل - " وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن سليمان سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة : سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله تعالى قد أعطانا إياها "
وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه - عز وجل - خلالا ثلاثا . . . " وذكره
وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه ، بإسناد وسياق غريبين فقال الطبراني :
حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله - عز وجل - لداود - عليه السلام - : ابن لي بيتا في الأرض . فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه : يا داود نصبت بيتك قبل بيتي ؟ قال : يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله - عز وجل - فقال : يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال : ولم يا رب ؟ قال : لما جرى على يديك من الدماء . قال : يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال : بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه : لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان . فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه فلما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه : قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك . قال : أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما ثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي ، حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا دعاء إلا استفتحه ب " سبحان الله ربي الأعلى العلي الوهاب "
وقد قال أبو عبيد : حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن مسمار قال : لما مات نبي الله داود أوحى الله إلى ابنه سليمان عليهما السلام : أن سلني حاجتك . قال : أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي . فقال الله : أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت [ حاجته ] أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني لأهبن له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده .
قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٥٣
قوله تعالى : قال رب اغفر لي أي اغفر لي ذنبي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي يقال : كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله تعالى ، وبغضه لها ، وحقارتها لديه ؟ . فالجواب : أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله تعالى وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده ، والمحافظة على رسومه ، وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته ، ونظم قانون الحكم النافذ عليهم منه ، وتحقيق الوعود في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته فقال : إني أعلم ما لا تعلمون وحاشا سليمان - عليه السلام - أن يكون سؤاله طلبا لنفس الدنيا ; لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله ، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله ، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك ، فأجيب نوح فأهلك من عليها ، وأعطي سليمان المملكة . وقد قيل : إن ذلك كان بأمر من الله - جل وعز - على الصفة التي علم الله أنه لا يضبطه إلا هو وحده دون سائر عباده ، أو أراد أن يقول ملكا عظيما فقال : لا ينبغي لأحد من بعدي وهذا فيه نظر . والأول أصح . ثم قال له : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب قال الحسن : ما من أحد إلا ولله عليه تبعة في نعمه غير سليمان بن داود - عليه السلام - فإنه قال : هذا عطاءنا الآية .
قلت : وهذا يرد ما روي في الخبر : إن آخر الأنبياء دخولا الجنة سليمان بن داود - عليه السلام - لمكان ملكه في الدنيا . وفي بعض الأخبار : يدخل الجنة بعد الأنبياء بأربعين خريفا ، ذكره صاحب القوت ، وهو حديث لا أصل له ; لأنه سبحانه إذا كان عطاءه لا تبعة فيه ; لأنه من طريق المنة ، فكيف يكون آخر الأنبياء دخولا الجنة ، وهو سبحانه يقول : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب . وفي الصحيح : لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته . . . الحديث . وقد تقدم فجعل له من قبل السؤال حاجة مقضية ، فلذلك لم تكن عليه تبعة . ومعنى قوله : لا ينبغي لأحد من بعدي أي : أن يسأله . فكأنه سأل منع السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإجابة . وقيل : إن سؤاله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ليكون محله وكرامته من الله ظاهرا في خلق السماوات والأرض ، فإن الأنبياء عليهم السلام لهم تنافس في المحل عنده ، فكل يحب أن تكون له خصوصية يستدل بها على محله عنده ، ولهذا لما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - العفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه ، أراد ربطه ثم تذكر قول أخيه سليمان : رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده خاسئا . فلو أعطي أحد بعده مثله ذهبت الخصوصية ، فكأنه كره - صلى الله عليه وسلم - أن يزاحمه في تلك الخصوصية ، بعد أن علم أنه شيء هو الذي خص به من سخرة الشياطين ، وأنه أجيب إلى ألا يكون لأحد بعده . والله أعلم .
قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَهَبۡ لِي مُلۡكٗا لَّا يَنۢبَغِي لِأَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ٥٣
فـ { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } فاستجاب اللّه له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدر والحلي، ومن عصاه منهم قرنه في الأصفاد وأوثقه.
فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٦٣
قال الله تعالى : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) والتي بعدها ، قال : فأعطاه [ الله ] ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه .
هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان - عليه السلام - في تاريخه
وروي عن بعض السلف أنه قال : بلغني عن داود [ عليه السلام ] أنه قال : " إلهي كن لسليمان كما كنت لي " : فأوحى الله إليه : أن قل لسليمان : يكون لي كما كنت لي ، أكون له كما كنت لك .
وقوله : ( فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ) قال الحسن البصري رحمه الله : لما عقر سليمان الخيل غضبا لله - عز وجل - عوضه الله ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر .
وقوله : ( حيث أصاب ) أي : حيث أراد من البلاد .
فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٦٣
قوله تعالى : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء أي لينة مع قوتها وشدتها حتى لا تضر بأحد ، وتحمله بعسكره وجنوده وموكبه . وكان موكبه فيما روي فرسخا في فرسخ ، مائة درجة بعضها فوق بعض ، كل درجة صنف من الناس ، وهو في أعلى درجة مع جواريه وحشمه وخدمه ، صلوات الله وسلامه عليه . وذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا أحمد بن جعفر ، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن وهب بن منبه ، قال حدثني أبي قال : كان لسليمان بن داود - عليه السلام - ألف بيت ، أعلاه قوارير وأسفله حديد ، فركب الريح يوما فمر بحراث فنظر إليه الحراث فقال : لقد أوتي آل داود ملكا عظيما ، فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سليمان ، قال فنزل حتى أتى الحراث فقال : إني سمعت قولك ، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك لخير مما أوتي آل داود . فقال الحراث : أذهب الله همك كما أذهبت همي .
قوله تعالى : حيث أصاب أي أراد ، قاله مجاهد . والعرب تقول : أصاب الصواب وأخطأ الجواب . أي : أراد الصواب وأخطأ الجواب ، قاله ابن الأعرابي . وقال الشاعر :
أصاب الكلام فلم يستطع فأخطا الجواب لدى المفصل
وقيل : أصاب أراد بلغة حمير . وقال قتادة : هو بلسان هجر . وقيل : حيث أصاب : حينما قصد ، وهو مأخوذ من إصابة السهم الغرض المقصود .
فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٦٣
فـ { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } فاستجاب اللّه له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدر والحلي، ومن عصاه منهم قرنه في الأصفاد وأوثقه.
وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٧٣
وقوله : ( والشياطين كل بناء وغواص ) أي : منهم من هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللآلئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها
وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٧٣
" والشياطين " أي وسخرنا له الشياطين ، وما سخرت لأحد قبله . " كل بناء " بدل من الشياطين ، أي : كل بناء منهم ، فهم يبنون له ما يشاء . قال [ النابغة الذبياني ] :
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
" وغواص " يعني في البحر يستخرجون له الدر . فسليمان أول من استخرج له اللؤلؤ من البحر .
وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٧٣
فـ { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } فاستجاب اللّه له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدر والحلي، ومن عصاه منهم قرنه في الأصفاد وأوثقه.
وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٨٣
( وآخرين مقرنين في الأصفاد ) أي : موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى .
وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٨٣
وآخرين مقرنين في الأصفاد أي وسخرنا له مردة الشياطين حتى قرنهم في سلاسل الحديد وقيود الحديد ، قال قتادة . السدي : الأغلال . ابن عباس : في وثاق . ومنه قول الشاعر [ عمرو بن كلثوم ] :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
قال يحيى بن سلام : ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم ، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم .
وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٨٣
فـ { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } فاستجاب اللّه له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدر والحلي، ومن عصاه منهم قرنه في الأصفاد وأوثقه.
هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٩٣
وقوله : ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) أي : هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت ، لا حساب عليك ، أي : مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خير بين أن يكون عبدا رسولا - وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس ما أمره الله به - وبين أن يكون ملكا نبيا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح ، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان في الدنيا نبه على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا ،
هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٩٣
قوله تعالى : هذا عطاؤنا الإشارة بهذا إلى الملك ، أي : هذا الملك عطاءنا فأعط من شئت أو امنع من شئت لا حساب عليك ، عن الحسن والضحاك وغيرهما . قال الحسن : ما أنعم الله على أحد نعمة إلا عليه فيها تبعة إلا سليمان عليه السلام ، فإن الله تعالى يقول : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب . وقال قتادة : الإشارة في قوله تعالى : هذا عطاؤنا إلى ما أعطيه من القوة على الجماع ، وكانت له ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية ، وكان في ظهره ماء مائة رجل ، رواه عكرمة عن ابن عباس . ومعناه في البخاري .
فامنن من المني ، يقال : أمنى يمني ومنى يمني لغتان ، فإذا أمرت من أمنى قلت : أمن ، ويقال : من منى يمني في الأمر : امن ، فإذا جئت بنون الفعل نون الخفيفة قلت : امنن . ومن ذهب به إلى المنة قال : من عليه ، فإذا أخرجه مخرج الأمر أبرز النونين ; لأنه كان مضاعفا فقال امنن . فيروى في الخبر أنه سخر له الشياطين ، فمن شاء من عليه بالعتق والتخلية ، ومن شاء أمسكه ، قال قتادة والسدي . وعلى ما روى عكرمة عن ابن عباس : أي : جامع من شئت من نسائك ، واترك جماع من شئت منهن لا حساب عليك .
هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٩٣
وقلنا له: { هَذَا عَطَاؤُنَا } فَقَرَّ به عينا { فَامْنُنْ } على من شئت، { أَوْ أَمْسِكْ } من شئت { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: لا حرج عليك في ذلك ولا حساب، لعلمه تعالى بكمال عدله، وحسن أحكامه، ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة، بل له في الآخرة خير عظيم.
وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٠٤
فقال : ( وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) أي : في الدار الآخرة .
وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٠٤
وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب أي إن أنعمنا عليه في الدنيا فله عندنا في الآخرة قربة وحسن مرجع .
وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مََٔابٖ ٠٤
ولهذا قال: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي: هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع الكرامات للّه.
فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السلام
فمنها: أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من قبله، ليثبت فؤاده وتطمئن نفسه، ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإنابتهم، ما يشوقه إلى منافستهم، والتقرب إلى اللّه الذي تقربوا له، والصبر على أذى قومه، ولهذا - في هذا الموضع - لما ذكر اللّه ما ذكر من أذية قومه وكلامهم فيه وفيما جاء به، أمره بالصبر، وأن يذكر عبده داود فيتسلى به.
ومنها: أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته، قوة القلب والبدن، فإنه يحصل منها من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها، ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة، وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها، وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس.
ومنها: أن الرجوع إلى اللّه في جميع الأمور، من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه، كما أثنى اللّه على داود وسليمان بذلك، فليقتد بهما المقتدون، وليهتد بهداهم السالكون { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ }
ومنها: ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السلام، من حسن الصوت العظيم، الذي جعل اللّه بسببه الجبال الصم، والطيور البهم، يجاوبنه إذا رجَّع صوته بالتسبيح، ويسبحن معه بالعشي والإشراق.
ومنها: أن من أكبر نعم اللّه على عبده، أن يرزقه العلم النافع، ويعرف الحكم والفصل بين الناس، كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السلام.
ومنها: اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور، ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى، كما جرى لداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها: أن الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه تعالى، لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك، وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي، ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه.
ومنها: أن داود عليه السلام، [كان] في أغلب أحواله ملازما محرابه لخدمة ربه، ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب، لأنه كان إذا خلا في محرابه لا يأتيه أحد، فلم يجعل كل وقته للناس، مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام، بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه، وتقر عينه بعبادته، وتعينه على الإخلاص في جميع أموره.
ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم، فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود، فزع منهم، واشتد عليه ذلك، ورآه غير لائق بالحال.
ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا ينبغي.
ومنها: كمال حلم داود عليه السلام، فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان، وهو الملك، ولا انتهرهما، ولا وبخهما.
ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه "أنت ظلمتني" أو "يا ظالم" ونحو ذلك أو باغ علي لقولهما: { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ }
ومنها: أن الموعوظ والمنصوح، ولو كان كبير القدر، جليل العلم، إذا نصحه أحد، أو وعظه، لا يغضب، ولا يشمئز، بل يبادره بالقبول والشكر، فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب ولم يثنه ذلك عن الحق، بل حكم بالحق الصرف.
ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة التعلقات الدنيوية المالية، موجبة للتعادي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى اللّه، والصبر على الأمور، بالإيمان والعمل الصالح، وأن هذا من أقل شيء في الناس.
ومنها: أن الاستغفار والعبادة، خصوصا الصلاة، من مكفرات الذنوب، فإن اللّه، رتب مغفرة ذنب داود على استغفاره وسجوده.
ومنها: إكرام اللّه لعبده داود وسليمان، بالقرب منه، وحسن الثواب، وأن لا يظن أن ما جرى لهما منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى، وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين، أنه إذا غفر لهم وأزال أثر ذنوبهم، أزال الآثار المترتبة عليه كلها، حتى ما يقع في قلوب الخلق، فإنهم إذا علموا ببعض ذنوبهم، وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الأولى، فأزال اللّه تعالى هذه الآثار، وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار.
ومنها: أن الحكم بين الناس مرتبة دينية، تولاها رسل اللّه وخواص خلقه، وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق ومجانبة الهوى، فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم، ولا يحل له الإقدام عليه.
ومنها: أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى، ويجعله منه على بال، فإن النفوس لا تخلو منه، بل يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده، وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض لأحد الخصمين.
ومنها: أن سليمان عليه السلام من فضائل داود، ومن منن اللّه عليه حيث وهبه له، وأن من أكبر نعم اللّه على عبده، أن يهب له ولدا صالحا، فإن كان عالما، كان نورا على نور.
ومنها: ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
ومنها: كثرة خير اللّه وبره بعبيده، أن يمن عليهم بصالح الأعمال ومكارم الأخلاق، ثم يثني عليهم بها، وهو المتفضل الوهاب.
ومنها: تقديم سليمان محبة اللّه تعالى على محبة كل شيء.
ومنها: أن كل ما أشغل العبد عن اللّه، فإنه مشئوم مذموم، فَلْيُفَارِقْه ولْيُقْبِلْ على ما هو أنفع له.
ومنها: القاعدة المشهورة "من ترك شيئا لله عوضه اللّه خيرا منه" فسليمان عليه السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس، تقديما لمحبة اللّه، فعوضه اللّه خيرا من ذلك، بأن سخر له الريح الرخاء اللينة، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له الشياطين، أهل الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون.
ومنها: أن تسخير الشياطين لا يكون لأحد بعد سليمان عليه السلام.
ومنها: أن سليمان عليه السلام، كان ملكا نبيا، يفعل ما أراد، ولكنه لا يريد إلا العدل، بخلاف النبي العبد، فإنه تكون إرادته تابعة لأمر اللّه، فلا يفعل ولا يترك إلا بالأمر، كحال نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهذه الحال أكمل.
وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ ١٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ ١٤
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب - عليه السلام - وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة . وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته - رضي الله عنها - فإنها كانت لا تفارقه صباحا و [ لا ] مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا . فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : ( أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) [ الأنبياء : 83 ] وفي هذه الآية الكريمة قال : رب ، إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، قيل : بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي . فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله . ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تعالى : ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب )
قال ابن جرير ، وابن أبي حاتم جميعا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن نبي الله أيوب - عليه السلام - لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه : تعلم - والله - لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين . قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله ، فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له . فقال أيوب : لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله - عز وجل - فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما ، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق . قال : وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله تعالى إلى أيوب - عليه السلام - أن ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) فاستبطأته فتلقته تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان . فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى . فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أنا هو . قال : وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض . هذا لفظ ابن جرير رحمه الله
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك " .
انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به
وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ ١٤
قوله تعالى : واذكر عبدنا أيوب أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره . أيوب بدل . إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب وقرأ عيسى بن عمر " إني " بكسر الهمزة أي : قال . قال الفراء : وأجمعت القراء على أن قرءوا " بنصب " بضم النون والتخفيف . النحاس : وهذا غلط وبعده مناقضة وغلط أيضا ; لأنه قال : أجمعت القراء على هذا ، وحكى بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ : " بنصب " بفتح النون والصاد ، فغلط على أبي جعفر ، وإنما قرأ أبو جعفر : " بنصب " بضم النون والصاد ، كذا حكاه أبو عبيد وغيره ، وهو مروي عن الحسن . فأما " بنصب " فقراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي . وقد رويت هذه القراءة عن الحسن ، وقد حكي " بنصب " بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر . وهذا كله عند أكثر النحويين بمعنى النصب ، فنصب ونصب كحزن وحزن . وقد يجوز أن يكون نصب جمع نصب كوثن ووثن . ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة ، فأما وما ذبح على النصب فقيل : إنه جمع نصاب . وقال أبو عبيدة وغيره : النصب الشر والبلاء . والنصب التعب والإعياء . وقد قيل في معنى : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب أي : ما يلحقه من وسوسته لا غير . والله أعلم . ذكره النحاس . وقيل : إن النصب ما أصابه في بدنه ، والعذاب ما أصابه في ماله ، وفيه بعد . وقال المفسرون : إن أيوب كان روميا من البثنية وكنيته أبو عبد الله في قول الواقدي ، اصطفاه الله بالنبوة ، وآتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد . وكان شاكرا لأنعم الله ، مواسيا لعباد الله ، برا رحيما . ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر . وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من الأيام ، فوقف به إبليس على عادته ، فقال الله له أو قيل له عنه : أقدرت من عبدي أيوب على شيء ؟ فقال : يا رب وكيف أقدر منه على شيء ، وقد ابتليته بالمال والعافية ، فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله ، ولخرج عن طاعتك . قال الله : قد سلطتك على أهله وماله . فانحط عدو الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم ، وقال قائل منهم : أكون إعصارا فيه نار أهلك ماله ، فكان . فجاء أيوب في صورة قيم ماله فأعلمه بما جرى ، فقال : الحمد لله هو أعطاه وهو منعه . ثم جاء قصره بأهله وولده ، فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده ، ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه ، وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب . قال : يا رب سلطني على بدنه . قال : قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره ، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت ، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه . وقال عند ذلك : مسني الشيطان . ولم يخلص إلى شيء من حشوة البطن ; لأنه لا بقاء للنفس إلا بها ، فهو يأكل ويشرب ، فمكث كذلك ثلاث سنين . فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجمال ، وقال لها : أنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت ، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله ، وهم عندي . وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته ، أي : أظهره لها ، فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله . وذكروا كلاما طويلا في سبب بلائه ومراجعته لربه ، وتبرمه من البلاء الذي نزل به ، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه ، وقيل : استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك . وقيل : استضاف يوما الناس فمنع فقيرا الدخول فابتلي بذلك . وقيل : كان أيوب يغزو ملكا وكان له غنم في ولايته ، فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي . وقيل : كان الناس يتعدون امرأته ويقولون : نخشى العدوى ، وكانوا يستقذرونها ، فلهذا قال . مسني الشيطان . وامرأته ليا بنت يعقوب . وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط . وقيل : كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام . ذكر القولين الطبري رحمه الله . قال ابن العربي : ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام فقول باطل ; لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض ، فكيف يرقى إلى محل الرضا ، ويجول في مقامات الأنبياء ، ويخترق السماوات العلى ، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء ، فيقف موقف الخليل ؟ ! إن هذا لخطب من الجهالة عظيم . وأما قولهم : إن الله تعالى قال له : هل قدرت من عبدي أيوب على شيء ، فباطل قطعا ; لأن الله - عز وجل - لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون ، فكيف يكلم من تولى إضلالهم ؟ ! وأما قولهم : إن الله قال : قد سلطتك على ماله وولده ، فذلك ممكن في القدرة ، ولكنه بعيد في هذه القصة . وكذلك قولهم : إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه ، فهو أبعد ، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له - لعنة الله عليه - عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم . وأما قولهم : إنه قال لزوجته : أنا إله الأرض ، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته ، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض ، وأنه يسجد له ، وأنه يعافي من البلاء ، فكيف أن تستريب زوجة نبي ؟ ! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها . وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال ، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه . ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن ، وهي فوقنا في المعرفة بذلك ، فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره . قال القاضي : والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى : إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال . وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها . في إيمانها وكفرها ، طاعتها وعصيانها ، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه ، ولا في خلق شيء غيرها ، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا ، وإن كان موجودا منه خلقا ، أدبا أدبنا به ، وتحميدا علمناه . وكان من ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - لربه به قول من جملته : والخير في يديك والشر ليس إليك ، على هذا المعنى . ومنه قول إبراهيم : وإذا مرضت فهو يشفين وقال الفتى للكليم : وما أنسانيه إلا الشيطان .
وأما قولهم : إنه استعان به مظلوم فلم ينصره ، فمن لنا بصحة هذا القول . ولا يخلو أن يكون قادرا على نصره ، فلا يحل لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزه عن ذلك . أو كان عاجزا فلا شيء عليه في ذلك ، وكذلك قولهم : إنه منع فقيرا من الدخول ، إن كان علم به فهو باطل عليه ، وإن لم يعلم به فلا شيء عليه فيه . وأما قولهم : إنه داهن على غنمه الملك الكافر ، فلا تقل داهن ، ولكن قل : دارى . ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز ، نعم ويحسن الكلام . قال ابن العربي القاضي أبو بكر - رضي الله عنه - : ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين ، الأولى قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر والثانية في : [ ص ] أني مسني الشيطان بنصب وعذاب . وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله : بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب . . . الحديث . وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه ، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره ، أم على أي لسان سمعه ؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات ، فأعرض عن سطورها بصرك ، وأصمم عن سماعها أذنيك ، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا ، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا . وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال : يا معشر المسلمين ، تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله ، تقرءونه محضا لم يشب ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب ، فقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم ، وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة .
وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَآ أَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِنُصۡبٖ وَعَذَابٍ ١٤
أي: { وَاذْكُرْ } في هذا الكتاب ذي الذكر { عَبْدَنَا أَيُّوبَ } بأحسن الذكر، وأثن عليه بأحسن الثناء، حين أصابه الضر، فصبر على ضره، فلم يشتك لغير ربه، ولا لجأ إلا إليه.
فـ { نَادَى رَبَّهُ } داعيا، وإليه لا إلى غيره شاكيا، فقال: رب { أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } أي: بأمر مشق متعب معذب، وكان سلط على جسده فنفخ فيه حتى تقرح، ثم تقيح بعد ذلك واشتد به الأمر، وكذلك هلك أهله وماله.
ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ ٢٤
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ ٢٤
يذكر تعالى عبده ورسوله أيوب - عليه السلام - وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة . وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته - رضي الله عنها - فإنها كانت لا تفارقه صباحا و [ لا ] مساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا . فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر المقدور وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : ( أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) [ الأنبياء : 83 ] وفي هذه الآية الكريمة قال : رب ، إني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، قيل : بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي . فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله . ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تعالى : ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب )
قال ابن جرير ، وابن أبي حاتم جميعا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن نبي الله أيوب - عليه السلام - لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه : تعلم - والله - لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين . قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله ، فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له . فقال أيوب : لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله - عز وجل - فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما ، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق . قال : وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله تعالى إلى أيوب - عليه السلام - أن ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) فاستبطأته فتلقته تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان . فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى . فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أنا هو . قال : وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض . هذا لفظ ابن جرير رحمه الله
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك " .
انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به
ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ ٢٤
قوله تعالى : اركض برجلك الركض الدفع بالرجل . يقال : ركض الدابة وركض ثوبه برجله . وقال المبرد : الركض التحريك ، ولهذا قال الأصمعي : يقال ركضت الدابة ولا يقال ركضت هي ; لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ، ولا فعل لها في ذلك . وحكى سيبويه : ركضت الدابة فركضت مثل جبرت العظم فجبر ، وحزنته فحزن ، وفي الكلام إضمار أي : قلنا له : اركض . قال الكسائي : وهذا لما عافاه الله . هذا مغتسل بارد وشراب أي فركض فنبعت عين ماء فاغتسل به ، فذهب الداء من ظاهره ، ثم شرب منه فذهب الداء من باطنه . وقال قتادة : هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية ، فاغتسل من إحداهما فأذهب الله تعالى ظاهر دائه ، وشرب من الأخرى فأذهب الله تعالى باطن دائه . ونحوه عن الحسن ومقاتل ، قال مقاتل : نبعت عين حارة واغتسل فيها فخرج صحيحا ، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا . وقيل : أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء في جسده . والمغتسل الماء الذي يغتسل به ، قال القتبي : وقيل : إنه الموضع الذي يغتسل فيه ، قال مقاتل . الجوهري : واغتسلت بالماء ، والغسول : الماء الذي يغتسل به ، وكذلك المغتسل ، قال الله تعالى : هذا مغتسل بارد وشراب والمغتسل أيضا الذي يغتسل فيه ، والمغسل والمغسل بكسر السين وفتحها مغسل الموتى والجمع المغاسل . واختلف كم بقي أيوب في البلاء ، فقال ابن عباس : سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات . وقال وهب بن منبه : أصاب أيوب البلاء سبع سنين ، وترك يوسف ، في السجن سبع سنين ، وعذب بختنصر وحول في السباع سبع سنين . ذكره أبو نعيم . وقيل : عشر سنين . وقيل : ثمان عشرة سنة . رواه أنس مرفوعا فيما ذكر الماوردي : قلت : وذكره ابن المبارك ، أخبرنا يونس بن يزيد ، عن عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوما أيوب ، وما أصابه من البلاء ، وذكر أن البلاء الذي أصابه كان به ثمان عشرة سنة . وذكر الحديث القشيري . وقيل : أربعين سنة .
ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ ٢٤
فقيل له: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } أي: اضرب الأرض بها، لينبع لك منها عين تغتسل منها وتشرب، فيذهب عنك الضر والأذى، ففعل ذلك، فذهب عنه الضر، وشفاه اللّه تعالى.
وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٣٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٣٤
ولهذا قال تعالى : ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ) قال الحسن وقتادة : أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم .
وقوله : ( رحمة منا ) أي : به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته ( وذكرى لأولي الألباب ) أي : لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة .
وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٣٤
قوله تعالى : ووهبنا له أهله ومثلهم معهم تقدم في ( الأنبياء ) الكلام فيه . رحمة منا أي نعمة منا . وذكرى لأولي الألباب أي عبرة لذوي العقول .
وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنَّا وَذِكۡرَىٰ لِأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٣٤
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } قيل: إن اللّه تعالى أحياهم له { وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } في الدنيا، وأغناه اللّه، وأعطاه مالا عظيما { رَحْمَةً مِنَّا } بعبدنا أيوب، حيث صبر فأثبناه من رحمتنا ثوابا عاجلا وآجلا. { وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } أي: وليتذكر أولو العقول بحالة أيوب ويعتبروا، فيعلموا أن من صبر على الضر، أن اللّه تعالى يثيبه ثوابا عاجلا وآجلا، ويستجيب دعاءه إذا دعاه.
وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٤٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٤٤
وقوله : ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) وذلك أن أيوب - عليه السلام - كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته . قيل : [ إنها ] باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة . وقيل : لغير ذلك من الأسباب . فلما شفاه الله وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله - عز وجل - أن يأخذ ضغثا - وهو : الشمراخ - فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأناب إليه ولهذا قال تعالى : ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه ( نعم العبد إنه أواب ) أي : رجاع منيب ولهذا قال تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ) [ الطلاق : 2 ، 3 ]
وقد استدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الأيمان وغيرها وأخذوها بمقتضاها [ ومنعت طائفة أخرى من الفقهاء من ذلك ، وقالوا : لم يثبت أن الكفارة كانت مشروعة في شرع أيوب - عليه السلام - فلذلك رخص له في ذلك ، وقد أغنى الله هذه الأمة بالكفارة ]
وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٤٤
قوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب.
فيه سبع مسائل : الأولى : كان أيوب حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة ، وفي سبب ذلك أربعة أقوال : [ أحدها ] ما حكاه ابن عباس أن إبليس لقيها في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب ، فقال : أداويه على أنه إذا برئ قال : أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه . قالت : نعم ، فأشارت على أيوب بذلك فحلف ليضربنها . وقال : ويحك ذلك الشيطان . [ الثاني ] ما حكاه سعيد بن المسيب ، أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز ، فخاف خيانتها فحلف ليضربنها . [ الثالث ] ما حكاه يحيى بن سلام وغيره : أن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه وأنه يبرأ ، فذكرت ذلك له فحلف ليضربنها إن عوفي مائة . [ الرابع ] قيل : باعت ذوائبها برغيفين إذ لم تجد شيئا تحمله إلى أيوب ، وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضرب به ، فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة . وقيل : الضغث قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس . وقال ابن عباس : إنه إثكال النخل الجامع بشماريخه .
الثانية : تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا . وذلك أن امرأة أيوب أخطأت فحلف ليضربنها مائة ، فأمره الله تعالى أن يضربها بعثكول من عثاكيل النخل ، وهذا لا يجوز في الحدود . إنما أمره الله بذلك لئلا يضرب امرأته فوق حد الأدب . وذلك أنه ليس للزوج أن يضرب امرأته فوق حد الأدب ، ولهذا قال - عليه السلام - : واضربوهن ضربا غير مبرح على ما تقدم في [ النساء ] بيانه .
الثالثة : واختلف العلماء في هذا الحكم هل هو عام أوخاص بأيوب وحده ، فروي عن مجاهد أنه عام للناس . ذكره ابن العربي . وحكي عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب . وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي رباح أنه ذهب إلى أن ذلك حكم باق ، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بر . وروى نحوه الشافعي . وروى نحوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقعد الذي حملت منه الوليدة ، وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة . وقال القشيري : وقيل لعطاء هل يعمل بهذا اليوم ؟ فقال : ما أنزل القرآن إلا ليعمل به ويتبع . ابن العربي : وروي عن عطاء أنها لأيوب خاصة . وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك : من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر . قال بعض علمائنا : يريد مالك قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أي : إن ذلك منسوخ بشريعتنا . قال ابن المنذر : وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين جلدة . وأنكر مالك هذا وتلا قول الله - عز وجل - : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وهذا مذهب أصحاب الرأي . وقد احتج الشافعي لقوله بحديث ، وقد تكلم في إسناده ، والله أعلم .
قلت : الحديث الذي احتج به الشافعي خرجه أبو داود في سننه قال : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ، قال حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار ، أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى ، فعاد جلدة على عظم ، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها ، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال : استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي . فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا : ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به ، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ، ما هو إلا جلد على عظم ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة . قال الشافعي : إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة ، أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث . قال ابن المنذر : وإذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي . وقال مالك : ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم .
الرابعة : قوله تعالى : ولا تحنث دليل على أن الاستثناء في اليمين لا يرفع حكما إذا كان متراخيا . وقد مضى القول فيه في [ المائدة ] يقال : حنث في يمينه يحنث إذا لم يبر بها . وعند الكوفيين الواو مقحمة ، أي : فاضرب لا تحنث .
الخامسة : قال ابن العربي : قوله تعالى : فاضرب به ولا تحنث يدل على أحد وجهين : إما أن يكون أنه لم يكن في شرعهم كفارة ، وإنما كان البر والحنث . والثاني : أن يكون صدر منه نذر لا يمين ، وإذا كان النذر معينا فلا كفارة فيه عند مالك وأبي حنيفة . وقال الشافعي : في كل نذر كفارة .
قلت : قوله : إنه لم يكن في شرعهم كفارة ليس بصحيح ، فإن أيوب - عليه السلام - لما بقي في البلاء ثمان عشرة سنة ، كما في حديث ابن شهاب ، قال له صاحباه : لقد أذنبت ذنبا ما أظن أحدا بلغه . فقال أيوب - صلى الله عليه وسلم - : ما أدري ما تقولان ، غير أن ربي - عز وجل - يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتزاعمان فكل يحلف بالله ، أو على النفر يتزاعمون فأنقلب إلى أهلي ، فأكفر عن أيمانهم إرادة ألا يأثم أحد يذكره ولا يذكره إلا بحق . فنادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . وذكر الحديث . فقد أفادك هذا الحديث أن الكفارة كانت من شرع أيوب ، وأن من كفر عن غيره بغير إذنه فقد قام بالواجب عنه وسقطت عنه الكفارة .
السادسة : استدل بعض جهال المتزهدة ، وطغام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب : اركض برجلك على جواز الرقص قال أبو الفرج ابن الجوزي : وهذا احتجاج بارد ; لأنه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة ، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء . قال ابن عقيل : أين الدلالة في مبتلى أمر عند كشف البلاء بأن يضرب برجله الأرض لينبع الماء إعجازا من الرقص ؟ ولئن جاز قوله سبحانه لموسى : اضرب بعصاك الحجر دلالة على ضرب المحاد بالقضبان ، نعوذ بالله من التلاعب بالشرع . وقد احتج بعض قاصريهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي : أنت مني وأنا منك ، فحجل . وقال لجعفر : أشبهت خلقي وخلقي ، فحجل . وقال لزيد : أنت أخونا ومولانا ، فحجل . ومنهم من احتج بأن الحبشة زفنت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليهم . والجواب : أما الحجل فهو نوع من المشي يفعل عند الفرح ، فأين هو والرقص ؟ وكذلك زفن الحبشة نوع من المشي يفعل عند اللقاء للحرب .
السابعة : قوله تعالى : إنا وجدناه صابرا أي على البلاء . نعم العبد إنه أواب أي تواب رجاع مطيع . وسئل سفيان عن عبدين ابتلي أحدهما فصبر ، وأنعم على الآخر فشكر ، فقال : كلاهما سواء ; لأن الله تعالى أثنى على عبدين ، أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا ، فقال في وصف أيوب : نعم العبد إنه أواب وقال في وصف سليمان : نعم العبد إنه أواب .
قلت : وقد رد هذا الكلام صاحب القوت ، واستدل بقصة أيوب في تفضيل الفقير على الغني وذكر كلاما كثيرا شيد به كلامه ، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع من كتاب [ منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد ] . وخفي عليه أن أيوب - عليه السلام - كان أحد الأغنياء من الأنبياء قبل البلاء وبعده ، وإنما ابتلي بذهاب ماله وولده وعظيم الداء في جسده . وكذلك الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه صبروا على ما به امتحنوا وفتنوا . فأيوب - عليه السلام - دخل في البلاء على صفة ، فخرج منه كما دخل فيه ، وما تغير منه حال ولا مقال ، فقد اجتمع مع أيوب في المعنى المقصود ، وهو عدم التغير الذي يفضل فيه بعض الناس بعضا . وبهذا الاعتبار يكون الغني الشاكر والفقير الصابر سواء . وهو كما قال سفيان . والله أعلم . وفي حديث ابن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أيوب خرج لما كان يخرج إليه من حاجته فأوحى الله إليه : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب . فاغتسل فأعاد الله لحمه وشعره وبشره على أحسن ما كان ، ثم شرب فأذهب الله كل ما كان في جوفه من ألم أو ضعف ، وأنزل الله عليه ثوبين من السماء أبيضين فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر ، ثم أقبل يمشي إلى منزله وراث على امرأته ، فأقبلت حتى لقيته وهي لا تعرفه ، فسلمت عليه وقالت : أي يرحمك الله ، هل رأيت هذا الرجل المبتلى ؟ قال : من هو ؟ قالت : نبي الله أيوب ، أما والله ما رأيت أحدا قط أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أيوب . وأخذ ضغثا فضربها به فزعم ابن شهاب أن ذلك الضغث كان ثماما . ورد الله إليه أهله ومثلهم معهم ، فأقبلت سحابة حتى سجلت في أندر قمحه ذهبا حتى امتلأ ، وأقبلت سحابة أخرى إلى أندر شعيره وقطانيه فسجلت فيه ورقا حتى امتلأ .
وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ ٤٤
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا } أي حزمة شماريخ { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ }
قال المفسرون: وكان في مرضه وضره، قد غضب على زوجته في بعض الأمور، فحلف: لئن شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة، فلما شفاه اللّه، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه، رحمها اللّه ورحمه، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، فيبر في يمينه.
{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ } أي: أيوب { صَابِرًا } أي: ابتليناه بالضر العظيم، فصبر لوجه اللّه تعالى. { نِعْمَ الْعَبْدُ } الذي كمل مراتب العبودية، في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء.
{ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي: كثير الرجوع إلى اللّه، في مطالبه الدينية والدنيوية، كثير الذكر لربه والدعاء، والمحبة والتأله.
وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ ٥٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ ٥٤
يقول تعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار ) يعني بذلك : العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( أولي الأيدي ) يقول : أولي القوة ) والأبصار ) يقول : الفقه في الدين .
وقال مجاهد : ( أولي الأيدي ) يعني : القوة في طاعة الله ) والأبصار ) يعني : البصر في الحق .
وقال قتادة والسدي : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين .
وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ ٥٤
قوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب قرأ ابن عباس : " عبدنا " بإسناد صحيح ، رواه ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عنه ، وهي قراءة مجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير ، فعلى هذه القراءة يكون " إبراهيم " بدلا من " عبدنا " و " إسحاق ويعقوب " عطف . والقراءة بالجمع أبين ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، ويكون " إبراهيم " وما بعده على البدل . النحاس : وشرح هذا من العربية أنك إذا قلت : رأيت أصحابنا زيدا وعمرا وخالدا ، فزيد وعمرو وخالد بدل ، وهم الأصحاب ، وإذا قلت : رأيت صاحبنا زيدا وعمرا وخالدا ، فزيد وحده بدل ، وهو صاحبنا ، وزيد وعمرو عطف على صاحبنا وليسا بداخلين في المصاحبة إلا بدليل غير هذا ، غير أنه قد علم أن قوله : وإسحاق ويعقوب داخل في العبودية . وقد استدل بهذه الآية من قال : إن الذبيح إسحاق لا إسماعيل ، وهو الصحيح على ما ذكرناه في كتاب [ الإعلام بمولد النبي - عليه السلام - ]
أولي الأيدي والأبصار : قال النحاس : أما الأبصار فمتفق على تأويلها أنها البصائر في الدين والعلم . وأما الأيدي فمختلف في تأويلها ، فأهل التفسير يقولون : إنها القوة في الدين . وقوم يقولون : الأيدي جمع يد وهي النعمة ، أي : هم أصحاب النعم ، أي : الذين أنعم الله - عز وجل - عليهم . وقيل : هم أصحاب النعم والإحسان ; لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا . وهذا اختيار الطبري . وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار : أي الذين اصطفاهم من الأدناس واختارهم لرسالته . ومصطفين جمع مصطفى ، والأصل مصتفى ، وقد مضى في [ البقرة ] عند قوله : إن الله اصطفى لكم الدين والأخيار جمع خير . وقرأ الأعمش وعبد الوارث والحسن وعيسى الثقفي " أولي الأيد " بغير ياء في الوصل والوقف على معنى أولي القوة في طاعة الله . ويجوز أن يكون كمعنى قراءة الجماعة ، وحذف الياء تخفيفا .
وَٱذۡكُرۡ عِبَٰدَنَآ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ أُوْلِي ٱلۡأَيۡدِي وَٱلۡأَبۡصَٰرِ ٥٤
يقول تعالى: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا } الذين أخلصوا لنا العبادة ذكرا حسنا، { إِبْرَاهِيمَ } الخليل { و } ابنه { إِسْحَاقَ وَ } ابن ابنه { يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي } أي: القوة على عبادة اللّه تعالى { وَالْأَبْصَارَ } أي: البصيرة في دين اللّه. فوصفهم بالعلم النافع، والعمل الصالح الكثير.
إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٦٤
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٦٤
( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) قال مجاهد : أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هم غيرها . وكذا قال السدي : ذكرهم للآخرة وعملهم لها .
وقال مالك بن دينار : نزع الله من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها . وكذا قال عطاء الخراساني .
وقال سعيد بن جبير : يعني بالدار الجنة يقول : أخلصناها لهم بذكرهم لها وقال في رواية أخرى : ( ذكرى الدار ) عقبى الدار .
وقال قتادة : كانوا يذكرون الناس الدار الآخرة والعمل لها .
وقال ابن زيد : جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة.
إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٦٤
قوله تعالى : إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار قراءة العامة : " بخالصة " منونة ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم . وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر " بخالصة ذكرى الدار " بالإضافة ، فمن نون خالصة ف " ذكرى الدار " بدل منها ، التقدير : إنا أخلصناهم بأن يذكروا الدار الآخرة ، ويتأهبوا لها ، ويرغبوا فيها ، ويرغبوا الناس فيها . ويجوز أن يكون " خالصة " مصدرا لخلص ، و " ذكرى " في موضع رفع بأنها فاعلة ، والمعنى : أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، أي : تذكير الدار الآخرة . ويجوز أن يكون " خالصة " مصدرا لأخلصت فحذفت الزيادة ، فيكون " ذكرى " على هذا في موضع نصب ، التقدير : بأن أخلصوا ذكرى الدار . والدار يجوز أن يراد بها الدنيا ، أي : ليتذكروا الدنيا ويزهدوا فيها ، ولتخلص لهم بالثناء الحسن عليهم ، كما قال تعالى : وجعلنا لهم لسان صدق عليا ويجوز أن يراد بها الدار الآخرة وتذكير الخلق بها . ومن أضاف " خالصة " إلى الدار فهي مصدر بمعنى الإخلاص ، والذكرى مفعول به أضيف إليه المصدر ، أي : بإخلاصهم ذكرى الدار . ويجوز أن يكون المصدر مضافا إلى الفاعل والخالصة مصدر بمعنى الخلوص ، أي : بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، وهي الدار الآخرة أو الدنيا على ما تقدم . وقال ابن زيد : معنى أخلصناهم أي : بذكر الآخرة ، أي : يذكرون الآخرة ويرغبون فيها ويزهدون في الدنيا . وقال مجاهد : المعنى : إنا أخلصناهم بأن ذكرنا الجنة لهم .
إِنَّآ أَخۡلَصۡنَٰهُم بِخَالِصَةٖ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ ٦٤
{ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ } عظيمة، وخصيصة جسيمة، وهي: { ذِكْرَى الدَّارِ } جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم، والعمل لها صفوة وقتهم، والإخلاص والمراقبة للّه وصفهم الدائم، وجعلناهم ذكرى الدار يتذكر بأحوالهم المتذكر، ويعتبر بهم المعتبر، ويذكرون بأحسن الذكر.
وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٧٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٧٤
وقوله : ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) أي : لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون .
وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٧٤
أي الذين اصطفاهم من الأدناس واختارهم لرسالته ومصطفين جمع مصطفى والأصل مصتفى وقد مضى في [ البقرة ] عند قوله : " إن الله اصطفى لكم الدين " [ البقرة : 132 ] " والأخيار " جمع خير .
وقرأ الأعمش وعبد الوارث والحسن وعيسى الثقفي " أولي الأيد " بغير ياء في الوصل والوقف على معنى أولي القوة في طاعة الله .
ويجوز أن يكون كمعنى قراءة الجماعة وحذف الياء تخفيفا .
وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَيۡنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٧٤
{ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ } الذين اصطفاهم اللّه من صفوة خلقه، { الْأَخْيَارِ } الذين لهم كل خلق كريم، وعمل مستقيم.
وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٨٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٨٤
وقوله : ( واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار ) قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة " الأنبياء " بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٨٤
قوله تعالى : واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل مضى ذكر اليسع في ( الأنعام ) وذكر ذي الكفل في ( الأنبياء ) . وكل من الأخيار : أي ممن اختير للنبوة .
وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ ٨٤
أي: واذكر هؤلاء الأنبياء بأحسن الذكر، وأثن عليهم أحسن الثناء، فإن كلا منهم من الأخيار الذين اختارهم اللّه من الخلق، واختار لهم أكمل الأحوال، من الأعمال، والأخلاق، والصفات الحميدة، والخصال السديدة.
هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔابٖ ٩٤
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔابٖ ٩٤
وقوله : ( هذا ذكر ) أي : هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر .
وقال السدي : يعني القرآن .
هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔابٖ ٩٤
هذا ذكر : بمعنى هذا ذكر جميل في الدنيا ، وشرف يذكرون به في الدنيا أبدا . وإن للمتقين لحسن مآب أي لهم مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة .
هَٰذَا ذِكۡرٞۚ وَإِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ لَحُسۡنَ مََٔابٖ ٩٤
{ هَذَا } أي: ذكر هؤلاء الأنبياء الصفوة وذكر أوصافهم، { ذكر } في هذا القرآن ذي الذكر، يتذكر بأحوالهم المتذكرون، ويشتاق إلى الاقتداء بأوصافهم الحميدة المقتدون، ويعرف ما منَّ اللّه عليهم به من الأوصاف الزكية، وما نشر لهم من الثناء بين البرية.
فهذا نوع من أنواع الذكر، وهو ذكر أهل الخير، ومن أنواع الذكر، ذزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ }
أي: { وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } ربهم، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، من كل مؤمن ومؤمنة، { لَحُسْنَ مَآبٍ } أي: لمآبا حسنا، ومرجعا مستحسنا.
جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ ٠٥
نسخ
مشاركة
التفسير
جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ ٠٥
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في [ الدار ] الآخرة ( لحسن مآب ) وهو : المرجع والمنقلب . ثم فسره بقوله : ( جنات عدن ) أي : جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب .
والألف واللام هنا بمعنى الإضافة كأنه يقول : " مفتحة لهم أبوابها " أي : إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الله بن مسلم - يعني : ابن هرمز - عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجنة قصرا يقال له : " عدن " حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله - أو : لا يسكنه - إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل " .
وقد ورد في [ ذكر ] أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة .
جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ ٠٥
ثم بين ذلك في قوله تعالى : جنات عدن والعدن في اللغة الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام . وقال عبد الله بن عمر : إن في الجنة قصرا يقال له عدن ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حبرة ، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد .
" مفتحة " : حال " لهم الأبواب " : رفعت الأبواب لأنه اسم ما لم يسم فاعله . قال الزجاج : أي : مفتحة لهم الأبواب منها . وقال الفراء : مفتحة لهم أبوابها . وأجاز الفراء : " مفتحة لهم الأبواب " بالنصب . قال الفراء : أي : مفتحة الأبواب ثم جئت بالتنوين فنصبت . وأنشد هو وسيبويه : [ للنابغة الذبياني ] .
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
وإنما قال : " مفتحة " ولم يقل مفتوحة ; لأنها تفتح لهم بالأمر لا بالمس . قال الحسن : تكلم : انفتحي فتنفتح ، انغلقي فتنغلق . وقيل : تفتح لهم الملائكة الأبواب .
جَنَّٰتِ عَدۡنٖ مُّفَتَّحَةٗ لَّهُمُ ٱلۡأَبۡوَٰبُ ٠٥
ثم فسره وفصله فقال: { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: جنات إقامة، لا يبغي صاحبها بدلا منها، من كمالها وتمام نعيمها، وليسوا بخارجين منها ولا بمخرجين.
{ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ } أي: مفتحة لأجلهم أبواب منازلها ومساكنها، لا يحتاجون أن يفتحوها هم ، بل هم مخدومون، وهذا دليل أيضا على الأمان التام، وأنه ليس في جنات عدن، ما يوجب أن تغلق لأجله أبوابها.
مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ ١٥
نسخ
مشاركة
التفسير
مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ ١٥
وقوله : ( متكئين فيها ) قيل : متربعين فيها على سرر تحت الحجال ( يدعون فيها بفاكهة كثيرة ) أي : مهما طلبوا وجدوا وحضر كما أرادوا . ) وشراب ) أي : من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام ( بأكواب وأباريق وكأس من معين ) [ الواقعة : 18 ]
مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ ١٥
قوله تعالى : متكئين فيها هو حال قدمت على العامل فيها وهو قوله : يدعون فيها أي يدعون في الجنات متكئين فيها .
بفاكهة كثيرة أي بألوان الفواكه " وشراب " : أي وشراب كثير ، فحذف لدلالة الكلام عليه .
مُتَّكِِٔينَ فِيهَا يَدۡعُونَ فِيهَا بِفَٰكِهَةٖ كَثِيرَةٖ وَشَرَابٖ ١٥
{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا } على الأرائك المزينات، والمجالس المزخرفات. { يَدْعُونَ فِيهَا } أي: يأمرون خدامهم، أن يأتوا { بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } من كل ما تشتهيه نفوسهم، وتلذه أعينهم، وهذا يدل على كمال النعيم، وكمال الراحة والطمأنينة، وتمام اللذة.
۞ وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ ٢٥
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ ٢٥
( وعندهم قاصرات الطرف ) أي : عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن ) أتراب ) أي : متساويات في السن والعمر . هذا معنى قولابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي .
۞ وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ ٢٥
قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد مضى في الصافات . أتراب : أي على سن واحد . وميلاد امرأة واحدة ، وقد تساوين في الحسن والشباب ، بنات ثلاث وثلاثين سنة . قال ابن عباس : يريد الآدميات . و " أتراب " جمع ترب ، وهو نعت لقاصرات ; لأن " قاصرات " نكرة ، وإن كان مضافا إلى المعرفة . والدليل على ذلك أن الألف واللام يدخلانه كما قال [ امرؤ القيس ] :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
۞ وَعِندَهُمۡ قَٰصِرَٰتُ ٱلطَّرۡفِ أَتۡرَابٌ ٢٥
{ وَعِنْدَهُمْ } من أزواجهم، الحور العين { قَاصِرَاتُ } طرفهن على أزواجهن، وطرف أزواجهن عليهن، لجمالهم كلهم، ومحبة كل منهما للآخر، وعدم طموحه لغيره، وأنه لا يبغي بصاحبه بدلا، ولا عنه عوضا. { أَتْرَابٌ } أي: على سن واحد، أعدل سن الشباب وأحسنه وألذه.
هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٣٥
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٣٥
( هذا ما توعدون ليوم الحساب ) أي : هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار .
هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٣٥
قوله تعالى : هذا ما توعدون ليوم الحساب أي هذا الجزاء الذي وعدتم به . وقراءة العامة بالتاء أي : ما توعدون أيها المؤمنون . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب بالياء على الخبر ، وهي قراءة السلمي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : وإن للمتقين لحسن مآب فهو خبر . " ليوم الحساب " أي : في يوم الحساب ، قال الأعشى :
المهينين ما لهم لزمان السوء حتى إذا أفاق أفاقوا
أي : في زمان السوء .
هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ ٣٥
{ هَذَا مَا تُوعَدُونَ } أيها المتقون { لِيَوْمِ الْحِسَابِ } جزاء على أعمالكم الصالحة.
إِنَّ هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ ٤٥
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ ٤٥
ثم أخبر عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا انقضاء ولا زوال ولا انتهاء فقال : ( إن هذا لرزقنا ما له من نفاد ) كقوله تعالى : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) [ النحل : 96 ] وكقوله ( عطاء غير مجذوذ ) [ هود : 108 ] وكقوله ( لهم أجر غير ممنون ) [ فصلت : 8 ] أي : غير مقطوع وكقوله : ( أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ) [ الرعد : 35 ] والآيات في هذا كثيرة جدا .
إِنَّ هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ ٤٥
قوله تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد دليل على أن نعيم الجنة دائم لا ينقطع ، كما قال : عطاء غير مجذوذ وقال : لهم أجر غير ممنون .
إِنَّ هَٰذَا لَرِزۡقُنَا مَا لَهُۥ مِن نَّفَادٍ ٤٥
{ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا } الذي أوردناه على أهل دار النعيم { مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } أي: انقطاع، بل هو دائم مستقر في جميع الأوقات، متزايد في جميع الآنات.
وليس هذا بعظيم على الرب الكريم، الرءوف الرحيم، البر الجواد، الواسع الغني، الحميد اللطيف الرحمن، الملك الديان، الجليل الجميل المنان، ذي الفضل الباهر، والكرم المتواتر، الذي لا تحصى نعمه، ولا يحاط ببعض بره.
هَٰذَاۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ ٥٥
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰذَاۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ ٥٥
لما ذكر تعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال : ( هذا وإن للطاغين ) وهم : الخارجون عن طاعة الله المخالفون لرسل الله ( لشر مآب ) أي : لسوء منقلب ومرجع . ثم فسره بقوله :
هَٰذَاۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ ٥٥
قوله تعالى : هذا وإن للطاغين لشر مآب لما ذكر ما للمتقين ذكر ما للطاغين قال الزجاج : هذا خبر ابتداء محذوف ، أي : الأمر هذا ، فيوقف على هذا . قال ابن الأنباري : " هذا " وقف حسن . ثم تبتدئ " وإن للطاغين " وهم الذين كذبوا الرسل . لشر مآب : أي : منقلب يصيرون إليه .
هَٰذَاۚ وَإِنَّ لِلطَّٰغِينَ لَشَرَّ مََٔابٖ ٥٥
{ هَذَا } الجزاء للمتقين ما وصفناه { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } أي: المتجاوزين للحد في الكفر والمعاصي { لَشَرَّ مَآبٍ } أي: لشر مرجع ومنقلب.s
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٦٥
نسخ
مشاركة
التفسير
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٦٥
( جهنم يصلونها ) أي : يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم ( فبئس المهاد )
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٦٥
ثم بين ذلك بقوله : " جهنم يصلونها فبئس المهاد " أي بئس ما مهدوا لأنفسهم ، أو بئس الفراش لهم . ومنه مهد الصبي . وقيل : فيه حذف أي : بئس موضع المهاد . وقيل : أي : هذا الذي وصفت لهؤلاء المتقين ، ثم قال : وإن للطاغين لشر مرجع ، فيوقف على " هذا " أيضا .
جَهَنَّمَ يَصۡلَوۡنَهَا فَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٦٥
ثم فصله فقال: { جَهَنَّمَ } التي جمع فيها كل عذاب، واشتد حرها، وانتهى قرها { يَصْلَوْنَهَا } أي: يعذبون فيها عذابا يحيط بهم من كل وجه، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل.
{ فَبِئْسَ الْمِهَادُ } المعد لهم مسكنا ومستقرا.s
هَٰذَا فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ وَغَسَّاقٞ ٧٥
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰذَا فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ وَغَسَّاقٞ ٧٥
أما الحميم فهو : الحار الذي قد انتهى حره وأما الغساق فهو : ضده ، وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم ولهذا قال :
هَٰذَا فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ وَغَسَّاقٞ ٧٥
قوله تعالى : هذا فليذوقوه حميم وغساق هذا في موضع رفع بالابتداء ، و " فليذوقوه " في موضع الخبر ، ودخلت الفاء للتنبيه الذي في " هذا " فيوقف على " فليذوقوه " ويرتفع " حميم " على تقدير هذا حميم . قال النحاس : ويجوز أن يكون المعنى : الأمر هذا ، وحميم وغساق إذا لم تجعلهما خبرا فرفعهما على معنى : هو حميم وغساق . والفراء يرفعهما بمعنى : منه حميم ومنه غساق ، وأنشد :
حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس وغودر البقل ملوي ومحصود
وقال آخر :
لها متاع وأعوان غدون به قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا
ويجوز أن يكون " هذا " في موضع نصب بإضمار فعل يفسره " فليذوقوه " كما تقول : زيدا اضربه . والنصب في هذا أولى ، فيوقف على " فليذوقوه " وتبتدئ " حميم وغساق " على تقدير : الأمر حميم وغساق . وقراءة أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين في " وغساق " . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي " وغساق " بالتشديد ، وهما لغتان بمعنى واحد في قول الأخفش . وقيل : معناهما مختلف ، فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب ، ومن شدد قال : هو اسم فاعل نقل إلى فعال للمبالغة ، نحو ضراب وقتال ، وهو فعال من غسق يغسق فهو غساق وغاسق . قال ابن عباس : هو الزمهرير يخوفهم ببرده . وقال مجاهد ومقاتل : هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده . وقال غيرهما : إنه يحرق ببرده كما يحرق الحميم بحره . وقال عبد الله بن عمرو : هو قيح غليظ لو وقع منه شيء بالمشرق لأنتن من في المغرب ، ولو وقع منه شيء في المغرب لأنتن من في المشرق . وقال قتادة : هو ما يسيل من فروج الزناة ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم من الصديد والقيح والنتن . وقال محمد بن كعب : هو عصارة أهل النار . وهذا القول أشبه باللغة ، يقال : غسق الجرح يغسق غسقا إذا خرج منه ماء أصفر ، قال الشاعر :
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها إلي جرى دمع من الليل غاسق
أي : بارد . ويقال : ليل غاسق ; لأنه أبرد من النهار . وقال السدي : الغساق الذي يسيل من أعينهم ودموعهم يسقونه مع الحميم . وقال ابن زيد : الحميم دموع أعينهم ، يجمع في حياض النار فيسقونه ، والصديد الذي يخرج من جلودهم . والاختيار على هذا " وغساق " حتى يكون مثل سيال . وقال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي حمة من عقرب وحية . وقيل : هو مأخوذ من الظلمة والسواد . والغسق أول ظلمة الليل ، وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم . وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا .
قلت : وهذا أشبه على الاشتقاق الأول كما بينا ، إلا أنه يحتمل أن يكون الغساق مع سيلانه أسود مظلما ، فيصح الاشتقاقان . والله أعلم .
هَٰذَا فَلۡيَذُوقُوهُ حَمِيمٞ وَغَسَّاقٞ ٧٥
{ هَذَا } المهاد، هذا العذاب الشديد، والخزي والفضيحة والنكال { فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ } ماء حار، قد اشتد حره، يشربونه فَيقَطعُ أمعاءهم. { وَغَسَّاقٌ } وهو أكره ما يكون من الشراب، من قيح وصديد، مر المذاق، كريه الرائحة.
وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ ٨٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ ٨٥
( وآخر من شكله أزواج ) أي : وأشياء من هذا القبيل ، الشيء وضده يعاقبون بها .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا "
ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به . ثم قال : " لا نعرفه إلا من حديث رشدين " كذا قال : وقد تقدم من غير حديثه ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به
وقال كعب الأحبار : غساق : عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال الحسن البصري في قوله : ( وآخر من شكله أزواج ) ألوان من العذاب .
وقال غيره : كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة والجميع مما يعذبون به ويهانون بسببه .
وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ ٨٥
قوله تعالى : وآخر من شكله أزواج قرأ أبو عمرو : " وأخر " جمع أخرى مثل الكبرى والكبر . الباقون : " وآخر " مفرد مذكر . وأنكر أبو عمرو " وآخر " لقوله تعالى : " أزواج " أي : لا يخبر بواحد عن جماعة . وأنكر عاصم الجحدري " وأخر " قال : ولو كانت " وأخر " لكان من شكلها . وكلا الردين لا يلزم ، والقراءتان صحيحتان . " وآخر " أي : وعذاب آخر سوى الحميم والغساق . " من شكله " قال قتادة : من نحوه . قال ابن مسعود : هو الزمهرير . وارتفع " وآخر " بالابتداء و " أزواج " مبتدأ ثان ، و " من شكله " خبره ، والجملة خبر " آخر " . ويجوز أن يكون " وآخر " مبتدأ والخبر مضمر دل عليه " هذا فليذوقوه حميم وغساق " لأن فيه دليلا على أنه لهم ، فكأنه قال : ولهم آخر ، ويكون " من شكله أزواج " صفة لآخر ، فالمبتدأ متخصص بالصفة و " أزواج " مرفوع بالظرف . ومن قرأ " وأخر " أراد : وأنواع من العذاب أخر ، ومن جمع وهو يريد الزمهرير فعلى أنه جعل الزمهرير أجناسا ، فجمع لاختلاف الأجناس . أو على أنه جعل لكل جزء منه زمهريرا ثم جمع ، كما قالوا : شابت مفارقه . أو على أنه جمع لما في الكلام من الدلالة على جواز الجمع ; لأنه جعل الزمهرير الذي هو نهاية البرد بإزاء الجمع في قوله : هذا فليذوقوه حميم وغساق والضمير في شكله يجوز أن يعود على الحميم أو الغساق . أو على معنى " وآخر من شكله " ما ذكرنا ، ورفع " أخر " على قراءة الجمع بالابتداء و " من شكله " صفة له ، وفيه ذكر يعود على المبتدإ و " أزواج " خبر المبتدإ . ولا يجوز أن يحمل على تقدير : ولهم أخر ، و " من شكله " صفة لأخر ، و " أزواج " مرتفعة بالظرف كما جاز في الإفراد ; لأن الصفة لا ضمير فيها من حيث ارتفع " أزواج " مفرد ، قاله أبو علي . و " أزواج " أي : أصناف وألوان من العذاب . وقال يعقوب : الشكل بالفتح : المثل ، وبالكسر الدل .
وَءَاخَرُ مِن شَكۡلِهِۦٓ أَزۡوَٰجٌ ٨٥
{ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ } أي: من نوعه { أَزْوَاجٌ } أي: عدة أصناف من أصناف العذاب، يعذبون بها ويخزون بها.
هَٰذَا فَوۡجٞ مُّقۡتَحِمٞ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ ٩٥
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰذَا فَوۡجٞ مُّقۡتَحِمٞ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ ٩٥
وقوله : ( هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار ) هذا إخبار عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى : ( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) [ الأعراف : 38 ] يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية : ( هذا فوج مقتحم ) أي : داخل معكم ( لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار ) [ أي ] لأنهم من أهل جهنم
هَٰذَا فَوۡجٞ مُّقۡتَحِمٞ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ ٩٥
قوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم قال ابن عباس : هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع ، قالت الخزنة للقادة : " هذا فوج " يعني : الأتباع ، والفوج : الجماعة " مقتحم معكم " أي : داخل النار معكم ، فقالت السادة : " لا مرحبا بهم " أي لا اتسعت منازلهم في النار . والرحب السعة ، ومنه رحبة المسجد وغيره . وهو في مذهب الدعاء فلذلك نصب ، قال النابغة :
لا مرحبا بغد ولا أهلا به إن كان تفريق الأحبة في غد
قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا مرحبا بك ، أي : لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت .
" إنهم صالو النار " قيل : هو من قول القادة ، أي : إنهم صالو النار كما صليناها . وقيل : هو من قول الملائكة متصل بقولهم : هذا فوج مقتحم معكم
هَٰذَا فَوۡجٞ مُّقۡتَحِمٞ مَّعَكُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِهِمۡۚ إِنَّهُمۡ صَالُواْ ٱلنَّارِ ٩٥
وعند تواردهم على النار يشتم بعضهم بعضا، ويقول بعضهم لبعض: { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ } النار { لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ }
قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ ٠٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ ٠٦
( قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ) أي : فيقول لهم الداخلون : ( بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا ) أي : أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ) فبئس القرار ) أي : فبئس المنزل والمستقر والمصير .
قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ ٠٦
و قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم هو من قول الأتباع . وحكى النقاش : أن الفوج الأول قادة المشركين ومطعموهم يوم بدر ، والفوج الثاني أتباعهم ببدر ، والظاهر من الآية أنها عامة في كل تابع ومتبوع .
" أنتم قدمتموه لنا " أي دعوتمونا إلى العصيان . " فبئس القرار " لنا ولكم
قَالُواْ بَلۡ أَنتُمۡ لَا مَرۡحَبَۢا بِكُمۡۖ أَنتُمۡ قَدَّمۡتُمُوهُ لَنَاۖ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرَارُ ٠٦
{ قَالُوا } أي: الفوج المقبل المقتحم: { بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ } أي: العذاب { لَنَا } بدعوتكم لنا، وفتنتكم وإضلالكم وتسببكم. { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } قرار الجميع، قرار السوء والشر.
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابٗا ضِعۡفٗا فِي ٱلنَّارِ ١٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابٗا ضِعۡفٗا فِي ٱلنَّارِ ١٦
( قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ) كما قال - عز وجل - ( قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) [ الأعراف : 38 ] أي : لكل منكم عذاب بحسبه
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابٗا ضِعۡفٗا فِي ٱلنَّارِ ١٦
" قالوا " يعني الأتباع " ربنا من قدم لنا هذا " قال الفراء : من سوغ لنا هذا وسنه ، وقال غيره : من قدم لنا هذا العذاب بدعائه إيانا إلى المعاصي " فزده عذابا ضعفا في النار " وعذابا بدعائه إيانا ، فصار ذلك ضعفا . وقال ابن مسعود : معنى عذابا ضعفا في النار الحيات والأفاعي . ونظير هذه الآية قوله تعالى : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار .
قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَٰذَا فَزِدۡهُ عَذَابٗا ضِعۡفٗا فِي ٱلنَّارِ ١٦
ثم دعوا على المغوين لهم، فـ { قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ } وقال في الآية الأخرى: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ }
وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ ٢٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ ٢٦
( وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ) هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا : ما لنا لا نراهم معنا في النار ؟ .
قال مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول : ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا . وهذا مثل ضرب ، وإلا فكل الكفار هذا حالهم : يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا : ( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار)
وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ ٢٦
قوله تعالى : " وقالوا " يعني : أكابر المشركين ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قال ابن عباس : يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول أبو جهل : أين بلال أين صهيب أين عمار أولئك في الفردوس ، واعجبا لأبي جهل مسكين ، أسلم ابنه عكرمة ، وابنته جويرية ، وأسلمت أمه ، وأسلم أخوه ، وكفر هو ، قال :
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا وموضع رجلي منه أسود مظلم
وَقَالُواْ مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ ٢٦
{ وَقَالُوا } وهم في النار { مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ } أي: كنا نزعم أنهم من الأشرار، المستحقين لعذاب النار، وهم المؤمنون، تفقدهم أهل النار - قبحهم اللّه - هل يرونهم في النار؟
أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٦
أي : في الدنيا ( أم زاغت عنهم الأبصار ) يسلون أنفسهم بالمحال يقولون : أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم . فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ) إلى قوله : ( [ ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون . أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ] ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) [ الأعراف : 44 - 49 ]
أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٦
أتخذناهم سخريا قال مجاهد : أتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا " أم زاغت عنهم الأبصار " فلم نعلم مكانهم . قال الحسن : كل ذلك قد فعلوا ، اتخذوهم سخريا ، وزاغت عنهم أبصارهم في الدنيا محقرة لهم . وقيل : معنى أم زاغت عنهم الأبصار أي : أهم معنا في النار فلا نراهم . وكان ابن كثير والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي يقرءون " من الأشرار اتخذناهم " بحذف الألف في الوصل . وكان أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر يقرءون " أتخذناهم " بقطع الألف على الاستفهام ، وسقطت ألف الوصل ; لأنه قد استغني عنها ، فمن قرأ بحذف الألف لم يقف على " الأشرار " لأن " اتخذناهم " حال . وقال النحاس والسجستاني : هو نعت لرجال . قال ابن الأنباري : وهذا خطأ ; لأن النعت لا يكون ماضيا ولا مستقبلا . ومن قرأ : " أتخذناهم " بقطع الألف وقف على " الأشرار " قال الفراء : والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب . " أم زاغت عنهم الأبصار " إذا قرأت بالاستفهام كانت أم للتسوية ، وإذا قرأت بغير الاستفهام فهي بمعنى بل .
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي : " سخريا " بضم السين . الباقون بالكسر . قال أبو عبيدة : من كسر جعله من الهزء ، ومن ضم جعله من التسخير . وقد تقدم .
أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٦
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَارُ } أي: عدم رؤيتنا لهم دائر بين أمرين: إما أننا غالطون في عدنا إياهم من الأشرار، بل هم من الأخيار، وإنما كلامنا لهم من باب السخرية والاستهزاء بهم، وهذا هو الواقع، كما قال تعالى لأهل النار: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ }
والأمر الثاني: أنهم لعلهم زاغت أبصارنا عن رؤيتهم معنا في العذاب، وإلا فهم معنا معذبون ولكن تجاوزتهم أبصارنا، فيحتمل أن هذا الذي في قلوبهم، فتكون العقائد التي اعتقدوها في الدنيا، وكثرة ما حكموا لأهل الإيمان بالنار، تمكنت من قلوبهم، وصارت صبغة لها، فدخلوا النار وهم بهذه الحالة، فقالوا ما قالوا.
ويحتمل أن كلامهم هذا كلام تمويه، كما موهوا في الدنيا، موهوا حتى في النار، ولهذا يقول أهل الأعراف لأهل النار: { أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ٤٦
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ٤٦
وقوله : ( إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) أي : إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك .
إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ٤٦
إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " لحق " خبر إن ، و " تخاصم " خبر مبتدأ محذوف بمعنى هو تخاصم . ويجوز أن يكون بدلا من حق . ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر . ويجوز أن يكون بدلا من ذلك على الموضع . أي : إن تخاصم أهل النار في النار لحق . يعني قولهم : " لا مرحبا بكم " الآية . وشبهه من قول أهل النار .
إِنَّ ذَٰلِكَ لَحَقّٞ تَخَاصُمُ أَهۡلِ ٱلنَّارِ ٤٦
قال تعالى مؤكدا ما أخبر به، وهو أصدق القائلين: { إِنَّ ذَلِكَ } الذي ذكرت لكم { لَحَقٌّ } ما فيه شك ولا مرية { تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ }
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٥٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٥٦
يقول تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله : إنما أنا منذر لست كما تزعمون ( وما من إله إلا الله الواحد القهار ) أي : هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه .
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٥٦
قوله تعالى : قل إنما أنا منذر أي مخوف عقاب الله لمن عصاه وقد تقدم .
" وما من إله " أي معبود " إلا الله الواحد القهار " الذي لا شريك له "
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مُنذِرٞۖ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ ٥٦
{ قُلْ } يا أيها الرسول لهؤلاء المكذبين، إن طلبوا منك ما ليس لك ولا بيدك: { إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ } هذا نهاية ما عندي، وأما الأمر فلله تعالى، ولكني آمركم، وأنهاكم، وأحثكم على الخير وأزجركم عن الشر فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَعَلَيْهَا { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ } أي: ما أحد يؤله ويعبد بحق إلا اللّه { الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } هذا تقرير لألوهيته، بهذا البرهان القاطع، وهو وحدته تعالى، وقهره لكل شيء، فإن القهر ملازم للوحدة، فلا يكون قهارين متساويين في قهرهما أبدا.
رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ ٦٦
نسخ
مشاركة
التفسير
رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ ٦٦
( رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) أي : هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه ( العزيز الغفار ) أي : غفار مع عزته وعظمته .
رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ ٦٦
رب السماوات والأرض وما بينهما " بالرفع على النعت وإن نصبت الأول نصبته . ويجوز رفع الأول ونصب ما بعده على المدح . و " العزيز " معناه المنيع الذي لا مثل له . " الغفار " : الستار لذنوب خلقه .
رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفَّٰرُ ٦٦
فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الذي لا نظير له، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده، كما كان قاهرا وحده، وقرر ذلك أيضا بتوحيد الربوبية فقال: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي: خالقهما، ومربيهما، ومدبرها بجميع أنواع التدابير. { الْعَزِيزُ } الذي له القوة، التي بها خلق المخلوقات العظيمة. { الْغَفَّارُ } لجميع الذنوب، صغيرها، وكبيرها، لمن تاب إليه وأقلع منها.
فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد، دون من لا يخلق ولا يرزق، ولا يضر ولا ينفع، ولا يملك من الأمر شيئا، وليس له قوة الاقتدار، ولا بيده مغفرة الذنوب والأوزار.
قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ ٧٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ ٧٦
"قل هو نبأ عظيم" أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال اللّه تعالى إياي إليكم.
قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ ٧٦
قوله تعالى : قل هو نبأ عظيم أي وقل لهم يا محمد هو نبأ عظيم أي ما أنذركم به من الحساب والثواب والعقاب خبر عظيم القدر فلا ينبغي أن يستخف به . قال معناه قتادة . نظيره قوله تعالى : عم يتساءلون عن النبإ العظيم وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني القرآن الذي أنبئكم به خبر جليل . وقيل : عظيم المنفعة
قُلۡ هُوَ نَبَؤٌاْ عَظِيمٌ ٧٦
{ قُلْ } لهم، مخوفا ومحذرا، ومنهضا لهم ومنذرا: { هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي: ما أنبأتكم به من البعث والنشور والجزاء على الأعمال، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه، ولا ينبغي إغفاله.
أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ ٨٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ ٨٦
"أنتم عنه معرضون" أي غافلون قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عز وجل " قل هو نبأ" عظيم يعني القرآن.
أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ ٨٦
" أنتم عنه معرضون "
أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ ٨٦
ولكن { أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } كأنه ليس أمامكم حساب ولا عقاب ولا ثواب، فإن شككتم في قولي، وامتريتم في خبري، فإني أخبركم بأخبار لا علم لي بها ولا درستها في كتاب، فإخباري بها على وجهها، من غير زيادة ولا نقص، أكبر شاهد لصدقي، وأدل دليل على حق ما جئتكم به.
مَا كَانَ لِيَ مِنۡ عِلۡمِۢ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ ٩٦
نسخ
مشاركة
التفسير
مَا كَانَ لِيَ مِنۡ عِلۡمِۢ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ ٩٦
وقوله : ( ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ) أي : لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني : في شأن آدم وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه ، قال : احتبس علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعا فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما سلم قال : " كما أنتم على مصافكم " . ثم أقبل إلينا فقال : " إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة ، إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت لا أدري رب - أعادها ثلاثا - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات . قال : وما الكفارات ؟ قلت نقل الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات . قال : وما الدرجات ؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام . قال : سل . قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك ، وحب عمل يقربني إلى حبك " . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنها حق فادرسوها وتعلموها " فهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق .
وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث " جهضم بن عبد الله اليمامي " به . وقال : " حسن صحيح " وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو قوله تعالى :
مَا كَانَ لِيَ مِنۡ عِلۡمِۢ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ ٩٦
قوله تعالى : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون الملأ الأعلى هم الملائكة في قول ابن عباس والسدي اختصموا في أمر آدم حين خلق ف " قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها " وقال إبليس : أنا خير منه ، وفي هذا بيان أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن قصة آدم وغيره ، وذلك لا يتصور إلا بتأييد إلهي ، فقد قامت المعجزة على صدقه ، فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه ، ولهذا وصل قوله بقوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون . وقول ثان رواه أبو الأشهب عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سألني ربي فقال : يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى ؟ قلت : في الكفارات والدرجات . قال : وما الكفارات ؟ قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإسباغ الوضوء في السبرات ، والتعقيب في المساجد بانتظار الصلاة بعد الصلاة . قال : وما الدرجات ؟ قلت : إفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام خرجه الترمذي بمعناه عن ابن عباس ، وقال فيه : حديث غريب . وعن معاذ بن جبل أيضا وقال : حديث حسن صحيح . وقد كتبناه بكماله في كتاب ( الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) وأوضحنا إشكاله والحمد لله . وقد مضى في [ يس ] القول في المشي إلى المساجد ، وأن الخطا تكفر السيئات ، وترفع الدرجات . وقيل : الملأ الأعلى الملائكة ، والضمير في يختصمون لفرقتين . يعني قول من قال منهم : الملائكة بنات الله ، ومن قال : آلهة تعبد . وقيل : الملأ الأعلى هاهنا قريش ، يعني : اختصامهم فيما بينهم سرا ، فأطلع الله نبيه على ذلك .
مَا كَانَ لِيَ مِنۡ عِلۡمِۢ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰٓ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ ٩٦
{ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى } أي: الملائكة { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } لولا تعليم اللّه إياي، وإيحاؤه إلي.
إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٠٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٠٧
إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ
إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٠٧
إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين أي إن يوحى إلي إلا الإنذار . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " إلا إنما " بكسر الهمزة ; لأن الوحي قول ، كأنه قال : يقال لي إنما أنت نذير مبين ، ومن فتحها جعلها في موضع رفع ; لأنها اسم ما لم يسم فاعله . قال الفراء : كأنك قلت : ما يوحى إلي إلا الإنذار ، النحاس : ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى إلا لأنما . والله أعلم .
إِن يُوحَىٰٓ إِلَيَّ إِلَّآ أَنَّمَآ أَنَا۠ نَذِيرٞ مُّبِينٌ ٠٧
{ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي: ظاهر النذارة، جليها، فلا نذير أبلغ من نذارته صلى اللّه عليه وسلم.
إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ١٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ١٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ١٧
قوله تعالى : إذ قال ربك للملائكة إذ من صلة " يختصمون " المعنى : ما كان لي من علم بالملأ الأعلى حين يختصمون حين قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . وقيل : " إذ قال " بدل من " إذ يختصمون " و " يختصمون " يتعلق بمحذوف ; لأن المعنى : ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم .
إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ١٧
ثم ذكر اختصام الملأ الأعلى فقال: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ } على وجه الإخبار { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ } أي: مادته من طين.
فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٢٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٢٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٢٧
" فإذا سويته " إذا ترد الماضي إلى المستقبل ; لأنها تشبه حروف الشرط وجوابها كجوابه ، أي : خلقته . " ونفخت فيه من روحي " أي من الروح الذي أملكه ولا يملكه غيري . فهذا معنى الإضافة ، وقد مضى هذا المعنى مجودا في [ النساء ] في قوله في عيسى وروح منه فقعوا له ساجدين نصب على الحال . وهذا سجود تحية لا سجود عبادة . وقد مضى في [ البقرة ] .
فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ٢٧
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي: سويت جسمه وتم، { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } فوطَّن الملائكة الكرام أنفسهم على ذلك، حين يتم خلقه ونفخ الروح فيه، امتثالا لربهم، وإكراما لآدم عليه السلام، فلما تم خلقه في بدنه وروحه، وامتحن اللّه آدم والملائكة في العلم، وظهر فضله عليهم، أمرهم اللّه بالسجود.
فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٣٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٣٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٣٧
فسجد الملائكة كلهم أجمعون أي امتثلوا الأمر وسجدوا له خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه
فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٣٧
فسجدوا كلهم أجمعون
إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٤٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٤٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٤٧
" إلا إبليس " أنف من السجود له جهلا بأن السجود له طاعة لله ، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر ، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى . وقد مضى الكلام في هذا في [ البقرة ] مستوفى .
إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٤٧
إلا إبليس لم يسجد { اسْتَكْبَرَ } عن أمر ربه، واستكبر على آدم { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } في علم اللّه تعالى.
قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٥٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٥٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٥٧
قوله تعالى : قال يا إبليس ما منعك أي صرفك وصدك " أن تسجد " أي عن أن تسجد لما خلقت بيدي أضاف خلقه إلى نفسه تكريما له ، وإن كان خالق كل شيء ، وهذا كما أضاف إلى نفسه الروح والبيت والناقة والمساجد . فخاطب الناس بما يعرفونه في تعاملهم ، فإن الرئيس من المخلوقين لا يباشر شيئا بيده إلا على سبيل الإعظام والتكرم ، فذكر اليد هنا بمعنى هذا . قال مجاهد : اليد هاهنا بمعنى التأكد والصلة ، مجازه لما خلقت أنا كقوله : ويبقى وجه ربك أي : يبقى ربك . وقيل : التشبيه في اليد في خلق الله تعالى دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة ، وإنما هما صفتان من صفات ذاته تعالى . وقيل : أراد باليد القدرة ، يقال : ما لي بهذا الأمر يد . وما لي بالحمل الثقيل يدان . ويدل عليه أن الخلق لا يقع إلا بالقدرة بالإجماع . وقال الشاعر :
تحملت من عفراء ما ليس لي به ولا للجبال الراسيات يدان
وقيل : لما خلقت بيدي لما خلقت بغير واسطة .
" أستكبرت " أي عن السجود أم كنت من العالين أي المتكبرين على ربك . وقرأ محمد بن صالح عن شبل عن ابن كثير وأهل مكة " بيدي استكبرت " موصولة الألف على الخبر ، وتكون " أم " منقطعة بمعنى بل مثل : أم يقولون افتراه وشبهه . ومن استفهم ف " أم " معادلة لهمزة الاستفهام ، وهو تقرير وتوبيخ . أي : استكبرت بنفسك حين أبيت السجود لآدم ، أم كنت من القوم الذين يتكبرون فتكبرت لهذا .
قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ ٥٧
فـ { قَالَ } اللّه موبخا ومعاتبا: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي: شرفته وكرمته واختصصته بهذه الخصيصة، التي اختص بها عن سائر الخلق، وذلك يقتضي عدم التكبر عليه.
{ أسْتَكْبَرْتَ } في امتناعك { أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ }
قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ ٦٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ ٦٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ ٦٧
قوله تعالى : قال أنا خير منه قال الفراء : من العرب من يقول أنا أخير منه وأشر منه ، وهذا هو الأصل إلا أنه حذف لكثرة الاستعمال . خلقتني من نار وخلقته من طين فضل النار على الطين ، وهذا جهل منه ; لأن الجواهر متجانسة ، فقاس فأخطأ القياس . وقد مضى في [ الأعراف ] بيانه .
قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ ٦٧
{ قَالَ } إبليس معارضا لربه ومناقضا: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وبزعمه أن عنصر النار خير من عنصر الطين، وهذا من القياس الفاسد، فإن عنصر النار مادة الشر والفساد، والعلو والطيش والخفة وعنصر الطين مادة الرزانة والتواضع وإخراج أنواع الأشجار والنباتات وهو يغلب النار ويطفئها، والنار تحتاج إلى مادة تقوم بها، والطين قائم بنفسه، فهذا قياس شيخ القوم، الذي عارض به الأمر الشفاهي من اللّه، قد تبين غاية بطلانه وفساده، فما بالك بأقيسة التلاميذ الذين عارضوا الحق بأقيستهم؟ فإنها كلها أعظم بطلانا وفسادا من هذا القياس.
قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٧٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٧٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٧٧
قال فاخرج منها يعني من الجنة فإنك رجيم أي مرجوم بالكواكب والشهب
قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ ٧٧
فـ { قَالَ } اللّه له: { فَاخْرُجْ مِنْهَا } أي: من السماء والمحل الكريم. { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } أي: مبعد مدحور.
وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ٨٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ٨٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ٨٧
وإن عليك لعنتي أي طردي وإبعادي من رحمتي إلى يوم الدين تعريف بإصراره على الكفر ; لأن اللعن منقطع حينئذ ، ثم بدخوله النار يظهر تحقيق اللعن
وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ٨٧
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي } أي: طردي وإبعادي { إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } أي: دائما أبدا.
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ٩٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ٩٧
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ٩٧
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون أراد الملعون ألا يموت فلم يجب إلى ذلك .
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ٩٧
{ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } لشدة عداوته لآدم وذريته، ليتمكن من إغواء من قدر اللّه أن يغويه.
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ٠٨
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ٠٨
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ٠٨
وأخر إلى الوقت المعلوم وهو يوم يموت الخلق فيه ، فأخر تهاونا به
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِينَ ٠٨
فـ(قال) اللّه مجيبا لدعوته، حيث اقتضت حكمته ذلك: { فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}
إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ ١٨
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ ١٨
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ ١٨
أخر إلى وقت معلوم , وهو يوم يموت الخلق فيه
إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ ١٨
{ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } حين تستكمل الذرية، يتم الامتحان.
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٢٨
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٢٨
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٢٨
قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين لما طرده بسبب آدم حلف بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات وإدخال الشبهة عليهم ، فمعنى " لأغوينهم " : لأستدعينهم إلى المعاصي ، وقد علم أنه لا يصل إلا إلى الوسوسة ، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه ، ولهذا قال :
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٢٨
فلما علم أنه منظر، بادى ربه، من خبثه، بشدة العداوة لربه ولآدم وذريته، فقال: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } يحتمل أن الباء للقسم، وأنه أقسم بعزة اللّه ليغوينهم كلهم أجمعين.
إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٣٨
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٣٨
هذه القصة ذكرها الله ، تعالى في سورة " البقرة " وفي أول " الأعراف " وفي سورة " الحجر " و [ في ] سبحان " و " الكهف " ، وهاهنا وهي أن الله سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم - عليه السلام - بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله - عز وجل - . فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه - عز وجل - فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه . وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله ، وكفر بذلك فأبعده الله وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه " إبليس " إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه . فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال : ( لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) كما قال : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا ) [ الإسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ) [ الإسراء : 65 ]
إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٣٨
إلا عبادك منهم المخلصين أي : الذين أخلصتهم لعبادتك ، وعصمتهم مني . وقد مضى في [ الحجر ] بيانه .
إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِينَ ٣٨
{ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } علم أن الله سيحفظهم من كيده. ويحتمل أن الباء للاستعانة، وأنه لما علم أنه عاجز من كل وجه، وأنه لا يضل أحدا إلا بمشيئة اللّه تعالى، فاستعان بعزة اللّه على إغواء ذرية آدم هذا، وهو عدو اللّه حقا.
ونحن يا ربنا العاجزون المقصرون، المقرون لك بكل نعمة، ذرية من شرفته وكرمته، فنستعين بعزتك العظيمة، وقدرتك، ورحمتك الواسعة لكل مخلوق، ورحمتك التي أوصلت إلينا بها، ما أوصلت من النعم الدينية والدنيوية، وصرفت بها عنا ما صرفت من النقم، أن تعيننا على محاربته وعداوته، والسلامة من شره وشركه، ونحسن الظن بك أن تجيب دعاءنا، ونؤمن بوعدك الذي قلت لنا: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } فقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا. { إنك لا تخلف الميعاد }
قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ ٤٨
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ ٤٨
وقوله : ( قال فالحق والحق . أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع " الحق " الأولى وفسره مجاهد بأن معناه : أنا الحق ، والحق أقول وفي رواية عنه : الحق مني ، وأقول الحق .
وقرأ آخرون بنصبهما .
قال السدي : هو قسم أقسم الله به .
قلت : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : ( ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ السجدة : 13 ] وكقوله تعالى : ( قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ) [ الإسراء : 63 ]
قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ ٤٨
قوله تعالى : قال فالحق والحق أقول هذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة والكسائي . وقرأ ابن عباس ومجاهد وعاصم والأعمش وحمزة برفع الأول . وأجاز الفراء فيه الخفض . ولا اختلاف في الثاني في أنه منصوب ب " أقول " ونصب الأول على الإغراء أي : فاتبعوا الحق واستمعوا الحق ، والثاني بإيقاع القول عليه . وقيل : هو بمعنى أحق الحق أي : أفعله . قال أبو علي : الحق الأول منصوب بفعل مضمر أي : يحق الله الحق ، أو على القسم وحذف حرف الجر ، كما تقول : الله لأفعلن ، ومجازه : قال فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه . والحق أقول جملة اعترضت بين القسم والمقسم عليه ، وهو توكيد القصة ، وإذا جعل الحق منصوبا بإضمار فعل كان " لأملأن " على إرادة القسم . وقد أجاز الفراء وأبو عبيدة أن يكون الحق منصوبا بمعنى حقا لأملأن جهنم وذلك عند جماعة من النحويين خطأ ، لا يجوز : زيدا لأضربن ; لأن ما بعد اللام مقطوع مما قبلها فلا يعمل فيه . والتقدير على قولهما : لأملأن جهنم حقا .
ومن رفع " الحق " رفعه بالابتداء ، أي : فأنا الحق أو الحق مني . رويا جميعا عن مجاهد . ويجوز أن يكون التقدير : هذا الحق . وقول ثالث على مذهب سيبويه والفراء : أن معنى فالحق لأملأن جهنم بمعنى : فالحق أن أملأ جهنم . وفي الخفض قولان وهي قراءة ابن السميقع وطلحة بن مصرف : أحدهما أنه على حذف حرف القسم . هذا قول الفراء قال كما يقول : الله - عز وجل - لأفعلن . وقد أجاز مثل هذا سيبويه وغلطه فيه أبو العباس ولم يجز الخفض ; لأن حروف الخفض لا تضمر ، والقول الآخر : أن تكون الفاء بدلا من واو القسم ، كما أنشدوا :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ ٤٨
{ قَالَ } اللّه تعالى { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } أي: الحق وصفي، والحق قولي.
لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٨
نسخ
مشاركة
التفسير
لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٨
وقوله : ( قال فالحق والحق . أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع " الحق " الأولى وفسره مجاهد بأن معناه : أنا الحق ، والحق أقول وفي رواية عنه : الحق مني ، وأقول الحق .
وقرأ آخرون بنصبهما .
قال السدي : هو قسم أقسم الله به .
قلت : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : ( ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) [ السجدة : 13 ] وكقوله تعالى : ( قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ) [ الإسراء : 63 ]
لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٨
لأملأن جهنم منك أي من نفسك وذريتك وممن تبعك منهم أجمعين من بني آدم أجمعين .
لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٥٨
( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) فلما بين الرسول للناس الدليل ووضح لهم السبيل قال الله له:
قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٦٨
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٦٨
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا ( وما أنا من المتكلفين ) أي : وما أزيد على ما أرسلني الله به ، ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه الله - عز وجل - والدار الآخرة .
قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال : أتينا عبد الله بن مسعود قال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لا يعلم فليقل : الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم فإن الله قال لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) أخرجاه من حديث الأعمش به
قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٦٨
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
أي من جعل على تبليغ الوحي وكنى به عن غير مذكور .
وقيل هو راجع إلى قوله : " أأنزل عليه الذكر من بيننا " .وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
أي لا أتكلف ولا أتخرص ما لم أومر به .
وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : من سئل عما لم يعلم فليقل لا أعلم ولا يتكلف ; فإن قوله لا أعلم علم , وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( للمتكلف ثلاث علامات ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم ) .
وروى الدارقطني من حديث نافع عن ابن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره , فسار ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له , فقال له عمر : يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ) .
وفي الموطإ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا , فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر : يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا .
وقد مضى القول في المياه في سورة [ الفرقان ] .
قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٦٨
فلما بين الرسول للناس الدليل ووضح لهم السبيل قال الله له:
{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } أي: على دعائي إياكم { مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَّلِفِينَ } أدعي أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إليَّ.
إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٧٨
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٧٨
وقوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) يعني : القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن ، قاله ابن عباس . ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل : حدثنا قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( للعالمين ) قال : الجن والإنس .
وهذه الآية كقوله تعالى : ( لأنذركم به ومن بلغ ) [ الأنعام : 19 ] ، [ وكقوله ] ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) [ هود : 17 ] .
إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٧٨
إن هو إلا ذكر يعني القرآن للعالمين من الجن والإنس .
إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٧٨
{ إِنْ هُوَ } أي: هذا الوحي والقرآن { إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } يتذكرون به كل ما ينفعهم، من مصالح دينهم ودنياهم، فيكون شرفا ورفعة للعاملين به، وإقامة حجة على المعاندين.
فهذه السورة العظيمة، مشتملة على الذكر الحكيم، والنبأ العظيم، وإقامة الحجج والبراهين، على من كذب بالقرآن وعارضه، وكذب من جاء به، والإخبار عن عباد اللّه المخلصين، وجزاء المتقين والطاغين. فلهذا أقسم في أولها بأنه ذو الذكر، ووصفه في آخرها بأنه ذكر للعالمين.
وأكثر التذكير بها فيما بين ذلك، كقوله: { واذكر عبدنا } - { واذكر عبادنا } - { رحمة من عندنا وذكرى } { هذا ذكر }
اللّهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، نسيان غفلة ونسيان ترك.
وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ ٨٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ ٨٨
وقوله : ( ولتعلمن نبأه ) أي : خبره وصدقه ( بعد حين ) أي : عن قريب . قال قتادة : بعد الموت . وقال عكرمة : يعني يوم القيامة ولا منافاة بين القولين ; فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة .
وقال قتادة في قوله تعالى : ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) قال الحسن : يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
آخر تفسير سورة " ص " ، ولله الحمد والمنة .
وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ ٨٨
ولتعلمن نبأه بعد حين أي نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق بعد حين قال قتادة : بعد الموت . وقال الزجاج . وقال ابن عباس وعكرمة وابن زيد : يعني يوم القيامة . وقال الفراء : بعد الموت وقبله . أي : لتظهر لكم حقيقة ما أقول : بعد حين أي : في المستأنف أي : إذا أخذتكم سيوف المسلمين . قال السدي : وذلك يوم بدر . وكان الحسن يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين . وسئل عكرمة عمن حلف ليصنعن كذا إلى حين . قال : إن من الحين ما لا تدركه كقوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين ومنه ما تدركه ، كقوله تعالى : تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من صرام النخل إلى طلوعه ستة أشهر . وقد مضى القول في هذا في [ البقرة ] و [ إبراهيم ] والحمد لله .
وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۢ ٨٨
{ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } أي: خبره { بَعْدَ حِينٍ } وذلك حين يقع عليهم العذاب وتتقطع عنهم الأسباب.
تم تفسير سورة ص بمنه تعالى وعونه.
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم