بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ ١
نسخ
مشاركة
التفسير
طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ ١
سورة النمل قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة "الم" السجدة و "هل أتى على الإنسان" وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: الم وحم والمص وص فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال ألم اسم من أسماء الله الأعظم هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمذاني قال: قال عبدالله فذكر نحوه وحكى مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم وروينا أيضا من حديث وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى ألم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلألائه وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب: فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة هذا لفظ ابن أبي حاتم ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد بها الدين كقوله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين" وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى "وجد عليه أمة من الناس يسقون" وقوله تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا" وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى "وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة" أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا وقوله تعالى: "تلك آيات" أي هذه آيات "القرآن وكتاب مبين" أي بين واضح.
طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ ١
مكية كلها في قول الجميع ، وهي ثلاث وتسعون آية . وقيل : أربع وتسعون آية .
قوله تعالى : طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين مضى الكلام في الحروف المقطعة في ( البقرة ) وغيرها . و ( تلك ) بمعنى هذه ; أي هذه السورة آيات القرآن وآيات كتاب مبين . وذكر القرآن بلفظ المعرفة ، وقال : وكتاب مبين بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة ; كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل . والكتاب هو القرآن ، فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب ; لأنه ما يظهر بالكتابة ، ويظهر بالقراءة . وقد مضى اشتقاقهما في ( البقرة ) . وقال في سورة الحجر : الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة ; وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة ، وأن يجعل صفة . ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده ; وقد تقدم .
طسٓۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡقُرۡءَانِ وَكِتَابٖ مُّبِينٍ ١
ينبه تعالى عباده على عظمة القرآن ويشير إليه إشارة دالة على التعظيم فقال: ( تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) أي: هي أعلى الآيات وأقوى البينات وأوضح الدلالات وأبينها على أجل المطالب وأفضل المقاصد، وخير الأعمال وأزكى الأخلاق، آيات تدل على الأخبار الصادقة والأوامر الحسنة والنهي عن كل عمل وخيم وخلق ذميم، آيات بلغت في وضوحها وبيانها للبصائر النيرة مبلغ الشمس للأبصار، آيات دلت على الإيمان ودعت للوصول إلى الإيقان، وأخبرت عن الغيوب الماضية والمستقبلة، على طبق ما كان ويكون. آيات دعت إلى معرفة الرب العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الكاملة، آيات عرفتنا برسله وأوليائه ووصفتهم حتى كأننا ننظر إليهم بأبصارنا، ولكن مع هذا لم ينتفع بها كثير من العالمين ولم يهتد بها جميع المعاندين صونا لها عن من لا خير فيه ولا صلاح ولا زكاء في قلبه، وإنما اهتدى بها من خصهم الله بالإيمان واستنارت بذلك قلوبهم وصفت سرائرهم.
هُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
هُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢
أى إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه وعمل بما فيه.
هُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢
قوله تعالى : هدى وبشرى للمؤمنين ( هدى ) في موضع نصب على الحال من " الكتاب " أي تلك آيات الكتاب هادية ومبشرة . ويجوز فيه الرفع على الابتداء ; أي هو هدى . وإن شئت على حذف حرف الصفة ; أي فيه هدى . ويجوز أن يكون الخبر : " للمؤمنين "
هُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٢
فلهذا قال: ( هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) أي: تهديهم إلى سلوك الصراط المستقيم وتبين لهم ما ينبغي أن يسلكوه أو يتركوه، وتبشرهم بثواب الله المرتب على الهداية لهذا الطريق.
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٣
أي : إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه ، وعمل بما فيه ، وأقام الصلاة المكتوبة ، وآتى الزكاة المفروضة ، وآمن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال ، خيرها وشرها ، والجنة والنار ، كما قال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] . وقال : ( لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا )[ مريم : 97 ]
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٣
ثم وصفهم فقال :الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون وقد مضى في أول ( البقرة ) بيان هذا .
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ ٣
ربما قيل: لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى أنه مؤمن ذلك؟ أم لا بد لذلك من دليل؟ وهو الحق فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال: ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة، من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها، وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب الله وتدبر ما يقول المصلي ويفعله.
( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) المفروضة لمستحقيها. ( وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أي: قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل. ويقينهم بالآخرة يقتضي كمال سعيهم لها، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل خير.
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُمۡ يَعۡمَهُونَ ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُمۡ يَعۡمَهُونَ ٤
ولهذا قال هاهنا : ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) أي : يكذبون بها ، ويستبعدون وقوعها ( زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ) أي : حسنا لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم . وكان هذا جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة ، كما قال تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأنعام : 110 ]
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُمۡ يَعۡمَهُونَ ٤
قوله تعالى : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة أي لا يصدقون بالبعث . زينا لهم أعمالهم قيل : أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة . وقيل : زينا لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها . وقال الزجاج : جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه . فهم يعمهون أي يترددون في أعمالهم الخبيثة ، وفي ضلالتهم . عن ابن عباس . أبو العالية : يتمادون . قتادة : يلعبون . الحسن : يتحيرون ; قال الراجز [ رؤبة ] :
ومهمه أطرافه في مهمه وعمى الهدى بالحائرين العمه
إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُمۡ يَعۡمَهُونَ ٤
( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) ويكذبون بها ويكذبون من جاء بإثباتها، ( زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) حائرين مترددين مؤثرين سخط الله على رضاه، قد انقلبت عليهم الحقائق فرأوا الباطل حقا والحق باطلا.
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ ٥
( أولئك الذين لهم سوء العذاب ) أي : في الدنيا والآخرة ، ( وهم في الآخرة هم الأخسرون ) أي : ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ ٥
قوله تعالى : أولئك الذين لهم سوء العذاب وهو جهنم . وهم في الآخرة هم الأخسرون في الآخرة تبيين وليس بمتعلق بالأخسرين فإن من الناس من خسر الدنيا وربح الآخرة ، وهؤلاء خسروا الآخرة بكفرهم فهم أخسر كل خاسر .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡعَذَابِ وَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ ٥
( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ ) أي: أشده وأسوأه وأعظمه، ( وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ ) حصر الخسار فيهم لكونهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وخسروا الإيمان الذي دعتهم إليه الرسل.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ٦
وقوله : ( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) أي : ( وإنك ) يا محمد - قال قتادة : ( لتلقى ) أي : لتأخذ . ( القرآن من لدن حكيم عليم ) أي : من عند حكيم عليم ، أي : حكيم في أوامره ونواهيه ، عليم بالأمور جليلها وحقيرها ، فخبره هو الصدق المحض ، وحكمه هو العدل التام ، كما قال تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [ لا مبدل لكلماته ] ) [ الأنعام : 115 ] .
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ٦
قوله تعالى : وإنك لتلقى القرآن أي يلقى عليك فتلقاه وتعلمه وتأخذه . من لدن حكيم عليم " لدن " بمعنى " عند " إلا أنها مبنية غير معربة ، لأنها لا تتمكن ، وفيها لغات ذكرت في ( الكهف ) . وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص ، وما في ذلك من لطائف حكمته ، ودقائق علمه .
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى ٱلۡقُرۡءَانَ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ٦
( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) أي: وإن هذا القرآن الذي ينزل عليك وتتلقفه وتتلقنه ينزل من عند ( حَكِيمٍ ) يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها. ( عَلِيمٍ ) بأسرار الأمور وبواطنها، كظواهرها. وإذا كان من عند ( حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) علم أنه كله حكمة ومصالح للعباد، من الذي [هو] أعلم بمصالحهم منهم؟
إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سََٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سََٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ٧
يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مذكرا له ما كان من أمر موسى ، كيف اصطفاه الله وكلمه ، وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة ، والأدلة القاهرة ، وابتعثه إلى فرعون وملئه ، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له ، فقال تعالى : ( إذ قال موسى لأهله ) أي : اذكر حين سار موسى بأهله ، فأضل الطريق ، وذلك في ليل وظلام ، فآنس من جانب الطور نارا ، أي : رأى نارا تأجج وتضطرم ، فقال ( لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر ) أي : عن الطريق ، ( أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ) أي : تتدفئون به . وكان كما قال ، فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس منها نورا عظيما ; ولهذا قال تعالى :
إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سََٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ٧
قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله ( إذ ) منصوب بمضمر وهو " اذكر " كأنه قال على أثر قوله . وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم : خذ يا محمد من آثار حكمته وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله . إني آنست نارا أي أبصرتها من بعد . قال الحرث بن حلزة :
آنست نبأة وأفزعها القن ناص عصرا وقد دنا الإمساء
سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون قرأ عاصم وحمزة والكسائي : بشهاب قبس بتنوين " شهاب " . والباقون بغير تنوين على الإضافة ; أي بشعلة نار ; واختاره أبو عبيد وأبو حاتم . وزعم الفراء في ترك التنوين أنه بمنزلة قولهم : ولدار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وصلاة الأولى ; يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلفت أسماؤه . قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال عند البصريين ، لأن معنى الإضافة في اللغة ضم شيء إلى شيء فمحال أن يضم الشيء إلى نفسه ، وإنما يضاف الشيء إلى الشيء ليتبين به معنى الملك أو النوع ، فمحال أن يتبين أنه مالك نفسه أو من نوعها . و " شهاب قبس " إضافة النوع والجنس ، كما تقول : هذا ثوب خز ، وخاتم حديد وشبهه . والشهاب كل ذي نور ; نحو الكوكب والعود الموقد . والقبس اسم لما يقتبس من جمر وما أشبهه ; فالمعنى بشهاب من قبس . يقال . أقبست قبسا ; والاسم قبس . كما تقول : قبضت قبضا . والاسم القبض . ومن قرأ : بشهاب قبس جعله بدلا منه . المهدوي : أو صفة له ; لأن القبس يجوز أن يكون اسما غير صفة ، ويجوز أن يكون صفة ; فأما كونه غير صفة فلأنهم قالوا قبسته أقبسه قبسا والقبس المقبوس ; وإذا كان صفة فالأحسن أن يكون نعتا . والإضافة فيه إذا كان غير صفة أحسن . وهي إضافة النوع إلى جنسه كخاتم فضة وشبهه . ولو قرئ بنصب " قبس " على البيان أو الحال كان أحسن . ويجوز في غير القرآن " بشهاب قبسا " على أنه مصدر أو بيان أو حال . لعلكم تصطلون أصل الطاء تاء فأبدل منها هنا طاء ; لأن الطاء مطبقة والصاد مطبقة فكان الجمع بينهما حسنا ، ومعناه يستدفئون من البرد . يقال : اصطلى يصطلي : إذا استدفأ . قال الشاعر :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد أكل الفواكه شاتيا فليصطل
الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب . أبو عبيدة : الشهاب النار . قال أبو النجم :
كأنما كان شهابا واقدا أضاء ضوءا ثم صار خامدا
أحمد بن يحيى : أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة والآخر لا نار فيه ; وقول النحاس فيه حسن ، والشهاب الشعاع المضيء ومنه الكوكب الذي يمد ضوءه في السماء . وقال الشاعر :
في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس
إِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهۡلِهِۦٓ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا سََٔاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ ءَاتِيكُم بِشِهَابٖ قَبَسٖ لَّعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ ٧
إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا إلى آخر قصته، يعني: اذكر هذه الحالة الفاضلة الشريفة من أحوال موسى بن عمران، ابتداء الوحي إليه واصطفائه برسالته وتكليم الله إياه، وذلك أنه لما مكث في مدين عدة سنين وسار بأهله من مدين متوجها إلى مصر، فلما كان في أثناء الطريق ضل وكان في ليلة مظلمة باردة فقال لهم: ( إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) أي: أبصرت نارا من بعيد سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ عن الطريق، أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي: تستدفئون، وهذا دليل على أنه تائه ومشتد برده هو وأهله.
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨
( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها ) أي : فلما أتاها رأى منظرا هائلا عظيما ، حيث انتهى إليها ، والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلا توقدا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء .
قال ابن عباس وغيره : لم تكن نارا ، إنما كانت نورا يتوهج .
وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين . فوقف موسى متعجبا مما رأى ، فنودي أن بورك من في النار . قال ابن عباس : [ أي ] قدس .
( ومن حولها ) أي : من الملائكة . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود - [ و ] هو الطيالسي - حدثنا شعبة والمسعودي ، عن عمرو بن مرة ، سمع أبا عبيدة يحدث ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل . زاد المسعودي : " وحجابه النور - أو النار - لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره " . ثم قرأ أبو عبيدة : ( أن بورك من في النار ومن حولها ) وأصل هذا الحديث مخرج في الصحيح لمسلم ، من حديث عمرو بن مرة ، به .
وقوله : ( وسبحان الله رب العالمين ) أي : الذي يفعل ما يشاء ولا يشبه شيئا من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم ، المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسموات ، بل هو الأحد الصمد ، المنزه عن مماثلة المحدثات .
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨
قوله تعالى : فلما جاءها نودي أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور ; قاله وهب بن منبه . فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ; فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ; فمالت إليه ; فخافها فتأخر عنها ; ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن نودي أن بورك من في النار ومن حولها . وقد مضى هذا المعنى في ( طه ) . ( نودي ) أي ناداه الله ; كما قال : وناديناه من جانب الطور الأيمن . أن بورك قال الزجاج : " أن " في موضع نصب ; أي : بأنه قال . ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله . وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد ( أن بوركت النار ومن حولها ) . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها : الملائكة وموسى . وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك . الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات . قال الشاعر :
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
الطبري : قال بورك من في النار ولم يقل بورك في من في النار على لغة من يقول باركك الله . ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى ; أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ; لا أنه كان في وسطها . وقال السدي : كان في النار ملائكة فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ; أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها . وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ; قال : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى . قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ; نادى الله موسى وهو في النور ; وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ; وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل . وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته . وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة .
قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ثم قرأ أبو عبيدة : أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين أخرجه البيهقي أيضا . ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ; فقال : إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله ، إنما هو تعظيم له وتنزيه . وقوله : ( لو كشفها ) يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها . قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ; حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء . وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ; فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ; لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها . وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة : ( جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران ) . فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفاران مكة . وسيأتي في ( القصص ) بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : وسبحان الله رب العالمين تنزيها وتقديسا لله رب العالمين . وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : وسبحان الله فحذف . وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ; استعانة بالله تعالى وتنزيها له ; قاله السدي . وقيل : هو من قول الله تعالى . ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ; حكاه ابن شجرة .
فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٨
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا أي: ناداه الله تعالى وأخبره أن هذا محل مقدس مبارك، ومن بركته أن جعله الله موضعا لتكليم الله لموسى وندائه وإرساله.
وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عن أن يظن به نقص أو سوء بل هو الكامل في وصفه وفعله.
يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٩
وقوله : ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز ، الذي عز كل شيء وقهره وغلبه ، الحكيم في أفعاله وأقواله .
يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٩
قوله تعالى : يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم الهاء عماد وليست بكناية في قول الكوفيين . والصحيح أنها كناية عن الأمر والشأن . إنه أنا الله العزيز الغالب الذي ليس كمثله شيء ، الحكيم في أمره وفعله . وقيل : قال موسى يا رب من الذي نادى ؟ فقال له : " إنه " أي إني أنا المنادي لك أنا الله .
يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّهُۥٓ أَنَا ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٩
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: أخبره الله أنه الله المستحق للعبادة وحده لا شريك له كما في الآية الأخرى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ( الْعَزِيزُ ) الذي قهر جميع الأشياء وأذعنت له كل المخلوقات، ( الْحَكِيمُ ) في أمره وخلقه. ومن حكمته أن أرسل عبده موسى بن عمران الذي علم الله منه أنه أهل لرسالته ووحيه وتكليمه. ومن عزته أن تعتمد عليه ولا تستوحش من انفرادك وكثرة أعدائك وجبروتهم، فإن نواصيهم بيد الله وحركاتهم وسكونهم بتدبيره.
وَأَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٠١
ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ; ليظهر له دليلا واضحا على أنه الفاعل المختار ، القادر على كل شيء . فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر ، وسرعة الحركة مع ذلك ; ولهذا قال : ( فلما رآها تهتز كأنها جان ) والجان : ضرب من الحيات ، أسرعه حركة ، وأكثره اضطرابا - وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت - فلما عاين موسى ذلك ( ولى مدبرا ولم يعقب ) أي : لم يلتفت من شدة فرقه ( ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ) أي : لا تخف مما ترى ، فإني أريد أن أصطفيك رسولا وأجعلك نبيا وجيها .
وَأَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٠١
قوله تعالى : وألق عصاك قال وهب بن منبه : ظن موسى أن الله أمره أن يرفضها فرفضها وقيل : إنما قال له ذلك ليعلم موسى أن المكلم له هو الله ، وأن موسى رسوله ; وكل نبي لا بد له من آية في نفسه يعلم بها نبوته . وفي الآية حذف : أي وألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية تهتز كأنها جان ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم . وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة . وقيل : إنها قلبت له أولا حية صغيرة فلما أنس منها قلبت حية كبيرة . وقيل : انقلبت مرة حية صغيرة ، ومرة حية تسعى وهي الأنثى ، ومرة ثعبانا وهو الذكر الكبير من الحيات . وقيل : المعنى انقلبت ثعبانا تهتز كأنها جان ، لها عظم الثعبان وخفة الجان واهتزازه ، وهي حية تسعى . وجمع الجان جنان ; ومنه الحديث ( نهى عن قتل الجنان التي في البيوت ) .
ولى مدبرا خائفا على عادة البشر ولم يعقب أي لم يرجع ; قاله مجاهد . وقال قتادة : لم يلتفت . يا موسى لا تخف أي من الحية وضررها . إني لا يخاف لدي وتم الكلام
وَأَلۡقِ عَصَاكَۚ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهۡتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنّٞ وَلَّىٰ مُدۡبِرٗا وَلَمۡ يُعَقِّبۡۚ يَٰمُوسَىٰ لَا تَخَفۡ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٠١
وَأَلْقِ عَصَاكَ فألقاها فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وهو ذكر الحيات سريع الحركة، وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ذعرا من الحية التي رأى على مقتضى الطبائع البشرية، فقال الله له: يَا مُوسَى لا تَخَفْ وقال في الآية الأخرى: أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لأن جميع المخاوف مندرجة في قضائه وقدره وتصريفه وأمره، فالذين اختصهم الله برسالته واصطفاهم لوحيه لا ينبغي لهم أن يخافوا غير الله خصوصا عند زيادة القرب منه والحظوة بتكليمه.
إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١
وقوله : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على [ عمل ] شيء ثم أقلع عنه ، ورجع وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) [ طه : 82 ] ، وقال تعالى : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) [ النساء : 110 ] والآيات في هذا كثيرة جدا .
إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١
ثم استثنى استثناء منقطعا فقال : إلا من ظلم وقيل : إنه استثناء من محذوف ; والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنه لا يخاف ; قاله الفراء . قال النحاس : الاستثناء من محذوف محال ; لأنه استثناء من شيء لم يذكر ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ; وهذا ضد البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه . وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل " إلا " بمعنى الواو أي ولا من ظلم ; قال :
وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال النحاس : وكون ( إلا ) بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام ، ومعنى ( إلا ) خلاف الواو ; لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب . وفي الآية قول آخر : وهو أن يكون الاستثناء متصلا ; والمعنى : إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ذكره المهدوي واختاره النحاس ; وقال : علم الله من عصى منهم يسر الخيفة فاستثناه فقال : إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له .
الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام الزمخشري . كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي . فإن قال قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به . وقال الحسن وابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس . قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب . قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ; أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة . وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه . وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر . وقد مضى هذا في ( البقرة ) .
قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو ، وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن ، لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة . وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم ابتلي من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة . وإنما ابتلي من الغد لقوله : فلن أكون ظهيرا للمجرمين وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ; لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه ف قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدرى من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ; جاء رجل يسعى ف قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك الآية . فخرج كما أخبر الله . فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ; فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب .
إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١
إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ أي: فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم وما تقدم له من الجرم، وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف؟ ومع هذا من ظلم نفسه بمعاصي الله، ثم تاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن الله غفور رحيم، فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ ٢١
وقوله : ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) هذه آية أخرى ، ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار ، وصدق من جعل له معجزة ، وذلك أن الله - تعالى - أمره أن يدخل يده في جيب درعه ، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة ، كأنها قطعة قمر ، لها لمعان يتلألأ كالبرق الخاطف .
وقوله : ( في تسع آيات ) أي : هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن ، وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه ( إنهم كانوا قوما فاسقين ) .وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) [ الإسراء : 101 ] كما تقدم تقرير ذلك هنالك .
وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ ٢١
قوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء تقدم في ( طه ) القول فيه . في تسع آيات قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات . المهدوي : المعنى : ألق عصاك وأدخل يدك في جيبك فهما آيتان من تسع آيات . وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم . أي خرجت عاشر عشرة . ف ( في ) بمعنى ( من ) لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان أي منها . وقال الأصمعي في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
" في " بمعنى " من " . وقيل : " في " بمعنى " مع " فالآيات عشرة منها اليد ، والتسع : الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنين والطمس . وقد تقدم بيان جميعه . إلى فرعون وقومه قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه ، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه . إنهم كانوا قوما فاسقين أي خارجين عن طاعة الله ; وقد تقدم .
وَأَدۡخِلۡ يَدَكَ فِي جَيۡبِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٖۖ فِي تِسۡعِ ءَايَٰتٍ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَقَوۡمِهِۦٓۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ ٢١
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ لا برص ولا نقص، بل بياض يبهر الناظرين شعاعه. فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي: هاتان الآيتان انقلاب العصا حية تسعى وإخراج اليد من الجيب فتخرج بيضاء في جملة تسع آيات تذهب بها وتدعو فرعون وقومه، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فسقوا بشركهم وعتوهم وعلوهم على عباد الله واستكبارهم في الأرض بغير الحق.
فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٣١
وقوله : ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ) أي : بينة واضحة ظاهرة ، ( قالوا هذا سحر مبين ) وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا [ هنالك ] ( وانقلبوا صاغرين ) .
فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٣١
قوله تعالى : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أي واضحة بينة . قال الأخفش : ويجوز " مبصرة " وهو مصدر كما يقال : الولد مجبنة . قالوا هذا سحر مبين جروا على عادتهم في التكذيب فلهذا قال :
فَلَمَّا جَآءَتۡهُمۡ ءَايَٰتُنَا مُبۡصِرَةٗ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِينٞ ٣١
فذهب موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه ودعاهم إلى الله تعالى وأراهم الآيات.
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً مضيئة تدل على الحق ويبصر بها كما تبصر الأبصار بالشمس. قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ لم يكفهم مجرد القول بأنه سحر بل قالوا: ( مُبِينٌ ) ظاهر لكل أحد. وهذا من أعجب العجائب الآيات المبصرات والأنوار الساطعات، تجعل من بين الخزعبلات وأظهر السحر! هل هذا إلا من أعظم المكابرة وأوقح السفسطة.
وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤١
( وجحدوا بها ) أي : في ظاهر أمرهم ، ( واستيقنتها أنفسهم ) أي : علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ، ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها ، ( ظلما وعلوا ) أي : ظلما من أنفسهم ، سجية ملعونة ، ( وعلوا ) أي : استكبارا عن اتباع الحق ; ولهذا قال : ( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) أي : انظر يا محمد كيف كان عاقبة كفرهم ، في إهلاك الله إياهم ، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة .
وفحوى الخطاب يقول : احذروا أيها المكذبون بمحمد ، الجاحدون لما جاء به من ربه ، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى ; فإن محمدا ، صلوات الله وسلامه عليه أشرف وأعظم من موسى ، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى ، بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله ، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به ، وأخذ المواثيق له ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام .
وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤١
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا أي تيقنوا أنها من عند الله وأنها ليست سحرا ، ولكنهم كفروا بها وتكبروا أن يؤمنوا بموسى . وهذا يدل على أنهم كانوا معاندين . و ( ظلما و علوا ) منصوبان على نعت مصدر محذوف ، أي وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا . والباء زائدة أي وجحدوها ; قاله أبو عبيدة . فانظر يا محمد كيف كان عاقبة المفسدين أي آخر أمر الكافرين الطاغين ، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه . الخطاب له والمراد غيره .
وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤١
وَجَحَدُوا بِهَا أي: كفروا بآيات الله جاحدين لها، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ أي: ليس جحدهم مستندا إلى الشك والريب، وإنما جحدهم مع علمهم ويقينهم بصحتها ظُلْمًا منهم لحق ربهم ولأنفسهم، وَعُلُوًّا على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أسوأ عاقبة دمرهم الله وغرقهم في البحر وأخزاهم وأورث مساكنهم المستضعفين من عباده.
وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥١
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان ، عليهما من الله السلام ، من النعم الجزيلة ، والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والتمكين التام في الدنيا ، والنبوة والرسالة في الدين ; ولهذا قال : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام : أخبرني أبي ، عن جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حمده أفضل من نعمته ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ; قال الله تعالى : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) ، وأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان ، عليهما السلام ؟
وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥١
قوله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما أي فهما ; قاله قتادة . وقيل : علما بالدين والحكم وغيرهما كما قال : وعلمناه صنعة لبوس لكم . وقيل : صنعة الكيمياء . وهو شاذ . وإنما الذي آتاهما الله النبوة والخلافة في الأرض والزبور . وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين . يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات . وقد تقدم هذا في غير موضع .
وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ عِلۡمٗاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥١
يذكر في هذا القرآن وينوه بمنته على داود وسليمان ابنه بالعلم الواسع الكثير بدليل التنكير كما قال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا الآية.
( وَقَالا ) شاكرين لربهما منته الكبرى بتعليمهما: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) فحمدا الله على جعلهما من المؤمنين أهل السعادة وأنهما كانا من خواصهم.
ولا شك أن المؤمنين أربع درجات: الصالحون، ثم فوقهم الشهداء، ثم فوقهم الصديقون ثم فوقهم الأنبياء، وداود وسليمان من خواص الرسل وإن كانوا دون درجة أولي العزم [الخمسة]، لكنهم من جملة الرسل الفضلاء الكرام الذين نوه الله بذكرهم ومدحهم في كتابه مدحا عظيما فحمدوا الله على بلوغ هذه المنزلة، وهذا عنوان سعادة العبد أن يكون شاكرا لله على نعمه الدينية والدنيوية وأن يرى جميع النعم من ربه، فلا يفخر بها ولا يعجب بها بل يرى أنها تستحق عليه شكرا كثيرا، فلما مدحهما مشتركين خص سليمان بما خصه به لكون الله أعطاه ملكا عظيما وصار له من الماجريات ما لم يكن لأبيه صلى الله عليهما وسلم فقال: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) .
وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ ٦١
وقوله : ( وورث سليمان داود ) أي : في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثة المال ; إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه قد كان لداود مائة امرأة . ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة ; فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ في قوله ] : نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة .
وقوله : ( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) ، أي : أخبر سليمان بنعم الله عليه ، فيما وهبه له من الملك التام ، والتمكين العظيم ، حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير . وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا ، وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر - فيما علمناه - مما أخبر الله به ورسوله . ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود - كما يتفوه به كثير من الناس - فهو قول بلا علم . ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ; إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال . ولكن الله سبحانه وتعالى ، كان قد أفهم سليمان ، عليه السلام ، ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها ; ولهذا قال : ( علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) أي : مما يحتاج إليه الملك ، ( إن هذا لهو الفضل المبين ) أي : الظاهر البين لله علينا .
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان داود ، عليه السلام ، فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع " . قال : " فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لمن في البيت : من أين دخل هذا الرجل ، والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء داود ، عليه السلام ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : الذي لا يهاب الملوك ، ولا يمتنع من الحجاب . فقال داود : أنت والله إذا ملك الموت . مرحبا بأمر الله ، فتزمل داود ، عليه السلام ، مكانه حتى قبضت نفسه ، حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان ، عليه السلام ، للطير : أظلي على داود ، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض ، فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده ، وغلبت عليه يومئذ المضرحية .
قال أبو الفرج بن الجوزي : المضرحية النسور الحمر .
وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ ٦١
قوله تعالى : وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء قال الكلبي : كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه ، ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء ; وقاله ابن العربي ; قال : فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ; فخص الله سليمان بما كان لداود من الحكمة والنبوة ، وزاده من فضله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده . قال ابن عطية : داود من بني إسرائيل وكان ملكا وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة ، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فسمي ميراثا تجوزا ; وهذا نحو قوله : العلماء ورثة الأنبياء ويحتمل قوله عليه السلام : إنا معشر الأنبياء لا نورث أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم ، وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه ; وهذا كما تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة ، والمراد أن ذلك فعل الأكثر . ومنه ما حكى سيبويه : إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف .
قلت : قد تقدم هذا المعنى في ( مريم ) وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام : إنا معشر الأنبياء لا نورث فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل . قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبدا من سليمان . قال غيره : ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ; فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش ، وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وورث أباه في الملك والنبوة ، وقام بعده بشريعته ، وكل نبي جاء بعد موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى ، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها . وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة . واليهود تقول ألف وثلاثمائة واثنتان وستون سنة . وقيل : إن بين موته وبين مولد النبي صلى الله عليه سلم نحوا من ألف وسبعمائة . واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة ، وعاش نيفا وخمسين سنة .
قوله تعالى : وقال يا أيها الناس أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله علمنا منطق الطير أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها . قال مقاتل في الآية : كان سليمان جالسا ذات يوم إذ مر به طائر يطوف ، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل ! أعطاك الله الكرامة ، وأظهرك على عدوك ، إني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية ; وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع ; فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت . فأخبرهم سليمان بما قال ; وأذن له فانطلق . وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا لا يا نبي الله . قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء . ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخا فقال له سليمان : احذر يا هدهد ! فقال : يا نبي الله ! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به . ثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده ، فقال : هدهد ما هذا ؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله . قال : ويحك ! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر . وقال كعب . صاح ورشان عند سليمان بن داود فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب . وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال : إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا . وصاح عندهطاوس ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : كما تدين تدان . وصاح عنده هدهد فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : فإنه يقول : من لا يرحم لا يرحم . وصاح صرد عنده ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ; فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله . وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت . وهو أول من صام ; ولذلك يقال للصرد الصوام ; روي عن أبي هريرة . وصاحت عنده طيطوى فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال : إنها تقول : كل حي ميت وكل جديد بال . وصاحت خطافة عنده ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال : إنها تقول : قدموا خيرا تجدوه ; فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها . وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوحشة ، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت ، فهي لا تفارق بني آدم أنسا لهم . قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته إلى آخرها وتمد صوتها بقوله : " العزيز الحكيم " . وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال : إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سماواته وأرضه . وصاح قمري عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن . وقال كعب : وحدثهم سليمان ، فقال : الغراب يقول : اللهم العن العشار ; والحدأة تقول : كل شيء هالك إلا وجهه . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده . والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان .
وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال : إنه يقول : الرحمن على العرش استوى . وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم : النسر إذا صاح قال يا بن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس الراحة . وإذا صاح القنبر قال : إلهي العن مبغضي آل محمد . وإذا صاح الخطاف قرأ : الحمد لله رب العالمين إلى آخرها فيقول : ولا الضالين ويمد بها صوته كما يمد القارئ . قال قتادة والشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة ، لقوله : علمنا منطق الطير والنملة طائر إذ قد يوجد له أجنحة . قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين . وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جندا من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته ; ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير . وقال أبو جعفر النحاس : والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام ، والله جل وعز أعلم بما أراد . قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم ، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات ، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا ، أنفع من كذا وأضر من كذا ; فما ظنك بالحيوان .
وَوَرِثَ سُلَيۡمَٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّيۡرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيۡءٍۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِينُ ٦١
أي: ورث علمه ونبوته فانضم علم أبيه إلى علمه، فلعله تعلم من أبيه ما عنده من العلم مع ما كان عليه من العلم وقت أبيه كما تقدم من قوله ففهمناها سليمان، وقال شكرا لله وتبجحا بإحسانه وتحدثا بنعمته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فكان عليه الصلاة [والسلام] يفقه ما تقول وتتكلم به كما راجع الهدهد وراجعه، وكما فهم قول النملة للنمل كما يأتي وهذا لم يكن لأحد غير سليمان عليه الصلاة والسلام.
وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: أعطانا الله من النعم ومن أسباب الملك ومن السلطنة والقهر ما لم يؤته أحدا من الآدميين، ولهذا دعا ربه فقال: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فسخر الله له الشياطين يعملون له كل ما شاء من الأعمال التي يعجز عنها غيرهم، وسخر له الريح غدوها شهر ورواحها شهر.
إِنَّ هَذَا الذي أعطانا الله وفضلنا واختصنا به لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الواضح الجلي فاعترف أكمل اعتراف بنعمة الله تعالى.
وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٧١
وقوله تعالى : ( وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ) أي : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير يعني : ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس ، وكانوا هم الذين يلونه ، والجن وهم بعدهم [ يكونون ] في المنزلة ، والطير ومنزلتها فوق رأسه ، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها .
وقوله : ( فهم يوزعون ) أي : يكف أولهم على آخرهم ; لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له .
قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة ، يردون أولاها على أخراها ، لئلا يتقدموا في المسير ، كما يفعل الملوك اليوم .
وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٧١
قوله تعالى : وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون
فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : وحشر لسليمان " حشر " جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا واختلف الناس في مقدار جند سليمان عليه السلام ; فيقال : كان معسكره مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية . ابن عطية : واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافا شديدا غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض ، وانقادت له المعمورة كلها . فهم يوزعون معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون . قال قتادة : كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها . يقال : وزعته أوزعه وزعا أي كففته . والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم . روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى - تعني يوم الفتح - قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته : اظهري بي على أبي قبيس . قالت : فأشرفت به عليه فقال : ما ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا . قال : تلك الخيل . قالت : وأرى رجلا من السواد مقبلا ومدبرا . قال : ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر . وذكر تمام الخبر . ومن هذا قوله عليه السلام : ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر قيل : وما رأى يا رسول الله ؟ قال : أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة خرجه الموطأ . ومن هذا المعنى قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر :
ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غربها بالأصابع
آخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل : هو من التوزيع بمعنى التفريق . والقوم أوزاع أي طوائف . وفي القصة : إن الشياطين نسجت له بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم ، وكان يوضع له كرسي من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة .
الثانية : في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ; إذ لا يمكن للحكام ذلك بأنفسهم . وقال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة . وقال الحسن أيضا : لا بد للناس من وازع ; أي من سلطان يكفهم . وذكر ابن القاسم قال : حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن ; أي من الناس . قال ابن القاسم : قلت لمالك ما يزع ؟ قال : يكف . قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام ، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته . قال : فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق ، لا زيادة عليها ، ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن الظلمة خاسوا بها ، وقصروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نية ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ، فلم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا بالعدل ، وأخلصوا النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور .
وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٧١
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: جمع له جنوده الكثيرة الهائلة المتنوعة من بني آدم، ومن الجن والشياطين ومن الطيور فهم يوزعون يدبرون ويرد أولهم على آخرهم، وينظمون غاية التنظيم في سيرهم ونزولهم وحلهم وترحالهم قد استعد لذلك وأعد له عدته.
وكل هذه الجنود مؤتمرة بأمره لا تقدر على عصيانه ولا تتمرد عنه، قال تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ أي: أعط بغير حساب، فسار بهذه الجنود الضخمة في بعض أسفاره
حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٨١
وقوله : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل ) أي : حتى إذا مر سليمان ، عليه السلام ، بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل ، ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) .
أورد ابن عساكر ، من طريق إسحاق بن بشر ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أن اسم هذه النملة حرس ، وأنها من قبيلة يقال لهم : بنو الشيصان ، وأنها كانت عرجاء ، وكانت بقدر الذيب .
أي : خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها ، فأمرتهم بالدخول إلى مساكنها ففهم ذلك سليمان ، عليه السلام ، منها .
حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٨١
قوله تعالى : حتى إذا أتوا على وادي النمل قال قتادة : ذكر لنا أنه واد بأرض الشام . وقال كعب : هو بالطائف . قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا قال الشعبي : كان للنملة جناحان فصارت من الطير ، فلذلك علم منطقها ولولا ذلك لما علمه . وقد مضى هذا ويأتي . وقرأ سليمان التيمي بمكة : ( نملة ) و ( النمل ) بفتح النون وضم الميم . وعنه أيضا ضمهما جميعا . وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قرارها . قال كعب : مر سليمان عليه السلام بوادي السدير من أودية الطائف ، فأتى على وادي النمل ، فقامت نملة تمشي وهي عرجاء تتكاوس مثل الذئب في العظم ; فنادت : يا أيها النمل الآية . الزمخشري : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال ، وكانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ; وقيل : كان اسمها طاخية . وقال السهيلي : ذكروا اسم النملة المكلمة لسليمان عليه السلام ، وقالوا اسمها حرميا ، ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم والنمل لا يسمي بعضهم بعضا ، ولا الآدميون يمكنهم تسمية واحدة منهم باسم علم ، لأنه لا يتميز للآدميين بعضهم من بعض ، ولا هم أيضا واقعون تحت ملكة بني آدم كالخيل والكلاب ونحوها ، فإن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب . فإن قلت : إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار وقثام في الضبع ، ونحو هذا كثير ; فليس اسم النملة من هذا ; لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل ، وثعالة ونحوه لا يختص بواحد من الجنس ، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة ، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك . فإن صح ما قالوه فله وجه ، وهو أن تكون هذه النملة الناطقة قد سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الزبور أو في بعض الصحف سماها الله تعالى بهذا الاسم ، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان أو بعضهم . وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها فهذا وجه . ومعنى قولنا بإيمانها أنها قالت للنمل : لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فقولها : وهم لا يشعرون التفاتة مؤمن . أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا . وقد قيل : إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها ; ولذلك أكد التبسم بقوله : ضاحكا إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا ، ألا تراهم يقولون تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئين . وتبسم الضحك إنما هو عن سرور ، ولا يسر نبي بأمر دنيا ; وإنما سر بما كان من أمر الآخرة والدين . وقولها : وهم لا يشعرون إشارة إلى الدين والعدل والرأفة . ونظير قول النملة في جند سليمان : وهم لا يشعرون قول الله تعالى في جند محمد صلى الله عليه وسلم : فتصيبكم منهم معرة بغير علم . التفاتا إلى أنهم لا يقصدون هدر مؤمن . إلا أن المثني على جند سليمان هي النملة بإذن الله تعالى ، والمثني على جند محمد صلى الله عليه وسلم هو الله عز وجل بنفسه ; لما لجنود محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل على جند غيره من الأنبياء ; كما لمحمد صلى الله عليه وسلم فضل على جميع النبيين صلى الله عليهم وسلم أجمعين . وقرأ شهر بن حوشب : ( مسكنكم ) بسكون السين على الإفراد . وفي مصحف أبي ( مساكنكن لا يحطمنكم ) . وقرأ سليمان التيمي : ( مساكنكم لا يحطمنكن ) ذكره النحاس ; أي لا يكسرنكم بوطئهم عليكم وهم لا يعلمون بكم قال المهدوي : وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان . وقال وهب : أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان ; بسبب أن الشياطين أرادت كيده . وقد قيل : إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي . وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة : كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم . وقال بريدة الأسلمي : كهيئة النعاج . قال محمد بن علي الترمذي : فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت ، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها ، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة ، وذلك منطقهم ، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك ، وهو قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
قلت : وقوله : لا يحطمنكم يدل على صحة قول الكلبي ; إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء ; والله أعلم . وقال : ادخلوا مساكنكم فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل هاهنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون . قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل ؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل ؟ فلم قلت : يحطمنكم سليمان وجنوده فقالت النملة : أما سمعت قولي : وهم لا يشعرون مع أني لم أرد حطم النفوس ، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت ، أو يفتتن بالدنيا ، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر . فقال لها سليمان : عظيني . فقالت النملة : أما علمت لم سمي أبوك داود ؟ قال : لا . قالت : لأنه داوى جراحة فؤاده ; هل علمت لم سميت سليمان ؟ قال : لا . قالت : لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك ، وإن لك أن تلحق بأبيك . ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح ؟ قال : لا . قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح .
حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوۡاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةٞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمۡ لَا يَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَيۡمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٨١
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ منبهة لرفقتها وبني جنسها: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فنصحت هذه النملة وأسمعت النمل إما بنفسها ويكون الله قد أعطى النمل أسماعا خارقة للعادة، لأن التنبيه للنمل الذي قد ملأ الوادي بصوت نملة واحدة من أعجب العجائب. وإما بأنها أخبرت من حولها من النمل ثم سرى الخبر من بعضهن لبعض حتى بلغ الجميع وأمرتهن بالحذر، والطريق في ذلك وهو دخول مساكنهن.
وعرفت حالة سليمان وجنوده وعظمة سلطانه، واعتذرت عنهم أنهم إن حطموكم فليس عن قصد منهم ولا شعور، فسمع سليمان عليه الصلاة والسلام قولها وفهمه.
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٩١
( فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ) أي : ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي ، من تعليمي منطق الطير والحيوان ، وعلى والدي بالإسلام لك ، والإيمان بك ، ( وأن أعمل صالحا ترضاه ) أي : عملا تحبه وترضاه ، ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) أي : إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك ، والرفيق الأعلى من أوليائك .
ومن قال من المفسرين : إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره ، وإن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب ، أو غير ذلك من الأقاويل ، فلا حاصل لها .
وعن نوف البكالي أنه قال : كان نمل سليمان أمثال الذئاب . هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت . وإنما هو بالباء الموحدة ، وذلك تصحيف ، والله أعلم .
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، فهم قولها ، وتبسم ضاحكا من ذلك ، وهذا أمر عظيم جدا .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا مسعر ، عن زيد العمي ، عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان عليه السلام يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها ، رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن سقياك ، وإلا تسقنا تهلكنا . فقال سليمان عليه السلام : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم .
وقد ثبت في الصحيح - عند مسلم - من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ قال ] قرصت نبيا من الأنبياء نملة ، فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه ، أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ! " .
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٩١
فتبسم ضاحكا من قولها متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها ، فقالت : هل عندكم من شيء نهديه إلى نبي الله ؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له ! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة . قالت : حسنة ; ايتوني بها . فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها ، فأمر الله الريح فحملتها ، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط ، حتى وقعت بين يديه ، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه ، وأنشأت تقول :
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله ولو كان يهدى للجليل بقدره
لقصر عنه البحر يوما وساحله ولكننا نهدي إلى من نحبه
فيرضى به عنا ويشكر فاعله وما ذاك إلا من كريم فعاله
وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها : بارك الله فيكم ; فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله . وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة ; خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق وروي من حديث أبي هريرة . وقد مضى في ( الأعراف ) . فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم ، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم ، فنفت عنهم الجور ; ولذلك نهي عن قتلها وعن قتل الهدهد ; لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس . وقال عكرمة : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه . والصرد يقال له الصوام . وروي عن أبي هريرة قال : أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد ، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره ، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت : ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي . وقد تقدم في ( الأعراف ) سبب النهي عن قتل الضفدع وفي ( النحل ) النهي عن قتل النحل . والحمد لله .
الثانية : قرأ الحسن : ( لا يحطمنكم ) وعنه أيضا ( لا يحطمنكم ) وعنه أيضا وعن أبي رجاء : ( لا يحطمنكم ) والحطم الكسر . حطمته حطما أي كسرته وتحطم ; والتحطيم التكسير ، وهم لا يشعرون يجوز أن يكون حالا من سليمان ، وجنوده ، والعامل في الحال يحطمنكم . أو حالا من النملة والعامل " قالت " أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود ; كقولك : قمت والناس غافلون . أو حالا من " النمل " أيضا والعامل " قالت " على أن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها . وفيه بعد وسيأتي .
الثالثة : روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح وفي طريق آخر : فهلا نملة واحدة . قال علماؤنا : يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام ، وإنه قال : يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع . فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده ، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها ، وعندها قرية النمل ، فغلبه النوم ، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته ، فدلكهن بقدمه فأهلكهن ، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم ، فأراه الله العبرة في ذلك آية : لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها ! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة ، وشرا ونقمة على العاصي . وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل ; فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك ، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن ، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار ، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها ، فإذا آذاك أبيح لك قتله . وروي عن إبراهيم : ما آذاك من النمل فاقتله . وقوله : ألا نملة واحدة دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل ، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء . وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها ; لأنه ليس المراد القصاص ; لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك ، ولكن قال : ألا نملة مكان نملة ; فعم البريء والجاني بذلك ، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي . وقد قيل : إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه ; فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق . ألا ترى قوله : فهلا نملة واحدة أي هلا حرقت نملة واحدة . وهذا بخلاف شرعنا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار . وقال : لا يعذب بالنار إلا الله . وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي ; فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل . وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك . وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل . وقد قيل : إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد ، وكان الأولى الصبر والصفح ; لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق ، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب . والله أعلم . لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه .
الرابعة : قوله : أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق ، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها . وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا ، لكن لا يسمعه كل أحد ، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي . ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك ; فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه . ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه . وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم ، كما قد نقل منه الكثير أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ; وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية . وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم . وقد مضى هذا المعنى في تسبيح الجماد في ( الإسراء ) وأنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال . والحمد لله .
الخامسة : قوله تعالى : فتبسم ضاحكا من قولها وقرأ ابن السميقع : " ضحكا " بغير ألف ، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه " تبسم " كأنه قال ضحك ضحكا ، هذا مذهب سيبويه . وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس ( تبسم ) لأنه في معنى " ضحك " ومن قرأ : ضاحكا فهو منصوب على الحال من الضمير في ( تبسم ) . والمعنى تبسم مقدار الضحك ; لأن الضحك يستغرق التبسم ، والتبسم دون الضحك وهو أوله . يقال : بسم ( بالفتح ) يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم ، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام : كثير التبسم ، فالتبسم ابتداء الضحك . والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء ، إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم ، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه .والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم . وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له : أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ; قال : نعم كثيرا ; كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم . وفيه عن سعد قال : كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارم فداك أبي وأمي قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه . فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم . وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات . وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه . وقد كره العلماء منه الكثرة ; كما قال لقمان لابنه : يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب . وقد روي مرفوعا من حديث أبي ذر وغيره . وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه ، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته ; فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم .
السادسة : لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول . وقد قال الشافعي : الحمام أعقل الطير . قال ابن عطية : والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ، ويشق الكزبرة بأربع قطع ; لأنها تنبت إذا قسمت شقتين ، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة . قال ابن العربي : وهذه خواص العلوم عندنا ، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها ; قال الأستاذ أبو المظفر شاهنور الإسفراييني : ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات ; ووحدانية الإله ، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا ، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية .
قوله تعالى : وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ف " أن " مصدرية . و أوزعني أي ألهمني ذلك . وأصله من وزع فكأنه قال : كفني عما يسخط . وقال محمد بن إسحاق : يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود ، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ( ص ) إن شاء الله تعالى .
وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين أي مع عبادك ، عن ابن زيد . وقيل : المعنى في جملة عبادك الصالحين .
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكٗا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٩١
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا إعجابا منه بفصاحتها ونصحها وحسن تعبيرها. وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل، والتعجب في موضعه وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جل ضحكه التبسم، فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب. وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه، يدل على شراسة الخلق والجبروت. والرسل منزهون عن ذلك.
وقال شاكرا لله الذي أوصله إلى هذه الحال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني ووفقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ فإن النعمة على الوالدين نعمة على الولد. فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية عليه وعلى والديه، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أي: ووفقني أن أعمل صالحا ترضاه لكونه موافقا لأمرك مخلصا فيه سالما من المفسدات والمنقصات، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ التي منها الجنة فِي جملة عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فإن الرحمة مجعولة للصالحين على اختلاف درجاتهم ومنازلهم.
فهذا نموذج ذكره الله من حالة سليمان عند سماعه خطاب النملة ونداءها.
وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ ٠٢
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا ، يدل سليمان ، عليه السلام ، على الماء ، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض ، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض ، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض ، فإذا دلهم عليه أمر سليمان ، عليه السلام ، الجان فحفروا له ذلك المكان ، حتى يستنبط الماء من قراره ، فنزل سليمان ، عليه السلام [ يوما ] ، بفلاة من الأرض ، فتفقد الطير ليرى الهدهد ، فلم يره ، ( فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) .
حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا ، وفي القوم رجل من الخوارج ، يقال له : " نافع بن الأزرق " ، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس ، فقال له : قف يا ابن عباس ، غلبت اليوم ! قال : ولم ؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض ، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ، ويحثو على الفخ ترابا ، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ ، فيصيده الصبي . فقال ابن عباس : لولا أن يذهب هذا فيقول : رددت على ابن عباس ، لما أجبته . فقال له : ويحك ! إنه إذا نزل القدر عمي البصر ، وذهب الحذر . فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي - من أهل " برزة " من غوطة دمشق ، وكان من الصالحين يصوم [ يوم ] الاثنين والخميس ، وكان أعور قد بلغ الثمانين - فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد : أنه سأله عن سبب عوره ، فامتنع عليه ، فألح عليه شهورا ، فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة ، وسألاه عن واد بها ، فأريتهما إياه ، فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورا كثيرا ، حتى عجعج الوادي بالدخان ، فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما ، فلا يلتفتان إلى شيء منها ، حتى أقبلت حية نحو الذراع ، وعيناها توقدان مثل الدينار . فاستبشرا بها عظيما ، وقالا : الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة ، وكسرا المجامر ، وأخذا الحية فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به ، فسألتهما أن يكحلاني ، فأبيا ، فألححت عليهما وقلت : لا بد من ذلك ، وتوعدتهما بالدولة ، فكحلا عيني الواحدة اليمنى ، فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة ، أنظر ما تحتها كما ترى المرآة ، ثم قالا لي : سر معنا قليلا فسرت معهما وهما يحدثان ، حتى إذا بعدت عن القرية ، أخذاني فكتفاني ، وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ، ورمى بها ومضيا . فلم أزل كذلك ملقى مكتوفا ، حتى مر بي نفر ففك وثاقي . فهذا ما كان من خبر عيني .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن عمرو الغساني ، حدثنا عباد بن ميسرة المنقري ، عن الحسن قال : اسم هدهد سليمان عليه السلام : عنبر .
وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه : تفقد الطير ، وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير ، كل يوم طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد ، ( فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) أخطأه بصري من الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟ .
وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ ٠٢
وتفقد الطير ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم . والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء . والطير اسم جامع والواحد طائر ، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها . وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها . واختلف الناس في معنى تفقده للطير ; فقالت فرقة : ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك ، والتهمم بكل جزء منها ; وهذا ظاهر الآية . وقالت فرقة : بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب ; فكان ذلك سبب تفقد الطير ; ليتبين من أين دخلت الشمس . وقال عبد الله بن سلام : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض ; لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها ; فكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة ; تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة ; قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام .
قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبد الله بن سلام : أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل . قال : أتسألني وأنت تقرأ القرآن ؟ قال : نعم ثلاث مرات . قال : لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير ؟ قال : احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال : مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده . وقال في كتاب النقاش : كان الهدهد مهندسا . وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له : قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه ؟ ! فقال له ابن عباس : إذا جاء القدر عمي البصر . وقال مجاهد : قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ فقال : نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد مهتديا إليه ، فأراد أن يسأله . قال مجاهد : فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر عمي البصر . قال ابن العربي : ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن .
قلت : هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم . وأنشدوا :
إذا أراد الله أمرا بامرئ وكان ذا عقل ورأي ونظر وحيلة يعملها في دفع ما
يأتي به مكروه أسباب القدر غطى عليه سمعه وعقله
وسله من ذهنه سل الشعر حتى إذا أنفذ فيه حكمه
رد عليه عقله ليعتبر
قال الكلبي : لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد . والله أعلم .
في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ; والمحافظة عليهم . فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك . ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته ; قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر . فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان . وفي الصحيح عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . الحديث ; قال علماؤنا : كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط . كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه ، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته ، ومباشرة ذلك بنفسه ، والسفر إلى ذلك وإن طال . ورحم الله ابن المبارك حيث يقول :
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
قوله تعالى : ما لي لا أرى الهدهد أي ما للهدهد لا أراه ; فهو من القلب الذي لا يعرف معناه . وهو كقولك : ما لي أراك كئيبا . أي ما لك . والهدهد طير معروف وهدهدته صوته . قال ابن عطية : إنما مقصد الكلام : الهدهد غاب . لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز . والاستفهام الذي في قوله : ما لي ناب مناب الألف التي تحتاجها " أم " . وقيل : إنما قال : ما لي لا أرى الهدهد ; لأنه اعتبر حال نفسه ، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم ، وسخر له الخلق ، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل ، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر ، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه ; فقال : ما لي . قال ابن العربي : وهذا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا ما لهم ، تفقدوا أعمالهم ; هذا في الآداب ، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض ؟ وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب : ما لي بفتح الياء وكذلك في ( يس ) وما لي لا أعبد الذي فطرني . وأسكنها حمزة ويعقوب . وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو : بفتح التي في ( يس ) وإسكان هذه . قال أبو عمرو : لأن هذه التي في ( النمل ) استفهام ، والأخرى انتفاء . واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان فقال ما لي . وقال أبو جعفر النحاس : زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله ، وهذا ليس بشيء ; وإنما هي ياء النفس ، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها ، فقرءوا باللغتين ; واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة ; لأنها اسم وهي على حرف واحد ، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم . أم كان من الغائبين بمعنى " بل " .يأتي
وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيۡرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ أَمۡ كَانَ مِنَ ٱلۡغَآئِبِينَ ٠٢
ثم ذكر نموذجا آخر من مخاطبته للطير فقال: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ دل هذا على كمال عزمه وحزمه وحسن تنظيمه لجنوده وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار، حتى إنه لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور والنظر: هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء؟ وهذا هو المعنى للآية. ولم يصنع شيئا من قال: إنه تفقد الطير لينظر أين الهدهد منها ليدله على بعد الماء وقربه، كما زعموا عن الهدهد أنه يبصر الماء تحت الأرض الكثيفة، فإن هذا القول لا يدل عليه دليل بل الدليل العقلي واللفظي دال على بطلانه، أما العقلي فإنه قد عرف بالعادة والتجارب والمشاهدات أن هذه الحيوانات كلها، ليس منها شيء يبصر هذا البصر الخارق للعادة، ينظر الماء تحت الأرض الكثيفة، ولو كان كذلك لذكره الله لأنه من أكبر الآيات.
وأما الدليل اللفظي فلو أريد هذا المعنى لقال: " وطلب الهدهد لينظر له الماء فلما فقده قال ما قال " أو " فتش عن الهدهد "أو: " بحث عنه "ونحو ذلك من العبارات، وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها. وأيضا فإن سليمان عليه السلام لا يحتاج ولا يضطر إلى الماء بحيث يحتاج لهندسة الهدهد، فإن عنده من الشياطين والعفاريت ما يحفرون له الماء، ولو بلغ في العمق ما بلغ. وسخر الله له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، فكيف -مع ذلك- يحتاج إلى الهدهد؟"
وهذه التفاسير التي توجد وتشتهر بها أقوال لا يعرف غيرها، تنقل هذه الأقوال عن بني إسرائيل مجردة ويغفل الناقل عن مناقضتها للمعاني الصحيحة وتطبيقها على الأقوال، ثم لا تزال تتناقل وينقلها المتأخر مسلما للمتقدم حتى يظن أنها الحق، فيقع من الأقوال الردية في التفاسير ما يقع، واللبيب الفطن يعرف أن هذا القرآن الكريم العربي المبين الذي خاطب الله به الخلق كلهم عالمهم وجاهلهم وأمرهم بالتفكر في معانيه، وتطبيقها على ألفاظه العربية المعروفة المعاني التي لا تجهلها العرب العرباء، وإذا وجد أقوالا منقولة عن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها إلى هذا الأصل، فإن وافقته قبلها لكون اللفظ دالا عليها، وإن خالفته لفظا ومعنى أو لفظا أو معنى ردها وجزم ببطلانها، لأن عنده أصلا معلوما مناقضا لها وهو ما يعرفه من معنى الكلام ودلالته.
والشاهد أن تفقد سليمان عليه السلام للطير، وفقده الهدهد يدل على كمال حزمه وتدبيره للملك بنفسه وكمال فطنته حتى فقد هذا الطائر الصغير فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ أي: هل عدم رؤيتي إياه لقلة فطنتي به لكونه خفيا بين هذه الأمم الكثيرة؟ أم على بابها بأن كان غائبا من غير إذني ولا أمري؟.
لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ ١٢
وقوله : ( لأعذبنه عذابا شديدا ) : قال الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد ، عن ابن عباس : يعني نتف ريشه .
وقال عبد الله بن شداد : نتف ريشه وتشميسه . وكذا قال غير واحد من السلف : إنه نتف ريشه ، وتركه ملقى يأكله الذر والنمل .
وقوله : ( أو لأذبحنه ) يعني : قتله ، ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) أي : بعذر واضح بين .
وقال سفيان بن عيينة ، وعبد الله بن شداد : لما قدم الهدهد قال له الطير : ما خلفك ، فقد نذر سليمان دمك ! فقال : هل استثنى ؟ فقالوا : نعم ، قال : ( لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) فقال : نجوت إذا .
قال مجاهد : إنما دفع [ الله ] عنه ببره بأمه .
لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ ١٢
قوله تعالى : لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد ، أما إنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة . روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه . قال ابن جريج : ريشه أجمع . وقال يزيد بن رومان : جناحاه . فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين ، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته ; وكأن الله أباح له ذلك ، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع . والله أعلم . وفي ( نوادر الأصول ) قال : حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي ، قال : حدثنا عون بن عمارة ، عن الحسين الجعفي ، عن الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، قال : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه . وسيأتي . وقيل : تعذيبه أن يجعل مع أضداده . وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد . وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : بأن يجعله للشمس بعد نتفه . وقيل : بتبعيده عن خدمتي ، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه . وهو مؤكد بالنون الثقيلة ، وهي لازمة هي أو الخفيفة . قال أبو حاتم : ولو قرئت " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه " جاز . أو ليأتيني بسلطان مبين أي بحجة بينة . وليست اللام في ليأتيني لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد ; ولكن لما جاء في أثر قوله : لأعذبنه وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه . وقرأ ابن كثير وحده : ( ليأتينني ) بنونين .
لَأُعَذِّبَنَّهُۥ عَذَابٗا شَدِيدًا أَوۡ لَأَاْذۡبَحَنَّهُۥٓ أَوۡ لَيَأۡتِيَنِّي بِسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٖ ١٢
فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال: لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا دون القتل، أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أي: حجة واضحة على تخلفه، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح فلذلك استثناه لورعه وفطنته.
فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۢ بِنَبَإٖ يَقِينٍ ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۢ بِنَبَإٖ يَقِينٍ ٢٢
يقول تعالى : ( فمكث ) الهدهد ( غير بعيد ) أي : غاب زمانا يسيرا ، ثم جاء فقال لسليمان : ( أحطت بما لم تحط به ) أي : اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك ، ( وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) أي : بخبر صدق حق يقين .
وسبأ : هم : حمير ، وهم ملوك اليمن .
فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۢ بِنَبَإٖ يَقِينٍ ٢٢
قوله تعالى : فمكث غير بعيد أي الهدهد . والجمهور من القراء على ضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها . ومعناه في القراءتين " أقام " . قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا . قال : ومكث مثل ظرف . قال غيره : والفتح أحسن لقوله تعالى : ماكثين إذ هو من مكث ; يقال : مكث يمكث فهو ماكث ; ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث ; مثل عظيم . ومكث يمكث فهو ماكث ; مثل حمض يحمض فهو حامض . والضمير في " مكث " يحتمل أن يكون لسليمان ; والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل . ويحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر . فجاء : فقال أحطت بما لم تحط به وهي :
أي علمت ما لم تعلمه من الأمر فكان في هذا رد على من قال : إن الأنبياء تعلم الغيب . وحكى الفراء " أحط " يدغم التاء في الطاء . وحكى ( أحت ) بقلب الطاء تاء وتدغم .
قوله تعالى : وجئتك من سبإ بنبإ يقين أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه ، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح . وقرأ الجمهور : ( سبإ ) بالصرف . وابن كثير وأبو عمرو : ( سبأ ) بفتح الهمزة وترك الصرف ; فالأول على أنه اسم رجل نسب إليه قوم ، وعليه قول الشاعر :
الواردون وتيم في ذرى سبإ قد عض أعناقهم جلد الجواميس وأنكر الزجاج أن يكون اسم رجل ، وقال ( سبإ ) اسم مدينة تعرف بمأرب باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام .
قلت : وقع في عيون المعاني للغزنوي ثلاثة أميال . قتادة والسدي بعث إليه اثنا عشر نبيا .
وأنشد للنابغة الجعدي :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما قال : فمن لم يصرف قال إنه اسم مدينة ، ومن صرف وهو الأكثر فلأنه اسم البلد فيكون مذكرا سمي به مذكر . وقيل : اسم امرأة سميت بها المدينة . والصحيح أنه اسم رجل ، كذلك في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم : وسيأتي إن شاء الله تعالى . قال ابن عطية : وخفي هذا الحديث على الزجاج فخبط عشواء . وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبإ فقال : ما أدري ما هو . قال النحاس : وتأول الفراء على أبي عمرو أنه منعه من الصرف لأنه مجهول ، وأنه إذا لم يعرف الشيء لم ينصرف . وقال النحاس : وأبو عمرو أجل من أن يقول مثل هذا ، وليس في حكاية الرؤاسي عنه دليل أنه إنما منعه من الصرف لأنه لم يعرفه ، وإنما قال لا أعرفه ، ولو سئل نحوي عن اسم فقال لا أعرفه لم يكن في هذا دليل على أنه يمنعه من الصرف ، بل الحق على غير هذا ; والواجب إذا لم يعرفه أن يصرفه ; لأن أصل الأسماء الصرف ; وإنما يمنع الشيء من الصرف لعلة داخلة عليه ; فالأصل ثابت بيقين فلا يزول بما لا يعرف . وذكر كلاما كثيرا عن النحاة وقال في آخره : والقول في ( سبإ ) ما جاء التوقيف فيه أنه في الأصل اسم رجل ، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي ، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود إلا أن الاختيار عند سيبويه الصرف وحجته في ذلك قاطعة ; لأن هذا الاسم لما كان يقع له التذكير والتأنيث كان التذكير أولى ; لأنه الأصل والأخف .
وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم : عندي ما ليس عندك ، إذا تحقق ذلك وتيقنه . هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان . وكان علم التيمم عند عمار وغيره ، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا : لا يتيمم الجنب . وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت . وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة . ومثله كثير فلا يطول به .
فَمَكَثَ غَيۡرَ بَعِيدٖ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ وَجِئۡتُكَ مِن سَبَإِۢ بِنَبَإٖ يَقِينٍ ٢٢
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثم جاء وهذا يدل على هيبة جنوده منه وشدة ائتمارهم لأمره، حتى إن هذا الهدهد الذي خلفه العذر الواضح لم يقدر على التخلف زمنا كثيرا، فَقَالَ لسليمان: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ أي: عندي العلم علم ما أحطت به على علمك الواسع وعلى درجتك فيه، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ القبيلة المعروفة في اليمن بِنَبَإٍ يَقِينٍ أي: خبر متيقن.
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ ٣٢
ثم قال : ( إني وجدت امرأة تملكهم ) ، قال الحسن البصري : وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ .
وقال قتادة : كانت أمها جنية ، وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة ، من بيت مملكة .
وقال زهير بن محمد : وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان ، وأمها فارعة الجنية .
وقال ابن جريج : بلقيس بنت ذي شرخ ، وأمها يلتقة .
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان - يعني ابن عيينة - عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان مع صاحبة سليمان ألف قيل ، تحت كل قيل مائة ألف [ مقاتل ] .
وقال الأعمش ، عن مجاهد : كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل ، تحت كل قيل : مائة ألف مقاتل .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( إني وجدت امرأة تملكهم ) : كانت من بيت مملكة ، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل . وكانت بأرض يقال لها مأرب ، على ثلاثة أميال من صنعاء .
وهذا القول هو أقرب ، على أنه كثير على مملكة اليمن ، والله أعلم .
وقوله : ( وأوتيت من كل شيء ) أي : من متاع الدنيا ما يحتاج إليه الملك المتمكن ، ( ولها عرش عظيم ) يعني : سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب ، وأنواع الجواهر واللآلئ .
قال زهير بن محمد : كان من ذهب صفحتاه ، مرمول بالياقوت والزبرجد . [ طوله ثمانون ذراعا ، وعرضه أربعون ذراعا .
وقال محمد بن إسحاق : كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد ] واللؤلؤ ، وكان إنما يخدمها النساء ، لها ستمائة امرأة تلي الخدمة .
قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم ، كان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من شرقه ومثلها من غربه ، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة ، وتغرب من مقابلتها ، فيسجدون لها صباحا ومساء ;
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ ٣٢
قوله تعالى : إني وجدت امرأة تملكهم لما قال الهدهد : وجئتك من سبإ بنبإ يقين قال سليمان : وما ذلك الخبر ؟ قال : إني وجدت امرأة تملكهم يعني بلقيس بنت شراحيل تملك أهل سبإ . ويقال : كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة ، وهي من مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب ؟ والجواب أن الله تعالى أخفى ذلك عنه لمصلحة ، كما أخفى على يعقوب مكان يوسف . ويروى أن أحد أبويها كان من الجن . قال ابن العربي : وهذا أمر تنكره الملحدة ، ويقولون : الجن لا يأكلون ولا يلدون ; كذبوا لعنهم الله أجمعين ; ذلك صحيح ونكاحهم جائز عقلا فإن صح نقلا فبها ونعمت .
قلت : خرج أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال : قدم وفد من الجن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو جمجمة فإن الله جاعل لنا فيها رزقا . وفي صحيح مسلم : فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن وفي البخاري من حديث أبي هريرة قال فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ فقال : هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى ألا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما وهذا كله نص في أنهم يطعمون . وأما نكاحهم فقد تقدمت الإشارة إليه في ( سبحان ) عند قوله : وشاركهم في الأموال والأولاد . وروى وهيب بن جرير بن حازم عن الخليل بن أحمد عن عثمان بن حاضر قال : كانت أم بلقيس من الجن يقال لها بلعمة بنت شيصان . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى .
روى البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا نص في أن المرأة لا تكون خليفة ولا خلاف فيه ; ونقل عن محمد بن جرير الطبري أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح ذلك عنه ، ولعله نقل عنه كما نقل عن أبي حنيفة أنها إنما تقضي فيما تشهد فيه وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق ; ولا بأن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما سبيل ذلك التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة ، وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير . وقد روي عن عمر أنه قدم امرأة على حسبة السوق . ولم يصح فلا تلتفتوا إليه ، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث . وقد تناظر في هذه المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب المالكي الأشعري مع أبي الفرج بن طرار شيخ الشافعية ، فقال أبو الفرج : الدليل على أن المرأة يجوز أن تحكم أن الغرض من الأحكام تنفيذ القاضي لها ، وسماع البينة عليها ، والفصل بين الخصوم فيها ، وذلك ممكن من المرأة كإمكانه من الرجل . فاعترض عليه القاضي أبو بكر ونقض كلامه بالإمامة الكبرى ; فإن الغرض منه حفظ الثغور ، وتدبير الأمور وحماية البيضة ، وقبض الخراج ورده على مستحقه ، وذلك لا يتأتى من المرأة كتأتيه من الرجل . قال ابن العربي : وليس كلام الشيخين في هذه المسألة بشيء ; فإن المرأة لا يتأتى منها أن تبرز إلى المجلس ، ولا تخالط الرجال ، ولا تفاوضهم مفاوضة النظير للنظير ; لأنها إن كانت فتاة حرم النظر إليها وكلامها ، وإن كانت برزة لم يجمعها والرجال مجلس واحد تزدحم فيه معهم ، وتكون مناظرة لهم ; ولن يفلح قط من تصور هذا ولا من اعتقده .
قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء مبالغة ; أي مما تحتاجه المملكة . وقيل : المعنى : أوتيت من كل شيء في زمانها شيئا . فحذف المفعول ; لأن الكلام دل عليه . ولها عرش عظيم أي سرير ; ووصفه بالعظم في الهيئة ورتبة السلطان . قيل : كان من ذهب تجلس عليه . وقيل : العرش هنا الملك ; والأول أصح ; لقوله تعالى : أيكم يأتيني بعرشها . الزمخشري : فإن قلت كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظيم ؟ قلت : بين الوصفين بون عظيم ; لأن وصف عرشها بالعظيم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظيم تعظيم له بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض . قال ابن عباس : كان طول عرشها ثمانين ذراعا ، وعرضه أربعين ذراعا ، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا ، مكلل بالدر والياقوت الأحمر ، والزبرجد الأخضر . قتادة : وقوائمه لؤلؤ وجوهر ، وكان مسترا بالديباج والحرير ، عليه سبعة مغاليق . مقاتل : كان ثمانين ذراعا في ثمانين ذراعا ، وارتفاعه من الأرض ثمانون ذراعا ، وهو مكلل بالجواهر . ابن إسحاق : وكان يخدمها النساء ، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة . قال ابن عطية : واللازم من الآية أنها امرأة ملكت على مدائن اليمن ، ذات ملك عظيم ، وسرير عظيم ، وكانت كافرة من قوم كفار .
إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ ٣٢
ثم فسر هذا النبأ فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي: تملك قبيلة سبأ وهي امرأة وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يؤتاه الملوك من الأموال والسلاح والجنود والحصون والقلاع ونحو ذلك. وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ أي: كرسي ملكها الذي تجلس عليه عرش هائل، وعظم العروش تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى.
وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ ٤٢
ولهذا قال : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ) أي : عن طريق الحق ، ( فهم لا يهتدون ) .
وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ ٤٢
قوله تعالى : وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله قيل : كانت هذه الأمة ممن يعبد الشمس ; لأنهم كانوا زنادقة فيما يروى . وقيل : كانوا مجوسا يعبدون الأنوار . وروي عن نافع أن الوقف على " عرش " . قال المهدوي : ف " عظيم " على هذا متعلق بما بعده ، وكان ينبغي على هذا أن يكون " عظيم أن وجدتها " أي وجودي إياها كافرة . وقال ابن الأنباري : ولها عرش عظيم وقف حسن ، ولا يجوز أن يقف على " عرش " ويبتدئ ( عظيم وجدتها ) إلا على من فتح ; لأن " عظيما " نعت ل " عرش " فلو كان متعلقا ب " وجدتها " لقلت : عظيمة وجدتها ; وهذا محال من كل وجه . وقد حدثني أبو بكر محمد بن الحسين بن شهريار ، قال : حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الأسود العجلي ، عن بعض أهل العلم أنه قال : الوقف على " عرش " والابتداء " عظيم " على معنى : عظيم عبادتهم الشمس والقمر . قال : وقد سمعت من يؤيد هذا المذهب ، ويحتج بأن عرشها أحقر وأدق شأنا من أن يصفه الله بالعظيم . قال ابن الأنباري : والاختيار عندي ما ذكرته أولا ; لأنه ليس على إضمار عبادة الشمس والقمر دليل . وغير منكر أن يصف الهدهد عرشها بالعظيم إذا رآه متناهي الطول والعرض ; وجريه على إعراب " عرش " دليل على أنه نعته . وزين لهم الشيطان أعمالهم أي ما هم فيه من الكفر فصدهم عن السبيل أي عن طريق التوحيد . وبين بهذا أن ما ليس بسبيل التوحيد فليس بسبيل ينتفع به على التحقيق . فهم لا يهتدون إلى الله وتوحيده .
وَجَدتُّهَا وَقَوۡمَهَا يَسۡجُدُونَ لِلشَّمۡسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمۡ لَا يَهۡتَدُونَ ٤٢
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: هم مشركون يعبدون الشمس. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فرأوا ما عليه هو الحق، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ لأن الذي يرى أن الذي عليه حق لا مطمع في هدايته حتى تتغير عقيدته.
أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ ٥٢
وقوله : ( ألا يسجدوا لله ) [ معناه : ( وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله ) ] أي : لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من شيء من الكواكب وغيرها ، كما قال تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) [ فصلت : 37 ] .
وقرأ بعض القراء : " ألا يا اسجدوا لله " جعلها " ألا " الاستفتاحية ، و " يا " للنداء ، وحذف المنادى ، تقديره عنده : " ألا يا قوم ، اسجدوا لله " .
وقوله : ( الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ) : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعلم كل خبيئة في السماء والأرض . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغير واحد .
وقال سعيد بن المسيب : الخبء : الماء . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : خبء السموات والأرض : ما جعل فيها من الأرزاق : المطر من السماء ، والنبات من الأرض .
وهذا مناسب من كلام الهدهد ، الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره ، من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض ودواخلها .
وقوله : ( ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) أي : يعلم ما يخفيه العباد ، وما يعلنونه من الأقوال والأفعال . وهذا كقوله تعالى : ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) [ الرعد : 10 ] .
أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ ٥٢
قوله تعالى : ألا يسجدوا لله قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وحمزة : ألا يسجدوا لله بتشديد " ألا " قال ابن الأنباري : فهم لا يهتدون غير تام لمن شدد " ألا " لأن المعنى : وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا . قال النحاس : هي ( أن ) دخلت عليها ( لا ) و ( أن ) في موضع نصب ; قال الأخفش : ب " زين " أي وزين لهم لئلا يسجدوا لله . وقال الكسائي : ب " فصدهم " أي فصدهم ألا يسجدوا . وهو في الوجهين مفعول له . وقال اليزيدي وعلي بن سليمان : ( أن ) بدل من " أعمالهم " في موضع نصب . وقال أبو عمرو : و ( أن ) في موضع خفض على البدل من السبيل وقيل : العامل فيها لا يهتدون أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله ; أي لا يعلمون أن ذلك واجب عليهم . وعلى هذا القول ( لا ) زائدة ; كقوله : ما منعك ألا تسجد أي ما منعك أن تسجد . وعلى هذه القراءة فليس بموضع سجدة ; لأن ذلك خبر عنهم بترك السجود ، إما بالتزيين أو بالصد أو بمنع الاهتداء . وقرأ الزهري والكسائي وغيرهما : ( ألا يسجدوا لله ) بمعنى ألا يا هؤلاء اسجدوا ; لأن ( يا ) ينادى بها الأسماء دون الأفعال . وأنشد سيبويه :
يا لعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان من جار
قال سيبويه : ( يا ) لغير اللعنة ، لأنه لو كان للعنة لنصبها ، لأنه كان يصير منادى مضافا ، ولكن تقديره يا هؤلاء لعنة الله والأقوام على سمعان . وحكى بعضهم سماعا عن العرب : ألا يا ارحموا ألا يا اصدقوا . يريدون ألا يا قوم ارحموا اصدقوا ، فعلى هذه القراءة ( اسجدوا ) في موضع جزم بالأمر والوقف على ( ألا يا ) ثم تبتدئ فتقول : ( اسجدوا ) . قال الكسائي : ما كنت أسمع الأشياخ يقرءونها إلا بالتخفيف على نية الأمر . وفي قراءة عبد الله : ( ألا هل تسجدون لله ) بالتاء والنون . وفي قراءة أبي ( ألا تسجدون لله ) فهاتان القراءتان حجة لمن خفف . الزجاج : وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون التشديد . واختار أبو حاتم وأبو عبيدة قراءة التشديد . وقال : التخفيف وجه حسن إلا أن فيه انقطاع الخبر من أمر سبأ ، ثم رجع بعد إلى ذكرهم ، والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه . ونحوه قال النحاس . قال : قراءة التخفيف بعيدة ; لأن الكلام يكون معترضا ، وقراءة التشديد يكون الكلام بها متسقا ، وأيضا فإن السواد على غير هذه القراءة ، لأنه قد حذف منه ألفان ، وإنما يختصر مثل هذا بحذف ألف واحدة نحو يا عيسى ابن مريم . ابن الأنباري : وسقطت ألف ( اسجدوا ) كما تسقط مع هؤلاء إذا ظهر ، ولما سقطت ألف ( يا ) واتصلت بها ألف ( اسجدوا ) سقطت ، فعد سقوطها دلالة على الاختصار وإيثارا لما يخف وتقل ألفاظه . وقال الجوهري في آخر كتابه : قال بعضهم : إن ( يا ) في هذا الموضع إنما هو للتنبيه كأنه قال : ألا اسجدوا لله ، فلما أدخل عليه ( يا ) للتنبيه سقطت الألف التي في ( اسجدوا ) لأنها ألف وصل ، وذهبت الألف التي في ( يا ) لاجتماع الساكنين ; لأنها والسين ساكنتان . قال ذو الرمة :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقال الجرجاني : هو كلام معترض من الهدهد أو سليمان أو من الله . أي ألا ليسجدوا ; كقوله تعالى : قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله قيل : إنه أمر أي ليغفروا . وتنتظم على هذا كتابة المصحف ; أي ليس هاهنا نداء . قال ابن عطية : قيل هو من كلام الهدهد إلى قوله ( العظيم ) وهو قول ابن زيد وابن إسحاق ; ويعترض بأنه غير مخاطب فكيف يتكلم في معنى شرع . ويحتمل أن يكون من قول سليمان لما أخبره الهدهد عن القوم . ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى فهو اعتراض بين الكلامين وهو الثابت مع التأمل ، وقراءة التشديد في ( ألا ) تعطي أن الكلام للهدهد ، وقراءة التخفيف تمنعه ، والتخفيف يقتضي الأمر بالسجود لله عز وجل للأمر ، على ما بيناه . وقال الزمخشري : فإن قلت أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا أم في إحداهما ؟ قلت هي واجبة فيهما جميعا ; لأن مواضع السجدة إما أمر بها ، أو مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك .
قلت : وقد أخبر الله عن الكفار بأنهم لا يسجدون كما في ( الانشقاق ) وسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، كما ثبت في البخاري وغيره فكذلك ( النمل ) . والله أعلم . الزمخشري : وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه . الذي يخرج الخبء خبء السماء قطرها ، وخبء الأرض كنوزها ونباتها . وقال قتادة : الخبء السر . النحاس : وهذا أولى . أي ما غاب في السماوات والأرض ، ويدل عليه ما يخفون وما يعلنون . وقرأ عكرمة ومالك بن دينار : ( الخب ) بفتح الباء من غير همز . قال المهدوي : وهو التخفيف القياسي ; وذكر من يترك الهمز في الوقف . وقال النحاس : وحكى أبو حاتم أن عكرمة قرأ : ( الذي يخرج الخبا ) بألف غير مهموزة ، وزعم أن هذا لا يجوز في العربية ، واعتل بأنه إن خفف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : ( الخب في السماوات والأرض ) وأنه إن حول الهمزة قال : ( الخبي ) بإسكان الباء وبعدها ياء . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلده لم يلق أعلم منه . وحكى سيبويه عن العرب أنها تبدل من الهمزة ألفا إذا كان قبلها ساكن وكانت مفتوحة ، وتبدل منها واوا إذا كان قبلها ساكن وكانت مضمومة ، وتبدل منها ياء إذا كان قبلها ساكن وكانت مكسورة ; فتقول : هذا الوثو وعجبت من الوثي ورأيت الوثا ; وهذا من وثئت يده ; وكذلك هذا الخبو وعجبت من الخبي ، ورأيت الخبا ; وإنما فعل هذا لأن الهمزة خفيفة فأبدل منها هذه الحروف .
وحكى سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد أنهم يقولون : هذا الخبؤ ; يضمون الساكن إذا كانت الهمزة مضمومة ، ويثبتون الهمزة ويكسرون الساكن إذا كانت الهمزة مكسورة ، ويفتحون الساكن إذا كانت الهمزة مفتوحة . وحكى سيبويه أيضا أنهم يكسرون وإن كانت الهمزة مضمومة ، إلا أن هذا عن بني تميم ; فيقولون : الرديء ; وزعم أنهم لم يضموا الدال لأنهم كرهوا ضمة قبلها كسرة ; لأنه ليس في الكلام ( فعل ) . وهذه كلها لغات داخلة على اللغة التي قرأ بها الجماعة ; وفي قراءة عبد الله ( الذي يخرج الخبا من السماوات ) و ( من ) و ( في ) يتعاقبان ; تقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم يريد : منكم ; قاله الفراء . ويعلم ما يخفون وما يعلنون قراءة العامة فيهما بياء الغائب ، وهذه القراءة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وأن الله تعالى خصه من المعرفة بتوحيده ووجوب السجود له ، وإنكار سجودهم للشمس ، وإضافته للشيطان ، وتزيينه لهم ، ما خص به غيره من الطيور وسائر الحيوان ; من المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقول الراجحة تهتدي لها . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي : ( تخفون ) و ( تعلنون ) بالتاء على الخطاب ; وهذه القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ ٥٢
ثم قال: أَلا أي: هلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: يعلم الخفي الخبيء في أقطار السماوات وأنحاء الأرض، من صغار المخلوقات وبذور النباتات وخفايا الصدور، ويخرج خبء الأرض والسماء بإنزال المطر وإنبات النباتات، ويخرج خبء الأرض عند النفخ في الصور وإخراج الأموات من الأرض ليجازيهم بأعمالهم وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ .
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ۩ ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ۩ ٦٢
وقوله : ( الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) أي : هو المدعو الله ، وهو الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، الذي ليس في المخلوقات أعظم منه .
ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير ، وعبادة الله وحده والسجود له ، نهي عن قتله ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد . وإسناده صحيح .
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ۩ ٦٢
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قرأ ابن محيصن ( العظيم ) : رفعا نعتا لله . الباقون بالخفض نعتا للعرش . وخص بالذكر لأنه أعظم المخلوقات وما عداه في ضمنه وقبضته .
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ ۩ ٦٢
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ أي: لا تنبغي العبادة والإنابة والذل والحب إلا له لأنه المألوه لما له من الصفات الكاملة والنعم الموجبة لذلك. رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي هو سقف المخلوقات ووسع الأرض والسماوات، فهذا الملك عظيم السلطان كبير الشأن هو الذي يذل له ويخضع ويسجد له ويركع، فسلم الهدهد حين ألقى إليه هذا النبأ العظيم وتعجب سليمان كيف خفي عليه.
۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٧٢
يخبر تعالى عن قيل سليمان ، عليه السلام ، للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم : ( قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) أي : أصدقت في إخبارك هذا ، ( أم كنت من الكاذبين ) في مقالتك ، فتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك ؟ .
۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٧٢
قوله تعالى : سننظر من النظر الذي هو التأمل والتصفح . أصدقت أم كنت من الكاذبين في مقالتك . و ( كنت ) بمعنى أنت . وقال : سننظر أصدقت ولم يقل سننظر في أمرك ; لأن الهدهد لما صرح بفخر العلم في قوله : أحطت بما لم تحط به صرح له سليمان بقوله : سننظر أصدقت أم كذبت ، فكان ذلك كفاء لما قاله .
قوله تعالى : أصدقت أم كنت من الكاذبين دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته ، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ; لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه . وإنما صار صدق الهدهد عذرا لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد ، وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد . وفي الصحيح : ليس أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل . وقد قبل عمر عذر النعمان بن عدي ولم يعاقبه . ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة . كما فعل سليمان ; فإنه لما قال الهدهد : إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم لم يستفزه الطمع ، ولا استجره حب الزيادة في الملك إلى أن يعرض له حتى قال : وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله فغاظه حينئذ ما سمع ، وطلب الانتهاء إلى ما أخبر ، وتحصيل علم ما غاب عنه من ذلك ، فقال : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ونحو منه ما رواه الصحيح عن المسور بن مخرمة ، حين استشار عمر الناس في إملاص المرأة وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها ; فقال المغيرة بن شعبة : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة . قال فقال عمر : ايتني بمن يشهد معك ; قال : فشهد له محمد بن مسلمة وفي رواية فقال : لا تبرح حتى تأتي بالمخرج من ذلك ; فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد . ونحوه حديث أبي موسى في الاستئذان وغيره .
۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٧٢
وقال مثبتا لكمال عقله ورزانته سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ ٨٢
( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ) : وذلك أن سليمان ، عليه السلام ، كتب كتابا إلى بلقيس وقومها . وأعطاه لذلك الهدهد فحمله ، قيل : في جناحه كما هي عادة الطير ، وقيل : بمنقاره . وذهب إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس ، إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها ، فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها ، ثم تولى ناحية أدبا ورياسة ، فتحيرت مما رأت ، وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ، ففتحت ختمه وقرأته ، فإذا فيه : ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين )
ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ ٨٢
قوله تعالى : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم . قال الزجاج : فيها خمسة أوجه ( فألقه إليهم ) بإثبات الياء في اللفظ . وبحذف الياء وإثبات الكسرة دالة عليها ( فألقه إليهم ) . وبضم الهاء وإثبات الواو على الأصل ( فألقه وإليهم ) . وبحذف الواو وإثبات الضمة ( فألقه إليهم ) . واللغة الخامسة قرأ بها حمزة بإسكان الهاء فألقه إليهم . قال النحاس : وهذا عند النحويين لا يجوز إلا على حيلة بعيدة تكون : يقدر الوقف ; وسمعت علي بن سليمان يقول : لا تلتفت إلى هذه العلة ، ولو جاز أن يصل وهو ينوي الوقف لجاز أن يحذف الإعراب من الأسماء . وقال : ( إليهم ) على لفظ الجمع ولم يقل ( إليها ) ; لأنه قال : وجدتها وقومها يسجدون للشمس فكأنه قال : فألقه إلى الذين هذا دينهم ; اهتماما منه بأمر الدين ، واشتغالا به عن غيره ، وبني الخطاب في ( الكتاب ) على لفظ الجمع لذلك . وروي في قصص هذه الآية أن الهدهد وصل فألفى دون هذه الملكة حجب جدران ; فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها لتدخل منها الشمس عند طلوعها لمعنى عبادتها إياها ، فدخل منها ورمى الكتاب على بلقيس وهي - فيما يروى - نائمة ; فلما انتبهت وجدته فراعها ، وظنت أنه قد دخل عليها أحد ، ثم قامت فوجدت حالها كما عهدت ، فنظرت إلى الكوة تهمما بأمر الشمس ، فرأت الهدهد فعلمت . وقال وهب وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة مطلع الشمس ، فإذا طلعت سجدت ، فسدها الهدهد بجناحه ، فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى الصحيفة إليها ، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت ، لأن ملك سليمان عليه السلام كان في خاتمه ; فقرأته فجمعت الملأ من قومها فخاطبتهم بما يأتي بعد . وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره ، وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر ، فرفرف ساعة والناس ينظرون إليه ، فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها .
في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ، ودعائهم إلى الإسلام . وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار ; كما تقدم في ( آل عمران ) .
قوله تعالى : ثم تول عنهم أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك . بمعنى : وكن قريبا حتى ترى مراجعتهم ; قاله وهب بن منبه . وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ; أي ألقه وارجع فانظر ماذا يرجعون في معنى التقديم على قوله : ثم تول واتساق رتبة الكلام أظهر ; أي ألقه ثم تول ، وفي خلال ذلك ( فانظر ) أي انتظر . وقيل : فاعلم ; كقوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي اعلم ماذا يرجعون - أي يجيبون - وماذا يردون من القول . وقيل : فانظر ماذا يرجعون يتراجعون بينهم من الكلام .
ٱذۡهَب بِّكِتَٰبِي هَٰذَا فَأَلۡقِهۡ إِلَيۡهِمۡ ثُمَّ تَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَٱنظُرۡ مَاذَا يَرۡجِعُونَ ٨٢
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا وسيأتي نصه فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي استأخر غير بعيد فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ إليك وما يتراجعون به
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٞ كَرِيمٌ ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٞ كَرِيمٌ ٩٢
فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ، ثم قالت لهم : ( يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ) تعني بكرمه : ما رأته من عجيب أمره ، كون طائر أتى به فألقاه إليها ، ثم تولى عنها أدبا . وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، ثم قرأته عليهم .
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٞ كَرِيمٌ ٩٢
قوله تعالى : قالت ياأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم
فيه خمس مسائل :
قالت يا أيها الملأ في الكلام حذف ; والمعنى : فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول : يا أيها الملأ ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام ; وهذا قول ابن زيد . وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم ، فكرامة الكتاب ختمه ; وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنه بدأ فيه ب بسم الله الرحمن الرحيم وقد قال صلى الله عليه وسلم : كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم . وقيل : لأنه بدأ فيه بنفسه ، ولا يفعل ذلك إلا الجلة . وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه . من عبد الله لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين ; إني أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت ، وإن بني قد أقروا لك بذلك . وقيل : توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا . وقيل : ( كريم ) : حسن ; كقوله : ومقام كريم أي مجلس حسن . وقيل : وصفته بذلك ; لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل ، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا ، ولا ما يغير النفس ، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق ; على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل ; ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وقوله لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى . وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها . وقد روي أنه لم يكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أحد قبل سليمان . وفي قراءة عبد الله ( وإنه من سليمان ) بزيادة واو .
الثانية : الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف ; ألا ترى قوله تعالى : إنه لقرآن كريم وأهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالأثير وبالمبرور ; فإن كان لملك قالوا : العزيز . وأسقطوا الكريم غفلة ، وهو أفضلها خصلة . فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهذه عزته وليست لأحد إلا له ، فاجتنبوها في كتبكم ، واجعلوا بدلها العالي ; توفية لحق الولاية ، وحياطة للديانة ; قاله القاضي أبو بكر بن العربي .
الثالثة : كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم : من فلان إلى فلان ، وبذلك جاءت الآثار . وروىالربيع عن أنس قال : ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أصحابه إذا كتبوا بدءوا بأنفسهم . وقال ابن سيرين قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه قال أبو الليث في كتاب ( البستان ) له : ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز ; لأن الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك ، أو نسخ ما كان من قبل ; فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه ، ثم بنفسه ; لأن البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ; إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده ، أو غلام من غلمانه .
الرابعة : وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب ; لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر . وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام . والله أعلم .
الخامسة : اتفقوا على كتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول الكتب والرسائل ، وعلى ختمها ; لأنه أبعد من الريبة ، وعلى هذا جرى الرسم ، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال : أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف . وفي الحديث : كرم الكتاب ختمه . وقال بعض الأدباء ; هو ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ; لأن الختم ختم . وقال أنس : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم فقيل له : إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم ; فاصطنع خاتما ونقش على فصه لا إله إلا الله محمد رسول الله . وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه .
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ إِنِّيٓ أُلۡقِيَ إِلَيَّ كِتَٰبٞ كَرِيمٌ ٩٢
فذهب به فألقاه عليها فقالت لقومها إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ أي جليل المقدار من أكبر ملوك الأرض
إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٠٣
( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) . فعرفوا أنه من نبي الله سليمان ، وأنه لا قبل لهم به ، وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة ، فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها ، قال العلماء : ولم يكتب أحد ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قبل سليمان ، عليه السلام .
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا في تفسيره ، حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الحناط ، حدثنا أبو يوسف ، عن سلمة بن صالح ، [ عن عبد الكريم ] أبي أمية ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود " قال : قلت : يا رسول الله ، أي آية ؟ قال : " سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد " . قال : فانتهى إلى الباب ، فأخرج إحدى قدميه ، فقلت : نسي ، ثم التفت إلي وقال ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) .
هذا حديث غريب ، وإسناده ضعيف .
وقال ميمون بن مهران : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتب : باسمك اللهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فكتب : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٠٣
السادسة : قوله تعالى : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( وإنه ) بالكسر فيهما أي وإن الكلام ، أو إن مبتدأ الكلام بسم الله الرحمن الرحيم . وأجاز الفراء ( أنه من سليمان وأنه ) بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من ( الكتاب ) ; بمعنى ألقي إلي أنه من سليمان . وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض ; أي لأنه من سليمان ولأنه ; كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله . وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع : ( ألا تغلوا ) بالغين المعجمة ، وروي عن وهب بن منبه ; من غلا يغلو : إذا تجاوز وتكبر . وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة .
إِنَّهُۥ مِن سُلَيۡمَٰنَ وَإِنَّهُۥ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٠٣
ثم بينت مضمونه فقالت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ١٣
وقوله : ( ألا تعلوا علي ) : يقول قتادة : لا تجيروا علي ( وأتوني مسلمين ) .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي .
( وأتوني مسلمين ) : قال ابن عباس : موحدين . وقال غيره : مخلصين . وقال سفيان بن عيينة : طائعين .
أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ١٣
وأتوني مسلمين " أي منقادين طائعين مؤمنين .
أَلَّا تَعۡلُواْ عَلَيَّ وَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ١٣
أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي: لا تكونوا فوقي بل اخضعوا تحت سلطاني، وانقادوا لأوامري وأقبلوا إلي مسلمين.
وهذا في غاية الوجازة مع البيان التام فإنه تضمن نهيهم عن العلو عليه، والبقاء على حالهم التي هم عليها والانقياد لأمره والدخول تحت طاعته، ومجيئهم إليه ودعوتهم إلى الإسلام، وفيه استحباب ابتداء الكتب بالبسملة كاملة وتقديم الاسم في أول عنوان الكتاب.
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ ٢٣
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها ، وما قد نزل بها ; ولهذا قالت : ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ) أي : حتى تحضرون وتشيرون .
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ ٢٣
قوله تعالى : قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري الملأ أشراف القوم وقد مضى في سورة ( البقرة ) القول فيه . قال ابن عباس : كان معها ألف قيل . وقيل : اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف . والقيل الملك دون الملك الأعظم . فأخذت في حسن الأدب مع قومها ، ومشاورتهم في أمرها ، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض ، ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون فكيف في هذه النازلة الكبرى . فراجعها الملأ بما يقر عينها ، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس ، ثم سلموا الأمر إلى نظرها ; وهذه محاورة حسنة من الجميع . قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها ، كل رجل منهم على عشرة آلاف .
الثانية : في هذه الآية دليل على صحة المشاورة . وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وشاورهم في الأمر في ( آل عمران ) إما استعانة بالآراء ، وإما مداراة للأولياء . وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله : وأمرهم شورى بينهم . والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب ; فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس : قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم ، وحزمهم فيما يقيم أمرهم ، وإمضائهم على الطاعة لها ، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها ، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم ، وإن لم تختبر ما عندهم ، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم ، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها ، ودخيلة في تقدير أمرهم ، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ; ألا ترى إلى قولهم في جوابهم : نحن أولو قوة وأولو بأس شديد قال ابن عباس : كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته .
قَالَتۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَفۡتُونِي فِيٓ أَمۡرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمۡرًا حَتَّىٰ تَشۡهَدُونِ ٢٣
فمن حزمها وعقلها أن جمعت كبار دولتها ورجال مملكتها وقالت: يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي .
أي: أخبروني ماذا نجيبه به؟ وهل ندخل تحت طاعته وننقاد؟ أم ماذا نفعل؟ مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ أي: ما كنت مستبدة بأمر دون رأيكم ومشورتكم.
قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ ٣٣
( قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ) أي : منوا إليها بعددهم وعددهم وقوتهم ، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا : ( والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) أي : نحن ليس لنا عاقة [ ولا بنا بأس ، إن شئت أن تقصديه وتحاربيه ، فما لنا عاقة ] عنه . وبعد هذا فالأمر إليك ، مري فينا برأيك نمتثله ونطيعه .
قال الحسن البصري ، رحمه الله : فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها ، فلما قالوا لها ما قالوا ، كانت هي أحزم رأيا منهم ، وأعلم بأمر سليمان ، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه ، وما سخر له من الجن والإنس والطير ، وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمرا عجيبا بديعا ، فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه ، فيقصدنا بجنوده ، ويهلكنا بمن معه ، ويخلص إلي وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا ; ولهذا قالت :
قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ ٣٣
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ
وأولو بأس شديد " قال ابن عباس : كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته .وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
فانظري ماذا تأمرين " سلموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة ; فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها .
وفي هذا الكلام خوف على قومها , وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام .
" وكذلك يفعلون " قيل : هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته .
وقال ابن عباس : هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به .
وقال وهب : لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله , فقالت : ما هذا ؟ ! فقال بعض القوم : ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده ; فسكتوه .
وقال الآخر : أراهم ثلاثة من العفاريت ; فسكتوه ; فقال شاب قد علم : يا سيدة الملوك ! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه , والله اسم مليك السماء , والرحمن الرحيم نعوته ; فعندها قالت : " أفتوني في أمري " فقالوا : " نحن أولو قوة " في القتال " وأولو بأس شديد " قوة في الحرب واللقاء " والأمر إليك " ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة " فانظري ماذا تأمرين "
قَالُواْ نَحۡنُ أُوْلُواْ قُوَّةٖ وَأُوْلُواْ بَأۡسٖ شَدِيدٖ وَٱلۡأَمۡرُ إِلَيۡكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأۡمُرِينَ ٣٣
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: إن رددت عليه قوله ولم تدخلي في طاعته فإنا أقوياء على القتال، فكأنهم مالوا إلى هذا الرأي الذي لو تم لكان فيه دمارهم، ولكنهم أيضا لم يستقروا عليه بل قالوا: وَالأَمْرُ إِلَيْكِ أي: الرأي ما رأيت لعلمهم بعقلها وحزمها ونصحها لهم فَانْظُرِي نظر فكر وتدبر مَاذَا تَأْمُرِينَ .
قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ ٤٣
( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ) .
قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلدا عنوة أفسدوه ، أي : خربوه ، ( وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) أي : وقصدوا من فيها من الولاة والجنود ، فأهانوهم غاية الهوان ، إما بالقتل أو بالأسر .
قال ابن عباس : قالت بلقيس : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ) ، قال الرب ، عز وجل ( وكذلك يفعلون )
قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ ٤٣
قوله تعالى : والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين سلموا الأمر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة ; فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها . وفي هذا الكلام خوف على قومها ، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام . وكذلك يفعلون قيل : هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته . وقال ابن عباس : هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بذلك ومخبرا به . وقال وهب : لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله ، فقالت : ما هذا ؟ ! فقال بعض القوم : ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده ; فسكتوه . وقال الآخر : أراهم ثلاثة من العفاريت ; فسكتوه ; فقال شاب قد علم : يا سيدة الملوك ! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه ، و ( الله ) اسم مليك السماء ، و ( الرحمن الرحيم ) نعوته ; فعندها قالت : أفتوني في أمري فقالوا : نحن أولو قوة في القتال وأولو بأس شديد قوة في الحرب واللقاء والأمر إليك ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة فانظري ماذا تأمرين ف قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور ، فصدق الله قولها . وكذلك يفعلون قال ابن الأنباري : وجعلوا أعزة أهلها أذلة هذا وقف تام ; فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها : وكذلك يفعلون وشبيه به في سورة ( الأعراف ) قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم تم الكلام ، فقال فرعون : فماذا تأمرون . وقال ابن شجرة . هو قول بلقيس ، فالوقف وكذلك يفعلون أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا .
قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ ٤٣
فقالت لهم -مقنعة لهم عن رأيهم ومبينة سوء مغبة القتال- إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا قتلا وأسرا ونهبا لأموالها، وتخريبا لديارها، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً أي: جعلوا الرؤساء السادة أشراف الناس من الأذلين، أي: فهذا رأي غير سديد، وأيضا فلست بمطيعة له قبل الاختبار وإرسال من يكشف عن أحواله ويتدبرها، وحينئذ نكون على بصيرة من أمرنا.
وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٣
ثم عدلت إلى المهادنة والمصالحة والمسالمة والمخادعة والمصانعة ، فقالت : ( وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ) أي : سأبعث إليه بهدية تليق به وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك ويكف عنا ، أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه في كل عام ، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا . قال قتادة : رحمها الله ورضي عنها ، ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها!! علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس .
وقال ابن عباس وغير واحد : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه .
وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٣
قوله تعالى : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وإني مرسلة إليهم بهدية هذا من حسن نظرها وتدبيرها ; أي إني أجرب هذا الرجل بهدية ، وأعطيه فيها نفائس من الأموال ، وأغرب عليه بأمور المملكة : فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك ، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين ، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه ، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها ، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أرسلت إليه بلبنة من ذهب ، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به . وقال مجاهد : أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية . وروي عن ابن عباس : باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان ، واثني عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء ، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر ، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب ، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة ، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا ، وبقدح لا شيء فيه ، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير ، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها . وقيل : كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم . وقيل : أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو ، وضمت إليه رجالا ذوي رأي وعقل ، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقد خولف بينهم في اللباس ، وقالت للغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء ، وقالت للجواري : كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال ; فيقال : إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله .
وقيل : إن الله أخبر سليمان بذلك ، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة ، ثم قال : أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها ، لها أجنحة وأعراف ونواصي ; فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره ، وعلى لبنات الذهب والفضة ، وألقوا لها علوفاتها ; ثم قال : للجن علي بأولادكم ; فأقامهم - أحسن ما يكون من الشباب - عن يمين الميدان ويساره . ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه ، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء ، وأمر الشياطين والجن والإنس أن يصطفوا صفوفا فراسخ ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله ، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة ، تقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا ما معهم من الهدايا . وفي بعض الروايات : إن سليمان لما أمرهم بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش ، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان ، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا ، فقالت لهم الشياطين : جوزوا لا بأس عليكم ; فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق ، وكانت قالت لرسولها : إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهم قوله ورد الجواب ، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم . وكانت عمدت إلى حقة من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة ، وخرزة معوجة الثقب ، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه : إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما في الحقة ، وعرفني رأس العصا من أسفلها ، واثقب الدرة ثقبا مستويا ، وأدخل خيط الخرزة ، واملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء ; فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه ، وقال : أين الحقة ؟ فأتى بها فحركها ; فأخبره جبريل بما فيها ، ثم أخبرهم سليمان . فقال له الرسول : صدقت ; فاثقب الدرة ، وأدخل الخيط في الخرزة ; فسأل سليمان الجن والإنس عن ثقبها فعجزوا ; فقال للشياطين : ما الرأي فيها ؟ فقالوا : ترسل إلى الأرضة ، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ; فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ قالت : تصير رزقي في الشجرة ; فقال لها : لك ذلك . ثم قال سليمان : من لهذه الخرزة يسلكها الخيط ؟ فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا نبي الله ; فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ; فقال لها سليمان : ما حاجتك ؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه ; قال : ذلك لك . ثم ميز بين الغلمان والجواري . قال السدي : أمرهم بالوضوء ، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا ، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى ، ومن اليمنى على اليسرى ، فميز بينهم بهذا . وقيل : كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ، ثم تحمله على الأخرى ، ثم تضرب به على الوجه ; والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه ، والجارية تصب على بطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، والجارية تصب الماء صبا ، والغلام يحدر على يديه ; فميز بينهم بهذا . وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال : أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف ، وقالت : إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث ، فأمرهم فتوضئوا ; فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث ، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور ; ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال : أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها ، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها ، ثم رد سليمان الهدية ; فروي أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد ; قالت لقومها : هذا أمر من السماء .
الثانية : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ولا يقبل الصدقة ، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين . وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها ; على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا ; لأنه قال لها في كتابه : ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين وهذا لا تقبل فيه فدية ، ولا يؤخذ عنه هدية ، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل ، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل ، وهي الرشوة التي لا تحل . وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال ، وهذا ما لم يكن من مشرك .
الثالثة : فإن كانت من مشرك ففي الحديث نهيت عن زبد المشركين يعني رفدهم وعطاياهم . وروي عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلي وغيره ، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما ، وقال آخرون : ليس فيها ناسخ ولا منسوخ ، والمعنى فيها : أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه وأخذ بلده ودخوله في الإسلام ، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام ، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه ; وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا ; فإنه جمع بين الأحاديث . وقيل غير هذا .
الرابعة : الهدية مندوب إليها ، وهي مما تورث المودة وتذهب العداوة ; روى مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء . وروى معاوية بن الحكم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر . وقال الدارقطني : تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك ، ولم يكن بالرضي ، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري . وعن ابن شهاب قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة قال ابن وهب : سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال : الغل . وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف . وعلى الجملة : فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ، وفيه الأسوة الحسنة . ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس ، وتكسب المهدي والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس . ولقد أحسن من قال :
هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصالا وتزرع في الضمير هوى وودا
وتكسبهم إذا حضروا جمالا
آخر :
إن الهدايا لها حظ إذا وردت أحظى من الابن عند الوالد الحدب
الخامسة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : جلساؤكم شركاؤكم في الهدية واختلف في معناه ; فقيل : هو محمول على ظاهره . وقيل : يشاركهم على وجه الكرم والمروءة ، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه . وقال أبو يوسف : ذلك في الفواكه ونحوها . وقال بعضهم : هم شركاؤه في السرور لا في الهدية . والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات ; أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه ، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه .
السادسة : قوله تعالى : فناظرة أي منتظرة بم يرجع المرسلون قال قتادة : يرحمها الله إن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها ; قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس . وسقطت الألف في ( بم ) للفرق بين ( ما ) الخبرية . وقد يجوز إثباتها ; قال [ حسان بن المنذر ] :
على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
وَإِنِّي مُرۡسِلَةٌ إِلَيۡهِم بِهَدِيَّةٖ فَنَاظِرَةُۢ بِمَ يَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ٥٣
فقالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ منه. هل يستمر على رأيه وقوله؟ أم تخدعه الهدية وتتبدل فكرته وكيف أحواله وجنوده؟ فأرسلت له هدية مع رسل من عقلاء قومها وذوي الرأي: منهم
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ ٦٣
ذكر غير واحد من المفسرين ، من السلف وغيرهم : أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك . وقال بعضهم : أرسلت بلبنة من ذهب . والصحيح أنها أرسلت [ إليه ] بآنية من ذهب .
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما : وأرسلت جواري في زي الغلمان ، وغلمانا في زي الجواري ، وقالت : إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي . قالوا : فأمرهم [ سليمان ] عليه السلام ، أن يتوضئوا ، فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء ، وجعل الغلام يغترف ، فميزهم بذلك .
وقيل : بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها ، والغلام بالعكس .
وقيل : بل جعلت الجواري يغتسلن من أكفهن إلى مرافقهن ، والغلمان من مرافقهم إلى أكفهم . ولا منافاة بين ذلك كله ، والله أعلم .
وذكر بعضهم : أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء ، لا من السماء ولا من الأرض ، فأجرى الخيل حتى عرقت ، ثم ملأه من ذلك ، وبخرزة وسلك ليجعله فيها ، ففعل ذلك . والله أعلم أكان ذلك أم لا ، وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات . والظاهر أن سليمان ، عليه السلام ، لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ، ولا اعتنى به ، بل أعرض عنه ، وقال منكرا عليهم : ( أتمدونن بمال ) أي : أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟ ! ( فما آتاني الله خير مما آتاكم ) أي : الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه ، ( بل أنتم بهديتكم تفرحون ) أي : أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف ، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف .
قال الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه : أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة ، فلما رأت رسلها ذلك قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا . وفي هذا دلالة على جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد .
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ ٦٣
قوله تعالى : فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال أي جاء الرسول سليمان بالهدية قال : أتمدونن بمال . قرأ حمزة ويعقوب والأعمش : بنون واحدة مشددة وياء ثابتة بعدها . الباقون بنونين وهو اختيار أبي عبيد ; لأنها في كل المصاحف بنونين . وقد روى إسحاق عن نافع أنه كان يقرأ : ( أتمدون ) بنون واحدة مخففة بعدها ياء في اللفظ . قال ابن الأنباري : فهذه القراءة يجب فيها إثبات الياء عند الوقف ، ليصح لها موافقة هجاء المصحف . والأصل في النون التشديد ، فخفف التشديد من ذا الموضع كما خفف من : أشهد أنك عالم ; وأصله : أنك عالم . وعلى هذا المعنى بنى الذي قرأ : ( تشاقون فيهم ) ( أتحاجوني في الله ) . وقد قالت العرب : الرجال يضربون ويقصدون ، وأصله يضربوني ويقصدوني : لأنه إدغام ( يضربونني ويقصدونني ) قال الشاعر :
ترهبين والجيد منك لليلى والحشا والبغام والعينان
والأصل ( ترهبيني ) فخفف . ومعنى ( أتمدونن ) أتزيدونني مالا إلى ما تشاهدونه من أموالي .
قوله تعالى : فما آتاني الله خير مما آتاكم أي فما أعطاني من الإسلام والملك والنبوة خير مما أعطاكم ، فلا أفرح بالمال . و ( آتان ) وقعت في كل المصاحف بغير ياء . وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص : ( آتاني الله ) بياء مفتوحة ; فإذا وقفوا حذفوا . وأما يعقوب فإنه يثبتها في الوقف ويحذف في الوصل لالتقاء الساكنين . الباقون بغير ياء في الحالين . بل أنتم بهديتكم تفرحون لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا .
فَلَمَّا جَآءَ سُلَيۡمَٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ ٦٣
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ أي: جاءه الرسل بالهدية قَالَ منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ فليست تقع عندي موقعا ولا أفرح بها قد أغناني الله عنها وأكثر علي النعم، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما أعطاني الله.
ٱرۡجِعۡ إِلَيۡهِمۡ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَآ أَذِلَّةٗ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱرۡجِعۡ إِلَيۡهِمۡ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَآ أَذِلَّةٗ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٧٣
( ارجع إليهم ) أي : بهديتهم ، ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ) أي : لا طاقة لهم بقتالهم ، ( ولنخرجنهم منها ) أي : من بلدهم ، ( أذلة وهم صاغرون ) أي : مهانون مدحورون .
فلما رجعت إليها رسلها بهديتها ، وبما قال سليمان ، سمعت وأطاعت هي وقومها ، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة ، معظمة لسليمان ، ناوية متابعته في الإسلام . ولما تحقق سليمان ، عليه السلام ، قدومهم عليه ووفودهم إليه ، فرح بذلك وسره .
ٱرۡجِعۡ إِلَيۡهِمۡ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَآ أَذِلَّةٗ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٧٣
قوله تعالى : ارجع إليهم أي قال سليمان للمنذر بن عمرو أمير الوفد ; ارجع إليهم بهديتهم . فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها لام قسم والنون لها لازمة . قال النحاس : وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول : هي لام توكيد وكذا كان عنده أن اللامات كلها ثلاث لا غير : لام توكيد ولام أمر ولام خفض ; وهذا قول الحذاق من النحويين ; لأنهم يردون الشيء إلى أصله ، وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية . ومعنى ( لا قبل لهم بها ) أي لا طاقة لهم عليها . ولنخرجنهم منها أي من أرضهم أذلة وهم صاغرون وقيل : ( منها ) أي من قرية سبأ . وقد سبق ذكر القرية في قوله : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها . ( أذلة ) قد سلبوا ملكهم وعزهم . ( وهم صاغرون ) أي مهانون أذلاء من الصغر وهو الذل إن لم يسلموا ; فرجع إليها رسولها فأخبرها ; فقالت : قد عرفت أنه ليس بملك ولا طاقة لنا بقتال نبي من أنبياء الله . ثم أمرت بعرشها فجعل في سبعة أبيات بعضها في جوف بعض ; في آخر قصر من سبعة قصور ; وغلقت الأبواب ، وجعلت الحرس عليه ، وتوجهت إليه في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، تحت كل قيل مائة ألف .
ٱرۡجِعۡ إِلَيۡهِمۡ فَلَنَأۡتِيَنَّهُم بِجُنُودٖ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخۡرِجَنَّهُم مِّنۡهَآ أَذِلَّةٗ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٧٣
ثم أوصى الرسول من غير كتاب لما رأى من عقله وأنه سينقل كلامه على وجهه فقال: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ أي: بهديتك فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ أي: لا طاقة لهم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ فرجع إليهم وأبلغهم ما قال سليمان وتجهزوا للمسير إلى سليمان، وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه.
قَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ٨٣
قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان قال : فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت : قد - والله - عرفت ، ما هذا بملك ، وما لنا به من طاقة ، وما نصنع بمكاثرته شيئا ، وبعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي ، لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك . ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه - وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ - فجعل في سبعة أبيات ، بعضها في بعض ، ثم أقفلت عليه الأبواب ، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك ، وسرير ملكي ، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ، ولا يرينه أحد حتى آتيك . ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة . فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة ، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ، ممن تحت يديه ، فقال : ( يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) .
وقال قتادة : لما بلغ سليمان أنها جائية ، وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه ، وكان من ذهب ، وقوائمه لؤلؤ وجوهر ، وكان مسترا بالديباج والحرير ، وكانت عليه تسعة مغاليق ، فكره أن يأخذه بعد إسلامهم . وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم مع دمائهم فقال : ( يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ) .
وهكذا قال عطاء الخراساني ، والسدي ، وزهير بن محمد : ( قبل أن يأتوني مسلمين ) فتحرم علي أموالهم بإسلامهم .
قَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ٨٣
قال ابن عباس : وكان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ; فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : بلقيس يا نبي الله . فقال سليمان لجنوده - وقال وهب وغيره : للجن - أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين وقال عبد الله بن شداد : كانت بلقيس على فرسخ من سليمان لما قال : أيكم يأتيني بعرشها وكانت خلفت عرشها بسبأ ، ووكلت به حفظة . وقيل : إنها لما بعثت بالهدية بعثت رسلها في جندها لتغافص سليمان عليه السلام بالقتل قبل أن يتأهب سليمان لها إن كان طالب ملك ، فلما علم ذلك قال : أيكم يأتيني بعرشها . قال ابن عباس : كان أمره بالإتيان بالعرش قبل أن يكتب الكتاب إليها ، ولم يكتب إليها حتى جاءه العرش . وقال ابن عطية : وظاهر الآيات أن هذه المقالة من سليمان عليه السلام بعد مجيء هديتها ورده إياها ، وبعثه الهدهد بالكتاب ; وعلى هذا جمهور المتأولين . واختلفوا في فائدة استدعاء عرشها ; فقال قتادة : ذكر له بعظم وجودة ; فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويحمي أموالهم ; والإسلام على هذا الدين ; وهو قول ابن جريج . وقال ابن زيد : استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله ، ويجعله دليلا على نبوته ; لأخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب ; و ( مسلمين ) على هذا التأويل بمعنى مستسلمين ; وهو قول ابن عباس . وقال ابن زيد أيضا : أراد أن يختبر عقلها ولهذا قال : نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي . وقيل : خافت الجن أن يتزوج بها سليمان عليه السلام فيولد له منها ولد ، فلا يزالون في السخرة والخدمة لنسل سليمان فقالت لسليمان في عقلها خلل ; فأراد أن يمتحنها بعرشها . وقيل : أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : ولها عرش عظيم . قاله الطبري . وعن قتادة : أحب أن يراه لما وصفه الهدهد . والقول الأول عليه أكثر العلماء ; لقوله تعالى : قبل أن يأتوني مسلمين . ولأنها لو أسلمت لحظر عليه مالها فلا يؤتى به إلا بإذنها . روي أنه كان من فضة وذهب مرصعا بالياقوت الأحمر والجوهر ، وأنه كان في جوف سبعة أبيات عليه سبعة أغلاق .
قَالَ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَؤُاْ أَيُّكُمۡ يَأۡتِينِي بِعَرۡشِهَا قَبۡلَ أَن يَأۡتُونِي مُسۡلِمِينَ ٨٣
فقال لمن حضره من الجن والإنس: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي: لأجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا فتكون أموالهم محترمة.
قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ ٩٣
( قال عفريت من الجن ) قال مجاهد : أي مارد من الجن .
قال شعيب الجبائي : وكان اسمه كوزن . وكذا قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان . وكذا قال أيضا وهب بن منبه .
قال أبو صالح : وكان كأنه جبل .
( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) قال ابن عباس : يعني : قبل أن تقوم من مجلسك . وقال مجاهد : مقعدك ، وقال السدي ، وغيره : كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام من أول النهار إلى أن تزول الشمس .
( وإني عليه لقوي أمين ) : قال ابن عباس : أي قوي على حمله ، أمين على ما فيه من الجوهر .
فقال سليمان ، عليه السلام : أريد أعجل من ذلك . ومن هاهنا يظهر أن النبي سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهبه الله له من الملك ، وسخر له من الجنود ، الذي لم يعطه أحد قبله ، ولا يكون لأحد من بعده . وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها ; لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه . هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة .
قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ ٩٣
قوله تعالى : قال عفريت من الجن كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي : ( عفرية ) ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه . وفي الحديث : إن الله يبغض العفرية النفرية . ( النفرية ) إتباع لعفرية . قال قتادة : هي الداهية قال النحاس : يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت وعفارية . وقيل : عفريت أي رئيس . وقرأت فرقة : ( قال عفر ) بكسر العين ; حكاه ابن عطية ; قال النحاس : من قال ( عفرية ) جمعه على عفار ، ومن قال : ( عفريت ) كان له في الجمع ثلاثة أوجه ; إن شاء قال عفاريت ، وإن شاء قال عفار ; لأن التاء زائدة ; كما يقال : ( طواغ ) في جمع طاغوت ، وإن شاء عوض من التاء ياء فقال عفاري . والعفريت من الشياطين القوي المارد . والتاء زائدة . وقد قالوا : تعفرت الرجل : إذا تخلق بخلق الأذية . وقال وهب بن منبه : اسم هذا العفريت كودن ; ذكره النحاس . وقيل : ذكوان ; ذكره السهيلي . وقال شعيب الجبائي : اسمه دعوان . وروي عن ابن عباس أنه صخر الجني . ومن هذا الاسم قول ذي الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفرية مصوب في سواد الليل منقضب
وأنشد الكسائي :
إذ قال شيطانهم العفريت ليس لكم ملك ولا تثبيت
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فذعته . . . وذكر الحديث . وفي البخاري تفلت علي البارحة مكان جعل يفتك . وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قال : أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار ، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه ; فقال جبريل : أفلا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى . فقال : أعوذ بالله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وشر ما يعرج فيها وشر ما ذرأ في الأرض ، وشر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن . قوله تعالى : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك يعني في مجلسه الذي يحكم فيه . وإني عليه لقوي أمين أي قوي على حمله . أمين على ما فيه . ابن عباس : أمين على فرج المرأة ; ذكره المهدوي . فقال سليمان أريد أسرع من ذلك ; ف قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك أكثر المفسرين على أن الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا وهو من بني إسرائيل ، وكان صديقا يحفظ اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب . وقالت عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف بن برخيا يا حي يا قيوم قيل : وهو بلسانهم ، أهيا شراهيا ; وقال الزهري : دعاء الذي عنده اسم الله الأعظم : يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ايتني بعرشها ; فمثل بين يديه . وقال مجاهد : دعا فقال : يا إلهنا وإله كل شيء يا ذا الجلال والإكرام . قال السهيلي : الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن برخيا ابن خالة سليمان ، وكان عنده اسم الله الأعظم من أسماء الله تعالى . وقيل : هو سليمان نفسه ; ولا يصح في سياق الكلام مثل هذا التأويل . قال ابن عطية وقالت فرقة هو سليمان عليه السلام ، والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك كأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على جهة تحقيره : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك واستدل قائلو هذه المقالة بقول سليمان : هذا من فضل ربي .
قلت : ما ذكره ابن عطية قاله النحاس في معاني القرآن له ، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى . قال بحر : هو ملك بيده كتاب المقادير ، أرسله الله عند قول العفريت . قال السهيلي : وذكر محمد بن الحسن المقرئ أنه ضبة بن أد ; وهذا لا يصح البتة لأن ضبة هو ابن أد بن طابخة ، واسمه عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد : ومعد كان في مدة بختنصر ، وذلك بعد عهد سليمان بدهر طويل ; فإذا لم يكن معد في عهد سليمان ، فكيف ضبة بن أد وهو بعده بخمسة آباء ؟ ! وهذا بين لمن تأمله . ابن لهيعة : هو الخضر عليه السلام . وقال ابن زيد : ( الذي عنده علم من الكتاب ) رجل صالح كان في جزيرة من جزائز البحر ، خرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الأرض ; وهل يعبد الله أم لا ؟ فوجد سليمان ، فدعا باسم من أسماء الله تعالى فجيء بالعرش . وقول سابع : أنه رجل من بني إسرائيل اسمه يمليخا كان يعلم اسم الله الأعظم ; ذكره القشيري . وقال ابن أبي بزة : الرجل الذي كان عنده علم من الكتاب اسمه أسطوم وكان عابدا في بني إسرائيل ; ذكره الغزنوي . وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان عليه السلام ; أما إن الناس يرون أنه كان معه اسم وليس ذلك كذلك ; إنما كان رجل من بني إسرائيل عالما آتاه الله علما وفقها قال : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال : هات . قال : أنت نبي الله ابن نبي الله فإن دعوت الله جاءك به ، فدعا الله سليمان فجاءه الله بالعرش . وقول ثامن : إنه جبريل عليه السلام ; قاله النخعي ، وروي عن ابن عباس .
قَالَ عِفۡرِيتٞ مِّنَ ٱلۡجِنِّ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَۖ وَإِنِّي عَلَيۡهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٞ ٩٣
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ والعفريت: هو القوي النشيط جدا: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر.
قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٠٤
فلما قال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، ( قال الذي عنده علم من الكتاب ) قال ابن عباس : وهو آصف كاتب سليمان . وكذا روى محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان : أنه آصف بن برخياء ، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم .
وقال قتادة : كان مؤمنا من الإنس ، واسمه آصف . وكذا قال أبو صالح ، والضحاك ، وقتادة : إنه كان من الإنس - زاد قتادة : من بني إسرائيل .
وقال مجاهد : كان اسمه أسطوم .
وقال قتادة - في رواية عنه - : كان اسمه بليخا .
وقال زهير بن محمد : هو رجل من الأندلس يقال له : ذو النور .
وزعم عبد الله بن لهيعة : أنه الخضر . وهو غريب جدا .
وقوله : ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) أي : ارفع بصرك وانظر مد بصرك مما تقدر عليه ، فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك .
وقال وهب بن منبه : امدد بصرك ، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به .
فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ، ثم قام فتوضأ ، ودعا الله عز وجل .
قال مجاهد : قال : يا ذا الجلال والإكرام . وقال الزهري : قال : يا إلهنا وإله كل شيء ، إلها واحدا ، لا إله إلا أنت ، ائتني بعرشها . قال : فتمثل له بين يديه .
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن إسحاق ، وزهير بن محمد ، وغيرهم : لما دعا الله ، عز وجل ، وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس - وكان في اليمن ، وسليمان عليه السلام ببيت المقدس - غاب السرير ، وغاص في الأرض ، ثم نبع من بين يدي سليمان ، عليه السلام .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه . قال : وكان هذا الذي جاء به من عباد البحر ، فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ، ورآه مستقرا عنده ( قال هذا من فضل ربي ) أي : هذا من نعم الله علي ( ليبلوني ) أي : ليختبرني ، ( أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ) ، كقوله ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) [ فصلت : 46 ] ، وكقوله ( ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ) [ الروم : 44 ] .
وقوله : ( ومن كفر فإن ربي غني كريم ) أي : هو غني عن العباد وعبادتهم ، ( كريم ) أي : كريم في نفسه ، وإن لم يعبده أحد ، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد ، وهذا كما قال موسى : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) [ إبراهيم : 8 ] .
وفي صحيح مسلم : " يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم [ ثم أوفيكم إياها ] فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٠٤
و ( علم الكتاب ) على هذا علمه بكتب الله المنزلة ، أو بما في اللوح المحفوظ . وقيل : علم كتاب سليمان إلى بلقيس . قال ابن عطية : والذي عليه الجمهور من الناس أنه رجل صالح من بني إسرائيل اسمه آصف بن برخيا ; روي أنه صلى ركعتين ، ثم قال لسليمان : يا نبي الله امدد بصرك فمد بصره نحو اليمن فإذا بالعرش ، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده . قال مجاهد : هو إدامة النظر حتى يرتد طرفه خاسئا حسيرا . وقيل : أراد مقدار ما يفتح عينه ثم يطرف ، وهو كما تقول : افعل كذا في لحظة عين ; وهذا أشبه ; لأنه إن كان الفعل من سليمان فهو معجزة ، وإن كان من آصف أو من غيره من أولياء الله فهي كرامة ، وكرامة الولي معجزة النبي . قال القشيري : وقد أنكر كرامات الأولياء من قال إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان ، قال للعفريت : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . وعند هؤلاء ما فعل العفريت فليس من المعجزات ولا من الكرامات ، فإن الجن يقدرون على مثل هذا . ولا يقطع جوهر في حال واحدة مكانين ، بل يتصور ذلك بأن يعدم الله الجوهر في أقصى الشرق ثم يعيده في الحالة الثانية ، وهي الحالة التي بعد العدم في أقصى الغرب . أو يعدم الأماكن المتوسطة ثم يعيدها . قال القشيري : ورواه وهب عن مالك . وقد قيل : بل جيء به في الهواء ; قاله مجاهد . وكان بين سليمان والعرش كما بين الكوفة والحيرة . وقال مالك : كانت باليمن وسليمان عليه السلام بالشام . وفي التفاسير انخرق بعرش بلقيس مكانه الذي هو فيه ثم نبع بين يدي سليمان ; قال عبد الله بن شداد : وظهر العرش من نفق تحت الأرض ; فالله أعلم أي ذلك كان .
قوله تعالى : فلما رآه مستقرا عنده أي ثابتا عنده . قال هذا من فضل ربي أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي . ليبلوني قال الأخفش : المعنى لينظر أأشكر أم أكفر وقال غيره : معنى ليبلوني ليتعبدني ; وهو مجاز . والأصل في الابتلاء : الاختبار ، أي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها ومن شكر فإنما يشكر لنفسه أي لا يرجع نفع ذلك إلا إلى نفسه ، حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد منها . والشكر قيد النعمة الموجودة ، وبه تنال النعمة المفقودة . ومن كفر فإن ربي غني أي عن الشكر ، كريم في التفضل .
قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلۡمٞ مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ أَنَا۠ ءَاتِيكَ بِهِۦ قَبۡلَ أَن يَرۡتَدَّ إِلَيۡكَ طَرۡفُكَۚ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسۡتَقِرًّا عِندَهُۥ قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّٞ كَرِيمٞ ٠٤
وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ قال المفسرون: هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له: " آصف بن برخيا "كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب وإذا سأل به أعطى.
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ بأن يدعو الله بذلك الاسم فيحضر حالا وأنه دعا الله فحضر. فالله أعلم [هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد]
فَلَمَّا رَآهُ سليمان مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ حمد الله تعالى على إقداره وملكه وتيسير الأمور له و قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أي: ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة، ثم بين أن هذا الشكر لا ينتفع الله به وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه فقال: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به الشاكر والكافر، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها.
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِيٓ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهۡتَدُونَ ١٤
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِيٓ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهۡتَدُونَ ١٤
لما جيء سليمان ، عليه السلام ، بعرش بلقيس قبل قدومها ، أمر به أن يغير بعض صفاته ، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته ، هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس به ، فقال : ( نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون ) .
قال ابن عباس : نزع عنه فصوصه ومرافقه .
وقال مجاهد : أمر به فغير ما كان أحمر جعل أصفر ، وما كان أصفر جعل أحمر : وما كان أخضر جعل أحمر ، غير كل شيء عن حاله .
وقال عكرمة : زادوا فيه ونقصوا .
[ وقال قتادة : جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره ، وزادوا فيه ونقصوا ] .
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِيٓ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهۡتَدُونَ ١٤
قال نكروا لها عرشها أي غيروه . قيل : جعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه . وقيل : غير بزيادة أو نقصان . قال الفراء وغيره : إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له : إن في عقلها شيئا فأراد أن يمتحنها . وقيل : خافت الجن أن يتزوج بها سليمان فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبدا ، فقالوا لسليمان : إنها ضعيفة العقل ، ورجلها كرجل الحمار ; فقال : نكروا لها عرشها لنعرف عقلها . وكان لسليمان ناصح من الجن ، فقال كيف لي أن أرى قدميها من غير أن أسألها كشفها ؟ فقال : أنا أجعل في هذا القصر ماء ، وأجعل فوق الماء زجاجا ، تظن أنه ماء فترفع ثوبها فترى قدميها ; فهذا هو الصرح الذي أخبر الله تعالى عنه .
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرۡشَهَا نَنظُرۡ أَتَهۡتَدِيٓ أَمۡ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَا يَهۡتَدُونَ ١٤
ثم قال لمن عنده: نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا أي: غيروه بزيادة ونقص، ونحو ذلك نَنْظُرْ مختبرين لعقلها أَتَهْتَدِي للصواب ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ .
فَلَمَّا جَآءَتۡ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِينَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِينَ ٢٤
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَمَّا جَآءَتۡ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِينَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِينَ ٢٤
( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ) أي : عرض عليها عرشها ، وقد غير ونكر ، وزيد فيه ونقص منه ، فكان فيها ثبات وعقل ، ولها لب ودهاء وحزم ، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ، ولا أنه غيره ، لما رأت من آثاره وصفاته ، وإن غير وبدل ونكر ، فقالت : ( كأنه هو ) أي : يشبهه ويقاربه . وهذا غاية في الذكاء والحزم .
وقوله : ( وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ) : قال مجاهد : سليمان يقوله .
فَلَمَّا جَآءَتۡ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِينَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِينَ ٢٤
قوله تعالى : فلما جاءت يريد بلقيس ، قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو شبهته به لأنها خلفته تحت الأغلاق ، فلم تقر بذلك ولم تنكر ، فعلم سليمان كمال عقلها . قال عكرمة : كانت حكيمة فقالت : كأنه هو . وقال مقاتل : عرفته ولكن شبهت عليهم كما شبهوا عليها ; ولو قيل لها : أهذا عرشك لقالت : نعم هو ; وقاله الحسن بن الفضل أيضا . وقيل : أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له ، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة وتؤمن به . وقد قيل هذا في مقابلة تعميتها الأمر في باب الغلمان والجواري . وأوتينا العلم من قبلها . قيل : هو من قول بلقيس ; أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش ( وكنا مسلمين ) منقادين لأمره . وقيل : هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة . وقيل : وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها . وقيل : هو من كلام قوم سليمان . والله أعلم .
فَلَمَّا جَآءَتۡ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرۡشُكِۖ قَالَتۡ كَأَنَّهُۥ هُوَۚ وَأُوتِينَا ٱلۡعِلۡمَ مِن قَبۡلِهَا وَكُنَّا مُسۡلِمِينَ ٢٤
فَلَمَّا جَاءَتْ قادمة على سليمان عرض عليها عرشها وكان عهدها به قد خلفته في بلدها، و قِيلَ لها أَهَكَذَا عَرْشُكِ أي: أنه استقر عندنا أن لك عرشا عظيما فهل هو كهذا العرش الذي أحضرناه لك؟ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وهذا من ذكائها وفطنتها لم تقل " هو "لوجود التغيير فيه والتنكير ولم تنف أنه هو، لأنها عرفته، فأتت بلفظ محتمل للأمرين صادق على الحالين، فقال سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها وشاكرا لله أن أعطاه أعظم منها: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا أي: الهداية والعقل والحزم من قبل هذه الملكة، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وهي الهداية النافعة الأصلية.
ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ: " وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه وزيادة اقتداره من قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة فأذعنا له وجئنا مسلمين له خاضعين لسلطانه "
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٣٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٣٤
وقوله : ( وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ) : هذا من تمام كلام سليمان ، عليه السلام - في قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، رحمهما الله - أي : قال سليمان : ( وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ) ، وهي كانت قد صدها ، أي : منعها من عبادة الله وحده . ( ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين ) . وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد حسن ، وقاله ابن جرير أيضا .
ثم قال ابن جرير : ويحتمل أن يكون في قوله : ( وصدها ) ضمير يعود إلى سليمان ، أو إلى الله ، عز وجل ، تقديره : ومنعها ( ما كانت تعبد من دون الله ) أي : صدها عن عبادة غير الله ( إنها كانت من قوم كافرين ) .
قلت : ويؤيد قول مجاهد : أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح ، كما سيأتي .
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٣٤
قوله تعالى : وصدها ما كانت تعبد من دون الله الوقف على ( من دون الله ) حسن ; والمعنى : منعها من أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر ف ( ما ) في موضع رفع . النحاس : المعنى : أي صدها عبادتها من دون الله وعبادتها إياها عن أن تعلم ما علمناه عن أن تسلم . ويجوز أن يكون ( ما ) في موضع نصب ، ويكون التقدير : وصدها سليمان عما كانت تعبد من دون الله ; أي حال بينها وبينه . ويجوز أن يكون المعنى : وصدها الله ; أي منعها الله عن عبادتها غيره فحذفت ( عن ) وتعدى الفعل . نظيره : واختار موسى قومه أي من قومه . وأنشد سيبويه [ للفرزدق ] :
ونبئت عبد الله بالجو أصبحت كراما مواليها لئيما صميمها
وزعم أن المعنى عنده : نبئت عن عبد الله . إنها كانت من قوم كافرين قرأ سعيد بن جبير : ( أنها ) بفتح الهمزة ، وهي في موضع نصب بمعنى ( لأنها ) ويجوز أن يكون بدلا من ( ما ) فيكون في موضع رفع إن كانت ( ما ) فاعلة الصد . والكسر على الاستئناف .
وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعۡبُدُ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ إِنَّهَا كَانَتۡ مِن قَوۡمٖ كَٰفِرِينَ ٣٤
قال الله تعالى: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: عن الإسلام، وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ فاستمرت على دينهم، وانفراد الواحد عن أهل الدين والعادة المستمرة بأمر يراه بعقله من ضلالهم وخطئهم من أندر ما يكون فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر، ثم إن سليمان أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول فأمرها أن تدخل الصرح وهي المجلس المرتفع المتسع وكان مجلسا من قوارير تجري تحته الأنهار.
قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٤
نسخ
مشاركة
التفسير
قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٤
وقوله : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ) وذلك أن سليمان ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه . واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان ، عليه السلام ، إلى اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ; ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هلب عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة . فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول محمد بن كعب القرظي ، وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدما ، ولكن رأى على رجليها شعرا ; لأنها ملكة ليس لها بعل فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها : الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك . وكره سليمان ذلك ، وقال للجن : اصنعوا شيئا غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النورة . وكان أول من اتخذت له النورة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وابن جريج ، وغيرهم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح ممرد من قوارير . فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله .
وقال الحسن البصري : لما رأت العلجة الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكا أعظم من ملكها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا . ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها ( فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ) ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ( إنه صرح ممرد من قوارير ) ، فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله . فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ! ماذا قلت ؟ - قال : وأنسيت ما قالت فقالت : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) ، فأسلمت وحسن إسلامها .
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرا غريبا عن ابن عباس ، قال : حدثنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ، ونحن في الأزد - قال : حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان ، عليه السلام ، يجلس على سريره ، ثم توضع كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرا ورواحها شهرا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال : ( ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ) ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض .
قال عطاء : وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد ( فمكث غير بعيد ) - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - ( قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا ) وكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، إلى بلقيس : ( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ) ، فلما ألقى الهدهد بالكتاب إليها ، ألقي في روعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قالوا : نحن أولو قوة . قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية . فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ، ارجع إليهم . فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس قال : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء : ومجاهد حينئذ في الأزد - قال سليمان : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) . قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال : ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) . قال سليمان : أريد أعجل من ذلك . فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . قال : [ فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره ] ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير . قال : فلما رأى سليمان عرشها [ مستقرا عنده ] قال : ( هذا من فضل ربي ) ، ( قال نكروا لها عرشها ) ، فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان : أريد ماء [ من زبد رواء ] ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين . [ قال ] فقالت الشياطين : هذا هين ، أجر الخيل ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية . قال : فأمر بالخيل فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية . قال : وسألت عن لون الله عز وجل . قال : فوثب سليمان عن سريره ، فخر ساجدا ، فقال : يا رب ، لقد سألتني عن أمر إنه يتكايد ، أي : يتعاظم في قلبي أن أذكره لك . قال : ارجع فقد كفيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء . فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا : ما سألتك إلا عن الماء . قال : ونسوه كلهم . قال : وقالت الشياطين لسليمان : تريد أن تتخذها لنفسك ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته . قال : فجعلوا صرحا ممردا من قوارير ، فيه السمك . قال : فقيل لها : ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شعراء . فقال سليمان : هذا قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه المواسي . فقال : أثر الموسى قبيح ! قال : فجعلت الشياطين النورة . قال : فهو أول من جعلت له النورة .
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث .
قلت : بل هو منكر غريب جدا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى ، إخبارا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان ( ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ) الآية [ غافر : 36 ، 37 ] . والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي : المبني بناء محكما أملس ( من قوارير ) أي : زجاج . وتمريد البناء تمليسه . ومارد : حصن بدومة الجندل .
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ; ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله وعرفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت لله ، عز وجل ، وقالت : ( رب إني ظلمت نفسي ) أي : بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس من دون الله ، ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) أي : متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده ، لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا .
قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٤
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة التقدير عند سيبويه : ادخلي إلى الصرح فحذف ( إلى ) وعدي الفعل . وأبو العباس يغلطه في هذا ; قال : لأن ( دخل ) يدل على مدخول . وكان الصرح صحنا من زجاج تحته ماء وفيه الحيتان ، عمله ليريها ملكا أعظم من ملكها ; قاله مجاهد . وقال قتادة : كان من قوارير خلفه ماء حسبته لجة أي ماء . وقيل : الصرح : القصر ; عن أبي عبيدة . كما قال :
تحسب أعلامهن الصروحا
وقيل : الصرح : الصحن ; كما يقال : هذه صرحة الدار وقاعتها ; بمعنى . وحكى أبو عبيدة في الغريب المصنف أن الصرح كل بناء عال مرتفع من الأرض ، وأن الممرد الطويل . النحاس : أصل هذا أنه يقال لكل بناء عمل عملا واحدا : صرح ; من قولهم : لبن صريح : إذا لم يشبه ماء ; ومن قولهم : صرح بالأمر ، ومنه : عربي صريح . وقيل : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن ، ورجلها رجل حمار ; قاله وهب بن منبه . فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق ، وتعجبت من كون كرسيه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر . وكشفت عن ساقيها فإذا هي أحسن الناس ساقا ; سليمة مما قالت الجن ، غير أنها كانت كثيرة الشعر ، فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها : إنه صرح ممرد من قوارير والممرد المحكوك المملس ، ومنه الأمرد . وتمرد الرجل : إذا أبطأ خروج لحيته بعد إدراكه ; قاله الفراء . ومنه الشجرة المرداء التي لا ورق عليها . ورملة مرداء إذا كانت لا تنبت . والممرد أيضا المطول ، ومنه قيل للحصن مارد . أبو صالح : طويل على هيئة النخلة . ابن شجرة : واسع في طوله وعرضه . قال :
غدوت صباحا باكرا فوجدتهم قبيل الضحى في السابري الممرد
أي الدروع الواسعة .
وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم ; على ما يأتي . ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها قال لناصحه من الشياطين : كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة بالجسد ؟ فدله على عمل النورة ، فكانت النورة والحمامات من يومئذ . فيروى أن سليمان تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام ; قاله الضحاك .
وقال سعيد بن عبد العزيز في كتاب النقاش : تزوجها وردها إلى ملكها : باليمن ، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة ; فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه . وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ساقين وهي من أزواج سليمان عليه السلام في الجنة فقالت عائشة : هي أحسن ساقين مني ؟ فقال عليه السلام : أنت أحسن ساقين منها في الجنة ذكره القشيري . وذكر الثعلبي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود فلما ألصق ظهره إلى الجدار فمسه حرها قال أواه من عذاب الله . ثم أحبها حبا شديدا وأقرها على ملكها باليمن ، وأمر الجن فبنوا لها ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا : سلحون وبينون وعمدان ، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة ، ويقيم عندها ثلاثة أيام . وحكى الشعبي أن ناسا من حمير حفروا مقبرة الملوك ، فوجدوا فيها قبرا معقودا فيه امرأة عليها حلل منسوجة بالذهب ، وعند رأسها لوح رخام فيه مكتوب :
يا أيها الأقوام عوجوا معا وأربعوا في مقبري العيسا
لتعلموا أني تلك التي قد كنت أدعى الدهر بلقيسا
شيدت قصر الملك في حمير قومي وقدما كان مأنوسا
وكنت في ملكي وتدبيره أرغم في الله المعاطيسا
بعلي سليمان النبي الذي قد كان للتوراة دريسا
وسخر الريح له مركبا تهب أحيانا رواميسا
مع ابن داود النبي الذي قدسه الرحمن تقديسا
وقال محمد بن إسحاق ووهب بن منبه : لم يتزوجها سليمان ، وإنما قال لها : اختاري زوجا ; فقالت : مثلي لا ينكح وقد كان لي من الملك ما كان . فقال : لا بد في الإسلام من ذلك . فاختارت ذا تبع ملك همدان ، فزوجه إياها وردها إلى اليمن ، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع ، ولم يزل أميرا حتى مات سليمان . وقال قوم : لم يرد فيه خبر صحيح لا في أنه تزوجها ولا في أنه زوجها . وهي بلقيس بنت السرح بن الهداهد بن شراحيل بن أدد بن حدر بن السرح بن الحرس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح . وكان جدها الهداهد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ولدا كلهم ملوك ، وكان ملك أرض اليمن كلها ، وكان أبوها السرح يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤا لي ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها . وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : كان أحد أبوي بلقيس جنيا فمات أبوها ، واختلف عليها قومها فرقتين ، وملكوا أمرهم رجلا فساءت سيرته ، حتى فجر بنساء رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها فتزوجها ، فسقته الخمر حتى حزت رأسه ، ونصبته على باب دارها فملكوها . وقال أبو بكرة : ذكرت بلقيس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة . ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج ، فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه ، فقال هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبدا ، فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن ، فقال لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا . قال : بل يغتصبها . قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا ; فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ; ثم ماتت الأم وابتنت بلقيس قصرا في الصحراء ، فتحدث أبوها بحديثها غلطا ، فنمى للملك خبرها فقال له : يا فلان تكون عندك هذه البنت الجميلة وأنت لا تأتيني بها ، وأنت تعلم حبي للنساء ثم أمر بحبسه ، فأرسلت بلقيس إليه إني بين يديك ; فتجهز للمسير إلى قصرها ، فلما هم بالدخول بمن معه أخرجت إليه الجواري من بنات الجن مثل صورة الشمس ، وقلن له ألا تستحي ؟ تقول لك سيدتنا : أتدخل بهؤلاء الرجال معك على أهلك ؟ فأذن لهم بالانصراف ودخل وحده ، وأغلقت عليه الباب وقتلته بالنعال ، وقطعت رأسه ورمت به إلى عسكره ، فأمروها عليهم ، فلم تزل كذلك إلى أن بلغ الهدهد خبرها سليمان عليه السلام . وذلك أن سليمان لما نزل في بعض منازله قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء فأبصر طول الدنيا وعرضها ، فأبصر الدنيا يمينا وشمالا ، فرأى بستانا لبلقيس فيه هدهد ، وكان اسم ذلك الهدهد عفير ، فقال عفير اليمن ليعفور سليمان : من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود . قال : ومن سليمان ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح وكل ما بين السماء والأرض . فمن أين أنت ؟ قال : من هذه البلاد ; ملكها امرأة يقال لها بلقيس ، تحت يدها اثنا عشر ألف قيل ، تحت يد كل قيل مائة ألف مقاتل من سوى النساء والذراري ; فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر ، وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة فلم يجده ، وكانوا على غير ماء . قال ابن عباس في رواية : وقعت عليه نفحة من الشمس . فقال لوزير الطير : هذا موضع من ؟ قال : يا نبي الله هذا موضع الهدهد قال : وأين ذهب ؟ قال : لا أدري أصلح الله الملك . فغضب سليمان وقال : لأعذبنه عذابا شديدا الآية . ثم دعا بالعقاب سيد الطير وأصرمها وأشدها بأسا فقال : ما تريد يا نبي الله ؟ فقال : علي بالهدهد الساعة . فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى لزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقض نحوه وأنشب فيه مخلبه . فقال له الهدهد : أسألك بالله الذي أقدرك وقواك علي إلا رحمتني . فقال له : الويل لك ; وثكلتك أمك ! إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك . ثم أتى به فاستقبلته النسور وسائر عساكر الطير . وقالوا الويل لك ; لقد توعدك نبي الله . فقال : وما قدري وما أنا ! أما استثنى ؟ قالوا : بلى إنه قال : أو ليأتيني بسلطان مبين ثم دخل على سليمان فرفع رأسه ، وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان عليه السلام . فقال له سليمان : أين كنت عن خدمتك ومكانك ؟ لأعذبنك عذابا شديدا أو لأذبحنك . فقال له الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك . فاقشعر جلد سليمان وارتعد وعفا عنه . وقال عكرمة : إنما صرف الله سليمان عن ذبح الهدهد أنه كان بارا بوالديه ; ينقل الطعام إليهما فيزقهما . ثم قال له سليمان : ما الذي أبطأ بك ؟ فقال الهدهد ما أخبر الله عن بلقيس وعرشها وقومها حسبما تقدم بيانه . قال الماوردي : والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ، وتفارق الحسين ; لأن الآدمي جسماني والجن روحاني ، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار ، وخلق الجان من مارج من نار ، ويمنع الامتزاج مع هذا التباين ، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف .
قلت : قد مضى القول في هذا ، والعقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك ، وإذا نظر في أصل الخلق فأصله الماء على ما تقدم بيانه ، ولا بعد في ذلك ; والله أعلم . وفي التنزيل وشاركهم في الأموال والأولاد وقد تقدم . وقال تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان . على ما يأتي في ( الرحمن ) .
قوله تعالى : قالت رب إني ظلمت نفسي أي بالشرك الذي كانت عليه ; قاله ابن شجرة . وقال سفيان : أي بالظن الذي توهمته في سليمان ; لأنها لما أمرت بدخول الصرح حسبته لجة ، وأن سليمان يريد تغريقها فيه . فلما بان لها أنه صرح ممرد من قوارير علمت أنها ظلمت نفسها بذلك الظن . وكسرت ( إن ) لأنها مبتدأة بعد القول . ومن العرب من يفتحها فيعمل فيها القول . وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين إذا سكنت ( مع ) فهي حرف جاء لمعنى بلا اختلاف بين النحويين . وإذا فتحتها ففيها قولان : أحدهما : أنه بمعنى الظرف اسم . والآخر : أنه حرف خافض مبني على الفتح ; قاله النحاس .
قِيلَ لَهَا ٱدۡخُلِي ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّةٗ وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَيۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡحٞ مُّمَرَّدٞ مِّن قَوَارِيرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَيۡمَٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٤
فـ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ماء لأن القوارير شفافة، يرى الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا للخياضة وهذا أيضا من عقلها وأدبها، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعد ما رأت ما رأت.
فلما استعدت للخوض قيل لها: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ أي: مملس مِنْ قَوَارِيرَ فلا حاجة منك لكشف الساقين. فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت ورجعت عن كفرها و قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان، وما عدا ذلك من الفروع المولدة والقصص الإسرائيلية فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله وهو من الأمور التي يقف الجزم بها، على الدليل المعلوم عن المعصوم، والمنقولات في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك، فالحزم كل الحزم، الإعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير. والله أعلم.
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمۡ فَرِيقَانِ يَخۡتَصِمُونَ ٥٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمۡ فَرِيقَانِ يَخۡتَصِمُونَ ٥٤
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح ، عليه السلام ، حين بعثه الله إليهم ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ( فإذا هم فريقان يختصمون ) قال مجاهد : مؤمن وكافر - كقوله تعالى : ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ) [ الأعراف : 75 ، 76 ] .
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمۡ فَرِيقَانِ يَخۡتَصِمُونَ ٥٤
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله تقدم معناه . فإذا هم فريقان يختصمون قال مجاهد : أي مؤمن وكافر ; قال : والخصومة ما قصه الله تعالى في قوله : أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه إلى قوله : كافرون . وقيل : تخاصمهم أن كل فرقة قالت : نحن على الحق دونكم .
وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمۡ فَرِيقَانِ يَخۡتَصِمُونَ ٥٤
يخبر تعالى أنه أرسل إلى ثمود القبيلة المعروفة أخاهم في النسب صالحا وأنه أمرهم أن يعبدوا الله وحده ويتركوا الأنداد والأوثان، ( فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ) منهم المؤمن ومنهم الكافر وهم معظمهم.
قَالَ يَٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٦٤
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ يَٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٦٤
( قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ) ، أي : لم تدعون بحضور العذاب ، ولا تطلبون من الله رحمته ؟ ولهذا قال : ( لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون)
قَالَ يَٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٦٤
قوله تعالى : قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة قال مجاهد : بالعذاب قبل الرحمة ; المعنى : لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب ، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب ; فكان الكفار يقولون لفرط الإنكار : ايتنا بالعذاب . وقيل : أي : لم تفعلون ما تستحقون به العقاب ; لا أنهم التمسوا تعجيل العذاب . لولا تستغفرون الله أي هلا تتوبون إلى الله من الشرك . ( لعلكم ترحمون ) لكي ترحموا ; وقد تقدم .
قَالَ يَٰقَوۡمِ لِمَ تَسۡتَعۡجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِۖ لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٦٤
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي: لم تبادرون فعل السيئات وتحرصون عليها قبل فعل الحسنات التي بها تحسن أحوالكم وتصلح أموركم الدينية والدنيوية؟ والحال أنه لا موجب لكم إلى الذهاب لفعل السيئات؟. لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ بأن تتوبوا من شرككم وعصيانكم وتدعوه أن يغفر لكم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فإن رحمة الله تعالى قريب من المحسنين والتائب من الذنوب هو من المحسنين.
قَالُواْ ٱطَّيَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ قَالَ طَٰٓئِرُكُمۡ عِندَ ٱللَّهِۖ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تُفۡتَنُونَ ٧٤
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالُواْ ٱطَّيَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ قَالَ طَٰٓئِرُكُمۡ عِندَ ٱللَّهِۖ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تُفۡتَنُونَ ٧٤
( قالوا اطيرنا بك وبمن معك ) أي : ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا . وذلك أنهم - لشقائهم - كان لا يصيب أحدا منهم سوء إلا قال : هذا من قبل صالح وأصحابه .
قال مجاهد : تشاءموا بهم . وهذا كما قال تعالى إخبارا عن قوم فرعون : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ) [ الأعراف : 131 ] . وقال تعالى : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله ) [ النساء : 78 ] أي : بقضاء الله وقدره . وقال مخبرا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون : ( قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم . قالوا طائركم معكم ) [ يس : 18 ، 19 ] .وقال هؤلاء : ( اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله ) أي : الله يجازيكم على ذلك ( بل أنتم قوم تفتنون ) قال قتادة : تبتلون بالطاعة والمعصية .
والظاهر أن المراد بقوله : ( تفتنون ) أي : تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال .
قَالُواْ ٱطَّيَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ قَالَ طَٰٓئِرُكُمۡ عِندَ ٱللَّهِۖ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تُفۡتَنُونَ ٧٤
قوله تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك أي تشباءمنا . والشؤم النحس . ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة . ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء ، أو يدفع مقدورا فقد جهل . وقال الشاعر :
طيرة الدهر لا ترد قضاء فاعذر الدهر لا تشبه بلوم أي يوم يخصه بسعود
والمنايا ينزلن في كل يوم ليس يوم إلا وفيه سعود
ونحوس تجري لقوم فقوم
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة ، وكانت إذا أرادت سفرا نفرت طائرا ، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت ، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : أقروا الطير على وكناتها على ما تقدم بيانه في ( المائدة ) . قال طائركم عند الله أي مصائبكم . بل أنتم قوم تفتنون أي تمتحنون . وقيل : تعذبون بذنوبكم .
قَالُواْ ٱطَّيَّرۡنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَۚ قَالَ طَٰٓئِرُكُمۡ عِندَ ٱللَّهِۖ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تُفۡتَنُونَ ٧٤
قَالُوا لنبيهم صالح مكذبين ومعارضين: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ زعموا -قبحهم الله- أنهم لم يروا على وجه صالح خيرا وأنه هو ومن معه من المؤمنين صاروا سببا لمنع بعض مطالبهم الدنيوية، فقال لهم صالح: طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: ما أصابكم إلا بذنوبكم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ بالسراء والضراء والخير والشر لينظر هل تقلعون وتتوبون أم لا؟ فهذا دأبهم في تكذيب نبيهم وما قابلوه به.
وَكَانَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطٖ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ ٨٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَانَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطٖ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ ٨٤
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورءوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلالة والكفر وتكذيب صالح ، وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة ، وهموا بقتل صالح أيضا ، بأن يبيتوه في أهله ليلا فيقتلوه غيلة ، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه : إنهم ما علموا بشيء من أمره ، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به ، من أنهم لم يشاهدوا ذلك ، فقال تعالى : ( وكان في المدينة ) أي : مدينة ثمود ، ( تسعة رهط ) أي : تسعة نفر ، ( يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود ; لأنهم كانوا كبراء فيهم ورؤساءهم .
قال العوفي ، عن ابن عباس : هؤلاء هم الذين عقروا الناقة ، أي : الذي صدر ذلك عن آرائهم ومشورتهم - قبحهم الله ولعنهم - وقد فعل ذلك .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : كان أسماء هؤلاء التسعة : دعمي ، ودعيم ، وهرما ، وهريم ، وداب ، وصواب ، ورياب ، ومسطع ، وقدار بن سالف عاقر الناقة ، أي : الذي باشر ذلك بيده . قال الله تعالى : ( فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ) [ القمر : 29 ] ، وقال تعالى ( إذ انبعث أشقاها ) [ الشمس : 12 ] .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني ، سمعت عطاء - هو ابن أبي رباح - يقول : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) قال : كانوا يقرضون الدراهم ، يعني : أنهم كانوا يأخذون منها ، وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددا ، كما كان العرب يتعاملون .
وقال الإمام مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض .
وفي الحديث - الذي رواه أبو داود وغيره - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس .
والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة ، كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها ، فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير ذلك .
وَكَانَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطٖ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ ٨٤
قوله تعالى : وكان في المدينة أي في مدينة صالح وهي الحجر تسعة رهط أي تسعة رجال من أبناء أشرافهم . قال الضحاك . كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة ، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد ، فجلسوا عند صخرة عظيمة فقلبها الله عليهم . وقال عطاء بن أبي رباح : بلغني أنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم ، وذلك من الفساد في الأرض ; وقاله سعيد بن المسيب . وقيل : فسادهم أنهم يتبعون عورات الناس ولا يسترون عليهم . وقيل غير هذا . واللازم من الآية ما قاله الضحاك وغيره أنهم كانوا من أوجه القوم وأقناهم وأغناهم ، وكانوا أهل كفر ومعاص جمة ; وجملة أمرهم أنهم يفسدون ولا يصلحون . والرهط اسم للجماعة ; فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم رهط . والجمع أرهط وأراهط . قال :
يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط فاستراحوا
وهؤلاء المذكورون كانوا أصحاب ( قدار ) عاقر الناقة ; ذكره ابن عطية .
قلت : واختلف في أسمائهم ; فقال الغزنوي : وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع وأسلم ودسما وذهيم وذعما وذعيم وقتال وصداق . ابن إسحاق : رأسهم قدار بن سالف ومصدع بن مهرج ، فاتبعهم سبعة ; هم بلع بن ميلع ودعير بن غنم وذؤاب بن مهرج وأربعة لم تعرف أسماؤهم . وذكر الزمخشري أسماءهم عن وهب بن منبه : الهذيل بن عبد رب ، غنم بن غنم ، رياب بن مهرج ، مصدع بن مهرج ، عمير بن كردبة ، عاصم بن مخرمة ، سبيط بن صدقة ، سمعان بن صفي ، قدار بن سالف ; وهم الذين سعوا في عقر الناقة ، وكانوا عتاة قوم صالح ، وكانوا من أبناء أشرافهم . السهيلي : ذكر النقاش التسعة الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وسماهم بأسمائهم ، وذلك لا ينضبط برواية ; غير أني أذكره على وجه الاجتهاد والتخمين ، ولكن نذكره على ما وجدناه في كتاب محمد بن حبيب ، وهم : مصدع بن دهر . ويقال دهم ، وقدار بن سالف ، وهريم وصواب ورياب وداب ودعما وهرما ودعين بن عمير .
قلت : وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن ابن عباس فقال : هم دعما ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطح وقدار ، وكانوا بأرض الحجر وهي أرض الشام .
وَكَانَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ تِسۡعَةُ رَهۡطٖ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ ٨٤
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ التي فيها صالح الجامعة لمعظم قومه تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي: وصفهم الإفساد في الأرض، ولا لهم قصد ولا فعل بالإصلاح قد استعدوا لمعاداة صالح والطعن في دينه ودعوة قومهم إلى ذلك كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٩٤
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٩٤
وقوله : ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ) أي : تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة . فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم .
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين .
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نبيت صالحا [ وأهله ] وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم . فدمرهم الله أجمعين .
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته! فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث . وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم . فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم . فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحا ومن معه ، ثم قرأ : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية ) أي : فارغة ليس فيها أحد ( بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) .
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٩٤
قوله تعالى : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله يجوز أن يكون ( تقاسموا ) فعلا مستقبلا وهو أمر ; أي قال بعضهم لبعض احلفوا . ويجوز أن يكون ماضيا في معنى الحال كأنه قال : قالوا متقاسمين بالله ; ودليل هذا التأويل قراءة عبد الله : ( يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله ) وليس فيها قالوا . ( لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ) قراءة العامة بالنون فيهما واختاره أبو حاتم . وقرأ حمزة والكسائي : بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخطاب أي أنهم تخاطبوا بذلك ; واختاره أبو عبيد . وقرأ مجاهد وحميد بالياء فيهما ، وضم الياء واللام على الخبر . والبيات مباغتة العدو ليلا . ومعنى لوليه أي لرهط صالح الذي له ولاية الدم . ما شهدنا مهلك أهله أي ما حضرنا ، ولا ندري من قتله وقتل أهله . والمهلك بمعنى الإهلاك ; ويجوز أن يكون الموضع . وقرأ عاصم والسلمي : ( بفتح الميم واللام ) أي الهلاك ; يقال : ضرب يضرب مضربا أي ضربا . وقرأ المفضل وأبو بكر : ( بفتح الميم وجر اللام ) فيكون اسم المكان كالمجلس لموضع الجلوس ; ويجوز أن يكون مصدرا ; كقوله تعالى : إليه مرجعكم أي رجوعكم .
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُۥ وَأَهۡلَهُۥ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِۦ مَا شَهِدۡنَا مَهۡلِكَ أَهۡلِهِۦ وَإِنَّا لَصَٰدِقُونَ ٩٤
فلم يزالوا بهذه الحال الشنيعة حتى إنهم من عداوتهم تَقَاسَمُوا فيما بينهم كل واحد أقسم للآخر لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أي نأتيه ليلا هو وأهله فلنقتلنهم ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ إذا قام علينا وادعى علينا أنا قتلناه ننكر ذلك وننفيه ونحلف إِنَّا لَصَادِقُونَ فتواطئوا على ذلك
وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا وَمَكَرۡنَا مَكۡرٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٠٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا وَمَكَرۡنَا مَكۡرٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٠٥
وقوله : ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ) أي : تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة . فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم .
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين .
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نبيت صالحا [ وأهله ] وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم . فدمرهم الله أجمعين .
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته! فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث . وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم . فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم . فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحا ومن معه ، ثم قرأ : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية ) أي : فارغة ليس فيها أحد ( بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) .
وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا وَمَكَرۡنَا مَكۡرٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٠٥
قوله تعالى : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون مكرهم ما روي أن هؤلاء التسعة لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة ، وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب ، اتفقوا وتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا ويقتلوه وأهله المختصين به ; قالوا : فإذا كان كاذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق ، وإن كان صادقا كنا عجلناه قبلنا ، وشفينا نفوسنا ; قاله مجاهد وغيره . قال ابن عباس : أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة ، فامتلأت بهم دار صالح ، فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم ، فقتلتهم الملائكة رضخا بالحجارة فيرون الحجارة ولا يرون من يرميها . وقال قتادة : خرجوا مسرعين إلى صالح ، فسلط عليهم ملك بيده صخرة فقتلهم . وقال السدي : نزلوا على جرف من الأرض ، فانهار بهم فأهلكهم الله تحته . وقيل : اختفوا في غار قريب من دار صالح ، فانحدرت عليهم صخرة شدختهم جميعا ، فهذا ما كان من مكرهم . ومكر الله مجازاتهم على ذلك .
وَمَكَرُواْ مَكۡرٗا وَمَكَرۡنَا مَكۡرٗا وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ ٠٥
وَمَكَرُوا مَكْرًا دبروا أمرهم على قتل صالح وأهله على وجه الخفية حتى من قومهم خوفا من أوليائه وَمَكَرْنَا مَكْرًا بنصر نبينا صالح عليه السلام وتيسير أمره وإهلاك قومه المكذبين وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ ١٥
نسخ
مشاركة
التفسير
فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ ١٥
وقوله : ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ) أي : تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة . فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم .
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين .
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نبيت صالحا [ وأهله ] وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم . فدمرهم الله أجمعين .
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته! فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث . وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم . فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم . فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا ، وأنجى الله صالحا ومن معه ، ثم قرأ : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية ) أي : فارغة ليس فيها أحد ( بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) .
فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ ١٥
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين أي بالصيحة التي أهلكتهم . وقد قيل : إن هلاك الكل كان بصيحة جبريل . والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد ; ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة . وكان الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة والكسائي يقرءون : ( أنا ) بالفتح ; وقال ابن الأنباري : فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على عاقبة مكرهم لأن أنا دمرناهم خبر كان . ويجوز أن تجعلها في موضع رفع على الإتباع للعاقبة . ويجوز أن تجعلها في موضع نصب من قول الفراء ، وخفض من قول الكسائي على معنى : بأنا دمرناهم ولأنا دمرناهم . ويجوز أن تجعلها في موضع نصب على الإتباع لموضع ( كيف ) فمن هذه المذاهب لا يحسن الوقف على ( مكرهم ) . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : ( إنا دمرناهم ) بكسر الألف على الاستئناف ; فعلى هذا المذهب يحسن الوقف على ( مكرهم ) . قال النحاس : ويجوز أن تنصب ( عاقبة ) على خبر ( كان ) ويكون ( إنا ) في موضع رفع على أنها اسم ( كان ) . ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ تبيينا للعاقبة ; والتقدير : هي إنا دمرناهم ; قال أبو حاتم : وفي حرف أبي ( أن دمرناهم ) تصديقا لفتحها .
فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ مَكۡرِهِمۡ أَنَّا دَمَّرۡنَٰهُمۡ وَقَوۡمَهُمۡ أَجۡمَعِينَ ١٥
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ هل حصل مقصودهم؟ وأدركوا بذلك المكر مطلوبهم أم انتقض عليهم الأمر ولهذا قال أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أهلكناهم واستأصلنا شأفتهم فجاءتهم صيحة عذاب فأهلكوا عن آخرهم
فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٢٥
نسخ
مشاركة
التفسير
فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٢٥
وقوله : ( قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ) أي : تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح ، عليه السلام ، من لقيه ليلا غيلة . فكادهم الله ، وجعل الدائرة عليهم .
قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا على هلاكه ، فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين .
وقال قتادة : توافقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه ، وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به ، إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هم الذين عقروا الناقة ، قالوا حين عقروها : نبيت صالحا [ وأهله ] وقومه فنقتلهم ، ثم نقول لأولياء صالح : ما شهدنا من هذا شيئا ، وما لنا به من علم . فدمرهم الله أجمعين .
وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة : هلم فلنقتل صالحا ، فإن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته! فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطؤوا على أصحابهم ، أتوا منزل صالح ، فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ، ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ، ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدا ، وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : لما عقروا الناقة وقال لهم صالح : ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) [ هود : 65 ] قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث . وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي : غار هناك ليلا فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم . فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم . فعذب الله هؤلاء هاهنا ، وهؤلاء هاهنا
فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٢٥
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا قراءة العامة بالنصب على الحال عند الفراء والنحاس ; أي خالية عن أهلها خرابا ليس بها ساكن . وقال الكسائي وأبو عبيدة : ( خاوية ) نصب على القطع ; مجازه : فتلك بيوتهم الخاوية ، فلما قطع منها الألف واللام نصب على الحال ; كقوله : وله الدين واصبا . وقرأ عيسى بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري : بالرفع على أنها خبر عن ( تلك ) و ( بيوتهم ) بدل من ( تلك ) . ويجوز أن تكون ( بيوتهم ) عطف بيان و ( خاوية ) خبر عن ( تلك ) . ويجوز أن يكون رفع ( خاوية ) على أنها خبر ابتداء محذوف ; أي هي خاوية ، أو بدل من ( بيوتهم ) لأن النكرة تبدل من المعرفة . إن في ذلك لآية لقوم يعلمون
فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٢٥
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً قد تهدمت جدرانها على سقوفها وأوحشت من ساكنيها وعطلت من نازليها بِمَا ظَلَمُوا أي هذا عاقبة ظلمهم وشركهم بالله وبغيهم في الأرض
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك ويعلمون أن عاقبة الظلم الدمار والهلاك وأن عاقبة الإيمان والعدل النجاة والفوز
وَأَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٣٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٣٥
وأنجى الله صالحا ومن معه ، ثم قرأ : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية ) أي : فارغة ليس فيها أحد ( بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون . وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ) .
وَأَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٣٥
وأنجينا الذين آمنوا بصالح وكانوا يتقون الله ويخافون عذابه . قيل : آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل . والباقون خرج بأبدانهم - في قول مقاتل وغيره - خراج مثل الحمص ; وكان في اليوم الأول أحمر ، ثم صار من الغد أصفر ، ثم صار في الثالث أسود . وكان عقر الناقة يوم الأربعاء ، وهلاكهم يوم الأحد . قال مقاتل : فقعت تلك الخراجات ، وصاح جبريل بهم خلال ذلك صيحة فخمدوا ، وكان ذلك ضحوة . وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت ; فلما دخلها مات صالح ; فسميت حضرموت . قال الضحاك : ثم بنى الأربعة الآلاف مدينة يقال لها حاضورا ; على ما تقدم بيانه في قصة أصحاب الرس .
وَأَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٣٥
ولهذا قال وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ أي أنجينا المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وكانوا يتقون الشرك بالله والمعاصي ويعملون بطاعته وطاعة رسله
وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ٤٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ٤٥
يخبر تعالى عن عبده لوط عليه السلام ، أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم ، وهي إتيان الذكور دون الإناث ، وذلك فاحشة عظيمة ، استغنى الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء - قال ( أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون ) أي : يرى بعضكم بعضا ، وتأتون في ناديكم المنكر ؟
وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ٤٥
قوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه أي وأرسلنا لوطا ، أو اذكر لوطا إذ قال لقومه وهم أهل سدوم . أتأتون الفاحشة الفعلة القبيحة الشنيعة . وأنتم تبصرون أنها فاحشة ، وذلك أعظم لذنوبكم . وقيل : يأتي بعضكم بعضا وأنتم تنظرون إليه . وكانوا لا يستترون عتوا منهم وتمردا .
وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦٓ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَٰحِشَةَ وَأَنتُمۡ تُبۡصِرُونَ ٤٥
أي: واذكر عبدنا ورسولنا لوطا ونبأه الفاضل حين قال لقومه -داعيا إلى الله وناصحا-: ( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ) أي: الفعلة الشنعاء التي تستفحشها العقول والفطر وتستقبحها الشرائع ( وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ذلك وتعلمون قبحه فعاندتم وارتكبتم ذلك ظلما منكم وجرأة على الله.
أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةٗ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ ٥٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةٗ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ ٥٥
( أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون ) أي : لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا ، كما قال في الآية الأخرى : ( أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ) [ الشعراء : 165 ، 166 ] .
أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةٗ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ ٥٥
أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء أعاد ذكرها لفرط قبحها وشناعتها . بل أنتم قوم تجهلون إما أمر التحريم أو العقوبة ، واختيار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من أئنكم فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها ; لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام .
أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهۡوَةٗ مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ تَجۡهَلُونَ ٥٥
ثم فسر تلك الفاحشة فقال: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ أي: كيف توصلتم إلى هذه الحال، صارت شهوتكم للرجال، وأدبارهم محل الغائط والنجو والخبث، وتركتم ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها وأنتم انقلب عليكم الأمر فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ متجاوزون لحدود الله متجرئون على محارمه.
۞ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوٓاْ ءَالَ لُوطٖ مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ ٦٥
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوٓاْ ءَالَ لُوطٖ مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ ٦٥
( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) أي : يتحرجون من فعل ما تفعلونه ، ومن إقراركم على صنيعكم ، فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم . فعزموا على ذلك ، فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها .
۞ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوٓاْ ءَالَ لُوطٖ مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ ٦٥
قوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون أي عن أدبار الرجال . يقولون ذلك استهزاء منهم ; قاله مجاهد . وقال قتادة : عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء .
۞ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَخۡرِجُوٓاْ ءَالَ لُوطٖ مِّن قَرۡيَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٞ يَتَطَهَّرُونَ ٦٥
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ ْ} قبول ولا انزجار ولا تذكر وادكار، إنما كان جوابهم المعارضة والمناقضة والتوعد لنبيهم الناصح ورسولهم الأمين بالإجلاء عن وطنه والتشريد عن بلده. فما كان جواب قومه { إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ْ}
فكأنه قيل: ما نقمتم منهم وما ذنبهم الذي أوجب لهم الإخراج، فقالوا: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ْ} أي: يتنزهون عن اللواط وأدبار الذكور. فقبحهم الله جعلوا أفضل الحسنات بمنزلة أقبح السيئات، ولم يكتفوا بمعصيتهم لنبيهم فيما وعظهم به حتى وصلوا إلى إخراجه، والبلاء موكل بالمنطق فهم قالوا: { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ْ}
ومفهوم هذا الكلام: " وأنتم متلوثون بالخبث والقذارة المقتضي لنزول العقوبة بقريتكم ونجاة من خرج منها "
فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَٰهَا مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٧٥
نسخ
مشاركة
التفسير
فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَٰهَا مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٧٥
قال الله تعالى : ( فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين ) أي : من الهالكين مع قومها ; لأنها كانت ردءا لهم على دينهم ، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة ، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ، ليأتوا إليهم ، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - لا كرامة لها .
فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَٰهَا مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٧٥
فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين وقرأ عاصم : ( قدرنا ) مخففا والمعنى واحد . يقال قد قدرت الشيء قدرا وقدرا وقدرته .
فَأَنجَيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥٓ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَٰهَا مِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ ٧٥
ولهذا قال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ْ} وذلك لما جاءته الملائكة في صورة أضياف وسمع بهم قومه فجاءوا إليه يريدونهم بالشر وأغلق الباب دونهم واشتد الأمر عليه، ثم أخبرته الملائكة عن جلية الحال وأنهم جاءوا لاستنقاذه وإخراجه من بين أظهرهم وأنهم يريدون إهلاكهم وأن موعدهم الصبح، وأمروه أن يسري بأهله ليلا إلا امرأته فإنه سيصيبها ما أصابهم فخرج بأهله ليلا فنجوا وصبحهم العذاب، فقلب الله عليهم ديارهم وجعل أعلاها أسفلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك.
وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِينَ ٨٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِينَ ٨٥
وقوله : ( وأمطرنا عليهم مطرا ) أي : حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ; ولهذا قال : ( فساء مطر المنذرين ) أي : الذين قامت عليهم الحجة ، ووصل إليهم الإنذار ، فخالفوا الرسول وكذبوه ، وهموا بإخراجه من بينهم .
وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِينَ ٨٥
وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين أي من أنذر فلم يقبل الإنذار . وقد مضى بيان هذا في ( الأعراف ) و ( هود ) .
وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهِم مَّطَرٗاۖ فَسَآءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِينَ ٨٥
ولهذا قال هنا: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ْ} أي: بئس المطر مطرهم وبئس العذاب عذابهم لأنهم أنذروا وخوفوا فلم ينزجروا ولم يرتدعوا فأحل الله بهم عقابه الشديد.
قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ ءَآللَّهُ خَيۡرٌ أَمَّا يُشۡرِكُونَ ٩٥
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ ءَآللَّهُ خَيۡرٌ أَمَّا يُشۡرِكُونَ ٩٥
يقول تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : ( الحمد لله ) أي : على نعمه على عباده ، من النعم التي لا تعد ولا تحصى ، وعلى ما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم ، وهم رسله وأنبياؤه الكرام ، عليهم من الله الصلاة والسلام ، هكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره : إن المراد بعباده الذين اصطفى : هم الأنبياء ، قال : وهو كقوله تعالى : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) [ الصافات : 180 - 182 ] .
وقال الثوري ، والسدي : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - رضي [ الله ] عنهم أجمعين ، وروي نحوه عن ابن عباس .
ولا منافاة ، فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى ، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى ، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعدما ذكر لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد ، وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر ، أن يحمدوه على جميع أفعاله ، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار .
وقد قال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح ، حدثنا طلق بن غنام ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي - إن شاء الله - عن أبي مالك ، عن ابن عباس : ( وسلام على عباده الذين اصطفى ) قال : هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - اصطفاهم الله لنبيه ، رضي الله عنهم .
وقوله : ( آلله خير أم ما يشركون ) : استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى .
قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ ءَآللَّهُ خَيۡرٌ أَمَّا يُشۡرِكُونَ ٩٥
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى قال الفراء : قال أهل المعاني : قيل للوط قل الحمد لله على هلاكهم . وخالف جماعة من العلماء الفراء في هذا وقالوا : هو مخاطبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ; أي قل الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية . قال النحاس : وهذا أولى ، لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل ما فيه فهو مخاطب به عليه السلام إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره . وقيل : المعنى ; أي قل يا محمد الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى يعني أمته عليه السلام . قال الكلبي : اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته . وقال ابن عباس وسفيان : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده . وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين ، وإصغائهم إليه ، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع . ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب ، فحمدوا الله وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد ، وقبل كل عظة وفي مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني ، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن .
قوله تعالى : الذين اصطفى اختار ; أي لرسالته وهم الأنبياء عليهم السلام ; دليله قوله تعالى : وسلام على المرسلين . ( آلله خير ) وأجاز أبو حمزة ( أألله خير ) بهمزتين . النحاس : ولا نعلم أحدا تابعه على ذلك ; لأن هذه المدة إنما جيء بها فرقا بين الاستفهام والخبر ، وهذه ألف التوقيف ، و ( خير ) هاهنا ليس بمعنى أفضل منك ، وإنما هو مثل قول الشاعر [ حسان بن ثابت ] :
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
فالمعنى : فالذي فيه الشر منكما للذي فيه الخير الفداء . ولا يجوز أن يكون بمعنى ( من ) لأنك إذا قلت : فلان شر من فلان . ففي كل واحد منهما شر . وقيل : المعنى : الخير في هذا أم في هذا الذي تشركونه في العبادة ! وحكى سيبويه : السعادة أحب إليك أم الشقاء ; وهو يعلم أن السعادة أحب إليه . وقيل : هو على بابه من التفضيل ، والمعنى : آلله خير أم ما تشركون ; أي أثوابه خير أم عقاب ما تشركون . وقيل : قال لهم ذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيرا فخاطبهم الله عز وجل على اعتقادهم . وقيل : اللفظ لفظ الاستفهام ومعناه الخبر . وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب : ( يشركون ) بياء على الخبر . الباقون بالتاء على الخطاب ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ; فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية يقول : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم .
قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَىٰٓۗ ءَآللَّهُ خَيۡرٌ أَمَّا يُشۡرِكُونَ ٩٥
أي: قل الحمد لله الذي يستحق كمال الحمد والمدح والثناء لكمال أوصافه وجميل معروفه وهباته وعدله وحكمته في عقوبته المكذبين وتعذيب الظالمين، وسلم أيضا على عباده الذين تخيرهم واصطفاهم على العالمين من الأنبياء والمرسلين وصفوة الله من العالمين، وذلك لرفع ذكرهم وتنويها بقدرهم وسلامتهم من الشر والأدناس، وسلامة ما قالوه في ربهم من النقائص والعيوب.
{ آللَّهُ خَيْرٌ أمَا يُشْرِكُونَ ْ} وهذا استفهام قد تقرر وعرف، أي: الله الرب العظيم كامل الأوصاف عظيم الألطاف خير أم الأصنام والأوثان التي عبدوها معه، وهي ناقصة من كل وجه، لا تنفع ولا تضر ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها مثقال ذرة من الخير فالله خير مما يشركون.
ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الإله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ما] سواه هي الباطل فقال:
أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ ٠٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ ٠٦
ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره ، فقال : ( أمن خلق السموات والأرض ) أي : تلك السموات بارتفاعها وصفائها ، وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة ، والأرض باستفالها وكثافتها ، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسهول ، والفيافي والقفار ، والأشجار والزروع ، والثمار والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك .
وقوله : ( وأنزل لكم من السماء ماء ) أي : جعله رزقا للعباد ، ( فأنبتنا به حدائق ) أي : بساتين ( ذات بهجة ) أي : منظر حسن وشكل بهي ، ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) أي : لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها ، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق ، المستقل بذلك المتفرد به ، دون ما سواه من الأصنام والأنداد ، كما يعترف به هؤلاء المشركون ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف : 87 ] ، ( ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ) [ العنكبوت : 63 ] أي : هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة من هو المتفرد بالخلق والرزق ; ولهذا قال : ( أإله مع الله ) أي : أإله مع الله يعبد . وقد تبين لكم ، ولكل ذي لب مما يعرفون به أيضا أنه الخالق الرازق .
ومن المفسرين من يقول : معنى قوله : ( أإله مع الله ) [ أي : أإله مع الله ] فعل هذا . وهو يرجع إلى معنى الأول ; لأن تقدير الجواب أنهم يقولون : ليس ثم أحد فعل هذا معه ، بل هو المتفرد به . فيقال : فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والتدبير ؟ كما قال : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) [ النحل : 17 ] .
وقوله هاهنا : ( أمن خلق السموات والأرض ) : ( أمن ) في هذه الآيات [ كلها ] تقديره : أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها ؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر ; لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك ، وقد قال : ( آلله خير أما يشركون ) .
ثم قال في آخر الآية : ( بل هم قوم يعدلون ) أي : يجعلون لله عدلا ونظيرا . وهكذا قال تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [ الزمر : 9 ] أي : أمن هو هكذا كمن ليس كذلك ؟ ولهذا قال : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) [ الزمر : 9 ] ، ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) [ الزمر : 22 ] وقال ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) [ الرعد : 33 ] أي : أمن هو شهيد على أفعال الخلق ، حركاتهم وسكناتهم ، يعلم الغيب جليله وحقيره ، كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها ؟ ولهذا قال : ( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) [ الرعد : 33 ] ، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها .
أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ ٠٦
قوله تعالى : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء قال أبو حاتم : تقديره ; آلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض ; وقد تقدم . ومعناه : قدر على خلقهن . وقيل : المعنى : أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير أم عبادة من خلق السماوات والأرض ؟ فهو مردود على ما قبله من المعنى ; وفيه معنى التوبيخ لهم ، والتنبيه على قدرة الله عز وجل وعجز آلهتهم . فأنبتنا به حدائق ذات بهجة الحديقة : البستان الذي عليه حائط . والبهجة : المنظر الحسن . قال الفراء : الحديقة : البستان المحظر عليه حائط ، وإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة . وقال قتادة وعكرمة : الحدائق : النخل ذات بهجة ، والبهجة : الزينة والحسن ; يبهج به من رآه . ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ( ما ) للنفي . ومعناه الحظر والمنع من فعل هذا ; أي ما كان للبشر ، ولا يتهيأ لهم ، ولا يقع تحت قدرتهم ، أن ينبتوا شجرها ; إذ هم عجزة عن مثلها ، لأن ذلك إخراج الشيء من العدم إلى الوجود .
قلت : وقد يستدل من هذا على منع تصوير شيء سواء كان له روح أم لم يكن ; وهو قول مجاهد . ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ; قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل فذكره ; فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع . هذا واضح . وذهب الجمهور إلى أن تصوير ما ليس فيه روح يجوز هو والاكتساب به . وقد قال ابن عباس للذي سأله أن يصنع الصور : إن كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له خرجه مسلم أيضا . والمنع أولى والله أعلم لما ذكرنا . وسيأتي لهذا مزيد بيان في ( سبأ ) إن شاء الله تعالى . ثم قال على جهة التوبيخ : ( أإله مع الله ) أي هل معبود مع الله يعينه على ذلك . بل هم قوم يعدلون بالله غيره . وقيل : يعدلون عن الحق والقصد ; أي يكفرون . وقيل : ( إله ) مرفوع ب ( مع ) تقديره : أمع الله ويلكم إله . والوقف على مع الله حسن .
أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ ٠٦
أي: أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملائكة والأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.
{ وَأَنْزَلَ لَكُمْ ْ} أي: لأجلكم { مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ْ} أي: بساتين { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي: حسن منظر من كثرة أشجارها وتنوعها وحسن ثمارها، { مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ْ} لولا منة الله عليكم بإنزال المطر. { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ْ} فعل هذه الأفعال حتى يعبد معه ويشرك به؟ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ْ} به غيره ويسوون به سواه مع علمهم أنه وحده خالق العالم العلوي والسفلي ومنزل الرزق.
أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٦
يقول : ( أمن جعل الأرض قرارا ) أي : قارة ساكنة ثابتة ، لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم ، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة ، بل جعلها من فضله ورحمته مهادا بساطا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك ، كما قال في الآية الأخرى : ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء ) [ غافر : 64 ] .
( وجعل خلالها أنهارا ) أي : جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة تشقها في خلالها ، وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك ، وسيرها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض ، سير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه ، ( وجعل لها رواسي ) أي : جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها ; لئلا تميد بكم ( وجعل بين البحرين حاجزا ) أي : جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزا ، أي : مانعا يمنعها من الاختلاط ، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا ، فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه ، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس . والمقصود منها : أن تكون عذبة زلالا يسقى الحيوان والنبات والثمار منها . والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب ، والمقصود منها : أن يكون ماؤها ملحا أجاجا ، لئلا يفسد الهواء بريحها ، كما قال تعالى : ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ) [ الفرقان : 53 ] ; ولهذا قال : ( أإله مع الله ) أي : فعل هذا ؟ أو يعبد على القول الأول والآخر ؟ وكلاهما متلازم صحيح ، ( بل أكثرهم لا يعلمون ) أي : في عبادتهم غيره .
أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٦
قوله تعالى : أمن جعل الأرض قرارا أي مستقرا . وجعل خلالها أنهارا أي وسطها مثل : وفجرنا خلالهما نهرا . وجعل لها رواسي يعني جبالا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة . وجعل بين البحرين حاجزا مانعا من قدرته لئلا يختلط الأجاج بالعذب . وقال ابن عباس : سلطانا من قدرته فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يغير هذا . والحجز : المنع . أإله مع الله أي إذا ثبت أنه لا يقدر على هذا غيره فلم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع . بل أكثرهم لا يعلمون يعني كأنهم يجهلون الله فلا يعلمون ما يجب له من الوحدانية .
أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ١٦
أي: هل الأصنام والأوثان الناقصة من كل وجه التي لا فعل منها ولا رزق ولا نفع خير؟ أم الله الذي { جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا ْ} يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث والبناء والذهاب والإياب. { وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا } أي: جعل في خلال الأرض أنهارا ينتفع بها العباد في زروعهم وأشجارهم، وشربهم وشرب مواشيهم.
{ وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أي: جبالا ترسيها وتثبتها لئلا تميد وتكون أوتادا لها لئلا تضطرب. { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ } البحر المالح والبحر العذب { حَاجِزًا } يمنع من اختلاطهما فتفوت المنفعة المقصودة من كل منهما بل جعل بينهما حاجزا من الأرض، جعل مجرى الأنهار في الأرض مبعدة عن البحار فيحصل منها مقاصدها ومصالحها، { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ْ} فعل ذلك حتى يعدل به الله ويشرك به معه. { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ} فيشركون بالله تقليدا لرؤسائهم وإلا فلو علموا حق العلم لم يشركوا به شيئا.
أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٢٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٢٦
ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد ، المرجو عند النوازل ، كما قال : ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ) [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى : ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) [ النحل : 53 ] . وهكذا قال هاهنا : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ) أي : من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي تميمة الهجيمي ، عن رجل من بلهجيم قال : قلت : يا رسول الله ، إلام تدعو ؟ قال : " أدعو إلى الله وحده ، الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك ، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك " . قال : قلت : أوصني . قال : " لا تسبن أحدا ، ولا تزهدن في المعروف ، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، واتزر إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين . وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المخيلة ، [ وإن الله - تبارك تعالى - لا يحب المخيلة ] .
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، فذكر اسم الصحابي فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا يونس - هو ابن عبيد - حدثنا عبيدة الهجيمي عن أبي تميمة الهجيمي ، عن جابر بن سليم الهجيمي قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محتب بشملة ، وقد وقع هدبها على قدميه ، فقلت : أيكم محمد - أو : رسول الله ؟ - فأومأ بيده إلى نفسه ، فقلت : يا رسول الله ، أنا من أهل البادية ، وفي جفاؤهم ، فأوصني . فقال : " لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه ، فإنه يكون لك أجره وعليه وزره . وإياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، ولا تسبن أحدا " . قال : فما سببت بعده أحدا ، ولا شاة ولا بعيرا .
وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا ، وعندهما طرف صالح منه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن هاشم حدثنا عبدة بن نوح ، عن عمر بن الحجاج ، عن عبيد الله بن أبي صالح قال : دخل علي طاوس يعودني ، فقلت له : ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن ، فقال : ادع لنفسك ، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه .
وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول : إن الله يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن ، والأرض بمن فيها ، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا . ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء ، فأكله إلى نفسه .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل - حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي - قال هذا الرجل : كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني ، فركب معي ذات مرة رجل ، فمررنا على بعض الطريق ، على طريق غير مسلوكة ، فقال لي : خذ في هذه ، فإنها أقرب . فقلت : لا خبرة لي فيها ، فقال : بل هي أقرب . فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق ، وفيه قتلى كثير ، فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل . فنزل وتشمر ، وجمع عليه ثيابه ، وسل سكينا معه وقصدني ، ففررت من بين يديه وتبعني ، فناشدته الله وقلت : خذ البغل بما عليه . فقال : هو لي ، وإنما أريد قتلك . فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه وقلت : إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين ؟ فقال : [ صل ] وعجل . فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد ، فبقيت واقفا متحيرا وهو يقول : هيه . افرغ . فأجرى الله على لساني قوله تعالى : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) ، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي ، وبيده حربة ، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده ، فخر صريعا ، فتعلقت بالفارس وقلت : بالله من أنت ؟ فقال : أنا رسول [ الله ] الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء . قال : فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما .
وذكر في ترجمة " فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية " قالت : هزم الكفار يوما المسلمين في غزاة ، فوقف جواد جيد بصاحبه ، وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء ، فقال للجواد : ما لك ؟ ويلك . إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم . فقال له الجواد : وما لي لا أقصر وأنت تكل علوفتي إلى السواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل ؟ فقال : لك علي عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حجري . فجرى الجواد عند ذلك ، ونجى صاحبه ، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره ، واشتهر أمره بين الناس ، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك ، وبلغ ملك الروم أمره ، فقال : ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها . واحتال ليحصله في بلده ، فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده ، فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيته في الإسلام وقومه ، حتى استوثق ، ثم خرجا يوما يمشيان على جنب الساحل ، وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره ، فلما اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السماء وقال : اللهم ، إنه إنما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت ، قال : فخرج سبعان إليهما فأخذاهما ، ورجع الرجل سالما .
وقوله تعالى : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) أي : يخلف قرنا لقرن قبلهم وخلفا لسلف ، كما قال تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) [ الأنعام : 133 ] ، وقال تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) [ الأنعام : 165 ] ، وقال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) [ البقرة : 30 ] ، أي : قوما يخلف بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره . وهكذا هذه الآية : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) أي : أمة بعد أمة ، وجيلا بعد جيل ، وقوما بعد قوم . ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ، ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض ، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين ، كما خلق آدم من تراب . ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد ، فكانت تضيق عليهم الأرض وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم ، ويتضرر بعضهم ببعض . ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ، ويذرأهم في الأرض ، ويجعلهم قرونا بعد قرون ، وأمما بعد أمم ، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية ، كما قدر ذلك تبارك وتعالى ، وكما أحصاهم وعدهم عدا ، ثم يقيم القيامة ، ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله ; ولهذا قال تعالى : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله ) أي : يقدر على ذلك ، أو إله مع الله يعبد ، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك ( قليلا ما تذكرون ) أي : ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم .
أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٢٦
قوله تعالى : أمن يجيب المضطر إذا دعاه قال ابن عباس : هو ذو الضرورة المجهود . وقال السدي : الذي لا حول له ولا قوة . وقال ذو النون : هو الذي قطع العلائق عما دون الله . وقال أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري : هو المفلس . وقال سهل بن عبد الله : هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدمها . وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال : أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر ; قال : إذا فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه . قال الشاعر :
وإني لأدعو الله والأمر ضيق علي فما ينفك أن يتفرجا ورب أخ سدت عليه وجوهه
أصاب لها لما دعا الله مخرجا
الثانية : وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء المضطر : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت .
الثالثة : ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه ، وأخبر بذلك عن نفسه ; والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص وقطع القلب عما سواه ; وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة ، وجد من مؤمن أو كافر ، طائع أو فاجر ; كما قال تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين وقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم ، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم . وقال تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه . وفي الحديث : ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده ذكره صاحب الشهاب ; وهو حديث صحيح . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب وفي كتاب الشهاب : اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين وهو صحيح أيضا . وخرج الآجري من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر فيجيب المظلوم لموضع إخلاصه بضرورته بمقتضى كرمه ، وإجابة لإخلاصه وإن كان كافرا ، وكذلك إن كان فاجرا في دينه ; ففجور الفاجر وكفر الكافر لا يعود منه نقص ولا وهن على مملكة سيده ، فلا يمنعه ما قضى للمضطر من إجابته . وفسر إجابة دعوة المظلوم بالنصرة على ظالمه بما شاء سبحانه من قهر له ، أو اقتصاص منه ، أو تسليط ظالم آخر عليه يقهره كما قال عز وجل : وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا وأكد سرعة إجابتها بقوله : تحمل على الغمام . ومعناه - والله أعلم - أن الله عز وجل يوكل ملائكته بتلقي دعوة المظلوم وبحملها على الغمام ، فيعرجوا بها إلى السماء ، والسماء قبلة الدعاء ليراها الملائكة كلهم ، فيظهر منه معاونة المظلوم ، وشفاعة منهم له في إجابة دعوته ، رحمة له . وفي هذا تحذير من الظلم جملة ، لما فيه من سخط الله ومعصيته ومخالفة أمره ; حيث قال على لسان نبيه في صحيح مسلم وغيره : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا . . . ) الحديث . فالمظلوم مضطر ، ويقرب منه المسافر ; لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم ، لا يسكن قلبه إلى مسعد ولا معين لغربته . فتصدق ضرورته إلى المولى ، فيخلص إليه في اللجاء ، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه ، وكذلك دعوة الوالد على ولده ، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته ، إلا عند تكامل عجزه عنه وصدق ضرورته ; وإياسه عن بر ولده ، مع وجود أذيته ، فيسرع الحق إلى إجابته . قوله تعالى : ( ويكشف السوء ) أي الضر . وقال الكلبي : الجور . ويجعلكم خلفاء الأرض أي سكانها يهلك قوما وينشئ آخرين . وفي كتاب النقاش : أي ويجعل أولادكم خلفا منكم . وقال الكلبي : خلفا من الكفار ينزلون أرضهم ، وطاعة الله بعد كفرهم . أإله مع الله على جهة التوبيخ ; كأنه قال أمع الله ويلكم إله ; ف ( إله ) مرفوع ب ( مع ) . ويجوز أن يكون مرفوعا بإضمار ( إله مع الله يفعل ذلك فتعبدوه ) والوقف على ( مع الله ) حسن .
قليلا ما تذكرون قرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب : ( يذكرون ) بالياء على الخبر ، كقوله : بل أكثرهم لا يعلمون و تعالى الله عما يشركون فأخبر فيما قبلها وبعدها ; واختاره أبو حاتم . الباقون بالتاء خطابا لقوله : ويجعلكم خلفاء الأرض .
أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٢٦
أي: هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء أي: البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته، { قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ْ} أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما أرعويتم ولا اهتديتم.
أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦٓۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦٓۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣٦
يقول : ( أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ) أي : بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية ، كما قال : ( وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) [ النحل : 16 ] ، وقال تعالى : ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ) الآية [ الأنعام : 97 ] .
( ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) أي : بين يدي السحاب الذي فيه مطر ، يغيث به عباده المجدبين الأزلين القنطين ، ( أإله مع الله تعالى الله عما يشركون ) .
أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦٓۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣٦
قوله تعالى : أمن يهديكم أي يرشدكم الطريق في ظلمات البر والبحر إذا سافرتم إلى البلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار . وقيل : وجعل مفاوز البر التي لا أعلام لها ، ولجج البحار كأنها ظلمات ; لأنه ليس لها علم يهتدى به . ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي أي قدام المطر باتفاق أهل التأويل . أإله مع الله يفعل ذلك ويعينه عليه . تعالى الله عما يشركون من دونه .
أَمَّن يَهۡدِيكُمۡ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ بُشۡرَۢا بَيۡنَ يَدَيۡ رَحۡمَتِهِۦٓۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٣٦
أي: من هو الذي يهديكم حين تكونون في ظلمات البر والبحر، حيث لا دليل ولا معلم يرى ولا وسيلة إلى النجاة إلا هدايته لكم، وتيسيره الطريق وجعل ما جعل لكم من الأسباب التي تهتدون بها، { وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي: بين يدي المطر، فيرسلها فتثير السحاب ثم تؤلفه ثم تجمعه ثم تلقحه ثم تدره، فيستبشر بذلك العباد قبل نزول المطر. { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } فعل ذلك؟ أم هو وحده الذي انفرد به؟ فلم أشركتم معه غيره وعبدتم سواه؟ { تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تعاظم وتنزه وتقدس عن شركهم وتسويتهم به غيره.
أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٦
أي : هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : ( إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد ) [ البروج : 12 ، 13 ] ، وقال ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) [ الروم : 27 ] .
( ومن يرزقكم من السماء والأرض ) أي : بما ينزل من مطر السماء ، وينبت من بركات الأرض ، كما قال : ( والسماء ذات الرجع . والأرض ذات الصدع ) [ الطارق : 11 ، 12 ] ، وقال ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) [ الحديد : 4 ] ، فهو ، تبارك وتعالى ، ينزل من السماء ماء مباركا فيسكنه في الأرض ، ثم يخرج به [ منها ] أنواع الزروع والثمار والأزاهير ، وغير ذلك من ألوان شتى ، ( كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) [ طه : 54 ] ; ولهذا قال : ( أإله مع الله ) أي : فعل هذا . وعلى القول الآخر : يعبد ؟ ( قل هاتوا برهانكم ) على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى ، ( إن كنتم صادقين ) في ذلك ، وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان ، كما قال [ الله ] : ( ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ) [ المؤمنون : 117 ] .
أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٦
قوله تعالى : أم من يبدأ الخلق ثم يعيده كانوا يقرون أنه الخالق الرازق فألزمهم الإعادة ; أي إذا قدر على الابتداء فمن ضرورته القدرة على الإعادة ، وهو أهون عليه . أإله مع الله يخلق ويرزق ويبدئ ويعيد قل هاتوا برهانكم أي حجتكم أن لي شريكا ، أو حجتكم في أنه صنع أحد شيئا من هذه الأشياء غير الله إن كنتم صادقين .
أَمَّن يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٦
أي: من هو الذي يبدأ الخلق وينشئ المخلوقات ويبتدئ خلقها، ثم يعيد الخلق يوم البعث والنشور؟ ومن يرزقكم من السماء والأرض بالمطر والنبات؟.
{ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } يفعل ذلك ويقدر عليه؟ { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي: حجتكم ودليلكم على ما قلتم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وإلا فبتقدير أنكم تقولون: إن الأصنام لها مشاركة له في شيء من ذلك فذلك مجرد دعوى صدقوها بالبرهان، وإلا فاعرفوا أنكم مبطلون لا حجة لكم، فارجعوا إلى الأدلة اليقينية والبراهين القطعية الدالة على أن الله هو المتفرد بجميع التصرفات وأنه المستحق أن تصرف له جميع أنواع العبادات.
قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٥٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٥٦
قول تعالى آمرا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول معلما لجميع الخلق : أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب . وقوله : ( إلا الله ) استثناء منقطع ، أي : لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل ، فإنه المنفرد بذلك وحده ، لا شريك له ، كما قال : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) الآية [ الأنعام : 59 ] ، وقال : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) [ لقمان : 34 ] ، والآيات في هذا كثيرة .
وقوله : ( وما يشعرون أيان يبعثون ) أي : وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة ، كما قال : ( ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة ) [ الأعراف : 187 ] ، أي : ثقل علمها على أهل السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : من زعم أنه يعلم - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ; لأن الله تعالى يقول : ( لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ) .
وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصلات : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوما [ للشياطين ] ، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به . وإن ناسا جهلة بأمر الله ، قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة : من أعرس بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا . ومن سافر بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا . ومن ولد بنجم كذا وكذا ، كان كذا وكذا . ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود ، والقصير والطويل ، والحسن والدميم ، وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب! وقضى الله : أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ، وما يشعرون أيان يبعثون .
رواه ابن أبي حاتم عنه بحروفه ، وهو كلام جليل متين صحيح .
قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٥٦
قوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون .
قوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وعن بعضهم : أخفى غيبه على الخلق ، ولم يطلع عليه أحد لئلا يأمن أحد من عبيده مكره . وقيل : نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة . و ( من ) في موضع رفع ; والمعنى : قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله ; فإنه بدل من ( من ) قاله الزجاج . الفراء : وإنما رفع ما بعد ( إلا ) لأن ما قبلها جحد ، كقوله : ما ذهب أحد إلا أبوك ; والمعنى واحد . قال الزجاج : ومن نصب نصب على الاستثناء ; يعني في الكلام . قال النحاس : وسمعته يحتج بهذه الآية على من صدق منجما ; وقال : أخاف أن يكفر بهذه الآية .
قلت : وقد مضى هذا في ( الأنعام ) مستوفى وقالت عائشة : من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ; والله تعالى يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله خرجه مسلم . وروي أنه دخل على الحجاج منجم فاعتقله الحجاج ، ثم أخذ حصيات فعدهن ، ثم قال : كم في يدي من حصاة ؟ فحسب المنجم ثم قال : كذا ; فأصاب . ثم اعتقله فأخذ حصيات لم يعدهن فقال : كم في يدي ؟ فحسب فأخطأ ثم حسب فأخطأ ; ثم قال : أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها ; قال : لا . قال : فإني لا أصيب . قال : فما الفرق ؟ قال : إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب ، وهذا لم تحصه فهو غيب و لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وقد مضى هذا في ( آل عمران ) والحمد لله .
قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ ٥٦
يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والأرض كقوله تعالى: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وكقوله: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } إلى آخر السورة.
فهذه الغيوب ونحوها اختص الله بعلمها فلم يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالآخرة منتقلا من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال: { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي: وما يدرون { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي: متى البعث والنشور والقيام من القبور أي: فلذلك لم يستعدوا.
بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ ٦٦
نسخ
مشاركة
التفسير
بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ ٦٦
وقوله : ( بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها ) أي : انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها .
وقرأ آخرون : " بل أدرك علمهم " ، أي : تساوى علمهم في ذلك ، كما في الصحيح لمسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل - وقد سأله عن وقت الساعة - ما المسؤول عنها بأعلم من السائل أي : تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) أي : غاب .
وقال قتادة : ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) يعني : يجهلهم ربهم ، يقول : لم ينفذ لهم إلى الآخرة علم ، هذا قول .
وقال ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : " بل أدرك علمهم في الآخرة " حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء الخراساني ، والسدي : أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : ( أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ) [ مريم : 38 ] .
وقال سفيان ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن أنه كان يقرأ : " بل أدرك علمهم " قال : اضمحل علمهم في الدنيا ، حين عاينوا الآخرة .
وقوله : ( بل هم في شك منها ) عائد على الجنس ، والمراد الكافرون ، كما قال تعالى : ( وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) [ الكهف : 48 ] أي : الكافرون منكم . وهكذا قال هاهنا : ( بل هم في شك منها ) أي : شاكون في وجودها ووقوعها ، ( بل هم منها عمون ) أي : في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها .
بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ ٦٦
قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة هذه قراءة أكثر الناس منهم عاصم وشيبة ونافع ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي . وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد : ( بل أدرك ) من الإدراك . وقرأ عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار والأعمش : ( بل ادرك ) غير مهموز مشددا . وقرأ ابن محيصن : ( بل أدارك ) على الاستفهام . وقرأ ابن عباس : ( بلى ) بإثبات الياء ( أدارك ) بهمزة قطع والدال مشددة وألف بعدها ; قال النحاس : وإسناده إسناد صحيح ، هو من حديث شعبة يرفعه إلى ابن عباس . وزعم هارون القارئ أن قراءة أبي ( بل تدارك علمهم ) وحكى الثعلبي أنها في حرف أبي ( أم تدارك ) والعرب تضع ( بل ) موضع ( أم ) و ( أم ) موضع ( بل ) إذا كان في أول الكلام استفهام ; كقول الشاعر :
فوالله لا أدري أسلمي تقولت أم القول أم كل إلي حبيب
أي : بل كل .
قال النحاس : القراءة الأولى والأخيرة معناهما واحد ، لأن أصل ( ادارك ) : تدارك ; أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل ; وفي معناه قولان :
أحدهما : أن المعنى : بل تكامل علمهم في الآخرة ; لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به .
والقول الآخر : أن المعنى : بل تتابع علمهم اليوم في الآخرة ; فقالوا تكون وقالوا لا تكون . القراءة الثانية فيها أيضا قولان :
أحدهما : أن معناه كمل في الآخرة ; وهو مثل الأول ; قال مجاهد : معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم ; لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين .
والقول الآخر : أنه على معنى الإنكار ; وهو مذهب أبي إسحاق ; واستدل على صحة هذا القول بأن بعده بل هم منها عمون أي لم يدرك علمهم علم الآخرة . وقيل : بل ضل وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم . والقراءة الثالثة : ( بل ادرك ) فهي بمعنى : بل ادارك . وقد يجيء ( افتعل وتفاعل ) بمعنى ; ولذلك صحح ( ازدوجوا ) حين كان بمعنى ( تزاوجوا ) . القراءة الرابعة ليس فيها إلا قول واحد يكون فيه معنى الإنكار ; كما تقول : أأنا قاتلتك ؟ ! فيكون المعنى لم يدرك ; وعليه ترجع قراءة ابن عباس ; قال ابن عباس : بل ادارك علمهم في الآخرة أي لم يدرك . قال الفراء : وهو قول حسن كأنه وجهه إلى الاستهزاء بالمكذبين بالبعث ، كقولك لرجل تكذبه : بلى لعمري قد أدركت السلف فأنت تروي ما لا أروي . وأنت تكذبه . وقراءة سابعة : ( بل ادرك ) بفتح اللام ; عدل إلى الفتحة لخفتها . وقد حكي نحو ذلك عن قطرب في ( قم الليل ) فإنه عدل إلى الفتح . وكذلك و ( بع الثوب ) ونحوه . وذكر الزمخشري في الكتاب : وقرئ ( بل أأدرك ) بهمزتين ( بل أدرك ) بألف بينهما ( بلى أأدرك ) ( أم تدارك ) ( أم أدرك ) فهذه ثنتا عشرة قراءة ، ثم أخذ يعلل وجوه القراءات وقال : فإن قلت فما وجه قراءة ( بل أدرك ) على الاستفهام ؟ قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك من قرأ : ( أم أدرك ) و ( أم تدارك ) لأنها ( أم ) التي بمعنى ( بل والهمزة ) وأما من قرأ : ( بلى أأدرك ) على الاستفهام فمعناه : بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور وقت كونها ; لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن . في الآخرة في شأن الآخرة ومعناها . بل هم في شك منها أي في الدنيا . بل هم منها عمون أي بقلوبهم واحدهم عمو . وقيل : عم ، وأصله عميون حذفت الياء لالتقاء الساكنين ولم يجز تحريكها لثقل الحركة فيها .
بَلِ ٱدَّٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ ٦٦
{ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ } أي: بل ضعف، وقل ولم يكن يقينا، ولا علما واصلا إلى القلب وهذا أقل وأدنى درجة للعلم ضعفه ووهاؤه، بل ليس عندهم علم قوي ولا ضعيف وإنما { هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا } أي: من الآخرة، والشك زال به العلم لأن العلم بجميع مراتبه لا يجامع الشك، { بَلْ هُمْ مِنْهَا } أي: من الآخرة { عَمُونَ } قد عميت عنها بصائرهم، ولم يكن في قلوبهم من وقوعها ولا احتمال بل أنكروها واستبعدوها.
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٧٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٧٦
يقول تعالى مخبرا عن منكري البعث من المشركين : أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا ،
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٧٦
قوله تعالى : وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا يعني مشركي مكة . أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون هكذا يقرأ نافع هنا وفي سورة : ( العنكبوت ) . وقرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة . وقرأ عاصم وحمزة أيضا باستفهامين إلا أنهما حققا الهمزتين ، وكل ما ذكرناه في السورتين جميعا واحد . وقرأ الكسائي وابن عامر ورويس ويعقوب : ( أئذا ) بمهزتين ( إننا ) بنونين على الخبر في هذه السورة ; وفي سورة : ( العنكبوت ) باستفهامين ; قال أبو جعفر النحاس : القراءة ( إذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ) موافقة للخط حسنة ، وقد عارض فيها أبو حاتم فقال - وهذا معنى كلامه - : ( إذا ) ليس باستفهام و ( آينا ) استفهام وفيه ( إن ) فكيف يجوز أن يعمل ما في حيز الاستفهام فيما قبله ؟ ! وكيف يجوز أن يعمل ما بعد ( إن ) فيما قبلها ؟ ! وكيف يجوز : غدا إن زيدا خارج ؟ ! فإذا كان فيه استفهام كان أبعد ، وهذا إذا سئل عنه كان مشكلا لما ذكره . وقال أبو جعفر : وسمعت محمد بن الوليد يقول : سألنا أبا العباس عن آية من القرآن صعبة مشكلة ، وهي قول الله تعالى : وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد فقال : إن عمل في ( إذا ) : ( ينبئكم ) كان محالا ; لأنه لا ينبئهم ذلك الوقت ، وإن عمل فيه ما بعد ( إن ) كان المعنى صحيحا وكان ( خطأ ) في العربية أن يعمل ما قبل ( إن ) فيما بعدها ; وهذا سؤال بين رأيت أن يذكر في السورة التي هو فيها ; فأما أبو عبيد فمال إلى قراءة نافع ورد على من جمع بين استفهامين ، واستدل بقوله تعالى : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم وبقوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون وهذا الرد على أبي عمرو وعاصم وحمزة وطلحة والأعرج لا يلزم منه شيء ، ولا يشبه ما جاء به من الآية شيئا ; والفرق بينهما أن الشرط وجوابه بمنزلة شيء واحد ; ومعنى : أفإن مت فهم الخالدون أفإن مت خلدوا . ونظير هذا : أزيد منطلق ، ولا يقال : أزيد أمنطلق ; لأنها بمنزلة شيء واحد وليس كذلك الآية ; لأن الثاني جملة قائمة بنفسها فيصلح فيها الاستفهام ، والأول كلام يصلح فيه الاستفهام ; فأما من حذف الاستفهام من الثاني وأثبته في الأول فقرأ : أئذا كنا ترابا وآباؤنا إننا فحذفه من الثاني ; لأن في الكلام دليلا عليه بمعنى الإنكار .
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخۡرَجُونَ ٧٦
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ } أي: هذا بعيد غير ممكن قاسوا قدرة كامل القدرة بقدرهم الضعيفة.
لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٨٦
نسخ
مشاركة
التفسير
لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٨٦
ثم قال : ( لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل ) أي : ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ، ولا نرى له حقيقة ولا وقوعا .
وقولهم : ( إن هذا إلا أساطير الأولين ) : يعنون : ما هذا الوعد بإعادة الأبدان ، ( إلا أساطير الأولين ) أي : أخذه قوم عمن قبلهم ، من قبلهم يتلقاه بعض عن بعض ، وليس له حقيقة .
لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٨٦
قوله تعالى : لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين تقدم في سورة ( المؤمنون ) وكانت الأنبياء يقربون أمر البعث في التحذير ; وكل ما هو آت فقريب .
لَقَدۡ وُعِدۡنَا هَٰذَا نَحۡنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبۡلُ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٨٦
{ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا } أي: البعث { نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ } أي: فلم يجئنا ولا رأينا منه شيئا. { إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } أي: قصصهم وأخبارهم التي تقطع بها الأوقات وليس لها أصل ولا صدق فيها.
فانتقل في الإخبار عن أحوال المكذبين بالإخبار أنهم لا يدرون متى وقت الآخرة ثم الإخبار بضعف علمهم فيها ثم الإخبار بأنه شك ثم الإخبار بأنه عمى ثم الإخبار بإنكارهم لذلك واستبعادهم وقوعه. أي: وبسبب هذه الأحوال ترحل خوف الآخرة من قلوبهم فأقدموا على معاصي الله وسهل عليهم تكذيب الحق والتصديق بالباطل واستحلوا الشهوات على القيام بالعبادات فخسروا دنياهم وأخراهم.
قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٩٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٩٦
قال الله تعالى مجيبا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد : ( قل ) - يا محمد - لهؤلاء : ( سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ) أي : المكذبين بالرسل وما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره ، كيف حلت بهم نقم الله وعذابه ونكاله ، ونجى الله من بينهم رسله الكرام ومن اتبعهم من المؤمنين ، فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته .
قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٩٦
قوله تعالى : قل سيروا في الأرض أي قل لهؤلاء الكفار : سيروا في بلاد الشام والحجاز واليمن . فانظروا أي بقلوبكم وبصائركم كيف كان عاقبة المجرمين المكذبين لرسلهم .
قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ٩٦
ثم نبههم على صدق ما أخبرت به الرسل فقال: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } فلا تجدون مجرما قد استمر على إجرامه، إلا وعاقبته شر عاقبة وقد أحل الله به من الشر والعقوبة ما يليق بحاله.
وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ٠٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ٠٧
ثم قال تعالى مسليا لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : ( ولا تحزن عليهم ) أي : المكذبين بما جئت به ، ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات ، ( ولا تك في ضيق مما يمكرون ) أي : في كيدك ورد ما جئت به ، فإن الله مؤيدك وناصرك ، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب .
وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ٠٧
ولا تحزن عليهم أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا ولا تكن في ضيق في حرج ، وقرئ : ( في ضيق ) بالكسر وقد مضى في آخر ( النحل ) .
وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ ٠٧
أي: لا تحزن يا محمد على هؤلاء المكذبين وعدم إيمانهم، فإنك لو علمت ما فيهم من الشر وأنهم لا يصلحون للخير، لم تأس ولم تحزن، ولا يضق صدرك ولا تقلق نفسك بمكرهم فإن مكرهم سيعود عاقبته عليهم، { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٧
يقول تعالى مخبرا عن المشركين ، في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) قال الله مجيبا لهم :
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٧
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين أي وقت يجيئنا العذاب بتكذيبنا إن كنتم صادقين .
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعۡدُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٧
ويقول المكذبون بالمعاد وبالحق الذي جاء به الرسول مستعجلين للعذاب: { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
وهذا من سفاهة رأيهم وجهلهم فإن وقوعه ووقته قد أجله الله بأجله وقدره بقدر، فلا يدل عدم استعجاله على بعض مطلوبهم.
قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي تَسۡتَعۡجِلُونَ ٢٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي تَسۡتَعۡجِلُونَ ٢٧
( قل ) يا محمد ( عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون ) . [ قال ابن عباس أن يكون قرب - أو : أن يقرب - لكم بعض الذي تستعجلون ] . وهكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي .
وهذا هو المراد بقوله تعالى : ( ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ) [ الإسراء : 51 ] ، وقال تعالى ( يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) [ العنكبوت : 54 ] .
وإنما دخلت " اللام " في قوله : ( ردف لكم ) ; لأنه ضمن معنى " عجل لكم " كما قال مجاهد في رواية عنه : ( عسى أن يكون ردف لكم ) : عجل لكم .
قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي تَسۡتَعۡجِلُونَ ٢٧
قل عسى أن يكون ردف لكم أي اقترب لكم ودنا منكم بعض الذي تستعجلون أي من العذاب ; قاله ابن عباس . وهو من : ردفه : إذا تبعه وجاء في أثره ; وتكون اللام أدخلت لأن المعنى : اقترب لكم ودنا لكم . أو تكون متعلقة بالمصدر . وقيل : معناه ( معكم ) . وقال ابن شجرة : تبعكم ; ومنه ردف المرأة ; لأنه تبع لها من خلفها ; ومنه قول أبي ذؤيب :
.
عاد السواد بياضا في مفارقه لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري : و ( أردفه أمر ) لغة في : ردفه ، مثل : تبعه وأتبعه ، بمعنى ; قال خزيمة بن مالك بن نهد :
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
يعني فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين . وقال الفراء : ردف لكم دنا لكم . ولهذا قال : ( لكم ) . وقيل : ردفه وردف له ، بمعنى فتزاد اللام للتوكيد ; عن الفراء أيضا . كما تقول : نقدته ونقدت له ، وكلته ووزنته ، وكلت له ووزنت له ; ونحو ذلك بعض الذي تستعجلون من العذاب فكان ذلك يوم بدر . وقيل : عذاب القبر .
قُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي تَسۡتَعۡجِلُونَ ٢٧
ولكن -مع هذا- قال تعالى محذرا لهم وقوع ما استعجلوه: { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ } أي: قرب منكم وأوشك أن يقع بكم { بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } من العذاب.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ ٣٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ ٣٧
أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلا القليل منهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ ٣٧
وإن ربك لذو فضل على الناس في تأخير العقوبة وإدرار الرزق ولكن أكثرهم لا يشكرون فضله ونعمه .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَشۡكُرُونَ ٣٧
ينبه عباده على سعة جوده وكثرة أفضاله ويحثهم على شكرها، ومع هذا فأكثر الناس قد أعرضوا عن الشكر واشتغلوا بالنعم عن المنعم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٤٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٤٧
( وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) أي : يعلم السرائر والضمائر ، كما يعلم الظواهر ، ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ) [ الرعد : 10 ] ، ( يعلم السر وأخفى ) [ طه : 7 ] ، ( ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) [ هود : 5 ] .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٤٧
قوله تعالى : وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم أي تخفي صدورهم . وقرأ ابن محيصن وحميد ( ما تكن ) من كننت الشيء إذا سترته ، هنا وفي ( القصص ) تقديره : ما تكن صدورهم عليه ; وكأن الضمير الذي في ( الصدور ) كالجسم السائر . ومن قرأ : ( تكن ) فهو المعروف ; يقال : أكننت الشيء : إذا أخفيته في نفسك .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعۡلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمۡ وَمَا يُعۡلِنُونَ ٤٧
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } أي: تنطوي عليه { صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } فليحذروا من عالم السرائر والظواهر وليراقبوه.
وَمَا مِنۡ غَآئِبَةٖ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٥٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا مِنۡ غَآئِبَةٖ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٥٧
ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض ، وأنه عالم الغيب والشهادة - وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه - فقال : ( وما من غائبة في السماء والأرض ) قال ابن عباس : يعني : وما من شيء ، ( في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) وهذا كقوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ) [ الحج : 70 ] .
وَمَا مِنۡ غَآئِبَةٖ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٥٧
قوله تعالى : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين قال الحسن : الغائبة هنا القيامة . وقيل : ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض ; حكاه النقاش . وقال ابن شجرة : الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم ، وهذا عام . وإنما دخلت الهاء في ( غائبة ) إشارة إلى الجمع ; أي : ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده ، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه . وقيل : أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له ; فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه . والكتاب : اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته .
وَمَا مِنۡ غَآئِبَةٖ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ ٥٧
{ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } أي: خفية وسر من أسرار العالم العلوي والسفلي { إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة، فكل حادث يحدث جلي أو خفي إلا وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ.
إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٦٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٦٧
يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز ، وما اشتمل عليه من الهدى والبينات والفرقان : إنه يقص على بني إسرائيل - وهم حملة التوراة والإنجيل - ( أكثر الذي هم فيه يختلفون ) ، كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه ، فاليهود افتروا ، والنصارى غلوا ، فجاء [ إليهم ] القرآن بالقول الوسط الحق العدل : أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام ، عليه [ أفضل ] الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) [ مريم : 34 ] .
إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٦٧
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضا فنزلت . والمعنى : إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به ، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل ، وما سقط من كتبهم من الأحكام .
إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٦٧
وهذا خبر عن هيمنة القرآن على الكتب السابقة وتفصيله وتوضيحه، لما كان فيها قد وقع فيه اشتباه واختلاف عند بني إسرائيل فقصه هذا القرآن قصا زال به الإشكال وبين به الصواب من المسائل المختلف فيها. وإذا كان بهذه المثابة من الجلالة والوضوح وإزالة كل خلاف وفصل كل مشكل كان أعظم نعم الله على العباد ولكن ما كل أحد يقابل النعمة بالشكر. ولهذا بين أن نفعه ونوره وهداه مختص بالمؤمنين
وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧
وقوله : ( وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين ) أي : هدى لقلوب المؤمنين ، ورحمة لهم في العمليات .
وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧
( وإنه ) يعني القرآن لهدى ورحمة للمؤمنين خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به .
وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧
{ وَإِنَّهُ لَهُدًى }
من الضلالة والغي والشبه { وَرَحْمَةٌ } تنثلج له صدورهم وتستقيم به أمورهم الدينية والدنيوية { لِلْمُؤْمِنِينَ } به المصدقين له المتلقين له بالقبول المقبلين على تدبره المتفكرين في معانيه، فهؤلاء تحصل لهم به الهداية إلى الصراط المستقيم والرحمة المتضمنة للسعادة والفوز والفلاح.
إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُم بِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ ٨٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُم بِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ ٨٧
ثم قال : ( إن ربك يقضي بينهم ) أي : يوم القيامة ، ( بحكمه وهو العزيز ) في انتقامه ، ( العليم ) بأفعال عباده وأقوالهم .
إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُم بِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ ٨٧
إن ربك يقضي بينهم بحكمه أي يقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة ، فيجازي المحق والمبطل . وقيل : يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه وهو العزيز المنيع الغالب الذي لا يرد أمره العليم الذي لا يخفى عليه شيء .
إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُم بِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ ٨٧
أي: إن الله تعالى سيفصل بين المختصين وسيحكم بين المختلفين بحكمه العدل وقضائه القسط، فالأمور وإن حصل فيها اشتباه في الدنيا بين المختلفين لخفاء الدليل أو لبعض المقاصد فإنه سيبين فيها الحق المطابق للواقع حين يحكم الله فيها، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي قهر الخلائق فأذعنوا له، { الْعَلِيمُ } بجميع الأشياء { الْعَلِيمُ } بأقوال المختلفين وعن ماذا صدرت وعن غاياتها ومقاصدها وسيجازي كلا بما علمه فيه.
فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ ٩٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ ٩٧
( فتوكل على الله ) أي : في أمورك ، وبلغ رسالة ربك ، ( إنك على الحق المبين ) أي : أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك ، ممن كتبت عليه الشقاوة وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية ; ولهذا قال :
فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ ٩٧
قوله تعالى : فتوكل على الله أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه ; فإنه ناصرك . إنك على الحق المبين أي الظاهر . وقيل : المظهر لمن تدبره وجه الصواب
فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ ٩٧
أي: اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار وفي تبليغ الرسالة وإقامة الدين وجهاد الأعداء. { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } الواضح والذي على الحق يدعو إليه، ويقوم بنصرته أحق من غيره بالتوكل فإنه يسعى في أمر مجزوم به معلوم صدقه لا شك فيه ولا مرية. وأيضا فهو حق في غاية البيان لا خفاء به ولا اشتباه، وإذا قمت بما حملت وتوكلت على الله في ذلك فلا يضرك ضلال من ضل وليس عليك هداهم
إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٠٨
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٠٨
( إنك لا تسمع الموتى ) أي : لا تسمعهم شيئا ينفعهم ، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة ، وفي آذانهم وقر الكفر ; ولهذا قال : ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين )
إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٠٨
إنك لا تسمع الموتى يعني الكفار لتركهم التدبر ; فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل . وقيل : هذا فيمن علم أنه لا يؤمن . ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ ; فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون ; نظيره : صم بكم عمي كما تقدم . وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق وعباس عن أبي عمرو : ( ولا يسمع ) بفتح الياء والميم ( الصم ) رفعا على الفاعل . الباقون ( تسمع ) مضارع ( أسمعت ) الصم نصبا .
إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٠٨
{ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ }
أي: حين تدعوهم وتناديهم، وخصوصا { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } فإنه يكون أبلغ في عدم إسماعهم.
وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ١٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ١٨
(وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) [ أي ] : إنما يستجيب لك من هو سميع بصير ، السمع والبصر النافع في القلب والبصيرة الخاضع لله ، ولما جاء عنه على ألسنة الرسل ، عليهم السلام .
وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ١٨
مسألة : وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية ; فنظرت في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما أنتم بأسمع منهم . قال ابن عطية : فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة ، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين .
قلت : روى البخاري رضي الله عنه ; حدثني عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه ، قالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفير الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ; فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ; قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما . خرجه مسلم أيضا . قال البخاري : حدثنا عثمان قال : حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال : وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ ثم قال : إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت إنك لا تسمع الموتى حتى قرأت الآية . وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور ، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات ، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه ، إلى غير ذلك ; فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه . وهذا واضح وقد بيناه في كتاب ( التذكرة ) . قوله تعالى : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم أي كفرهم ; أي ليس في وسعك خلق الإيمان في قلوبهم . وقرأ حمزة : ( وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم ) كقوله : أفأنت تهدي العمي . الباقون : ( بهادي العمي ) وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي ( الروم ) مثله . وكلهم وقف على ( بهادي ) بالياء في هذه السورة وبغير ياء في ( الروم ) اتباعا للمصحف ، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء . وأجاز الفراء وأبو حاتم : ( وما أنت بهاد العمي ) وهي الأصل . وفي حرف عبد الله ( وما أن تهدي العمي ) . إن تسمع أي ما تسمع . إلا من يؤمن بآياتنا قال ابن عباس : أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد .
وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ١٨
{ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ } كما قال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } { إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ } أي: هؤلاء الذين ينقادون لك، الذين يؤمنون بآيات الله وينقادون لها بأعمالهم واستسلامهم كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }
۞ وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ ٢٨
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ ٢٨
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض - قيل : من مكة . وقيل : من غيرها . كما سيأتي تفصيله - فتكلم الناس على ذلك .
قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة - وروي عن علي رضي الله عنه - : تكلمهم كلاما أي : تخاطبهم مخاطبة .
وقال عطاء الخراساني : تكلمهم فتقول لهم : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون . ويروى هذا عن علي ، واختاره ابن جرير . وفي هذا [ القول ] نظر لا يخفى ، والله أعلم .
وقال ابن عباس - في رواية - تجرحهم . وعنه رواية ، قال : كلا تفعل يعني هذا وهذا ، وهو قول حسن ، ولا منافاة ، والله أعلم .
وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة ، فلنذكر ما تيسر منها ، والله المستعان :
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن فرات ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو : تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من طرق ، عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة موقوفا . وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه مسلم أيضا من حديث عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، عنه مرفوعا . والله أعلم .
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي ، عن طلحة بن عمرو ، وجرير بن حازم ، فأما طلحة فقال : أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي : أن أبا الطفيل حدثه ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سريحة ، وأما جرير فقال : عن عبد الله بن عبيد ، عن رجل من آل عبد الله بن مسعود - وحديث طلحة أتم وأحسن - قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة فقال : " لها ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خرجة من أقصى البادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني : مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك ، فيعلو ذكرها في أهل البادية ، ويدخل ذكرها القرية " يعني : مكة . - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها : المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ، تنفض عن رأسها التراب ، فارفض الناس عنها شتى ومعا ، وبقيت عصابة من المؤمنين ، وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري ، وولت في الأرض لا يدركها طالب ، ولا ينجو منها هارب ، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان ، الآن تصلي ؟ فيقبل عليها فتسمه في وجهه ، ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ، ويصطحبون في الأمصار ، يعرف المؤمن من الكافر ، حتى إن المؤمن ليقول : يا كافر ، اقضني حقي . وحتى إن الكافر ليقول : يا مؤمن ، اقضني حقي " .
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن حذيفة بن أسيد موقوفا فالله أعلم . ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعا ، وأن ذلك في زمان عيسى ابن مريم ، وهو يطوف بالبيت ، ولكن إسناده لا يصح .
حديث آخر : قال مسلم بن الحجاج : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن بشر ، عن أبي حيان ، عن أبي زرعة ، عن عبد الله بن عمرو قال : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لم أنسه بعد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على إثرها قريبا " .
حديث آخر : روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب - مولى الحرقة - عن أبيه : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، أو الدخان ، أو الدجال ، أو الدابة ، أو خاصة أحدكم ، أو أمر العامة " . وله من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن زياد بن رباح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : الدجال ، والدخان ، ودابة الأرض ، وطلوع الشمس من مغربها ، وأمر العامة وخويصة أحدكم " .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا حرملة بن يحيى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن سنان بن سعد ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، ودابة الأرض ، والدجال ، وخويصة أحدكم ، وأمر العامة " . تفرد به .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي أيضا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تخرج دابة الأرض ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، عليهما السلام ، فتخطم أنف الكافر بالعصا ، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم ، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر " .
ورواه الإمام أحمد ، عن بهز وعفان ويزيد بن هارون ، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة ، به . وقال : " فتخطم أنف الكافر بالخاتم ، وتجلو وجه المؤمن بالعصا ، حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر " .
ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يونس بن محمد المؤدب ، عن حماد بن سلمة ، به .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو ، حدثنا أبو تميلة ، حدثنا خالد بن عبيد ، حدثنا عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : ذهب بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى موضع بالبادية ، قريب من مكة ، فإذا أرض يابسة حولها رمل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تخرج الدابة من هذا الموضع . فإذا فتر في شبر " .
قال ابن بريدة : فحججت بعد ذلك بسنين ، فأرانا عصا له ، فإذا هو بعصاي هذه ، كذا وكذا .
وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة ; أن ابن عباس قال : هي دابة ذات زغب ، لها أربع قوائم ، تخرج من بعض أودية تهامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية قال : قال عبد الله : تخرج الدابة من صدع من الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام ، لم يخرج ثلثها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح قال : سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة ، فقال : الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد ، والله لو كنت معهم - أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها . قيل : فتصنع ماذا يا عبد الله بن عمرو ؟ قال : تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان . قيل : ثم ماذا ؟ قال : لا أعلم .
وعن عبد الله بن عمر ، أنه قال : تخرج الدابة ليلة جمع . ورواه ابن أبي حاتم . وفي إسناده ابن البيلمان .
وعن وهب بن منبه : أنه حكى من كلام عزير ، عليه السلام ، أنه قال : وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها ، وتضع الحبالى قبل التمام ، ويعود الماء العذب أجاجا ، ويتعادى الأخلاء ، وتحرق الحكمة ، ويرفع العلم ، وتكلم الأرض التي تليها . وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون ، ويتعبون فيما لا ينالون ، ويعملون فيما لا يأكلون . رواه ابن أبي حاتم ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح - كاتب الليث - حدثني معاوية بن صالح ، عن أبي مريم : أنه سمع أبا هريرة ، رضي الله عنه ، يقول : إن الدابة فيها من كل لون ، ما بين قرنيها فرسخ للراكب .
وقال ابن عباس : هي مثل الحربة الضخمة .
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : إنها دابة لها ريش وزغب وحافر ، وما لها ذنب ، ولها لحية ، وإنها لتخرج حضر الفرس الجواد ثلاثا ، وما خرج ثلثها . ورواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جريج ، عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثنا [ عشر ] ذراعا ، تخرج معها عصا موسى ، وخاتم سليمان ، فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان ، فتفشو تلك النكتة حتى يسود لها وجهه ، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق : بكم ذا يا مؤمن ، بكم ذا يا كافر ؟ وحتى إن أهل البيت يجلسون على مائدتهم ، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم ، ثم تقول لهم الدابة : يا فلان ، أبشر ، أنت من أهل الجنة ، ويا فلان ، أنت من أهل النار . فذلك قول الله تعالى : ( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) .
۞ وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ ٢٨
قوله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم : اختلف في معنى وقع القول وفي ( الدابة ) فقيل : معنى وقع القول عليهم وجب الغضب عليهم ; قاله قتادة . وقال مجاهد : أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون . وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما : إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم . وقال عبد الله بن مسعود : ( وقع القول ) يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن . قال عبد الله : أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع ، قالوا : هذه المصاحف ترفع ، فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا ، وينسون لا إله إلا الله ، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم ، وذلك حين يقع القول عليهم .
قلت : أسنده أبو بكر البزار قال : حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي قال : حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه أنه قال : أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه ; وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع ; قالوا : يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال ؟ قال : فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا . فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية ، وذلك حين يقع القول عليهم . وقيل : القول هو قوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء ،
فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة ; ذكره القشيري . وقول سادس : قالت حفصة بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم فقال : أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف . قال النحاس : وهذا من حسن الجواب ; لأن الناس ممتحنون ومؤخرون لأن فيهم مؤمنين وصالحين ، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب ; فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية ، فإذا زال هذا وجب القول عليهم ، فصاروا كقوم نوح حين قال الله تعالى : إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن .
قلت : وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد . والدليل عليه آخر الآية إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وقرئ : ( أن ) بفتح الهمزة وسيأتي . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض وقد مضى . واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب ( التذكرة ) ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفى . فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها - والله أعلم - لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال : لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمانا طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية . يعني مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعا وتثبت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي ؟ فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول : يا كافر اقض حقي . وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قوله : وهي ترغو . والرغاء إنما هو للإبل ; وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم انطبق عليه ، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل . وروي أنها دابة مزغبة شعراء ، ذات قوائم طولها ستون ذراعا ، ويقال إنها الجساسة ; وهو قول عبد الله بن عمر وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين ; وهي في السحاب وقوائمها في الأرض . وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان . وذكر الماوردي والثعلبي : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا - الزمخشري : بذراع آدم عليه السلام - ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه ، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه ; قاله ابن الزبير رضي الله عنهما . وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة . وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال : أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية . قال الماوردي : وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الإنس وإن لم يصرح به .
قلت : ولهذا - والله أعلم - قال بعض المتأخرين من المفسرين : إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا ، فيهلك من هلك عن بينة : ويحيا من حيي عن بينة . قال شيخنا الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب ( المفهم ) له : وإن ما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى : ( تكلمهم ) وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة ، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث ; لأن وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير ، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر ، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول ، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة ; وهذا خروج عن عادة الفصحاء ، وعن تعظيم العلماء ، وليس ذلك دأب العقلاء ; فالأولى ما قاله أهل التفسير ، والله أعلم بحقائق الأمور .
قلت : قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه ، واختلف من أي موضع تخرج ، فقال عبد الله بن عمر : تخرج من جبل الصفا بمكة ; يتصدع فتخرج منه . قال عبد الله بن عمرو نحوه وقال : لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء : كافر وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش ; ذكره المهدوي . وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا ، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام . وعن حذيفة : تخرج ثلاث خرجات ; خرجة في بعض البوادي ثم تكمن ، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء ، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري : تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ; فقوم يهربون ، وقوم يقفون نظارة . وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة . وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام . وقيل : من أرض الطائف ; قال أبو قبيل : ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال : من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس وقيل : من بعض أودية تهامة ; قاله ابن عباس وقيل : من صخرة من شعب أجياد ; قاله عبد الله بن عمرو . وقيل : من بحر سدوم ; قاله وهب بن منبه . ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه . وذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر - وسئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة - عن عطية العوفي عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها .
قلت : فهذه أقوال الصحابة والتابعين في خروج الدابة وصفتها ، وهي ترد قول من قال من المفسرين : إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم ذكره الماوردي . تكلمهم بضم التاء وشد اللام المكسورة - من الكلام - قراءة العامة ; يدل عليه قراءة أبي ( تنبئهم ) . وقال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام . وقيل : تكلمهم بما يسوءهم . وقيل : تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه من قرب وبعد ( إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) أي بخروجي ; لأن خروجها من الآيات . وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين . وقرأ أبو زرعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء : ( تكلمهم ) بفتح التاء من ( الكلم ) وهو الجرح قال عكرمة : أي تسمهم . وقال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس عن هذه الآية تكلمهم أو ( تكلمهم ) ؟ فقال : هي والله ( تكلمهم ) و ( تكلمهم ) تكلم المؤمن وتكلم الكافر والفاجر أي تجرحه . وقال أبو حاتم : ( تكلمهم ) كما تقول : تجرحهم ; يذهب إلى أنه تكثير من ( تكلمهم ) . أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق ويحيى : ( أن ) بالفتح . وقرأ أهل الحرمين وأهل الشام وأهل البصرة : ( إن ) بكسر الهمزة . قال النحاس : في المفتوحة قولان وكذا المكسورة ; قال الأخفش : المعنى ( بأن ) وكذا قرأ ابن مسعود ( بأن ) وقال أبو عبيدة : موضعها نصب بوقوع الفعل عليها ; أي تخبرهم أن الناس . وقرأ الكسائي والفراء : ( إن الناس ) بالكسر على الاستئناف وقال الأخفش : هي بمعنى : تقول : إن الناس ; يعني الكفار بآياتنا لا يوقنون يعني بالقرآن وبمحمد صلي الله عليه وسلم ، وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها ; والله أعلم .
۞ وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ ٢٨
أي: إذا وقع على الناس القول الذي حتمه الله وفرض وقته. { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً } خارجة { مِنَ الْأَرْضِ } أو دابة من دواب الأرض ليست من السماء. وهذه الدابة { تُكَلِّمُهُمْ } أي: تكلم العباد أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أي: لأجل أن الناس ضعف علمهم ويقينهم بآيات الله، فإظهار الله هذه الدابة من آيات الله العجيبة ليبين للناس ما كانوا فيه يمترون.
وهذه الدابة هي الدابة المشهورة التي تخرج في آخر الزمان وتكون من أشراط الساعة كما تكاثرت بذلك الأحاديث [ولم يأت دليل يدل على كيفيتها ولا من أي: نوع هي وإنما دلت الآية الكريمة على أن الله يخرجها للناس وأن هذا التكليم منها خارق للعوائد المألوفة وأنه من الأدلة على صدق ما أخبر الله به في كتابه والله أعلم]
وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٣٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٣٨
يقول تعالى مخبرا عن يوم القيامة ، وحشر الظالمين المكذبين بآيات الله ورسله إلى بين يدي الله ، عز وجل ، ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا ، تقريعا وتوبيخا ، وتصغيرا وتحقيرا فقال : ( ويوم نحشر من كل أمة فوجا ) أي : من كل قوم وقرن فوجا ، أي : جماعة ، ( ممن يكذب بآياتنا ) ، كما قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) [ الصافات : 22 ] ، وقال تعالى ( وإذا النفوس زوجت ) [ التكوير : 7 ] .
وقوله : ( فهم يوزعون ) قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : يدفعون . وقال قتادة : وزعة ترد أولهم على آخرهم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يساقون .
وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٣٨
قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا أي زمرة وجماعة . ممن يكذب بآياتنا يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق . فهم يوزعون أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب . قال الشماخ :
وكم وزعنا من خميس جحفل وكم حبونا من رئيس مسحل
وقال قتادة : يوزعون أي يرد أولهم على آخرهم .
وَيَوۡمَ نَحۡشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ فَوۡجٗا مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُمۡ يُوزَعُونَ ٣٨
يخبر تعالى عن حالة المكذبين في موقف القيامة وأن الله يجمعهم، ويحشر من كل أمة من الأمم فوجا وطائفة { مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ } يجمع أولهم على آخرهم وآخرهم على أولهم ليعمهم السؤال والتوبيخ واللوم.
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بَِٔايَٰتِي وَلَمۡ تُحِيطُواْ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٤٨
نسخ
مشاركة
التفسير
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بَِٔايَٰتِي وَلَمۡ تُحِيطُواْ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٤٨
( حتى إذا جاءوا ) أي : أوقفوا بين يدي الله عز وجل ، في مقام المساءلة ، ( قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ) أي : ويسألون عن اعتقادهم ، وأعمالهم فلما لم يكونوا من أهل السعادة ، وكانوا كما قال الله تعالى عنهم : ( فلا صدق ولا صلى . ولكن كذب وتولى ) [ القيامة : 31 ، 32 ] ، فحينئذ قامت عليهم الحجة ، ولم يكن لهم عذر يعتذرون به ، كما قال تعالى : ( هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون . ويل يومئذ للمكذبين ) [ المرسلات : 35 ، 37 ] ،
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بَِٔايَٰتِي وَلَمۡ تُحِيطُواْ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٤٨
حتى إذا جاءوا قال أي قال لهم الله أكذبتم بآياتي التي أنزلتها على رسلي ، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي . ولم تحيطوا بها علما أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها ، بل كذبتم جاهلين غير مستدلين . أم ماذا كنتم تعملون تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها .
حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بَِٔايَٰتِي وَلَمۡ تُحِيطُواْ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٤٨
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوا } وحضروا قال لهم موبخا ومقرعا: { أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا } العلم أي: الواجب عليكم التوقف حتى ينكشف لكم الحق وأن لا تتكلموا إلا بعلم، فكيف كذبتم بأمر لم تحيطوا به علما؟ { أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: يسألهم عن علمهم وعن عملهم فيجد عليهم تكذيبا بالحق، وعملهم لغير الله أو على غير سنة رسولهم.
وَوَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمۡ لَا يَنطِقُونَ ٥٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَوَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمۡ لَا يَنطِقُونَ ٥٨
وهكذا قال هاهنا : ( ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ) أي : بهتوا فلم يكن لهم جواب ; لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم ، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية .
وَوَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمۡ لَا يَنطِقُونَ ٥٨
ووقع القول عليهم بما ظلموا أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم . فهم لا ينطقون أي ليس لهم عذر ولا حجة . وقيل : يختم على أفواههم فلا ينطقون ; قاله أكثر المفسرين .
وَوَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمۡ لَا يَنطِقُونَ ٥٨
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا } أي: حقت عليهم كلمة العذاب بسبب ظلمهم الذي استمروا عليه وتوجهت عليهم الحجة، { فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ } لأنه لا حجة لهم.
أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِيَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٨
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِيَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٨
ثم قال تعالى منبها على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم ، وشأنه الرفيع الذي تجب طاعته والانقياد لأوامره ، وتصديق أنبيائه فيما جاءوا به من الحق الذي لا محيد عنه ، فقال ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ) أي : فيه ظلام تسكن بسببه حركاتهم ، وتهدأ أنفاسهم ، ويستريحون من نصب التعب في نهارهم . ( والنهار مبصرا ) أي : منيرا مشرقا ، فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش والمكاسب ، والأسفار والتجارات ، وغير ذلك من شئونهم التي يحتاجون إليها ، ( إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) .
أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِيَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٨
قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه أي يستقرون فينامون . والنهار مبصرا أي يبصر فيه لسعي الرزق . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بالله . ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته ، أي : ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا .
أَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِيَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٦٨
أي: ألم يشاهدوا هذه الآية العظيمة والنعمة الجسيمة وهو تسخير الله لهم الليل والنهار، هذا بظلمته ليسكنوا فيه ويستريحوا من التعب ويستعدوا للعمل، وهذا بضيائه لينتشروا فيه في معاشهم وتصرفاتهم. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } على كمال وحدانية الله وسبوغ نعمته.
وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ ٧٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ ٧٨
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور ، وهو كما جاء في الحديث : " قرن ينفخ فيه " . وفي حديث ( الصور ) أن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى ، فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها ، وذلك في آخر عمر الدنيا ، حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء ، فيفزع من في السموات ومن في الأرض ( إلا من شاء الله ) ، وهم الشهداء ، فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون .
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي ، سمعت عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه ، وجاءه رجل فقال : ما هذا الحديث الذي تحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله - أو : لا إله إلا الله - أو كلمة نحوهما - لقد هممت ألا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يخرب البيت ، ويكون ويكون . ثم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - [ لا أدري أربعين ] يوما ، أو أربعين شهرا ، أو أربعين عاما - فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه . ثم يمكث الناس سبع سنين ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ، حتى لو أن أحدهم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه " . قال : سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دار رزقهم ، حسن عيشهم . ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا [ ورفع ليتا ] . قال : " وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله " . قال : " فيصعق ويصعق الناس ، ثم يرسل الله - أو قال : ينزل الله مطرا كأنه الطل - أو قال : الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، وقفوهم إنهم مسئولون . ثم يقال : أخرجوا بعث النار . فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين " . قال : " فذلك يوم يجعل الولدان شيبا ، وذلك يوم يكشف عن ساق " .
وقوله : ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا " الليت : هو صفحة العنق ، أي : أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدا .
فهذه نفخة الفزع . ثم بعد ذلك نفخة الصعق ، وهو الموت . ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين ، وهو النشور من القبور لجميع الخلائق ; ولهذا قال : ( وكل أتوه داخرين ) - قرئ بالمد ، وبغيره على الفعل ، وكل بمعنى واحد - و ( داخرين ) أي : صاغرين مطيعين ، لا يتخلف أحد عن أمره ، كما قال تعالى : ( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ) [ الإسراء : 52 ] ، وقال ( ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ) [ الروم : 25 ] . وفي حديث الصور : أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح ، فتوضع في ثقب في الصور ، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها ، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح ، تتوهج أرواح المؤمنين نورا ، وأرواح الكافرين ظلمة ، فيقول الله ، عز وجل : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها . فتجيء الأرواح إلى أجسادها ، فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ ، ثم يقومون فينفضون التراب من قبورهم ، قال الله تعالى : ( يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ) [ المعارج : 43 ] .
وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ ٧٨
قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور أي واذكر يوم ، أو ذكرهم يوم ينفخ في الصور . ومذهب الفراء أن المعنى : وذلكم يوم ينفخ في الصور ; وأجاز فيه الحذف والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل قال مجاهد : كهيئة البوق . وقيل : هو البوق بلغة أهل اليمن وقد مضى في ( الأنعام ) بيانه وما للعلماء في ذلك . ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لما فرغ من خلق السماوات خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخة . قلت : يا رسول الله ما الصور ؟ قال : قرن - والله - عظيم ، والذي بعثني بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث والقيام لرب العالمين وذكر الحديث . ذكره علي بن معبد والطبري والثعلبي وغيرهم ، وصححه ابن العربي . وقد ذكرته في كتاب ( التذكرة ) وتكلمنا عليه هنالك ، وأن الصحيح في النفخ في الصور أنهما نفختان لا ثلاث ، وأن نفخة الفزع إنما تكون راجعة إلى نفخة الصعق لأن الأمرين لا زمان لهما ; أي فزعوا فزعا ماتوا منه ; أو إلى نفخة البعث . وهو اختيار القشيري وغيره ; فإنه قال في كلامه على هذه الآية : والمراد النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : من بعثنا من مرقدنا ; ويعاينون من الأمور ما يهولهم ويفزعهم ; وهذا النفخ كصوت البوق لتجتمع الخلق في أرض الجزاء . قاله قتادة وقال الماوردي : ويوم ينفخ في الصور هو يوم النشور من القبور ، قال : وفي هذا الفزع قولان : أحدهما أنه الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم : فزعت إليك في كذا : إذا أسرعت إلى ندائك في معونتك . والقول الثاني : إن الفزع هنا هو الفزع المعهود من الخوف والحزن ; لأنهم أزعجوا من قبورهم ففزعوا وخافوا . وهذا أشبه القولين .
قلت : والسنة الثابتة من حديث أبى هريرة وحديث عبد الله بن عمرو يدل على أنهما نفختان لا ثلاث ; خرجهما مسلم وقد ذكرناهما في كتاب ( التذكرة ) وهو الصحيح إن شاء الله تعالى أنهما نفختان ; قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة . وقد روى ابن المبارك عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بين النفختين أربعون سنة ، الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيي الله بها كل ميت فإن قيل : فإن قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة إلى أن قال : فإنما هي زجرة واحدة وهذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث . قيل له : ليس كذلك ، وإنما المراد بالزجرة : النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم ; كذلك قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن زيد وغيرهم . قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله ، وأما الأخرى فتحيي كل شيء بإذن الله . وقال عطاء : ( الراجفة ) : القيامة و ( الرادفة ) : البعث . وقال ابن زيد : ( الراجفة ) : الموت و ( الرادفة ) : الساعة . والله أعلم . إلا من شاء الله اختلف في هذا المستثنى من هم . ففي حديث أبي هريرة أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون . إنما يصل الفزع إلى الأحياء ; وهو قول سعيد بن جبير أنهم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وقال القشيري : الأنبياء داخلون في جملتهم ; لأن لهم الشهادة مع النبوة . وقيل : الملائكة . قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين . قال مقاتل : يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت . وقيل : الحور العين . وقيل : هم المؤمنون ، لأن الله تعالى قال عقب هذا : من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون وقال بعض علمائنا : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل .
قلت : خفي عليه حديث أبي هريرة وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي فليعول عليه ، لأنه نص في التعيين ، وغيره اجتهاد . والله أعلم . وقيل غير هذا على ما يأتي في ( الزمر ) وقوله ففزع من في السماوات ماض و ( ينفخ ) مستقبل فيقال : كيف عطف ماض على مستقبل ؟ فزعم الفراء أن هذا محمول على المعنى ; لأن المعنى : إذا نفخ في الصور ففزع . إلا من شاء الله نصب على الاستثناء . وكل أتوه داخرين قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي ونافع وابن عامر وابن كثير : ( آتوه ) جعلوه فعلا مستقبلا . وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة وحفص عن عاصم : ( وكل أتوه ) مقصورا ، على الفعل الماضي ، وكذلك قرأه ابن مسعود وعن قتادة ( وكل أتاه داخرين ) قال النحاس : وفي كتابي عن أبي إسحاق في القراءات من قرأ : ( وكل أتوه ) وحده على لفظ ( كل ) ومن قرأ : ( أتوه ) جمع على معناها ، وهذا القول غلط قبيح ; لأنه إذا قال : ( وكل أتوه ) فلم يوحد وإنما جمع ، ولو وحد لقال : ( أتاه ) ولكن من قال : ( أتوه ) جمع على المعنى وجاء به ماضيا لأنه رده إلى ( ففزع ) ومن قرأ ( وكل آتوه ) حمله على المعنى أيضا وقال : ( آتوه ) لأنها جملة منقطعة من الأول قال ابن نصر : قد حكي عن أبي إسحاق رحمه الله ما لم يقله ، ونص أبي إسحاق : وكل أتوه داخرين ويقرأ : ( آتوه ) فمن وحد فللفظ ( كل ) ومن جمع فلمعناها . يريد ما أتى في القرآن أو غيره من توحيد خبر ( كل ) فعلى اللفظ أو جمع فعلى المعنى ; فلم يأخذ أبو جعفر هذا المعنى قال المهدوي : ومن قرأ وكل أتوه داخرين فهو فعل من الإتيان وحمل على معنى ( كل ) دون لفظها ، ومن قرأ ( وكل آتوه داخرين ) فهو اسم الفاعل من أتى . يدلك على ذلك قوله تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ومن قرأ ( وكل أتاه ) حمله على لفظ ( كل ) دون معناها وحمل ( داخرين ) على المعنى ، ومعناه صاغرين ، عن ابن عباس وقتادة . وقد مضى في ( النحل ) .
وَيَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۚ وَكُلٌّ أَتَوۡهُ دَٰخِرِينَ ٧٨
يخوف تعالى عباده ما أمامهم من يوم القيامة وما فيه من المحن والكروب، ومزعجات القلوب فقال: { وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ } بسبب النفخ فيه { مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ } أي: انزعجوا وارتاعوا وماج بعضهم ببعض خوفا مما هو مقدمة له. { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } ممن أكرمه الله وثبته وحفظه من الفزع. { وَكُلٌّ } من الخلق عند النفخ في الصور { أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } صاغرين ذليلين، كما قال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } ففي ذلك اليوم يتساوى الرؤساء والمرءوسون في الذل والخضوع لمالك الملك.
وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ ٨٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ ٨٨
وقوله : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) أي : تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه ، وهي تمر مر السحاب ، أي : تزول عن أماكنها ، كما قال تعالى : ( يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ) [ الطور : 9 ، 10 ] ، وقال ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) [ طه : 105 ، 107 ] ، وقال تعالى : ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ) [ الكهف : 47 ] .
وقوله : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) أي : يفعل ذلك بقدرته العظيمة الذي قد أتقن كل ما خلق ، وأودع فيه من الحكمة ما أودع ، ( إنه خبير بما تفعلون ) أي : هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر فيجازيهم عليه .
وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ ٨٨
قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب قال ابن عباس : أي قائمة وهي تسير سيرا حثيثا . قال القتبي : وذلك أن الجبال تجمع وتسير ، فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير ; وكذلك كل شي عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر ، لكثرته وبعد ما بين أطرافه ، وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير . قال النابغة في وصف جيش :
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج
قال القشيري : وهذا يوم القيامة ; أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب - والسحاب المتراكم - يظن أنها واقفة وهي تسير ، أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء ، فقال الله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا ويقال : إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها ، وإبراز ما كانت تواريه ، فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة ; ثم تصير كالعهن المنفوش ; وذلك إذا صارت السماء كالمهل ، وقد جمع الله بينهما فقال : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن . والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن . والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز ، فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها . والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتظهرها شعاعا في الهواء كأنها غبار ، فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجسادا جامدة ، وهي بالحقيقة مارة ، إلا إن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة . والحالة السادسة أن تكون سرابا . فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا منها كالسراب قال مقاتل : تقع على الأرض فتسوى بها . ثم قيل هذا مثل ، قال الماوردي : وفيهما ضرب له ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى للدنيا يظن الناظر إليها أنها واقفة كالجبال ، وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ; قاله سهل بن عبد الله .
الثاني : أنه مثل ضربه الله للإيمان تحسبه ثابتا في القلب وعمله صاعد إلى السماء .
الثالث : أنه مثل ضربه الله للنفس عند خروج الروح والروح تسير إلى العرش . و ( ترى ) من رؤية العين ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين . والأصل ترأى فألقيت حركة الهمزة على الراء فتحركت الراء وحذفت الهمزة ، وهذا سبيل تخفيف الهمزة إذا كان قبلها ساكن ، إلا أن التخفيف لازم ل ( ترى ) . وأهل الكوفة يقرءون : ( تحسبها ) بفتح السين وهو القياس ; لأنه من : حسب يحسب ، إلا أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها أنه قرأ بالكسر في المستقبل ، فتكون على : فعل يفعل ، مثل : نعم ينعم وبئس يبئس . وحكي : يئس ييئس ، من السالم ، لا يعرف في كلام العرب غير هذه الأحرف .
وهي تمر مر السحاب تقديره : مرا مثل مر السحاب ، فأقيمت الصفة مقام الموصوف والمضاف مقام المضاف إليه ; فالجبال تزال من أماكنها من على وجه الأرض وتجمع وتسير كما تسير السحاب ، ثم تكسر فتعود إلى الأرض كما قال : وبست الجبال بسا صنع الله عند الخليل وسيبويه منصوب على أنه مصدر ; لأنه لما قال عز وجل : وهي تمر مر السحاب دل على أنه قد صنع ذلك صنعا . ويجوز النصب على الإغراء ; أي انظروا صنع الله . فيوقف على هذا على ( السحاب ) ولا يوقف عليه على التقدير الأول . ويجوز رفعه على تقدير : ذلك صنع الله . الذي أتقن كل شيء أي أحكمه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله من عمل عملا فأتقنه . وقال قتادة : معناه : أحسن كل شيء . والإتقان : الإحكام ; يقال : رجل تقن ، أي حاذق بالأشياء وقال الزهري : أصله من ابن تقن ، وهو رجل من عاد لم يكن يسقط له سهم فضرب به المثل ; يقال : أرمى من ابن تقن . ثم يقال لكل حاذق بالأشياء : تقن . ( إنه خبير بما يفعلون ) والباقون ( تفعلون ) بالتاء على الخطاب قراءة الجمهور وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالياء .
وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ ٨٨
ومن هوله أنك { ترى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } لا تفقد [شيئا] منها وتظنها باقية على الحال المعهودة وهي قد بلغت منها الشدائد والأهوال كل مبلغ وقد تفتت ثم تضمحل وتكون هباء منبثا. ولهذا قال: { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } من خفتها وشدة ذلك الخوف وذلك { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } فيجازيكم بأعمالكم.
مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ ٩٨
نسخ
مشاركة
التفسير
مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ ٩٨
ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ فقال : ( من جاء بالحسنة فله خير منها ) - قال قتادة : بالإخلاص . وقال زين العابدين : هي لا إله إلا الله - وقد بين في المكان الآخر أن له عشر أمثالها ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) ، كما قال في الآية الأخرى : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) [ الأنبياء : 103 ] ، وقال : ( أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ) [ فصلت : 40 ] ، وقال : ( وهم في الغرفات آمنون ) [ سبأ : 37 ] .
مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ ٩٨
قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما : الحسنة : لا إله إلا الله . وقال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم : غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له : والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالي : من جاء بالحسنة فله خير منها وروى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات : لا إله إلا الله ؟ قال : من أفضل الحسنات وفي رواية قال : نعم هي أحسن الحسنات . ذكره البيهقي ، وقال قتادة : من جاء بالحسنة بالإخلاص والتوحيد . وقيل : أداء الفرائض كلها .
قلت : إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها على ما تقدم بيانه في سورة ( إبراهيم ) فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض . فله خير منها قال ابن عباس : أي وصل إليه الخير منها ; وقاله مجاهد وقيل : فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس ( خير ) للتفضيل . قال عكرمة وابن جريج : أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا ، فإنه ليس شيء خيرا ممن قال : لا إله إلا الله ، ولكن له منها خير . وقيل : فله خير منها للتفضيل ، أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره ، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد ، قاله ابن عباس وقيل : يرجع هذا إلى الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا ; وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي . قاله محمد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد وهم من فزع يومئذ آمنون قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( فزع يومئذ ) بالإضافة . قال أبو عبيد : وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وإذا قال : من فزع يومئذ صار كأنه فزع دون فزع . قال القشيري : وقرئ : ( من فزع ) بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كما قال : لا يحزنهم الفزع الأكبر وقيل : عنى الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة .
قلت : فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى . قال المهدوي : ومن قرأ : ( من فزع يومئذ ) بالتنوين ، انتصب ( يومئذ ) بالمصدر الذي هو ( فزع ) ويجوز أن يكون صفة ل ( فزع ) ويكون متعلقا بمحذوف ; لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها ، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو ( آمنون ) . والإضافة على الاتساع في الظروف ، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان ، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا ، فلما أضيف إلى غير متمكن ولا معرب بني . وأنشد سيبويه :
على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا زريق المال ندل الثعالب
مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ خَيۡرٞ مِّنۡهَا وَهُم مِّن فَزَعٖ يَوۡمَئِذٍ ءَامِنُونَ ٩٨
ثم بين كيفية جزائه فقال: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ } اسم جنس يشمل كل حسنة قولية أو فعلية أو قلبية { فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } هذا أقل التفضيل
{ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } أي: من الأمر الذي فزع الخلق لأجله آمنون وإن كانوا يفزعون معهم.
وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٠٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٠٩
وقوله : ( ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ) أي : من لقي الله مسيئا لا حسنة له ، أو : قد رجحت سيئاته على حسناته ، كل بحسبه ; ولهذا قال : ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) .
وقال ابن مسعود وأبو هريرة وابن عباس ، رضي الله عنهم ، وأنس بن مالك ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وأبو وائل ، وأبو صالح ، ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، والزهري ، والسدي ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد ، في قوله : ( ومن جاء بالسيئة ) يعني : بالشرك .
وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٠٩
قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة أي بالشرك ، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن ، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله ، وأن السيئة الشرك في هذه الآية . فكبت وجوههم في النار قال ابن عباس : ألقيت . وقال الضحاك : طرحت ، ويقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه ، واللازم منه : أكب ، وقلما يأتي هذا في كلام العرب ( هل تجزون ) أي يقال لهم : هل تجزون . ثم يجوز أن يكون من قول الله ، ويجوز أن يكون من قول الملائكة إلا ما كنتم تعملون أي إلا جزاء أعمالكم .
وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ هَلۡ تُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٠٩
{ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ } اسم جنس يشمل كل سيئة { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } أي: ألقوا في النار على وجوههم ويقال لهم: { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٩
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٩
يقول تعالى مخبرا رسوله وآمرا له أن يقول : ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء ) ، كما قال : ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) [ يونس : 104 ] .
وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها ، كما قال : ( فليعبدوا رب هذا البيت . الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) [ قريش : 3 ، 4 ] .
وقوله : ( الذي حرمها ) أي : الذي إنما صارت حراما قدرا وشرعا بتحريمه لها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها " الحديث بتمامه . وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع ، كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام ، ولله الحمد .
وقوله : ( وله كل شيء ) : من باب عطف العام على الخاص ، أي : هو رب هذه البلدة ، ورب كل شيء ومليكه ، ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) أي : الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له .
إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٩
قوله تعالى : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها يعني مكة التي عظم الله حرمتها ; أي جعلها حرما آمنا ; لا يسفك فيها دم ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يصاد فيها صيد ، ولا يعضد فيها شجر ; على ما تقدم بيانه في غير موضع . وقرأ ابن عباس : ( التي حرمها ) نعتا للبلدة وقراءة الجماعة ( الذي ) وهو في موضع نصب ، نعت ل ( رب ) ولو كان بالألف واللام لقلت : ( المحرمها ) فإن كانت نعتا للبلدة قلت ( المحرمها هو ) لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام ; لأن الفعل جرى على غير من هو له ; فإن قلت : الذي حرمها . لم تحتج أن تقول : هو . وله كل شيء خلقا وملكا وأمرت أن أكون من المسلمين أي من المنقادين لأمره ، الموحدين له
إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ ٱلۡبَلۡدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُۥ كُلُّ شَيۡءٖۖ وَأُمِرۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٩
أي: قل لهم يا محمد { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ } أي: مكة المكرمة التي حرمها وأنعم على أهلها فيجب أن يقابلوا ذلك بالشكر والقبول. { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } من العلويات والسفليات أتى به لئلا يتوهم اختصاص ربوبيته بالبيت وحده. { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي: أبادر إلى الإسلام، وقد فعل صلى الله عليه وسلم فإنه أول هذه الأمة إسلاما وأعظمها استسلاما.
وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٢٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٢٩
وقوله : ( وأن أتلو القرآن ) أي : على الناس أبلغهم إياه ، كقوله : ( ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ) [ آل عمران : 58 ] ، وكقوله : ( نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون ) [ القصص : 3 ] أي : أنا مبلغ ومنذر ، ( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ) أي : لي سوية الرسل الذين أنذروا قومهم ، وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم ، وخلصوا من عهدتهم ، وحساب أممهم على الله ، كقوله تعالى : ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] ، وقال : ( إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ) [ هود : 12 ] .
وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٢٩
وأن أتلو القرآن أي وأمرت أن أتلو القرآن ، أي أقرأه قال النحاس : وأن أتلو نصب ب ( أن ) قال الفراء : وفي إحدى القراءتين ( وأن اتل ) وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذف منه الواو ، قال النحاس : ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة ، وهي مخالفة لجميع المصاحف .
وَأَنۡ أَتۡلُوَاْ ٱلۡقُرۡءَانَۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَقُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ٢٩
{ و } أمرت أيضا { أن أَتْلُوَ } عليكم { الْقُرْآنُ } لتهتدوا به وتقتدوا وتعلموا ألفاظه ومعانيه فهذا الذي علي وقد أديته، { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } نفعه يعود عليه وثمرته عائدة إليه { وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ } وليس بيدي من الهداية شيء.
وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٣٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٣٩
( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها ) ، أي : لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، والإعذار إليه ; ولهذا قال : ( سيريكم آياته فتعرفونها ) كما قال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) [ فصلت : 53 ] .
وقوله : ( وما ربك بغافل عما تعملون ) أي : بل هو شهيد على كل شيء .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر : حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، سمعت أبا هريرة يقول : قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أيها الناس ، لا يغترن أحدكم بالله ; فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة والذرة " .
[ قال أيضا ] : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا نصر بن علي ، قال أبي : أخبرني خالد بن قيس ، عن مطر ، عن عمر بن عبد العزيز قال : فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم .
وقد ذكر عن الإمام أحمد ، رحمه الله ، أنه كان ينشد هذين البيتين ، إما له أو لغيره :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما يخفى عليه يغيب
آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنة.
وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٣٩
قوله تعالى : وقل الحمد لله أي على نعمه وعلى ما هدانا سيريكم آياته أي في أنفسكم وفي غيركم كما قال : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم . ( فتعرفونها ) أي دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم وفي السماوات وفي الأرض ; نظيره قوله تعالى : وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وما ربك بغافل عما تعملون قرأ أهل المدينة وأهل الشام وحفص عن عاصم بالتاء على الخطاب ; لقوله : سيريكم آياته فتعرفونها فيكون الكلام على نسق واحد . الباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله ( فمن اهتدى ) فأخبر عن تلك الآية . كملت السورة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ فَتَعۡرِفُونَهَاۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ ٣٩
{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } الذي له الحمد في الأولى والآخرة ومن جميع الخلق، خصوصا أهل الاختصاص والصفوة من عباده، فإن الذي ينبغي أن يقع منهم من الحمد والثناء على ربهم أعظم مما يقع من غيرهم لرفعة درجاتهم وكمال قربهم منه وكثرة خيراته عليهم.
{ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } معرفة تدلكم على الحق والباطل، فلا بد أن يريكم من آياته ما تستنيرون به في الظلمات. { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ }
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل قد علم ما أنتم عليه من الأعمال والأحوال وعلم مقدار جزاء تلك الأعمال وسيحكم بينكم حكما تحمدونه عليه ولا يكون لكم حجة بوجه من الوجوه عليه.
تم تفسير سورة النمل بفضل الله وإعانته وتيسيره.
ونسأله تعالى أن لا تزال ألطافه ومعونته مستمرة علينا وواصلة منه إلينا، فهو أكرم الأكرمين وخير الراحمين وموصل المنقطعين ومجيب السائلين.
ميسر الأمور العسيرة وفاتح أبواب بركاته والمجزل في جميع الأوقات هباته، ميسر القرآن للمتذكرين ومسهل طرقه وأبوابه للمقبلين وممد مائدة خيراته ومبراته للمتفكرين والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
على يد جامعه وممليه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين، وذلك في 22 رمضان سنة 1343.
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم