بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١
[ بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ] تفسير سورة الكهف وهي مكية .
ذكر ما ورد في فضلها ، والعشر الآيات من أولها وآخرها ، وأنها عصمة من الدجال :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : قرأ رجل الكهف ، وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر ، فنظر فإذا ضبابة - أو : سحابة - قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اقرأ فلان ، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن ، أو تنزلت للقرآن " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة ، به . وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو : أسيد بن الحضير ، كما تقدم في تفسير البقرة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ، عصم من الدجال " .
رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي من حديث قتادة به . ولفظ الترمذي : " من حفظ الثلاث الآيات من أول الكهف " وقال : حسن صحيح .
طريق أخرى : قال ] الإمام [ أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة ، عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " .
ورواه مسلم أيضا والنسائي ، من حديث قتادة ، به . وفي لفظ النسائي : " من قرأ عشر آيات من الكهف " ، فذكره .
حديث آخر : وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف ، فإنه عصمة له من الدجال " .
فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ أول سورة الكهف وآخرها ، كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ، ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين الأرض إلى السماء " انفرد به أحمد ولم يخرجوه
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه [ في تفسيره ] بإسناد له غريب ، عن خالد بن سعيد بن أبي مريم ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء ، يضيء له يوم القيامة ، وغفر له ما بين الجمعتين " .
وهذا الحديث في رفعه نظر ، وأحسن أحواله الوقف .
وهكذا روى الإمام : " سعيد بن منصور " في سننه ، عن هشيم بن بشير ، عن أبي هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال : من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق .
هكذا وقع موقوفا ، وكذا رواه الثوري ، عن أبي هاشم ، به من حديث أبي سعيد الخدري .
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل ، حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هشيم ، حدثنا أبو هاشم ، عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه ، عن الحاكم ، ثم قال البيهقي : ورواه يحيى بن كثير ، عن شعبة ، عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت له نورا يوم القيامة " . [ والله أعلم ] .
وفي " المختارة " للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب بن منظور بن زيد بن خالد الجهني ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي مرفوعا : " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة ، وإن خرج الدجال عصم منه " بسم الله الرحمن الرحيم [ رب وفقني ]
.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها ، فإنه المحمود على كل حال ، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بينا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين ؛ ولهذا قال : ( ولم يجعل له عوجا ) أي : لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما ؛
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف
وهي مكية في قول جميع المفسرين . روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزا ، والأول أصح . وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال : من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر . وقال إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك . قالوا : بلى يا رسول الله ؟ قال : سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال ذكره الثعلبي ، والمهدوي أيضا بمعناه . وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق . وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال . وفي رواية من آخر الكهف . وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف . وذكره الثعلبي . قال : سمرة بن جندب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الدجال . ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا
قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما : سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله ; فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ; فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ; سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ; فإنه قد كان لهم حديث عجب . سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه . وسلوه عن الروح ، ما هي ; فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم . فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم . فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، قد كانت لهم قصة عجب ، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ قال فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن . فانصرفوا عنه ، فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ; وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل - عليه السلام - من عند الله - عز وجل - بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف والروح . قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل : لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فقال له جبريل : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا . فافتتح السورة - تبارك وتعالى - بحمده ، وذكر نبوة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما أنكروا عليه من ذلك فقال : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب يعني محمدا ، إنك رسول مني ، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك . ولم يجعل له عوجا قيما أي معتدلا لا اختلاف فيه . لينذر بأسا شديدا من لدنه أي عاجل عقوبته في الدنيا ، وعذابا أليما في الآخرة ، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا . ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا أي دار الخلد لا يموتون فيها ، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال . وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا يعني قريشا في قولهم : إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله . ما لهم به من علم ولا لآبائهم الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم . كبرت كلمة تخرج من أفواههم أي لقولهم إن الملائكة بنات الله . إن يقولون إلا كذبا فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم ، أي لا تفعل . قال ابن هشام : باخع نفسك مهلك نفسك ; فيما حدثني أبو عبيدة . قال ذو الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر
وجمعها باخعون وبخعة . وهذا البيت في قصيدة له . وقول العرب : قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له . إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا قال ابن إسحاق : أي أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله ; فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها . قال ابن هشام : الصعيد وجه الأرض ، وجمعه صعد . قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا :
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم
وهذا البيت في قصيدة له . والصعيد أيضا : الطريق ، وقد جاء في الحديث : إياكم والقعود على الصعدات يريد الطرق . والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها أجراز . ويقال : سنة جرز وسنون أجراز ; وهي التي لا يكون فيها مطر . وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة . قال ذو الرمة يصف إبلا :
طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع
قال ابن إسحاق : ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك . قال ابن هشام : والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم ، وجمعه رقم . قال العجاج :
ومستقر المصحف المرقم
وهذا البيت في أرجوزة له . قال ابن إسحاق : ثم قال إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا . ثم قال : نحن نقص عليك نبأهم بالحق أي بصدق الخبر إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم . قال ابن هشام : والشطط الغلو ومجاوزة الحق . قال أعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين . قال ابن إسحاق : أي بحجة بالغة . فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه . قال ابن هشام : تزاور تميل ; وهو من الزور . وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا :
جدب المندى عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسه العشنزر
وهذان البيتان في أرجوزة له . وتقرضهم ذات الشمال تجاوزهم وتتركهم عن شمالها . قال ذو الرمة :
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وهذا البيت في قصيدة له . والفجوة : السعة ، وجمعها الفجاء . قال الشاعر
:
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
ذلك من آيات الله أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم . من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا . وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد قال ابن هشام : الوصيد الباب . قال العبسي واسمه عبد بن وهب :
بأرض فلاة لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وهذا البيت في أبيات له . والوصيد أيضا الفناء ، وجمعه وصائد ووصد ووصدان . لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم أهل السلطان والملك منهم لنتخذن عليهم مسجدا سيقولون يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم . ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم أي لا تكابرهم . إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا فإنهم لا علم لهم بهم ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا . إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا ، واستثن مشيئة الله ، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك . ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا أي سيقولون ذلك . قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه .
قلت : هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه . ويأتي خبر ذي القرنين ، ثم نعود إلى أول السورة فنقول : قد تقدم معنى الحمد لله . وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا ، وأن المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا . قيما نصب على الحال . وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير ، ومعناه : ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما . وقول الضحاك فيه حسن ، وأن المعنى : مستقيم ، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض . وقيل : قيما على الكتب السابقة يصدقها . وقيل : قيما بالحجج أبدا .
عوجا مفعول به ; والعوج ( بكسر العين ) في الدين والرأي والأمر والطريق . وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار ; وقد تقدم . وليس في القرآن عوج ، أي عيب ، أي ليس متناقضا مختلقا ; كما قال - تعالى - : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقيل : أي لم يجعله مخلوقا ; كما روي عن ابن عباس في قوله - تعالى - قرآنا عربيا غير ذي عوج قال : غير مخلوق . وقال مقاتل : عوجا اختلافا . قال الشاعر :
أدوم بودي للصديق تكرما ولا خير فيمن كان في الود أعوجا
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ ١
الحمد لله هو الثناء عليه بصفاته، التي هي كلها صفات كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، وأجل نعمه على الإطلاق، إنزاله الكتاب العظيم على عبده ورسوله، محمد صلى الله عليه وسلم فحمد نفسه، وفي ضمنه إرشاد العباد ليحمدوه على إرسال الرسول إليهم، وإنزال الكتاب عليهم، ثم وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين، على أنه الكامل من جميع الوجوه، وهما نفي العوج عنه، وإثبات أنه قيم مستقيم، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث، وإثبات الاستقامة، يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات وهي الأخبار، التي تملأ القلوب معرفة وإيمانا وعقلا، كالإخبار بأسماء الله وصفاته وأفعاله، ومنها الغيوب المتقدمة والمتأخرة، وأن أوامره ونواهيه، تزكي النفوس، وتطهرها وتنميها وتكملها، لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له. وحقيق بكتاب موصوف. بما ذكر، أن يحمد الله نفسه على إنزاله، وأن يتمدح إلى عباده به.
قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا ٢
ولهذا قال : ( قيما ) أي : مستقيما .
( لينذر بأسا شديدا من لدنه ) أي : لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ، ينذره بأسا شديدا ، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة ) من لدنه ) أي : من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد .
( ويبشر المؤمنين ) أي : بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح ) أن لهم أجرا حسنا ) أي مثوبة عند الله جميلة
قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا ٢
قَيِّمًا
نصب على الحال .
وقال قتادة : الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير , ومعناه : ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما .
وقول الضحاك فيه حسن , وأن المعنى : مستقيم , أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض .
وقيل : " قيما " على الكتب السابقة يصدقها .
وقيل : " قيما " بالحجج أبدا .لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا
أي لينذر محمد أو القرآن .
وفيه إضمار , أي لينذر الكافرين عقاب الله .
وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة .مِنْ لَدُنْهُ
أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم " من لدنه " بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون , والهاء موصولة بياء .
والباقون " لدنه " بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء .
قال الجوهري : وفي " لدن " ثلاث لغات : لدن , ولدى , ولد .
وقال : من لد لحييه إلى منحوره المنحور لغة في المنحر .وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
أي بأن لهم أجرا حسنا وهي الجنة .
وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في " بأن " .
والأجر الحسن : الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة .
قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا ٢
وقوله { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي: لينذر بهذا القرآن الكريم، عقابه الذي عنده، أي: قدره وقضاه، على من خالف أمره، وهذا يشمل عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، وهذا أيضا، من نعمه أن خوف عباده، وأنذرهم ما يضرهم ويهلكهم.
كما قال تعالى -لما ذكر في هذا القرآن وصف النار- قال: { ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون } فمن رحمته بعباده، أن قيض العقوبات الغليظة على من خالف أمره، وبينها لهم، وبين لهم الأسباب الموصلة إليها.
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي: وأنزل الله على عبده الكتاب، ليبشر المؤمنين به، وبرسله وكتبه، الذين كمل إيمانهم، فأوجب لهم عمل الصالحات، وهي: الأعمال الصالحة، من واجب ومستحب، التي جمعت الإخلاص والمتابعة، { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } وهو الثواب الذي رتبه الله على الإيمان والعمل الصالح، وأعظمه وأجله، الفوز برضا الله ودخول الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفي وصفه بالحسن، دلالة على أنه لا مكدر فيه ولا منغص بوجه من الوجوه، إذ لو وجد فيه شيء من ذلك لم يكن حسنه تاما.
مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا ٣
( ماكثين فيه ) في ثوابهم عند الله ، وهو الجنة ، خالدين فيه ) أبدا ) دائما لا زوال له ولا انقضاء .
مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا ٣
مَاكِثِينَ
دائمين .فِيهِ أَبَدًا
لا إلى غاية .
مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا ٣
ومع ذلك فهذا الأجر الحسن { مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا ٤
( وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ) قال ابن إسحاق : وهم مشركو العرب في قولهم : نحن نعبد الملائكة ، وهم بنات الله .
وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا ٤
قوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا
قوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود ، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، وقريش قالت الملائكة بنات الله . فالإنذار في أول السورة عام ، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .
وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا ٤
{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } من اليهود والنصارى، والمشركين، الذين قالوا هذه المقالة الشنيعة، فإنهم لم يقولوها عن علم و[لا] يقين
مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥
( ما لهم به من علم ) أي : بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم ) ولا لآبائهم ) أي : أسلافهم .
( كبرت كلمة ) : نصب على التمييز ، تقديره : كبرت كلمتهم هذه كلمة .
وقيل : على التعجب ، تقديره : أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا ؛ قاله بعض البصريين . وقرأ ذلك بعض قراء مكة : " كبرت كلمة " كما يقال : عظم قولك ، وكبر شأنك .
والمعنى على قراءة الجمهور أظهر ؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم ؛ ولهذا قال : ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) أي : ليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال : ( إن يقولون إلا كذبا ) .
وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء . فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا . قال : فقالت لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن ، فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب . وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ [ وسلوه عن الروح ، ما هو ؟ ] فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم .
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخبركم غدا بما سألتم عنه " . ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة ، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه . وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل ، عليه السلام ، من عند الله - عز وجل - بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ الإسراء : 85 ]
مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥
ما لهم به من علم " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم ; لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل .
ولا لآبائهم أي أسلافهم .
كبرت كلمة كلمة نصب على البيان ; أي كبرت تلك الكلمة كلمة . وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق كلمة بالرفع ; أي عظمت كلمة ; يعني قولهم اتخذ الله ولدا . وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار . يقال : كبر الشيء إذا عظم . وكبر الرجل إذا أسن .
تخرج من أفواههم في موضع الصفة .
إن يقولون إلا كذبا أي ما يقولون إلا كذبا .
مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا ٥
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟" { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } ولهذا قال هنا: { إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء، وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ } والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦
يقول تعالى مسليا رسوله صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين ، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه ، كما قال تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : 8 ] ، وقال ) ولا تحزن عليهم ) [ النحل : 127 ] ، وقال ( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [ الشعراء : 3 ]
باخع : أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ؛ ولهذا قال ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ) يعني القرآن ) أسفا ) يقول : لا تهلك نفسك أسفا .
قال قتادة : قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم . وقال مجاهد : جزعا . والمعنى متقارب ، أي : لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .
فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦
قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم باخع أي مهلك وقاتل ; وقد تقدم . آثارهم جمع أثر ، ويقال إثر . والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك .
إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أي القرآن .
أسفا أي حزنا وغضبا على كفرهم ; وانتصب على التفسير .
فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا ٦
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان صلى الله عليه وسلم يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه صلى الله عليه وسلم عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى: { لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين } وقال { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك. وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله له: { إنك لا تهدي من أحببت } وموسى عليه السلام يقول: { رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي } الآية، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: { فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر }
إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) .
قال قتادة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء "
إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧
قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها فيه مسألتان :
الأولى : قوله - تعالى - : ما وزينة مفعولان . والزينة كل ما على وجه الأرض ; فهو عموم لأنه دال على بارئه . وقال ابن جبير عن ابن عباس :
أراد بالزينة الرجال ; قال مجاهد . وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله - تعالى - : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها قال العلماء : زينة الأرض . وقالت فرقة : أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه ، ونحو هذا مما فيه زينة ; ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب . والقول بالعموم أولى ، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه . والآية بسط في التسلية ; أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها ; فمنهم من يتدبر ويؤمن ، ومنهم من يكفر ، ثم يوم القيامة بين أيديهم ; فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم .
الثانية : معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا قال : وما زهرة الدنيا ؟ قال : بركات الأرض خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري . والمعنى : أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى ; فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا . أي من أزهد فيها وأترك لها ; ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينه الله إلا [ أن ] يعينه على ذلك . ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا ، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه . فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه . وهذا معنى قوله - عليه السلام - : فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع . وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها ; وذلك لعدم الفهم عن الله - تعالى - ورسوله ; فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة ، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه .
وقال ابن عطية : كان أبي - رضي الله عنه - يقول في قوله أحسن عملا : أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه .
قلت : هذا قول حسن ، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه ، وقد جمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبد الله الثقفي لما قال : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية : غيرك . قال : قل آمنت بالله ثم استقم خرجه مسلم . وقال سفيان الثوري : أحسن عملا أزهدهم فيها . وكذلك قال أبو عصام العسقلاني : أحسن عملا أترك لها . وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد ; فقال قوم : قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء ; قاله سفيان الثوري . قال علماؤنا : وصدق - رضي الله عنه - فإن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات ، وأخذ من الدنيا ما تيسر ، واجتزأ منها بما يبلغ . وقال قوم : بغض المحمدة وحب الثناء . وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه . وقال قوم : ترك الدنيا كلها هو الزهد ; أحب تركها أم كره . وهو قول فضيل . وعن بشر بن الحارث قال : حب الدنيا حب لقاء الناس ، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس . وعن الفضيل أيضا : علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس . وقال قوم : لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها ; قاله إبراهيم بن أدهم . وقال قوم : الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك ; قاله ابن المبارك . وقالت فرقة : الزهد حب الموت . والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى .
إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧
يخبر تعالى: أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، فتنة واختبارا. { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصه وأصوبه، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها ، وفراغها وانقضائها ، وذهابها وخرابها ، فقال : ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) أي : وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكا ) صعيدا جرزا ) : لا ينبت ولا ينتفع به ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد . وقال مجاهد : ( صعيدا جرزا ) بلقعا .
وقال قتادة : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .
وقال ابن زيد : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) [ السجدة : 27 ] .
وقال محمد بن إسحاق : ( وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ) يعني الأرض ، إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع لإلى الله فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى .
وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨
قوله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا تقدم بيانه . وقال أبو سهل : ترابا لا نبات به ; كأنه قطع نباته . والجرز : القطع ; ومنه سنة جرز . قال الراجز :
قد جرفتهن السنون الأجراز
والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها ; كأنه قطع وأزيل . يعني يوم القيامة ; فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها . النحاس : والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها . قال الكسائي : يقال جرزت الأرض تجرز ، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز .
وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم، فنظر إلى باطن الدنيا، حين نظر المغتر إلى ظاهرها، وعمل لآخرته، حين عمل البطال لدنياه، فشتان ما بين الفريقين، وما أبعد الفرق بين الطائفتين"
أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا ٩
هذا إخبار عن قصة أصحاب الكهف [ والرقيم ] على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : ( أم حسبت ) يعني : يا محمد ( أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) أي : ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [ والرقيم ] كما قال ابن جريج عن مجاهد : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك!
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد ، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم .
[ وأما " الكهف " فهو : الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون . وأما " الرقيم " ] فقال العوفي ، عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلة . وكذا قال عطية العوفي ، وقتادة .
وقال الضحاك : أما " الكهف " فهو : غار الوادي ، و " الرقيم " : اسم الوادي .
وقال مجاهد : " الرقيم " : كان بنيانهم ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " الرقيم " ، قال : يزعم كعب أنها القرية .
وقال ابن جريج عن ابن عباس : " الرقيم " الجبل الذي فيه الكهف .
وقال ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن [ مجاهد عن ] ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس .
وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : أن اسم جبل الكهف بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حنانا ، والأواه ، والرقيم .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرقيم : الكتاب . وقال سعيد بن جبير : [ الرقيم ] لوح من حجارة ، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم : الكتاب . ثم قرأ : ( كتاب مرقوم ) [ المطففين : 9 ]
وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير قال : " الرقيم " فعيل بمعنى مرقوم ، كما يقول للمقتول : قتيل ، وللمجروح : جريح . والله أعلم .
أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا ٩
قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا مذهب سيبويه أن " أم " إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام ، وهي المنقطعة . وقيل : " أم " عطف على معنى الاستفهام في لعلك ، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار . قال الطبري : وهو تقرير للنبي - صلى الله عليه وسلم - على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا ، بمعنى إنكار ذلك عليه ; أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع ; هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ; وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا ، وعن ذي القرنين وعن الروح ، وأبطأ الوحي على ما تقدم . فلما نزل قال الله - تعالى - لنبيه - عليه السلام - : أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ; أي ليسوا بعجب من آياتنا ، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم . الكلبي : خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم . الضحاك : ما أطلعتك عليه من الغيب أعجب . الجنيد : شأنك في الإسراء أعجب . الماوردي : معنى الكلام النفي ; أي ما حسبت لولا إخبارنا . أبو سهل : استفهام تقرير ; أي أحسبت ذلك فإنهم عجب . والكهف : النقب المتسع في الجبل ; وما لم يتسع فهو غار . وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال : الكهف الجبل ; وهذا غير شهير في اللغة .
واختلف الناس في الرقيم ; فقال ابن عباس : كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين وحنان والأواه والرقيم . وسئل مرة عن الرقيم فقال : زعم كعب أنها قرية خرجوا منها . وقال مجاهد : الرقيم واد . وقال السدي : الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف . وقال ابن زيد : الرقيم كتاب غم الله علينا أمره ، ولم يشرح لنا قصته . وقالت فرقة : الرقيم كتاب في لوح من نحاس . وقال ابن عباس : في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم ، ذكروا وقت فقدهم ، وكم كانوا ، وبين من كانوا . وكذا قال الفراء ، قال : الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا . قال ابن عطية : ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث ، وذلك من نبل المملكة ، وهو أمر مفيد . وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ; ومنه كتاب مرقوم . ومنه الأرقم لتخطيطه . ومنه رقمة الوادي ; أي مكان جري الماء وانعطافه . وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض ; لأن القول الأول إنما سمعه من كعب . والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده . وروى عنه سعيد بن جبير قال : ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال : إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال : ليكونن لهم نبأ ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته ; فذلك اللوح هو الرقيم . وقيل : إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان ; فالله أعلم . وعن ابن عباس أيضا : الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى - عليه السلام - . وقال النقاش عن قتادة : الرقيم دراهمهم . وقال أنس بن مالك والشعبي : الرقيم كلبهم . وقال عكرمة : الرقيم الدواة . وقيل : الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر . وقيل : الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم ; فذكر كل واحد منهم أصلح عمله .
قلت : وفي هذا خبر معروف أخرجه الصحيحان ، وإليه نحا البخاري . وقال قوم : أخبر الله عن أصحاب الكهف ، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء . وقال الضحاك : الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف ، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف . والله أعلم . وقيل : الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف ; مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء ; يقال : عليك بالرقمة ودع الضفة ; ذكره الغزنوي ، . قال ابن عطية : وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة . ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة ، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها .
قلت : ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم ، لأن الله - تعالى - يقول في حق أصحاب الكهف : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا . وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك ; وسيأتي في آخر القصة . وقال مجاهد في قوله كانوا من آياتنا عجبا قال : هم عجب . كذا روى ابن جريج عنه ; يذهب إلى أنه بإنكار على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون عنده أنهم عجب . وروى ابن نجيح عنه قال : يقول ليس بأعجب آياتنا .
أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا ٩
وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي. أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد، أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان. وأضافهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل، الرقيم، أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرا طويلا.
إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا ٠١
قوله : ( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) يخبر تعالى عن أولئك الفتية ، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم : ( ربنا آتنا من لدنك رحمة ) أي : هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا ( وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) أي : وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا ، أي : اجعل عاقبتنا رشدا كما جاء في الحديث : " وما قضيت لنا من قضاء ، فاجعل عاقبته رشدا " ، وفي المسند من حديث بسر بن أبي أرطاة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : " اللهم ، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " .
إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا ٠١
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى - عليه السلام - فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فأووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ; فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ; فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ; فقالوا له فيما روي : ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذ اعتزلتموهم وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ; فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك . وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله - تعالى - فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ; فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ; فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ; ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا .
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ; قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير .
وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة " النحل " . وقد نص الله - تعالى - على ذلك في " براءة " وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأولياء . وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله - تعالى - عليها في كتابه فقال : فأووا إلى الكهف .
قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ; وقد جاء في الخبر : إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك . ولم يخص موضعا من موضع . وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم صوامع المؤمنين بيوتهم من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك . وقال - صلى الله عليه وسلم - : يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . خرجه البخاري . وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها .
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ; وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم . ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا . وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ; مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ; فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله - عز وجل - انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة . خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : وهيئ لنا من أمرنا رشدا لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله - تعالى - فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة أي مغفرة ورزقا .
وهيئ لنا من أمرنا رشدا توفيقا للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة . وقيل صوابا . ومن هذا المعنى أنه - عليه السلام - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا ٠١
ثم ذكر قصتهم مجملة، وفصلها بعد ذلك فقال: { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ } أي: الشباب، { إِلَى الْكَهْفِ } يريدون بذلك التحصن والتحرز من فتنة قومهم لهم، { فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي تثبتنا بها وتحفظنا من الشر، وتوفقنا للخير { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي: يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم
فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا ١١
وقوله : ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ) أي : ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف ، فناموا سنين كثيرة )
فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا ١١
قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا عبارة عن إلقاء الله - تعالى - النوم عليهم . وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله . قال الزجاج : أي منعناهم عن أن يسمعوا ; لأن النائم إذا سمع انتبه . وقال ابن عباس : ضربنا على آذانهم بالنوم ; أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها . وقيل : المعنى فضربنا على آذانهم أي فاستجبنا دعاءهم ، وصرفنا عنهم شر قومهم ، وأنمناهم . والمعنى كله متقارب . وقال قطرب : هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد ، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف . قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد
وأما تخصيص الآذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم ، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه ، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع . ومن ذكر الأذن في النوم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ذاك رجل بال الشيطان في أذنه خرجه الصحيح . أشار - عليه السلام - إلى رجل طويل النوم ، لا يقوم الليل . وعددا نعت للسنين ; أي معدودة ، والقصد به العبارة عن التكثير ; لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف . والعد المصدر ، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط . وقال أبو عبيدة : عددا نصب على المصدر . ثم قال قوم : بين الله - تعالى - عدد تلك السنين من بعد فقال : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا .
فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا ١١
{ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ } أي أنمناهم { سِنِينَ عَدَدًا } وهي ثلاث مائة سنة وتسع سنين، وفي النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.
ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا ٢١
(ثم بعثناهم ) أي : من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه ، كما سيأتي بيانه وتفصيله ؛ ولهذا قال : ( ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين ) أي المختلفين فيهم ( أحصى لما لبثوا أمدا ) قيل : عددا وقيل : غاية فإن الأمد الغاية كقوله
سبق الجواد إذا استولى على الأمد .
ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا ٢١
قوله تعالى : ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا قوله تعالى : ثم بعثناهم أي من بعد نومهم . ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث ; لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف .
قوله تعالى : لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا لنعلم عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته ; وهذا على نحو كلام العرب ، أي لنعلم ذلك موجودا ، وإلا فقد كان الله - تعالى - علم أي الحزبين أحصى الأمد . وقرأ الزهري " ليعلم " بالياء . والحزبان الفريقان ، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا . والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم ، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية . وهذا قول الجمهور من المفسرين . وقالت فرقة : هما حزبان من الكافرين ، اختلفا في مدة أصحاب الكهف . وقيل : هما حزبان من المؤمنين . وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية . وأحصى فعل ماض . وأمدا نصب على المفعول به ; قاله أبو علي . وقال الفراء : نصب على التمييز . وقال الزجاج : نصب على الظرف ، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد ، والأمد الغاية . وقال مجاهد : أمدا معناه عددا ، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب . وقال الطبري : أمدا منصوب ب لبثوا . ابن عطية : وهذا غير متجه ، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ ، وأحصى فعل رباعي . وقد يحتج له بأن يقال : إن أفعل في الرباعي قد كثر ; كقولك : ما أعطاه للمال وآتاه للخير . وقال في صفة حوضه - صلى الله عليه وسلم - : ماؤه أبيض من اللبن . وقال عمر بن الخطاب : فهو لما سواها أضيع .
ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا ٢١
{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي: من نومهم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ } الآية، وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته، فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم.
نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى ٣١
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب - وهم أقبل للحق ، وأهدى للسبيل من الشيوخ ، الذين قد عتوا وعسوا في دين الباطل ؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا . وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل . وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا .
قال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم . فآمنوا بربهم ، أي : اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله إلا هو .
( وزدناهم هدى ) : استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله ، وأنه يزيد وينقص ؛ ولهذا قال تعالى : ( وزدناهم هدى ) كما قال ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ محمد : 17 ] ، وقال : ( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ) [ التوبة : 124 ] ، وقال ) ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) [ الفتح : 4 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكر أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، والله أعلم - والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية ، فإنه لو كانوا على دين النصرانية ؛ لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم ؛ لمباينتهم لهم . وقد تقدم عن ابن عباس : أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء ، وعن خبر ذي القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب ، وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم .
نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى ٣١
قوله تعالى : نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى قوله تعالى : نحن نقص عليك نبأهم بالحق لما اقتضى قوله - تعالى - لنعلم أي الحزبين أحصى اختلافا وقع في أمد الفتية ، عقب بالخبر عن أنه - عز وجل - يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع .
وقوله تعالى : إنهم فتية أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة ; كذلك قال أهل اللسان : رأس الفتوة الإيمان . وقال الجنيد : الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى . وقيل : الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم . وقيل غير هذا . وهذا القول حسن جدا ; لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة .
قوله تعالى : وزدناهم هدى أي يسرناهم للعمل الصالح ; من الانقطاع إلى الله - تعالى - ، ومباعدة الناس ، والزهد في الدنيا . وهذه زيادة على الإيمان . وقال السدي : زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم ; فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله ، فقال : يا قوم لم تطردونني ، لم ترجمونني لم تضربونني فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة ; فزادهم الله بذلك هدى .
نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى ٣١
هذا شروع في تفصيل قصتهم، وأن الله يقصها على نبيه بالحق والصدق، الذي ما فيه شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } وهذا من جموع القلة، يدل ذلك على أنهم دون العشرة، { آمَنُوا } بالله وحده لا شريك له من دون قومهم، فشكر الله لهم إيمانهم، فزادهم هدى، أي: بسبب أصل اهتدائهم إلى الإيمان، زادهم الله من الهدى، الذي هو العلم النافع، والعمل الصالح، كما قال تعالى: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى }
وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ٤١
يقول تعالى : وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له : " دقيانوس " ، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه . فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها ، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض . فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه ، وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية . فكان أول من جلس منهم [ وحده ] أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس عنده ، وجاء الآخر فجلس إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان ، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا ، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف " . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والناس يقولون : الجنسية علة الضم .
والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه ، خوفا منهم ، ولا يدري أنهم مثله ، حتى قال أحدهم : تعلمون - والله يا قوم - إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم ، إلا شيء فليظهر كل واحد منكم ما بأمره . فقال آخر : أما أنا فإني [ والله ] رأيت ما قومي عليه ، فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده ] ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء السموات والأرض وما بينهما . وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك . وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا يدا واحدة وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم ، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق ، ودعوه إلى الله عز وجل ؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ) و " لن " لنفي التأبيد ، أي : لا يقع منا هذا أبدا ؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ؛ ولهذا قال عنهم : ( لقد قلنا إذا شططا ) أي : باطلا وكذبا وبهتانا .
وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ٤١
قوله تعالى : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا
قوله تعالى : وربطنا على قلوبهم عبارة عن شدة عزم وقوة صبر ، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا . ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط ; ومنه يقال : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها . ومنه الربط على قلب أم موسى . وقوله - تعالى - : وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام وقد تقدم .
قوله تعالى : إذ قاموا فقالوا فيه مسألتان :
الأولى : قوله - تعالى - : إذ قاموا فقالوا يحتمل ثلاثة معان : أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا في ذات الله هيبته . والمعنى الثاني فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة ، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد ; فقال أسنهم : إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض ; فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا . فقاموا جميعا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا . أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا . والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله - تعالى - ومنابذة الناس ; كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد .
الثانية : قال ابن عطية : تعلقت الصوفية في القيام والقول بقوله إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض .
قلت : وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته ، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته ، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم ; وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء . أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان ; هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء . ثم هذا حرام عند جماعة العلماء ، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله - تعالى - . وقد تقدم في " سبحان " عند قوله : ولا تمش في الأرض مرحا ما فيه كفاية . وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال : وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ; لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ; فهو دين الكفار وعباد العجل ، على ما يأتي .
وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ٤١
{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي صبرناهم وثبتناهم، وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة، وهذا من لطفه تعالى بهم وبره، أن وفقهم للإيمان والهدى، والصبر والثبات، والطمأنينة.
{ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: الذي خلقنا ورزقنا، ودبرنا وربانا، هو خالق السماوات والأرض، المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة، لا تلك الأوثان والأصنام، التي لا تخلق ولا ترزق، ولا تملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، ولهذا قالوا: { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } أي: من سائر المخلوقات { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا } أي: إن دعونا معه آلهة، بعد ما علمنا أنه الرب الإله الذي لا تجوز ولا تنبغي العبادة، إلا له { شَطَطًا } أي: ميلا عظيما عن الحق، وطريقا بعيدة عن الصواب، فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والتزام ذلك، وبيان أنه الحق وما سواه باطل، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم، وزيادة الهدى من الله لهم.
هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ٥١
( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ) أي : هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا ؟ ! ) فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال : إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم ، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم ، وأجلهم لينظروا في أمرهم ، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه . وكان هذا من لطف الله بهم ، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه ، والفرار بدينهم من الفتنة .
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس ، أن يفر العبد منهم خوفا على دينه ، كما جاء في الحديث : " يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن " ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ، ولا تشرع فيما عداها ؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع .
هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ٥١
قوله تعالى : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا
قوله تعالى : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة أي قال بعضهم لبعض : هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا ، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة .
لولا أي هلا .
يأتون عليهم بسلطان بين أي بحجة على عبادتهم الصنم . وقيل : عليهم راجع إلى الآلهة ; أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة ; فقولهم لولا تحضيض بمعنى التعجيز ; وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم .
هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۢ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا ٥١
لما ذكروا ما من الله به عليهم من الإيمان والهدى، والتفتوا إلى ما كان عليه قومهم، من اتخاذ الآلهة من دون الله، فمقتوهم، وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم، بل في غاية الجهل والضلال فقالوا: { لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بحجة وبرهان، على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك، وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه، وهذا أعظم الظلم، ولهذا قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا ٦١
فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم ، واختار الله تعالى لهم ذلك ، وأخبر عنهم بذلك في قوله : ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ) أي : وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ، ففارقوهم أيضا بأبدانكم ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ) أي : يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ( ويهيئ لكم من أمركم ) [ أي ] الذي أنتم فيه ، ( مرفقا ) أي : أمرا ترتفقون به . فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف ، فأووا إليه ، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم ، وتطلبهم الملك فيقال : إنه لم يظفر بهم ، وعمى الله عليه خبرهم . كما فعل بنبيه [ محمد ] صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق ، حين لجأ إلى غار ثور ، وجاء المشركون من قريش في الطلب ، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه ، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا ، فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " ، وقد قال تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ) [ التوبة : 40 ] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ، وقد قيل : إن قومهم ظفروا بهم ، وقفوا على باب الغار الذي دخلوه ، فقالوا : ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم . فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [ لهم ] ذلك . وفي هذا نظر ، والله أعلم ؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشية ، كما قال تعالى :s
وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا ٦١
قوله تعالى : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا
قوله تعالى : وإذ اعتزلتموهم وإذ اعتزلتموهم قيل : هو من قول الله لهم . أي وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف . وقيل : هو من قول رئيسهم يملخا ; فيما ذكر ابن عطية . وقال الغزنوي : رئيسهم مكسلمينا ، قال لهم ذلك ; أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون . ثم استثنى وقال إلا الله أي إنكم لم تتركوا عبادته ; فهو استثناء منقطع . قال ابن عطية : وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ، ولا علم لهم به ; وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط . وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ; لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله . وفي مصحف عبد الله بن مسعود " وما يعبدون من دون الله " . قال قتادة هذا تفسيرها .
قلت : ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله - تعالى - وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله قال : كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله . ابن عطية : فعلى ما قال قتادة تكون إلا بمنزلة " غير " ، وما من قوله وما يعبدون إلا الله في موضع نصب ، عطفا على الضمير في قوله اعتزلتموهم . ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض : إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله - تعالى - فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله ; فإنه سيبسط لنا رحمته ، وينشرها علينا ، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا . وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم . وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين - رضي الله عنه - : كان أصحاب الكهف صياقلة ، واسم الكهف حيوم .
مرفقا قرئ بكسر الميم وفتحها ، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه ; ومنهم من يجعل " المرفق " بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان .
وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا ٦١
أي: قال بعضهم لبعض، إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم، فلم يبق إلا النجاء من شرهم، والتسبب بالأسباب المفضية لذلك، لأنهم لا سبيل لهم إلى قتالهم، ولا بقائهم بين أظهرهم، وهم على غير دينهم، { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } أي: انضموا إليه واختفوا فيه { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا } وفيما تقدم، أخبر أنهم دعوه بقولهم { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا } فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم، ودعائه بذلك، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته، وهيأ لهم من أمرهم مرفقا، فحفظ أديانهم وأبدانهم، وجعلهم من آياته على خلقه، ونشر لهم من الثناء الحسن، ما هو من رحمته بهم، ويسر لهم كل سبب، حتى المحل الذي ناموا فيه، كان على غاية ما يمكن من الصيانة
۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا ٧١
هذا دليل على أن باب هذا الكهف من نحو الشمال ؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ) ذات اليمين ) أي : يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : ( تزاور ) أي : تميل ؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ؛ ولهذا قال : ( وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) أي : تدخل إلى غارهم من شمال بابه ، وهو من ناحية المشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة ، وسير الشمس والقمر والكواكب ، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب . فتعين ما ذكرناه ولله الحمد .
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ( تقرضهم ) تتركهم .
وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض ؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي . وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن ابن عباس أنه قال : [ هو ] قريب من أيلة . وقال ابن إسحاق : هو عند نينوى . وقيل : ببلاد الروم . وقيل : ببلاد البلقاء . والله أعلم بأي بلاد الله هو . ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله ورسوله إليه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت شيئا يقربكم إلى [ الجنة ] ويباعدكم من النار ، إلا وقد أعلمتكم به " . فأعلمنا تعالى بصفته ، ولم يعلمنا بمكانه ، فقال ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ) قال مالك ، عن زيد بن أسلم : تميل ( ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ) أي : في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم ؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم ؛ قاله ابن عباس .
( ذلك من آيات الله ) حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء ، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ؛ ولهذا قال : ( ذلك من آيات الله )
ثم قال : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) أي : هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم ، فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادي له .
۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا ٧١
قوله تعالى : وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم . والمعنى : إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا ; لا أن المخاطب رآهم على التحقيق . وتزاور تتنحى وتميل ; من الازورار . والزور الميل . والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية ، ويستعمل في غير العين ; كما قال ابن أبي ربيعة :
وجنبي خيفة القوم أزور
ومن اللفظة قول عنترة :
فازور من وقع القنا بلبانه
وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة . وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو " تزاور " بإدغام التاء في الزاي ، والأصل " تتزاور " . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور مخففة الزاي . وقرأ ابن عامر " تزور " مثل تحمر . وحكى الفراء " تزوار " مثل تحمار ; كلها بمعنى واحد .
وإذا غربت تقرضهم قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم ; قاله مجاهد . وقال قتادة : تدعهم . النحاس : وهذا معروف في اللغة ، حكى البصريون أنه يقال : قرضه يقرضه إذا تركه ; والمعنى : أنهم كانوا لا تصيبهم شمس ألبتة كرامة لهم ; وهو قول ابن عباس . يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين ، أي يمين الكهف ، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال ، أي شمال الكهف ، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار . وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم ، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها ، وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم . وقد قيل : إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته . وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله ، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك . وقرأت فرقة " يقرضهم " بالياء من القرض وهو القطع ، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس . وقيل : وإذا غربت تقرضهم أي يصيبهم يسير منها ، مأخوذ من قراضة الذهب والفضة ، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها . وقالوا : كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم . وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله - تعالى - آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار . وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر . والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم ، والتأذي بحر أو برد .
وهم في فجوة منه أي من الكهف ، والفجوة المتسع ، وجمعها فجوات وفجاء ; مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء .
ذلك من آيات الله لطف بهم . وهذا يقوي قول الزجاج .
۞ وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا ٧١
أي: حفظهم الله من الشمس فيسر لهم غارا إذا طلعت الشمس تميل عنه يمينا، وعند غروبها تميل عنه شمالا، فلا ينالهم حرها فتفسد أبدانهم بها، { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي: من الكهف أي: مكان متسع، وذلك ليطرقهم الهواء والنسيم، ويزول عنهم الوخم والتأذي بالمكان الضيق، خصوصا مع طول المكث، وذلك من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بهم، وإجابة دعائهم وهدايتهم حتى في هذه الأمور، ولهذا قال: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } أي: لا سبيل إلى نيل الهداية إلا من الله، فهو الهادي المرشد لمصالح الدارين، { وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي: لا تجد من يتولاه ويدبره، على ما فيه صلاحه، ولا يرشده إلى الخير والفلاح، لأن الله قد حكم عليه بالضلال، ولا راد لحكمه.
وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا ٨١
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق أعينهم ؛ لئلا يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ؛ ولهذا قال تعالى : ( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ) وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وقوله تعالى : ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين . قال ابن عباس : لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض .
وقوله : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) قال ابن عباس ، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير الوصيد : الفناء .
وقال ابن عباس : بالباب . وقيل : بالصعيد ، وهو التراب . والصحيح أنه بالفناء ، وهو الباب ، ومنه قوله تعالى : ( إنها عليهم مؤصدة ) [ الهمزة : 8 ] أي : مطبقة مغلقة . ويقال : " وصيد " و " أصيد " .
ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب .
قال ابن جريج يحرس عليهم الباب . وهذا من سجيته وطبيعته ، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب ؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب - كما ورد في الصحيح - ولا صورة ولا جنب ولا كافر ، كما ورد به الحديث الحسن وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال . وهذا فائدة صحبة الأخيار ؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .
وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه . وقيل : كان كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " همام بن الوليد الدمشقي " : حدثنا صدقة بن عمر الغساني ، حدثنا عباد المنقري ، سمعت الحسن البصري ، رحمه الله ، يقول : كان اسم كبش إبراهيم : جرير واسم هدهد سليمان : عنقز ، واسم كلب أصحاب الكهف : قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه : بهموت . وهبط آدم ، عليه السلام ، بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصبهان
وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه : حمران .
واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ، ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب .
وقوله تعالى : ( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ) أي : أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر ؛ لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له في ذلك من الحجة والحكمة البالغة ، والرحمة الواسعة .
وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا ٨١
وقال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ; فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا . وقيل : تحسبهم أيقاظا لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه . وأيقاظا جمع يقظ ويقظان ، وهو المنتبه .
وهم رقود كقولهم : وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر .
ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال قال ابن عباس : لئلا تأكل الأرض لحومهم . قال أبو هريرة : كان لهم في كل عام تقليبتان . وقيل : في كل سنة مرة . وقال مجاهد : في كل سبع سنين مرة . وقالت فرقة : إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا . وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فيضاف إلى الله - تعالى - .
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد
فيه أربع مسائل :
الأولى : وكلبهم قال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا [ قال ] في ليله أو في نهاره : صلى الله على نوح . وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [ إذا قال ] : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد .
أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه ; على ما قال مقاتل . واختلف في لونه اختلافا كثيرا ، ذكره الثعلبي . تحصيله : أي لون ذكرت أصبت ; حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء . واختلف أيضا في اسمه ; فعن علي : ريان . ابن عباس : قطمير . الأوزاعي : مشير . عبد الله بن سلام : بسيط . كعب : صهيا . وهب : نقيا . وقيل قطمير ; ذكره الثعلبي . وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم ، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا . وقال ابن عباس : هربوا ليلا ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم . وقال كعب : مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا ، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي ، فنطق فقال : لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله - تعالى - فناموا حتى أحرسكم .
الثانية : ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان . وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع . فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية . وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ; إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ، أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته ، على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ; والله أعلم . وقال في إحدى الروايتين قيراطان وفي الأخرى قيراط . وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، كالأسود الذي أمر - عليه السلام - بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر ; أخرجه الصحيح . وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان . ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط . وأما المباح اتخاذه فلا ينقص ; كالفرس والهرة . والله أعلم .
الثالثة : وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها ، لا الذي يحفظها في الدار من السراق . وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق . وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع . وقد تقدم في " المائدة " من أحكام الكلاب ما فيه كفاية ، والحمد لله .
الرابعة : قال ابن عطية : وحدثني أبي - رضي الله عنه - قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ; كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله .
قلت : إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله - تعالى - بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال ، المحبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله خير آل . روى الصحيح عن أنس بن مالك قال : بينا أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أعددت لها قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله . قال : فأنت مع من أحببت . في رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأنت مع من أحببت . قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم .
قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ; كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام ، وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .
وقالت فرقة : لم يكن كلبا حقيقة ، وإنما كان أحدهم ، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا ; لأنه منها كالكلب من الإنسان ; ويقال له : كلب الجبار . قال ابن عطية : فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب . وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي ; إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه . ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب . وقرأ جعفر بن محمد الصادق " كالبهم " يعني صاحب الكلب .
قوله تعالى : باسط ذراعيه أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي ; لأنها حكاية حال ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب . والذراع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى . ثم قيل : بسط ذراعيه لطول المدة . وقيل : نام الكلب ، وكان ذلك من الآيات . وقيل : نام مفتوح العين .
بالوصيد الوصيد : الفناء ; قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير ، أي فناء الكهف ، والجمع وصائد ووصد . وقيل الباب . وقاله ابن عباس أيضا . وأنشد :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم . وقال عطاء : عتبة الباب ، والباب الموصد هو المغلق . وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته . والوصيد : النبات المتقارب الأصول ، فهو مشترك ، والله أعلم .
قوله تعالى : لو اطلعت عليهم قرأ الجمهور بكسر الواو . والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها .
لوليت منهم فرارا أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم .
ولملئت منهم رعبا أي لما حفهم الله - تعالى - من الرعب واكتنفهم من الهيبة . وقيل : لوحشة مكانهم ; وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينفر الناس عنهم . وقيل : كان الناس محجوبين عنهم بالرعب ، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم . وقيل : الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم ; وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري . وهذا بعيد ; لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض : لبثنا يوما أو بعض يوم . ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها ; إلا أن يقال : إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم . قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله - عز وجل - حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم . وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة " لملئت منهم " بتشديد اللام على تضعيف المبالغة ; أي ملئت ثم ملئت . وقرأ الباقون لملئت بالتخفيف ، والتخفيف أشهر في اللغة . وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي :
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملي من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور رعبا بإسكان العين . وقرأ بضمها أبو جعفر . قال أبو حاتم : هما لغتان . وفرارا نصب على الحال ورعبا مفعول ثان أو تمييز .
وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا ٨١
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أي: تحسبهم أيها الناظر إليهم [كأنهم] أيقاظ، والحال أنهم نيام، قال المفسرون: وذلك لأن أعينهم منفتحة، لئلا تفسد، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا، وهم رقود، { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم، لأن الأرض من طبيعتها، أكل الأجسام المتصلة بها، فكان من قدر الله، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض، من غير تقليب، ولكنه تعالى حكيم، أراد أن تجري سنته في الكون، ويربط الأسباب بمسبباتها.
{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } أي: الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد، أي: الباب، أو فنائه، هذا حفظهم من الأرض. وأما حفظهم من الآدميين، فأخبر أنه حماهم بالرعب، الذي نشره الله عليهم، فلو اطلع عليهم أحد، لامتلأ قلبه رعبا، وولى منهم فرارا، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة، وهم لم يعثر عليهم أحد، مع قربهم من المدينة جدا، والدليل على قربهم، أنهم لما استيقظوا، أرسلوا أحدهم، يشتري لهم طعاما من المدينة، وبقوا في انتظاره، فدل ذلك على شدة قربهم منها.
وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ٩١
يقول تعالى : وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم ، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئا ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ؛ ولهذا تساءلوا بينهم : ( كم لبثتم ) ؟ أي : كم رقدتم ؟ ( قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ) كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم كان في آخر نهار ؛ ولهذا استدركوا فقالوا : ( أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ) أي : الله أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم ، فالله أعلم ، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب ، فقالوا : ( فابعثوا أحدكم بورقكم ) أي فضتكم هذه . وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدقوا منها وبقي منها ؛ فلهذا قالوا : ( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ) أي مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد .
( فلينظر أيها أزكى طعاما ) أي : أطيب طعاما ، كقوله : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ) [ النور : 21 ] وقوله ) قد أفلح من تزكى ) [ الأعلى : 14 ] ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره . وقيل : أكثر طعاما ، ومنه زكاة الزرع إذا كثر ، قال الشاعر :
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
والصحيح الأول ؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال ، سواء كان قليلا أو كثيرا .
وقوله ) وليتلطف ) أي : في خروجه وذهابه ، وشرائه وإيابه ، يقولون : وليتخف كل ما يقدر عليه ) ولا يشعرن ) أي : ولا يعلمن ( بكم أحدا)
وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ٩١
قوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا
قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم البعث : التحريك عن سكون . والمعنى : كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا ; أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم . قال الشاعر :
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين عاث ونشوان
أي أيقظت واللام في قوله ليتساءلوا لام الصيرورة وهي لام العاقبة ; كقوله ليكون لهم عدوا وحزنا فبعثهم لم يكن لأجل تساؤلهم .
قوله تعالى : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار ; فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا : الله أعلم بالمدة .
قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فيه سبع مسائل :
الأولى : قال ابن عباس : كانت ورقهم كأخفاف الربع ; ذكره النحاس . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بورقكم بكسر الراء . وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم " بورقكم " بسكون الراء ، حذفوا الكسرة لثقلها ، وهما لغتان . وقرأ الزجاج " بورقكم " بكسر الواو وسكون الراء . ويروى أنهم انتبهوا جياعا ، وأن المبعوث هو يمليخا ، كان أصغرهم ; فيما ذكر الغزنوي . والمدينة : أفسوس ويقال هي طرسوس ، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس ; فلما جاء الإسلام سموها طرسوس . وقال ابن عباس : كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم .
الثانية : قوله تعالى : فلينظر أيها أزكى طعاما قال ابن عباس : أحل ذبيحة ; لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم ، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم . ابن عباس : كان عامتهم مجوسا . وقيل أزكى طعاما أي أكثر بركة . قيل : إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم ، ثم إذا طبخ كفى جماعة ; ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز . وقيل : كان زبيبا . وقيل تمرا ; فالله أعلم . وقيل : " أزكى " أطيب . وقيل أرخص .
فليأتكم برزق منه أي بقوت .
وليتلطف أي في دخول المدينة وشراء الطعام .
ولا يشعرن بكم أحدا أي لا يخبرن . وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه .
وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا ٩١
يقول تعالى: { وكذلك بعثناهم } أي: من نومهم الطويل { ليتساءلوا بينهم } أي: ليتباحثوا للوقوف على الحقيقة من مدة لبثهم.
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وهذا مبني على ظن القائل، وكأنهم وقع عندهم اشتباه. في طول مدتهم، فلهذا { قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } فردوا العلم إلى المحيط علمه بكل شيء، جملة وتفصيلا، ولعل الله تعالى -بعد ذلك- أطلعهم على مدة لبثهم، لأنه بعثهم ليتساءلوا بينهم، وأخبر أنهم تساءلوا، وتكلموا بمبلغ ما عندهم، وصار آخر أمرهم، الاشتباه، فلا بد أن يكون قد أخبرهم يقينا، علمنا ذلك من حكمته في بعثهم، وأنه لا يفعل ذلك عبثا. ومن رحمته بمن طلب علم الحقيقة في الأمور المطلوب علمها، وسعى لذلك ما أمكنه، فإن الله يوضح له ذلك، وبما ذكر فيما بعده من قوله. { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا } فلولا أنه حصل العلم بحالهم، لم يكونوا دليلا على ما ذكر، ثم إنهم لما تساءلوا بينهم، وجرى منهم ما أخبر الله به، أرسلوا أحدهم بورقهم، أي: بالدراهم، التي كانت معهم، ليشتري لهم طعاما يأكلونه، من المدينة التي خرجوا منها، وأمروه أن يتخير من الطعام أزكاه، أي: أطيبه وألذه، وأن يتلطف في ذهابه وشرائه وإيابه، وأن يختفي في ذلك، ويخفي حال إخوانه، ولا يشعرن بهم أحدا. وذكروا المحذور من اطلاع غيرهم عليهم، وظهورهم عليهم، أنهم بين أمرين، إما الرجم بالحجارة، فيقتلونهم أشنع قتلة، لحنقهم عليهم وعلى دينهم، وإما أن يفتنوهم عن دينهم، ويردوهم في ملتم، وفي هذه الحال، لا يفلحون أبدا، بل يحشرون في دينهم ودنياهم وأخراهم، وقد دلت هاتان الآيتان، على عدة فوائد.
منها: الحث على العلم، وعلى المباحثة فيه، لكون الله بعثهم لأجل ذلك.
ومنها: الأدب فيمن اشتبه عليه العلم، أن يرده إلى عالمه، وأن يقف عند حده.
ومنها: صحة الوكالة في البيع والشراء، وصحة الشركة في ذلك.
ومنها: جواز أكل الطيبات، والمطاعم اللذيذة، إذا لم تخرج إلى حد الإسراف المنهي عنه لقوله { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } وخصوصا إذا كان الإنسان لا يلائمه إلا ذلك ولعل هذا عمدة كثير من المفسرين، القائلين بأن هؤلاء أولاد ملوك لكونهم أمروه بأزكى الأطعمة، التي جرت عادة الأغنياء الكبار بتناولها.
إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٠٢
أي : إن علموا بمكانكم ، ( يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ) يعنون أصحاب دقيانوس ، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم ، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا ، وإن واتوهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولهذا قال ) ولن تفلحوا إذا أبدا ) .
إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٠٢
إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا قال الزجاج : معناه بالحجارة ، وهو أخبث القتل . وقيل : يرموكم بالسب والشتم ; والأول أصح ، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم . والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله [ عقوبة ] مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها .
في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها . وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان - رضي الله عنه - ; ولا خلاف فيها في الجملة . والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام ; ألا ترى إلى عبد الرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة ; أي يحفظهم ، وأمية مشرك ، والتزم عبد الرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه . روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال : كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة ; فلما ذكرت الرحمن ; قال : لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية ، فكاتبته عبد عمرو . . . وذكر الحديث . قال الأصمعي : صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه ; وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال ، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى ; من كتاب الأفعال .
الوكالة عقد نيابة ، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك ، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو بترفه فيستنيب من يريحه . وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب ، منها هذه الآية ، وقوله - تعالى - : والعاملين عليها وقوله اذهبوا بقميصي هذا . وأما من السنة فأحاديث كثيرة ; منها حديث عروة البارقي ، وقد تقدم في آخر الأنعام . روى جابر بن عبد الله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : إني أردت الخروج إلى خيبر ; فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته خرجه أبو داود . والأحاديث كثيرة في هذا المعنى ، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية .
الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه ، فلو وكل الغاصب لم يجز ، وكان هو الوكيل ; لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه .
في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم . وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه ; فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها . وقال أبو حنيفة وسحنون : لا تجوز . قال ابن العربي : وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت ; إنصافا منهم وإذلالا لهم ، وهو الحق ; فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل .
قلت : هذا حسن ; فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء . والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال : أعطوه فطلبوا له سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها ; فقال : أعطوه فقال : أوفيتني أوفى الله لك . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن خيركم أحسنكم قضاء . لفظ البخاري . فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه ; وذلك توكيد منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مريضا ولا مسافرا . وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه ; وهذا الحديث خلاف قولهما .
قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء . وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا ، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر ; ومثله قوله - تعالى - : وإن تخالطوهم فإخوانكم حسبما تقدم بيانه في " البقرة " . ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه : إن ذلك جائز . وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه : إن ذلك جائز . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل من اشترى له أضحية . قال ابن العربي : ليس في الآية دليل على ذلك ; لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك . ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين : أحدهما : أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه . الثاني : حديث أبي عبيدة في جيش الخبط . وهذا دون الأول في الظهور ; لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه .
قلت : ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله - تعالى - : وإن تخالطوهم فإخوانكم وقوله ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا على ما يأتي إن شاء الله - تعالى - .
إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٠٢
ومنها: الحث على التحرز، والاستخفاء، والبعد عن مواقع الفتن في الدين، واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين.
ومنها: شدة رغبة هؤلاء الفتية في الدين، وفرارهم من كل فتنة، في دينهم وتركهم أوطانهم في الله.
ومنها: ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد، الداعية لبغضه، وتركه، وأن هذه الطريقة، هي طريقة المؤمنين المتقدمين، والمتأخرين لقولهم: { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا }
وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا ١٢
يقول تعالى : ( وكذلك أعثرنا عليهم ) أي : أطلعنا عليهم الناس ( ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها )
ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة . وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا : تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد . فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك .
وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة ، في شراء شيء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة ، حتى انتهى إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر :
أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله
فجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدا من أهلها ، لا خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونا أو مسا ، أو أنا حالم ، ويقول : والله ما بي شيء من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة . ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي . ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعاما . فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا قد وجد كنزا . فسألوه عن أمره ، ومن أين له هذه النفقة ؟ لعله وجدها من كنز . ومن أنت ؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه المدينة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس . فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى ولي أمرهم ، فسأله عن شأنه وعن أمره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله ، وما هو فيه . فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف متولي البلد وأهلها ، حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي ، فيقال : إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبره ويقال : بل دخلوا عليهم ، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلما فيما قيل ، واسمه تيدوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله - عز وجل - فالله أعلم .
قال قتادة : غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ، فرأوا فيه عظاما ، فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف ؟ فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة . رواه ابن جرير .
وقوله : ( وكذلك أعثرنا عليهم ) أي : كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان ( ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) أي : في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم ( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ) أي : سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا )
حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين : أحدهما : إنهم المسلمون منهم . والثاني : أهل الشرك منهم ، فالله أعلم .
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ . ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " يحذر ما فعلوا . وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق ، أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها .
وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا ١٢
قوله : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا
قوله تعالى : وكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم . و " أعثر " تعدية عثر بالهمزة ، وأصل العثار في القدم .
ليعلموا أن وعد الله حق يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم . وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح ، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا : إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض . وقال بعضهم : تبعث الروح والجسد جميعا ; فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله - تعالى - في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ; فيقال : إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد ، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه ، فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك ، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى فأخبره ; فسر الملك بذلك وقال : لعل الله قد بعث لكم آية ، فلنسر إلى الكهف معه ، فركب مع أهل المدينة إليهم ، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا : أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم . وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق ، على ما يأتي . ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين . فهذا معنى أعثرنا عليهم . ليعلموا أن وعد الله حق أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق إذ يتنازعون بينهم أمرهم . وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم .
فقال الملك : ابنوا عليهم بنيانا ; فقال الذين هم على دين الفتية : اتخذوا عليهم مسجدا . وروي أن طائفة كافرة قالت : نبني بيعة أو مضيفا ، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا . وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين . وروي عن عبد الله بن عمر أن الله - تعالى - أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم ، فذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم . وقيل : إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل ; فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود ، فدعنا .
وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة ; فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها ، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز ; لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج . قال الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن . وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله - تعالى - يوم القيامة . لفظ مسلم . قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد . وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها لفظ مسلم . أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى ، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام . فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك ، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا . وروى مسلم عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه . وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وروى الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها . وأخرجه أبو داود والترمذي . قال علماؤنا : ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة . وقد قال به بعض أهل العلم . وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم ، وذلك صفة قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه - رضي الله عنهما - على ما ذكر مالك في الموطإ - وقبر أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم - ، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس . وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال ; فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة ، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها . وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال : هو حرام . والتسنيم في القبر : ارتفاعه قدر شبر ; مأخوذ من سنام البعير . ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح . وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر . وقال أبو حنيفة : لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط . ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة ; لما رواه أبو بكر الأثرم قال : حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال : كانت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة ; ذكره أبو عمر .
وأما الجائزة : فالدفن في التابوت ; وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة . روي أن دانيال - صلوات الله عليه - كان في تابوت من حجر ، وأن يوسف - عليه السلام - أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد ، وبقي كذلك إلى زمان موسى - صلوات الله عليهم أجمعين - ; فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق - عليه السلام - . وفي الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه : اتخذوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا ; كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . اللحد : هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن . وهو أفضل عندنا من الشق ; لأنه الذي اختاره الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وبه قال أبو حنيفة قال : السنة اللحد . وقال الشافعي : الشق . ويكره الآجر في اللحد . وقال الشافعي : لا بأس به لأنه نوع من الحجر . وكرهه أبو حنيفة وأصحابه ; لأن الآجر لإحكام البناء ، والقبر وما فيه للبلى ، فلا يليق به الإحكام . وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر . وقيل : إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا ; فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر . قالوا : ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حزمة من قصب . وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل الحنفي - رحمه الله - أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض . وقال : لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به ، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت ، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد .
قلت : ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن المدينة سبخة ، قال شقران : أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر . قال أبو عيسى الترمذي : حديث شقران حديث حسن غريب .
وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا ١٢
يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف، وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.
و { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا } الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر:
{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم، وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.
وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب { وما عند الله خير للأبرار }
سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا ٢٢
يقول تعالى مخبرا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فحكى ثلاثة أقوال ، فدل على أنه لا قائل برابع ، ولما ضعف القولين الأولين بقوله : ( رجما بالغيب ) أي : قولا بلا علم ، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب ، وإن أصاب فبلا قصد ، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله : ( وثامنهم كلبهم ) فدل على صحته ، وأنه هو الواقع في نفس الأمر .
وقوله : ( قل ربي أعلم بعدتهم ) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى ؛ إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم ، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به ، وإلا وقفنا حيث وقفنا .
وقوله : ( ما يعلمهم إلا قليل ) أي : من الناس . قال قتادة : قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله - عز وجل - كانوا سبعة . وكذا روى ابن جريج ، عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول : أنا ممن استثنى الله ، ويقول : عدتهم سبعة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( ما يعلمهم إلا قليل ) قال : أنا من القليل ، كانوا سبعة .
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس : أنهم كانوا سبعة ، وهو موافق لما قدمناه .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق . قال ابن عباس : فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله ، يبكون ويستغيثون بالله ، وكانوا ثمانية نفر : مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ، و مجسيميلنينا وتمليخا ومرطونس ، وكشطونس ، وبيرونس ، وديموس ، ويطونس وقالوش .
هكذا وقع في هذه الرواية ، ويحتمل هذا من كلام ابن إسحاق ، ومن بينه وبينه ، فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة ، وهو ظاهر الآية . وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران ، وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته ، والله أعلم ؛ فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب ، وقد قال تعالى : ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) أي : سهلا هينا ؛ فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة ( ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) أي : فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب ، أي من غير استناد إلى كلام معصوم ، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال .
سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا ٢٢
قوله تعالى : سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا
قوله تعالى : سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم الضمير في سيقولون يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد - صلى الله عليه وسلم - . وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص . وقيل : المراد به النصارى ; فإن قوما منهم حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وقالت النسطورية : كانوا خمسة سادسهم كلبهم . وقال المسلمون : كانوا سبعة ثامنهم كلبهم . وقيل : هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أصحاب الكهف . والواو في قوله وثامنهم كلبهم طريق النحويين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم ; لتفصل أمرهم ، وتدل على أن هذا غاية ما قيل ، ولو سقطت لصح الكلام . وقالت فرقة منها ابن خالويه : هي واو الثمانية . وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية ; فتدخل الواو في الثمانية . وحكى نحوه القفال ، فقال : إن قوما قالوا العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة ، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو ، كقوله التائبون العابدون - ثم قال - والناهون عن المنكر والحافظون . يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها بلا واو ، ولما ذكر الجنة قال : وفتحت أبوابها بالواو . وقال خيرا منكن مسلمات ثم قال وأبكارا فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا . قال القشيري أبو نصر : ومثل هذا الكلام تحكم ، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله - تعالى - : هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ولم يذكر الاسم الثامن بالواو . وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة : إنما ذكر الواو في قوله سبعة وثامنهم لينبه على أن هذا العدد هو الحق ، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب ; ولهذا قال - تعالى - في الجملتين المتقدمتين رجما بالغيب ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء ; فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم . والرجم : القول بالظن ; يقال لكل ما يخرص : رجم فيه ومرجوم ومرجم ; كما قال :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
قلت : قد ذكر الماوردي والغزنوي : وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية ، وجعلا قوله - تعالى - وثامنهم كلبهم أي صاحب كلبهم . وهذا مما يقوي طريق النحويين في الواو ، وأنها كما قالوا . وقال القشيري : لم يذكر الواو في قوله : رابعهم سادسهم ، ولو كان بالعكس لكان جائزا ، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد ، وهو كقوله في موضع آخر وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم . وفي موضع آخر : إلا لها منذرون ذكرى .
قوله تعالى : قل ربي أعلم بعدتهم أمر الله - تعالى - نبيه - عليه السلام - في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه - عز وجل - . ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل . والمراد به قوم من أهل الكتاب ; في قول عطاء . وكان ابن عباس يقول : أنا من ذلك القليل ، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، ثم ذكر السبعة بأسمائهم ، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر ، فوق القلطي ودون الكردي . وقال محمد بن سعيد بن المسيب : هو كلب صيني . والصحيح أنه زبيري . وقال : ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له . قال : وكتبه أبو عمرو الحيري عني .
قوله تعالى : فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك ; وهو رد علم عدتهم إلى الله - تعالى - . وقيل : معنى المراء الظاهر أن تقول : ليس كما تقولون ، ونحو هذا ، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك . وفي هذا دليل على أن الله - تعالى - لم يبين لأحد عددهم فلهذا قال إلا مراء ظاهرا أي ذاهبا ; كما قال :
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
ولم يبح له في هذه الآية أن يماري ; ولكن قوله إلا مراء استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب . سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر ; ففارق المراء الحقيقي المذموم . والضمير في قوله فيهم عائد على أهل الكهف . وقوله : فلا تمار فيهم يعني في عدتهم ; وحذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها .
قوله تعالى : ولا تستفت فيهم منهم أحدا روي أنه - عليه السلام - سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال . والضمير في قوله منهم عائد على أهل الكتاب المعارضين . وفي هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم .
سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا ٢٢
يخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف، اختلافا صادرا عن رجمهم بالغيب، وتقولهم بما لا يعلمون، وأنهم فيهم على ثلاثة أقوال:
منهم: من يقول: ثلاثة، رابعهم كلبهم، ومنهم من يقول: خمسة، سادسهم كلبهم. وهذان القولان، ذكر الله بعدهما، أن هذا رجم منهم بالغيب، فدل على بطلانهما.
ومنهم من يقول: سبعة، وثامنهم كلبهم، وهذا -والله أعلم- الصواب، لأن الله أبطل الأولين ولم يبطله، فدل على صحته، وهذا من الاختلاف الذي لا فائدة تحته، ولا يحصل بمعرفة عددهم مصلحة للناس، دينية ولا دنيوية، ولهذا قال تعالى:
( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) وهم الذين أصابوا الصواب وعلموا إصابتهم. ( فَلا تُمَارِ ) أي: تجادل وتحاج ( فيهم إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) أي: مبنيا على العلم واليقين، ويكون أيضا فيه فائدة، وأما المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها، إما أن يكون الخصم معاندا، أو تكون المسألة لا أهمية فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها، كعدد أصحاب الكهف ونحو ذلك، فإن في كثرة المناقشات فيها، والبحوث المتسلسلة، تضييعا للزمان، وتأثيرا في مودة القلوب بغير فائدة.
( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ ) أي: في شأن أهل الكهف ( مِنْهُمْ ) أي: من أهل الكتاب ( أَحَدًا ) وذلك لأن مبنى كلامهم فيهم على الرجم بالغيب والظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ففيها دليل على المنع من استفتاء من لا يصلح للفتوى، إما لقصوره في الأمر المستفتى فيه، أو لكونه لا يبالي بما تكلم به، وليس عنده ورع يحجزه، وإذا نهي عن استفتاء هذا الجنس، فنهيه هو عن الفتوى، من باب أولى وأحرى.
وفي الآية أيضا، دليل على أن الشخص، قد يكون منهيا عن استفتائه في شيء، دون آخر. فيستفتى فيما هو أهل له، بخلاف غيره، لأن الله لم ينه عن استفتائهم مطلقا، إنما نهى عن استفتائهم في قصة أصحاب الكهف، وما أشبهها.
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٣٢
هذا إرشاد من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل ، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله - عز وجل - علام الغيوب ، الذي يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [ قال ] قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية : تسعين امرأة . وفي رواية : مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقيل له - وفي رواية : فقال له الملك - قل : إن شاء الله . فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان " ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لو قال : " إن شاء الله " لم يحنث ، وكان دركا لحاجته " ، وفي رواية : " ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عن قصة أصحاب الكهف : " غدا أجيبكم " . فتأخر الوحي خمسة عشر يوما ، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة ، فأغنى عن إعادته .
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٣٢
قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا
قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله فيه :
قال العلماء عاتب الله - تعالى - نبيه - عليه السلام - على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين : غدا أخبركم بجواب أسئلتكم ; ولم يستثن في ذلك . فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به ، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة . وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا ، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله - عز وجل - حتى لا يكون محققا لحكم الخبر ; فإنه إذا قال : لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا ، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن يكون محققا للمخبر عنه . واللام في قوله لشيء بمنزلة في ، أو كأنه قال لأجل شيء .
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٣٢
تفسير الآيتين 23 و 24 :ـ
هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة، { إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، وينفع المحذور، ويؤخذ من عموم قوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين، ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: { عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره.
إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا ٤٢
وقوله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) قيل : معناه إذا نسيت الاستثناء ، فاستثن عند ذكرك له . قاله أبو العالية ، والحسن البصري .
وقال هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في الرجل يحلف ؟ قال : له أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول : ( واذكر ربك إذا نسيت ) في ذلك . قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد ؟ قال حدثني به ليث بن أبي سليم ، يرى ذهب كسائي هذا .
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به .
ومعنى قول ابن عباس : " أنه يستثني ولو بعد سنة " أي : إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه " إن شاء الله " وذكر ولو بعد سنة ، فالسنة له أن يقول ذلك ، ليكون آتيا بسنة الاستثناء ، حتى ولو كان بعد الحنث ، قال ابن جرير ، رحمه الله ، ونص على ذلك ، لا أن يكون [ ذلك ] رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة . وهذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه الله ، هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه ، والله أعلم .
وقال عكرمة : ( واذكر ربك إذا نسيت ) أي : إذا غضبت . وهذا تفسير باللازم .
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ) أن تقول : إن شاء الله [ وهذا تفسير باللازم ] .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحارث الجبيلي حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن عبد العزيز بن حصين ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ) أن تقول : إن شاء الله .
وروى الطبراني ، أيضا عن ابن عباس في قوله : ( واذكر ربك إذا نسيت ) الاستثناء ، فاستثن إذا ذكرت . وقال : هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال : تفرد به الوليد ، عن عبد العزيز بن الحصين .
ويحتمل في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون الله - عز وجل - قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى ؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان ، كما قال فتى موسى : ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) [ الكهف : 63 ] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان ، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله سبب للذكر ؛ ولهذا قال : ( واذكر ربك إذا نسيت ) .
وقوله : ( وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ) أي : إذا سئلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد [ في ذلك ] وقيل غير ذلك في تفسيره ، والله أعلم .
إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا ٤٢
قال ابن عطية : وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين ، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين . وقوله : إلا أن يشاء الله في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز ; تقديره : إلا أن تقول إلا أن يشاء الله ; أو إلا أن تقول إن شاء الله . فالمعنى : إلا أن تذكر مشيئة الله ; فليس إلا أن يشاء الله من القول الذي نهي عنه .
قلت : ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش . وقال البصريون : المعنى إلا بمشيئة الله . فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله . قال ابن عطية : وقالت فرقة إلا أن يشاء الله استثناء من قوله ولا تقولن . قال : وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه ، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى . وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في " المائدة " .
قوله تعالى : واذكر ربك إذا نسيت وفيه الأمر بالذكر بعد النسيان واختلف في الذكر المأمور به ; فقيل : هو قوله وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا قال محمد الكوفي المفسر : إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن ، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء . وقال الجمهور : هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص . وقيل : هو قوله إن شاء الله الذي كان نسيه عند يمينه . حكي عن ابن عباس أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا . وهو قول مجاهد . وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله - تعالى - : واذكر ربك إذا نسيت قال : يستثني إذا ذكره . الحسن : ما دام في مجلس الذكر . ابن عباس : سنتين ; ذكره الغزنوي قال : فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم . فأما الاستثناء المفيد حكما فلا يصح إلا متصلا . السدي : أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها . وقيل : استثن باسمه لئلا تنسى . وقيل : اذكره متى ما نسيته . وقيل : إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه . وقيل : اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك ; فذلك حقيقة الذكر . وهذه الآية مخاطبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي استفتاح كلام على الأصح ، وليست من الاستثناء في اليمين بشيء ، وهي بعد تعم جميع أمته ; لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه . والله الموفق .
إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا ٤٢
تفسير الآيتين 23 و 24 :ـ
هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صل الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة، { إني فاعل ذلك } من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟ وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا، وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه، ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، وينفع المحذور، ويؤخذ من عموم قوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه، وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين، ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: { عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد. وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره.
وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا ٥٢
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان ، وأنه كان مقداره ثلاثمائة [ سنة ] وتسع سنين بالهلالية ، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة [ سنة ] بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ؛ فلهذا قال بعد الثلاثمائة : ( وازدادوا تسعا )
وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا ٥٢
قوله تعالى : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا هذا خبر من الله - تعالى - عن مدة لبثهم . وفي قراءة ابن مسعود وقالوا لبثوا . قال الطبري : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال بعضهم : إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله - تعالى - نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر . فأمر الله - تعالى - أن يرد علم ذلك إليه . قال ابن عطية : فقوله على هذا لبثوا الأول يريد في نوم الكهف ، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار إلى مدة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء . مجاهد : إلى وقت نزول القرآن . الضحاك : إلى أن ماتوا . وقال بعضهم : إنه لما قال وازدادوا تسعا لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام . واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمر الله - تعالى - برد العلم إليه في التسع ، فهي على هذا مبهمة . وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام ، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية . وقيل غير هذا على ما يأتي . قال القشيري : لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين ; كما تقول : عندي مائة درهم وخمسة ; والمفهوم منه خمسة دراهم . وقال أبو علي وازدادوا تسعا أي ازدادوا لبث تسع ; فحذف . وقال الضحاك : لما نزلت ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام ; فأنزل الله - عز وجل - سنين . وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام ; فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع ; إذ المفهوم عنده من السنين القمرية ، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين . ونحوه ذكر الغزنوي . أي باختلاف سني الشمس والقمر ; لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلاثمائة تسع سنين . وقرأ الجمهور ثلاثمائة سنين بتنوين مائة ونصب سنين ، على التقديم والتأخير ; أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف ، فتكون سنين على هذا بدلا أو عطف بيان . وقيل : على التفسير والتمييز . وسنين في موضع سنة . وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين ، وترك التنوين ; كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعني بهما واحد . قال أبو علي : هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع . وفي مصحف عبد الله " ثلاثمائة سنة " . وقرأ الضحاك " ثلثمائة سنون " بالواو . وقرأ أبو عمرو بخلاف " تسعا " بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها . وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة : التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة .
وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا ٥٢
لما نهاه الله عن استفتاء أهل الكتاب، في شأن أهل الكهف، لعدم علمهم بذلك، وكان الله عالم الغيب والشهادة، العالم بكل شيء، أخبره بمدة لبثهم، وأن علم ذلك عنده وحده، فإنه من غيب السماوات والأرض، وغيبها مختص به، فما أخبر به عنها على ألسنة رسله، فهو الحق اليقين، الذي لا يشك فيه، وما لا يطلع رسله عليه، فإن أحدا من الخلق، لا يعلمه.
قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٦٢
وقوله : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) أي : إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك [ علم ] في ذلك وتوقيف من الله عز وجل فلا تتقدم فيه بشيء ، بل قل في مثل هذا : ( الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض ) أي : لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خلقه ، وهذا الذي قلناه ، عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقال قتادة في قوله : ( ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ) هذا قول أهل الكتاب ، وقد رده الله تعالى بقوله : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) قال : وفي قراءة عبد الله : " وقالوا : ولبثوا " ، يعني أنه قاله الناس
وهكذا قال - كما قال قتادة - مطرف بن عبد الله .
وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر ، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ، يعنون بالشمسية ، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال : ( وازدادوا تسعا ) وظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله ، لا حكاية عنهم . وهذا اختيار ابن جرير ، رحمه الله . ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها ، والله أعلم .
وقوله : ( أبصر به وأسمع ) أي : إنه لبصير بهم سميع لهم .
قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
ثم روي عن قتادة في قوله : ( أبصر به وأسمع ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع .
وقال ابن زيد : ( أبصر به وأسمع ) يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم ، سميعا بصيرا .
وقوله : ( ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ) أي : أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدس .
قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٦٢
قوله تعالى : قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا
قوله تعالى : قل الله أعلم بما لبثوا قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم ، على قول مجاهد . أو إلى أن ماتوا ; على قول الضحاك . أو إلى وقت تغيرهم بالبلى ; على ما تقدم . وقيل : بما لبثوا في الكهف ، وهي المدة التي ذكرها الله - تعالى - عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا . أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك له غيب السماوات والأرض .
قوله تعالى : أبصر به وأسمع أي ما أبصره وأسمعه . قال قتادة : لا أحد أبصر من الله ولا أسمع . وهذه عبارات عن الإدراك . ويحتمل أن يكون المعنى أبصر به أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور ، وأسمع به العالم ; فيكونان أمرين لا على وجه التعجب . وقيل . المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال الله فيهم .
ما لهم من دونه من ولي أي لم يكن لأصحاب الكهف ولي يتولى حفظهم دون الله . ويحتمل أن يعود الضمير في لهم على معاصري محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفار . والمعنى : ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولي دون الله يتولى تدبير أمرهم ; فكيف يكونون أعلم منه ، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم .
قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا قرئ بالياء ورفع الكاف ، على معنى الخبر عن الله - تعالى - . وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري " ولا تشرك " بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون قوله " ولا يشرك " عطفا على قوله : أبصر به وأسمع . وقرأ مجاهد " يشرك " بالياء من تحت والجزم . قال يعقوب : لا أعرف وجهه .
مسألة : اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا ، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة ; فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله ، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا : هذه عظام أهل الكهف . فقال لهم ابن عباس : أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة ; فسمعه راهب فقال : ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا ; فقيل له : هذا ابن عم نبينا - صلى الله عليه وسلم - . وروت فرقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد . ذكره ابن عطية .
قلت : ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله ، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم ، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا . وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب " التذكرة " . فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة ، بل يموتون قبيل الساعة .
قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٦٢
وقوله: { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } تعجب من كمال سمعه وبصره، وإحاطتهما بالمسموعات والمبصرات، بعد ما أخبر بإحاطة علمه بالمعلومات. ثم أخبر عن انفراده بالولاية العامة والخاصة، فهو الولي الذي يتولى تدبير جميع الكون، الولي لعباده المؤمنين، يخرجهم من الظلمات إلى النور وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، ولهذا قال: { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ } أي: هو الذي تولى أصحاب الكهف، بلطفه وكرمه، ولم يكلهم إلى أحد من الخلق.
{ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، فإنه الحاكم في خلقه، قضاء وقدرا، وخلقا وتدبيرا، والحاكم فيهم، بأمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
ولما أخبر أنه تعالى، له غيب السماوات والأرض، فليس لمخلوق إليها طريق، إلا عن الطريق التي يخبر بها عباده، وكان هذا القرآن، قد اشتمل على كثير من الغيوب
وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٧٢
يقول تعالى آمرا رسوله [ عليه الصلاة والسلام ] بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس : ( لا مبدل لكلماته ) أي : لا مغير لها ولا محرف ولا مؤول .
وقوله : ( ولن تجد من دونه ملتحدا ) [ عن مجاهد : ( ملتحدا ) قال : ملجأ . وعن قتادة : وليا ولا مولى ] قال ابن جرير : يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ، فإنه لا ملجأ لك من الله " . كما قال تعالى : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] ، وقال تعالى ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) [ القصص : 85 ] أي : سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة .
وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٧٢
قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا
قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته قيل : هو من تمام قصة أصحاب الكهف ; أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف . وقال الطبري : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه .
ولن تجد أنت .
من دونه إن لم تتبع القرآن وخالفته .
ملتحدا أي ملجأ وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه . قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم : وهذا آخر قصة أصحاب الكهف . ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف ; فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم ; فقال ابن عباس : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك ، فقال : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا فقال : لا أنتهي حتى أعلم علمهم ، وبعث قوما لذلك ، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم ; ذكره الثعلبي أيضا . وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الله أن يريه إياهم ، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان ; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - : كيف أبعثهم ؟ فقال : ابسط كساءك وأجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع علي بن أبي طالب ، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن الله - تعالى - يأمرها أن تطيعك ; ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف ، فقلعوا منه حجرا ، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ; فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ; فقالوا لهم : معشر الفتية ، إن النبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليكم السلام ; فقالوا : وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليكم بما أبلغتم ، وقبلوا دينه وأسلموا ، ثم قالوا : أقرئوا محمدا رسول الله منا السلام ، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي . فيقال : إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهم ، ثم ردتهم الريح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف وجدتموهم ؟ . فأخبروه الخبر ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أحبني وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي . وقيل : إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح ; فأخبر الله - تعالى - المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : كانوا قبل موسى - عليه السلام - وأن موسى ذكرهم في التوراة ; ولهذا سألت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : دخلوا الكهف بعد المسيح ; فالله أعلم أي ذلك كان .
وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا ٧٢
التلاوة: هي الاتباع، أي: اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره ونواهيه، فإنه الكتاب الجليل، الذي لا مبدل لكلماته، أي: لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها، وبلوغها من الحسن فوق كل غاية { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } فلتمامها، استحال عليها التغيير والتبديل، فلو كانت ناقصة، لعرض لها ذلك أو شيء منه، وفي هذا تعظيم للقرآن، في ضمنه الترغيب على الإقبال عليه.
{ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أي: لن تجد من دون ربك، ملجأ تلجأ إليه، ولا معاذا تعوذ به، فإذا تعين أنه وحده الملجأ في كل الأمور، تعين أن يكون هو المألوه المرغوب إليه، في السراء والضراء، المفتقر إليه في جميع الأحوال، المسئول في جميع المطالب.
وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٨٢
وقوله : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) أي : اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ، ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله ، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء . يقال : إنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [ وخباب ] وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة . فنهاه الله عن ذلك ، فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية [ الأنعام : 52 ] الآية ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء ، فقال : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه )
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن إسرائيل ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا! . قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي التياح قال : سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص ، فأمسك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قص ، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس ، أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب "
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا هاشم حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت كردوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة - يقول : أخبرني رجل من أصحاب بدر : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب " . قال شعبة : فقلت : أي مجلس ؟ قال : كان قاصا
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد ، حدثنا يزيد بن أبان ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أجالس قوما يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس ، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا " . فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس ، فبلغت ستة وتسعين ألفا ، وهاهنا من يقول : " أربعة من ولد إسماعيل " والله ما قال إلا ثمانية ، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " .
هكذا رواه أبو أحمد ، عن عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر مرسلا . وحدثناه يحيى بن المعلى ، عن منصور ، حدثنا محمد بن الصلت ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف ، فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المرئي ، حدثنا ميمون بن سياه ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله ، لا يريدون بذلك إلا وجهه ، إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورا لكم ، قد بدلت سيئاتكم حسنات " تفرد به أحمد ، رحمه الله .
وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، عن أسامة بن زيد عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في بعض أبياته : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) فخرج يلتمسهم ، فوجد قوما يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس ، وجافي الجلد وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم "
عبد الرحمن هذا ، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة ، رضي الله عنهم .
وقوله : ( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم : يعني : تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) أي : شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ( واتبع هواه وكان أمره فرطا ) أي : أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه ، كما قال تعالى : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ) [ طه : 131 ]
وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٨٢
قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي هذا مثل قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي في سورة " الأنعام " وقد مضى الكلام فيه . وقال سلمان الفارسي - رضي الله عنه - : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا : يا رسول الله ; إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله - تعالى - : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - حتى بلغ - إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها . يتهددهم بالنار . فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات . وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي " وحجتهم أنها في السواد بالواو . وقال أبو جعفر النحاس : وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة .
وروي عن الحسن " ولا تعد عيناك عنهم " أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها ; حكاه اليزيدي . وقيل : لا تحتقرهم عيناك ; كما يقال فلان تنبو عنه العين ; أي مستحقرا .
تريد زينة الحياة الدنيا أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك ; ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك ، ولكن الله نهاه عن أن يفعله ، وليس هذا بأكثر من قوله لئن أشركت ليحبطن عملك . وإن كان الله أعاذه من الشرك .
وتريد فعل مضارع في موضع الحال ; أي لا تعد عيناك مريدا ; كقول امرئ القيس :
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وزعم بعضهم أن حق الكلام : لا تعد عيناك عنهم ; لأن " تعد " متعد بنفسه . قيل له : والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يئول إلى معنى النصب فيها ، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم ، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم ; فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; كما قال - تعالى - : فلا تعجبك أموالهم فأسند الإعجاب إلى الأموال ، والمعنى : لا تعجبك يا محمد أموالهم . ويزيدك وضوحا قول الزجاج : إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة .
قوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله - تعالى - : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا قال : نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وذلك أنه دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة ; فأنزل الله - تعالى - : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد . واتبع هواه يعني الشرك .
وكان أمره فرطا قيل هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الإيمان . وقيل : من الإفراط ومجاوزة الحد ، وكأن القوم قالوا : نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس ; وكان هذا من التكبر والإفراط في القول . وقيل : فرطا أي قدما في الشر ; من قولهم : فرط منه أمر أي سبق . وقيل : معنى أغفلنا قلبه وجدناه غافلا ; كما تقول : لقيت فلانا فأحمدته ; أي وجدته محمودا . وقال عمرو بن معديكرب لبني الحارث بن كعب : والله لقد سألناكم فما أبخلناكم ، وقاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ; أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين .
وقيل : نزلت ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا في عيينة بن حصن الفزاري ; ذكره عبد الرزاق ، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري . والله أعلم .
وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٨٢
يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته، في الأوامر والنواهي -أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين { الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.
{ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك.
{ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } غفل عن الله، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: صار تبعا لهواه، حيث ما اشتهت نفسه فعله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه، كما قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } الآية. { وَكَانَ أَمْرُهُ } أي: مصالح دينه ودنياه { فُرُطًا } أي: ضائعة معطلة. فهذا قد نهى الله عن طاعته، لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به، ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إماما للناس، من امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما من الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماما، والصبر المذكور في هذه الآية، هو الصبر على طاعة الله، الذي هو أعلى أنواع الصبر، وبتمامه تتم باقي الأقسام. وفي الآية، استحباب الذكر والدعاء والعبادة طرفي النهار، لأن الله مدحهم بفعله، وكل فعل مدح الله فاعله، دل ذلك على أن الله يحبه، وإذا كان يحبه فإنه يأمر به، ويرغب فيه.
وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ٩٢
قول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للناس : هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ؛ ولهذا قال : ( إنا أعتدنا ) أي : أرصدنا ) للظالمين ) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ( نارا أحاط بهم سرادقها ) أي : سورها .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لسرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة " .
وأخرجه الترمذي في " صفة النار " وابن جرير في تفسيره ، من حديث دراج أبي السمح به
[ وقال ابن جريج : قال ابن عباس : ( أحاط بهم سرادقها ) قال : حائط من نار ]
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن أمية ، حدثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البحر هو جهنم " قال : فقيل له : [ كيف ذلك ؟ ] فتلا هذه الآية - أو : قرأ هذه الآية - : ( نارا أحاط بهم سرادقها ) ثم قال : " والله لا أدخلها أبدا أو : ما دمت حيا - ولا تصيبني منها قطرة " .
وقوله : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) قال ابن عباس : " المهل " : ماء غليظ مثل دردي الزيت .
وقال مجاهد : هو كالدم والقيح . وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره : وقال آخرون : هو كل شيء أذيب .
وقال قتادة : أذاب ابن مسعود شيئا من الذهب في أخدود ، فلما انماع وأزبد قال : هذا أشبه شيء بالمهل .
وقال الضحاك : ماء جهنم أسود ، وهي سوداء وأهلها سود .
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ؛ ولهذا قال : ( يشوي الوجوه ) أي : من حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه ، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ماء كالمهل " . قال كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه " وهكذا رواه الترمذي في " صفة النار " من جامعه ، من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، به ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث " رشدين " ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه ، هكذا قال ، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب ، عن ابن لهيعة ، عن دراج ، والله أعلم .
وقال عبد الله بن المبارك ، وبقية بن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن بسر ، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ويسقى من ماء صديد يتجرعه ) [ إبراهيم : 16 ، 17 ] قال : " يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله تعالى : ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب ) .
وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارا مر بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها . ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون . فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود .
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات [ الذميمة ] القبيحة : ( بئس الشراب ) أي : بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى : ( وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ) [ محمد : 15 ] وقال تعالى : ( تسقى من عين آنية ) [ الغاشية : 5 ] أي حارة ، كما قال : ( وبين حميم آن ) [ الرحمن : 44 ]
( وساءت مرتفقا ) [ أي : وساءت النار ] منزلا ومقيلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق كما قال في الآية الأخرى : ( إنها ساءت مستقرا ومقاما ) [ الفرقان : 66 ]
وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ٩٢
قوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا
قوله تعالى : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الحق رفع على خبر الابتداء المضمر ; أي قل هو الحق . وقيل : هو رفع على الابتداء ، وخبره في قوله من ربكم . ومعنى الآية : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، يهدي من يشاء فيؤمن ، ويضل من يشاء فيكفر ; ليس إلي من ذلك شيء ، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا ، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ; فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا . وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر ، وإنما هو وعيد وتهديد . أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار ، وإن آمنتم فلكم الجنة .
إنا أعتدنا أي أعددنا .
للظالمين أي للكافرين الجاحدين .
نارا أحاط بهم سرادقها قال الجوهري : السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار . وكل بيت من كرسف فهو سرادق . قال رؤبة :
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
يقال : بيت مسردق . وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة :
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال ابن الأعرابي : سرادقها سورها . وعن ابن عباس : حائط من نار . الكلبي : وقال ابن الأعرابي : سرادقها سورها . وعن ابن عباس : حائط من نار . الكلبي : عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة . القتبي : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط . وقاله ابن عزيز . وقيل : هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي ذكره الله - تعالى - في سورة ( والمرسلات ) . حيث يقول : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وقوله : وظل من يحموم قاله قتادة . وقيل : إنه البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البحر هو جهنم - ثم تلا - نارا أحاط بهم سرادقها - ثم قال - والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة ذكره الماوردي . وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة . وخرجه أبو عيسى الترمذي ، وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب .
قلت : وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار ، وجدره ما وصف .
قوله تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه قال ابن عباس : المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت . مجاهد : القيح والدم . الضحاك : ماء أسود ، وإن جهنم لسوداء ، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود . وقال أبو عبيدة : هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقزدير ، فتموج بالغليان ، فذلك المهل . ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير : هو الذي قد انتهى حره . وقال : المهل ضرب من القطران ; يقال : مهلت البعير فهو ممهول . وقيل : هو السم . والمعنى في هذه الأقوال متقارب . وفي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله كالمهل قال : كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه . وخرج عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ويسقى من ماء صديد يتجرعه قال : يقرب إلى فيه فكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره . يقول الله - تعالى - وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم يقول وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا قال : حديث غريب .
قلت : وهذا يدل على صحة تلك الأقوال ، وأنها مرادة ، والله أعلم . وكذلك نص عليها أهل اللغة . في الصحاح " المهل " النحاس المذاب . ابن الأعرابي : المهل المذاب من الرصاص . وقال أبو عمرو . المهل دردي الزيت . والمهل أيضا القيح والصديد . وفي حديث أبي بكر : ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب .
بئس الشراب وساءت مرتفقا قال مجاهد : معناه مجتمعا ، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة . ابن عباس : منزلا . عطاء : مقرا . وقيل مهادا . وقال القتبي : مجلسا ، والمعنى متقارب ; وأصله من المتكأ ، يقال منه : ارتفقت أي اتكأت على المرفق . قال الشاعر :
قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحى
ويقال : ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم . قال أبو ذؤيب الهذلي :
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مدبوح
الصاب : عصارة شجر مر .
وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا ٩٢
أي: قل للناس يا محمد: هو الحق من ربكم أي: قد تبين الهدى من الضلال، والرشد من الغي، وصفات أهل السعادة، وصفات أهل الشقاوة، وذلك بما بينه الله على لسان رسوله، فإذا بان واتضح، ولم يبق فيه شبهة.
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } أي: لم يبق إلا سلوك أحد الطريقين، بحسب توفيق العبد، وعدم توفيقه، وقد أعطاه الله مشيئة بها يقدر على الإيمان والكفر، والخير والشر، فمن آمن فقد وفق للصواب، ومن كفر فقد قامت عليه الحجة، وليس بمكره على الإيمان، كما قال تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وليس في قوله: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الإذن في كلا الأمرين، وإنما ذلك تهديد ووعيد لمن اختار الكفر بعد البيان التام، كما ليس فيها ترك قتال الكافرين. ثم ذكر تعالى مآل الفريقين فقال: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } بالكفر والفسوق والعصيان { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي: سورها المحيط بها، فليس لهم منفذ ولا طريق ولا مخلص منها، تصلاهم النار الحامية.
{ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا } أي: يطلبوا الشراب، ليطفئ ما نزل بهم من العطش الشديد.
{ يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ } أي: كالرصاص المذاب، أو كعكر الزيت، من شدة حرارته.
{ يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي: فكيف بالأمعاء والبطون، كما قال تعالى { يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد }
{ بِئْسَ الشَّرَابُ } الذي يراد ليطفئ العطش، ويدفع بعض العذاب، فيكون زيادة في عذابهم، وشدة عقابهم.
{ وَسَاءَتْ } النار { مُرْتَفَقًا } وهذا ذم لحالة النار، أنها ساءت المحل، الذي يرتفق به، فإنها ليست فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق، الذي لا يفتر عنهم ساعة، وهم فيه مبلسون قد أيسوا من كل خير، ونسيهم الرحيم في العذاب، كما نسوه.
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ٠٣
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء ، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم ) جنات عدن ) والعدن : الإقامة .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ٠٣
لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب . وفي الكلام إضمار ; أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا ، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط . وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال : إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم ذكره الماوردي ، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن ، قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : قام أعرابي . . . ; فذكره . وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام . وقد روينا جميع ذلك بالإجازة ، والحمد لله . وعملا نصب على التمييز ، وإن شئت بإيقاع أحسن عليه . وقيل : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا كلام معترض ، والخبر قوله أولئك لهم جنات عدن .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا ٠٣
ثم ذكر الفريق الثاني فقال: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا بين الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وعمل الصالحات من الواجبات والمستحبات { إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } وإحسان العمل: أن يريد العبد العمل لوجه الله، متبعا في ذلك شرع الله. فهذا العمل لا يضيعه الله، ولا شيئا منه، بل يحفظه للعاملين، ويوفيهم من الأجر، بحسب عملهم وفضله وإحسانه
أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا ١٣
( تجري من تحتهم الأنهار ) أي : من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال [ لهم ] فرعون : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) [ الزخرف : 51 ] .
( يحلون ) أي : من الحلية ( فيها من أساور من ذهب ) وقال في المكان الآخر : ( ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير ) [ الحج : 23 ] وفصله هاهنا فقال : ( ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ) فالسندس : ثياب رفاع رفاق كالقمصان وما جرى مجراها ، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق .
وقوله : ( متكئين فيها على الأرائك ) الاتكاء قيل : الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس . وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [ في ] الصحيح : " أما أنا فلا آكل متكئا " فيه القولان .
والأرائك : جمع أريكة ، وهي السرير تحت الحجلة ، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه ، والله أعلم .
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة : ( على الأرائك ) قال : هي الحجال . قال معمر : وقال غيره : السرر في الحجال
وقوله : ( نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) [ أي : نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم ( وحسنت مرتفقا ) أي : حسنت منزلا ومقيلا ومقاما ، كما قال في النار : ( بئس الشراب وساءت مرتفقا ) [ الكهف : 29 ] ، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : ( إنها ساءت مستقرا ومقاما ) [ الفرقان : 66 ] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ) [ الفرقان : 76 ، 75 ] .
أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا ١٣
أولئك لهم جنات عدن سرة الجنة ، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها ; لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل : العدن الإقامة ، يقال : عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه ; ومنه جنات عدن أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن ( بكسر الدال ; لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن : الناقة المقيمة في المرعى . وعدن بلد ; قاله الجوهري .
تجري من تحتهم الأنهار أي من تحت أشجارهم ومنازلهم ; ومنه قوله فرعون : وهذه الأنهار تجري من تحتي .
يحلون فيها من أساور من ذهب وهو جمع سوار . قال سعيد بن جبير : على كل واحد منهم ثلاثة أسورة : واحد من ذهب ، وواحد من ورق ، وواحد من لؤلؤ .
قلت : هذا منصوص في القرآن ، قال هنا من ذهب وقال في الحج وفاطر من ذهب ولؤلؤا وفي الإنسان من فضة . وقال أبو هريرة : سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء خرجه مسلم . وحكى الفراء : " يحلون " بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة ; يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي . وحلي الشيء بعيني يحلى ; ذكره النحاس . والسوار سوار المرأة ، والجمع أسورة ، وجمع الجمع أساورة . وقرئ " فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب " وقد يكون الجمع أساور . وقال الله - تعالى - يحلون فيها من أساور من ذهب قاله الجوهري . وقال ابن عزيز : أساور جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار وسوار ، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب ، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة ; فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك . قال النحاس : وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار ، وقطرب صاحب شذوذ ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره .
قلت : قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء : واحدها إسوار . وقال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله - تعالى - ذلك لأهل الجنة .
قوله تعالى : ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق السندس : الرقيق النحيف ، واحده سندسة ; قال الكسائي . والإستبرق : ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير . قال الشاعر :
تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
فالإستبرق الديباج . ابن بحر : المنسوج بالذهب . القتبي : فارسي معرب . الجوهري : وتصغيره أبيرق . وقيل : هو استفعل من البريق . والصحيح أنه وفاق بين اللغتين ; إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب ، على ما تقدم ، والله أعلم .
وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر ; لأن البياض يبدد النظر ويؤلم ، والسواد يذم ، والخضرة بين البياض والسواد ، وذلك يجمع الشعاع . والله أعلم . روى النسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال : يا رسول الله ، أخبرنا عن ثياب الجنة ، أخلق يخلق أم نسج ينسج ؟ فضحك بعض القوم . فقال لهم : مم تضحكون من جاهل يسأل عالما فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أين السائل عن ثياب الجنة ؟ فقال : ها هو ذا يا رسول الله ; قال لا بل تشقق عنها ثمر الجنة قالها ثلاثا . وقال أبو هريرة : دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان . ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه . وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة . وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون ، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه ، يقول أحد الوجهين للآخر : أنا أكرم على ولي الله منك ، أنا ألي جسده وأنت لا تلي . ويقول الآخر : أنا أكرم على ولي الله منك ، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر .
قوله تعالى : متكئين فيها على الأرائك الأرائك جمع أريكة ، وهي السرر في الحجال . وقيل الفرش في الحجال ; قاله الزجاج . ابن عباس : هي الأسرة من ذهب ، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال ، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية . وأصل متكئين موتكئين ، وكذلك اتكأ أصله اوتكأ ، وأصل التكأة وكأة ; ومنه التوكؤ للتحامل على الشيء ، فقلبت الواو تاء وأدغمت . ورجل وكأة كثير الاتكاء .
نعم الثواب وحسنت مرتفقا يعني الجنات ، عكس وساءت مرتفقا . وقد تقدم . ولو كان " نعمت " لجاز لأنه اسم للجنة . وعلى هذا وحسنت مرتفقا .
أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا ١٣
أي: أولئك الموصوفون بالإيمان والعمل الصالح، لهم الجنات العاليات التي قد كثرت أشجارها، فأجنت من فيها، وكثرت أنهارها، فصارت تجري من تحت تلك الأشجار الأنيقة، والمنازل الرفيعة، وحليتهم فيها الذهب، ولباسهم فيها الحرير الأخضر من السندس، وهو الغليظ من الديباج، والإستبرق، وهو ما رق منه. متكئين فيها على الأرائك، وهي السرر المزينة، المجملة بالثياب الفاخرة فإنها لا تسمى أريكة حتى تكون كذلك، وفي اتكائهم على الأرائك، ما يدل على كمال الراحة، وزوال النصب والتعب، وكون الخدم يسعون عليهم بما يشتهون، وتمام ذلك الخلود الدائم والإقامة الأبدية، فهذه الدار الجليلة { نِعْمَ الثَّوَابُ } للعاملين { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور، والفرح الدائم، واللذات المتواترة، والنعم المتوافرة، وأي مرتفق أحسن من دار، أدنى أهلها، يسير في ملكه ونعيمه وقصوره وبساتينه ألفي سنة، ولا يرى فوق ما هو فيه من النعيم، قد أعطى جميع أمانيه ومطالبه، وزيد من المطالب، ما قصرت عنه الأماني، ومع ذلك، فنعيمهم على الدوام متزايد في أوصافه وحسنه، فنسأل الله الكريم، أن لا يحرمنا خير ما عنده من الإحسان، بشر ما عندنا من التقصير والعصيان.
ودلت الآية الكريمة وما أشبهها، على أن الحلية، عامة للذكور والإناث، كما ورد في الأحاديث الصحيحة لأنه أطلقها في قوله { يُحَلَّوْنَ } وكذلك الحرير ونحوه.
۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا ٢٣
يقول الله تعالى بعد ذكر المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين ، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم ، فضرب لهم مثلا برجلين ، جعل الله ( لأحدهما جنتين ) أي : بستانين من أعناب ، محفوفتين بالنخل المحدقة في جنباتهما ، وفي خلالهما الزروع ، وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجود
۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا ٢٣
قوله تعالى : واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا
قوله تعالى : واضرب لهم مثلا رجلين هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين ، وهو متصل بقوله واصبر نفسك . واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما ; فقال الكلبي : نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين ، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، زوج أم سلمة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - . والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد ، وهما الأخوان المذكوران في سورة " الصافات " في قوله قال قائل منهم إني كان لي قرين ، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار ، فأنفق أحدهما ماله في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال . . . ; ذكره الثعلبي والقشيري . وقيل : نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة . وقيل : هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر . وقيل : هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه ; شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا ; في قول ابن عباس . وقال مقاتل : اسمه تمليخا . والآخر كافر واسمه قرطوش . وهما اللذان وصفهما الله - تعالى - في سورة الصافات . وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال : اسم الخير منهما تمليخا ، والآخر قرطوش ، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم ، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة ، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع ، وبنى أيضا مساجد ، وفعل خيرا . وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار ، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا ، واتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى ; وأدركت الأول الحاجة ، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال : لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي ، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب ، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له : ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك ؟ . قال : اشتريت به من الله - تعالى - ما هو خير منه وأبقى . فقال : أئنك لمن المصدقين ، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها ، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان ، أوما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال ، وذلك أني كسبت وسفهت أنت ، اخرج عني . ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله - تعالى - في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان . وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر ، والمعنى متقارب . قال عطاء : كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار . وقيل : ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها ، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار ، فقال صاحبه : اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني أشتري منك دارا في الجنة بألف دينار ، فتصدق بها ، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار ، فقال : اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار ، فتصدق بألف دينار . ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار ، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار ، فتصدق بألف دينار . ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال : ما فعل مالك ؟ فأخبره قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له : أنت تعبد إله السماء ، وأنا لا أعبد إلا صنما ; فقال صاحبه : والله لأعظنه ، فوعظه وذكره وخوفه . فقال : سر بنا نصطد السمك ، فمن صاد أكثر فهو على حق ; فقال له : يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر . قال : فأكرهه على الخروج معه ، فابتلاهما الله ، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه ، فتطلع متدفقة سمكا . وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء ; فقال له : كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا ، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا . قال : فضج الملك الموكل بهما ، فأمر الله - تعالى - جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها ، فلما رأى ما أعد الله له قال : وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا ; وأراه منازل الكافر في جهنم فقال : وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا . ثم إن الله - تعالى - توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده ، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون ، فقال : إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين الآية ; فنادى مناد : يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم ; فنزلت واضرب لهم مثلا .
بين الله - تعالى - حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة ، وبين حالهما في الآخرة في سورة " الصافات في قوله إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين - إلى قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون . قال ابن عطية : وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين ، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر ، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله - تعالى - في ليلة ، وإياها عنى بهذه الآية . وقد قيل : إن هذا مثل ضربه الله - تعالى - لهذه الأمة ، وليس بخبر عن حال متقدمة ، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة ، وجعله زجرا وإنذارا ; ذكره الماوردي . وسياق الآية يدل على خلاف هذا ، والله أعلم .
قوله تعالى : وحففناهما بنخل أي أطفناهما من جوانبهما بنخل . والحفاف الجانب ، وجمعه أحفة ; ويقال : حف القوم بفلان يحفون حفا ، أي طافوا به ; ومنه حافين من حول العرش .
وجعلنا بينهما زرعا أي جعلنا حول الأعناب النخل ، ووسط الأعناب الزرع .
۞ وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا ٢٣
تفسير الآيتين 32 و 33 :ـ
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف. فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة، جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين، من أعناب.
{ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب والنخل، فالعنب في وسطها، والنخل قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل بها الثمار، وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها، أي: ثمرها وزرعها ضعفين، أي: متضاعفا { و } أنها { لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما سارحة، كثيرة غزيرة.
{ وَكَانَ لَهُ } أي: لذلك الرجل { ثَمَرٌ } أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث، ولهذا اغتر هذا الرجل بهما، وتبجح وافتخر، ونسي آخرته.
كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا ٣٣
ولهذا قال : ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) أي : خرجت ثمرها ( ولم تظلم منه شيئا ) أي : ولم تنقص منه شيئا ( وفجرنا خلالهما نهرا ) أي : والأنهار تتخرق فيهما هاهنا وهاهنا .
كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا ٣٣
كلتا الجنتين أي كل واحدة من الجنتين ، آتت أكلها تاما ولذلك لم يقل آتتا واختلف في لفظ كلتا وكلا هل هو مفرد أو مثنى ; فقال أهل البصرة : هو مفرد ; لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير " كل " في المجموع ، وهو اسم مفرد غير مثنى ; فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة ، تقول : رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين ; فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب ، تقول : رأيت كليهما ومررت بكليهما ، كما تقول عليهما . وقال الفراء : هو مثنى ، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية . وكذلك كلتا للمؤنث ، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد ، ولو تكلم به لقيل : كل وكلت وكلان وكلتان . واحتج بقول الشاعر :
في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده
أراد في إحدى رجليها فأفرد . وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة ; لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر ، ولأن معنى " كلا " مخالف لمعنى " كل " لأن " كلا " للإحاطة و " كلا " يدل على شيء مخصوص ، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة ، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة ، فثبت أنه اسم مفرد كمعى ، إلا أنه وضع ليدل على التثنية ، كما أن قولهم " نحن " اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما ، يدل على ذلك قول جرير :
كلا يومي أمامة يوم صد وإن لم نأتها إلا لماما
فأخبر عن " كلا " بيوم مفرد ، كما أفرد الخبر بقوله آتت ولو كان مثنى لقال آتتا ، ويوما . واختلف أيضا في ألف كلتا ; فقال سيبويه : ألف " كلتا " للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا ، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث ، والألف في كلتا قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث ، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث . وقال أبو عمر الجرمي : التاء ملحقة والألف لام الفعل ، وتقديرها عنده : فعتل ، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي ، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت : أخوي ; ذكره الجوهري . قال أبو جعفر النحاس : وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى ، وأن تقول : كلتا الجنتين آتتا أكلهما ; لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا . وأجاز الفراء : كلتا الجنتين آتى أكله ، قال : لأن المعنى كل الجنتين . قال : وفي قراءة عبد الله " كل الجنتين آتى أكله " . والمعنى على هذا عند الفراء : كل شيء من الجنتين آتى أكله . والأكل ( بضم الهمزة ) ثمر النخل والشجر . وكل ما يؤكل فهو أكل ; ومنه قوله - تعالى - : أكلها دائم وقد تقدم .
آتت أكلها تاما ولذلك لم يقل آتتا .
ولم تظلم منه شيئا أي لم تنقص .
وفجرنا خلالهما نهرا أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر .
كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا ٣٣
تفسير الآيتين 32 و 33 :ـ
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف. فأحد هذين الرجلين الكافر لنعمة الله الجليلة، جعل الله له جنتين، أي: بستانين حسنين، من أعناب.
{ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } أي: في هاتين الجنتين من كل الثمرات، وخصوصا أشرف الأشجار، العنب والنخل، فالعنب في وسطها، والنخل قد حف بذلك، ودار به، فحصل فيه من حسن المنظر وبهائه، وبروز الشجر والنخل للشمس والرياح، التي تكمل بها الثمار، وتنضج وتتجوهر، ومع ذلك جعل بين تلك الأشجار زرعا، فلم يبق عليهما إلا أن يقال: كيف ثمار هاتين الجنتين؟ وهل لهما ماء يكفيهما؟ فأخبر تعالى أن كلا من الجنتين آتت أكلها، أي: ثمرها وزرعها ضعفين، أي: متضاعفا { و } أنها { لم تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي: لم تنقص من أكلها أدنى شيء، ومع ذلك، فالأنهار في جوانبهما سارحة، كثيرة غزيرة.
{ وَكَانَ لَهُ } أي: لذلك الرجل { ثَمَرٌ } أي: عظيم كما يفيده التنكير، أي: قد استكملت جنتاه ثمارهما، وارجحنت أشجارهما، ولم تعرض لهما آفة أو نقص، فهذا غاية منتهى زينة الدنيا في الحرث، ولهذا اغتر هذا الرجل بهما، وتبجح وافتخر، ونسي آخرته.
وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا ٤٣
( وكان له ثمر ) قيل : المراد به : المال . روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . وقيل : الثمار وهو أظهر هاهنا ، ويؤيده القراءة الأخرى : " وكان له ثمر " بضم الثاء وتسكين الميم ، فيكون جمع ثمرة ، كخشبة وخشب ، وقرأ آخرون : ( ثمر ) بفتح الثاء والميم .
فقال - أي صاحب هاتين [ الجنتين ] - ( لصاحبه وهو يحاوره ) أي : يجادله ويخاصمه ، يفتخر عليه ويترأس : ( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) أي أكثر خدما وحشما وولدا .
قال قتادة : تلك - والله - أمنية الفاجر : كثرة المال وعزة النفر .
وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا ٤٣
وكان له ثمر قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق ثمر بفتح الثاء والميم ، وكذلك قوله وأحيط بثمره جمع ثمرة . قاله الجوهري : الثمرة واحدة الثمر والثمرات ، وجمع الثمر ثمار ; مثل جبل وجبال . قال الفراء : وجمع الثمار ثمر ; مثل كتاب وكتب ، وجمع الثمر أثمار ; مثل أعناق وعنق . والثمر أيضا المال المثمر ; يخفف ويثقل . وقرأ أبو عمرو " وكان له ثمر " بضم الثاء وإسكان الميم ، وفسره بأنواع المال . والباقون بضمها في الحرفين . قال ابن عباس : ذهب وفضة وأموال . وقد مضى في " الأنعام " نحو هذا مبينا . ذكر النحاس : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال : لو سمعت أحدا يقرأ " وكان له ثمر " لقطعت لسانه ; فقلت للأعمش : أتأخذ بذلك ؟ فقال : لا ! ولا نعمة عين . فكان يقرأ " ثمر " ويأخذه من جمع الثمر . قال النحاس : فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار ، ثم جمع ثمارا على ثمر ; وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله أعلم ; لأن قوله كلتا الجنتين آتت أكلها يدل على أن له ثمرا .
قوله تعالى : فقال لصاحبه وهو يحاوره أي يراجعه في الكلام ويجاوبه . والمحاورة المجاوبة ، والتحاور التجاوب . ويقال : كلمته فما أحار إلي جوابا ، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا ; أي ما رد جوابا .
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا النفر : الرهط وهو ما دون العشرة . وأراد هاهنا الأتباع والخدم والولد ، حسبما تقدم بيانه .
وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا ٤٣
تفسير الآيات من 34 حتى 36 :ـ
أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، فـ { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ } أي: تنقطع وتضمحل { هَذِهِ أَبَدًا } فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال: { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } على ضرب المثل { لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.
وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا ٥٣
وقوله : ( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه ) أي : بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد ( قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ) وذلك اغترار منه ، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف وذلك لقلة عقله ، وضعف يقينه بالله ، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها ، وكفره بالآخرة ؛
وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا ٥٣
قوله تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا
فقوله تعالى : ودخل جنته قيل : أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها .
وهو ظالم لنفسه أي بكفره ، وهو جملة في موضع الحال . ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه .
قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا أنكر فناء الدار .
وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا ٥٣
تفسير الآيات من 34 حتى 36 :ـ
أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، فـ { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ } أي: تنقطع وتضمحل { هَذِهِ أَبَدًا } فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال: { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } على ضرب المثل { لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.
وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا ٦٣
ولهذا قال : ( وما أظن الساعة قائمة ) أي : كائنة ( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) أي : ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ، ليكونن لي هناك أحسن من هذا لأني محظى عند ربي ، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى : ( ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) [ فصلت : 50 ] ، وقال ( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ) [ مريم : 77 ] أي : في الدار الآخرة ، تألى على الله عز وجل ، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة .
وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا ٦٣
وما أظن الساعة قائمة أي لا أحسب البعث كائنا .
ولئن رددت إلى ربي أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه .
لأجدن خيرا منها منقلبا وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر . وفي مصاحف مكة والمدينة والشام " منهما " . وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة منها على التوحيد ، والتثنية أولى ; لأن الضمير أقرب إلى الجنتين .
وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا ٦٣
تفسير الآيات من 34 حتى 36 :ـ
أي: فقال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن، وهما يتحاوران، أي: يتراجعان بينهما في بعض الماجريات المعتادة، مفتخرا عليه: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فخر بكثرة ماله، وعزة أنصاره من عبيد، وخدم، وأقارب، وهذا جهل منه، وإلا فأي: افتخار بأمر خارجي ليس فيه فضيلة نفسية، ولا صفة معنوية، وإنما هو بمنزله فخر الصبي بالأماني، التي لا حقائق تحتها، ثم لم يكفه هذا الافتخار على صاحبه، حتى حكم، بجهله وظلمه، وظن لما دخل جنته، فـ { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ } أي: تنقطع وتضمحل { هَذِهِ أَبَدًا } فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضى بها، وأنكر البعث، فقال: { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي } على ضرب المثل { لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي ليعطيني خيرا من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالما بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظا من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة، بل الغالب، أن الله تعالى يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه، ويوسعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، والظاهر أنه يعلم حقيقة الحال، ولكنه قال هذا الكلام، على وجه التهكم والاستهزاء، بدليل قوله: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } فإثبات أن وصفه الظلم، في حال دخوله، الذي جرى منه، من القول ما جرى، يدل على تمرده وعناده.
قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا ٧٣
يقول تعالى مخبرا عما أجابه صاحبه المؤمن ، واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار : ( أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ) ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه ، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، كما قال تعالى : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ) [ البقرة : 280 ] أي : كيف تجحدون ربكم ، ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه ، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ثم وجد ، وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شيء من المخلوقات ؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه ، وهو الله ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ؛ ولذا قال :
قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا ٧٣
قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا
قال له صاحبه يهوذا أو تمليخا ; على الخلاف في اسمه .
أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة . وسواك رجلا أي جعلك معتدل القامة والخلق ، صحيح الأعضاء ذكرا .
قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا ٧٣
تفسير الآيتين 37 و 38 :ـ
أي: قال له صاحبه المؤمن، ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا، وتجحد نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي ولا يليق. ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه: { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } فأقر بربوبية لربه، وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين، ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال:
لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٨٣
( لكنا هو الله ربي ) أي : أنا لا أقول بمقالتك ، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية ( ولا أشرك بربي أحدا ) أي : بل هو الله المعبود وحده لا شريك له .
لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٨٣
لكنا هو الله ربي كذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية . وروي عن الكسائي لكن هو الله بمعنى لكن الأمر هو الله ربي ، فأضمر اسمها فيها . وقرأ الباقون " لكنا " بإثبات الألف . قالالكسائي : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لكن الله هو ربي أنا ، فحذفت الهمزة من " أنا " طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف " أنا " في الوصل وأثبتت في الوقف . وقال النحاس : مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة . وقال أبو عبيدة : الأصل لكن أنا ، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك ، وأنشدنا الكسائي :
لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها
أراد : لله إنك ، فأسقط إحدى اللامين من " لله " وحذف الألف من إنك . وقال آخر فجاء به على الأصل :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا . وقال أبو حاتم : ورووا عن عاصم " لكنا هو الله ربي " وزعم أن هذا لحن ، يعني إثبات الألف في الإدراج . قال الزجاج : إثبات الألف في " لكنا هو الله ربي " في الإدراج جيد ; لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاءوا بها عوضا . قال : وفي قراءة أبي " لكن أنا هو الله ربي " . وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب " لكنا " في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف . وقال الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وقال الأعشى :
فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف . هو الله ربي هو ضمير القصة والشأن والأمر ; كقوله فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا وقوله : قل هو الله أحد .
ولا أشرك بربي أحدا دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله - تعالى - يعبد غيره . ويحتمل أنه أراد لا أرى الغنى والفقر إلا منه ، وأعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه ; وهو الذي آتاني الفقر . ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله - تعالى - لا يقدر عليه ، وهو تعجيز الرب - سبحانه وتعالى - ، ومن عجزه - سبحانه وتعالى - شبهه بخلقه ; فهو إشراك .
لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٨٣
تفسير الآيتين 37 و 38 :ـ
أي: قال له صاحبه المؤمن، ناصحا له، ومذكرا له حاله الأولى، التي أوجده الله فيها في الدنيا { مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } فهو الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد والإمداد، وواصل عليك النعم، ونقلك من طور إلى طور، حتى سواك رجلا، كامل الأعضاء والجوارح المحسوسة، والمعقولة، وبذلك يسر لك الأسباب، وهيأ لك ما هيأ من نعم الدنيا، فلم تحصل لك الدنيا بحولك وقوتك، بل بفضل الله تعالى عليك، فكيف يليق بك أن تكفر بالله الذي خلقك من تراب، ثم من نطفة ثم سواك رجلا، وتجحد نعمته، وتزعم أنه لا يبعثك، وإن بعثك أنه يعطيك خيرا من جنتك؟! هذا مما لا ينبغي ولا يليق. ولهذا لما رأى صاحبه المؤمن حاله واستمراره على كفره وطغيانه، قال مخبرا عن نفسه، على وجه الشكر لربه، والإعلان بدينه، عند ورود المجادلات والشبه: { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } فأقر بربوبية لربه، وانفراده فيها، والتزم طاعته وعبادته، وأنه لا يشرك به أحدا من المخلوقين، ثم أخبره أن نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام، ولو مع قلة ماله وولد، أنها هي النعمة الحقيقية، وأن ما عداها معرض للزوال والعقوبة عليه والنكال، فقال:
وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا ٩٣
ثم قال : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا ) هذا تحضيض وحث على ذلك ، أي : هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك ، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك ، وقلت : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) ؛ ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله ، فليقل : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة . وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده :
حدثنا جراح بن مخلد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عيسى بن عون ، حدثنا عبد الملك بن زرارة ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد ، فيقول : ( ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) فيرى فيه آفة دون الموت " . وكان يتأول هذه الآية : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) .
قال الحافظ أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون ، عن عبد الملك بن زرارة ، عن أنس : لا يصح حديثه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، حدثني شعبة ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبيد مولى أبي رهم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا قوة إلا بالله " . تفرد به أحمد
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله "
وقال الإمام أحمد : حدثنا بكر بن عيسى ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بلج ، عن عمرو بن ميمون قال : قال أبو هريرة : قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ، أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش ؟ " . قال : قلت : نعم ، فداك أبي وأمي . قال : " أن تقول : لا قوة إلا بالله " قال أبو بلج : وأحسب أنه قال : " فإن الله يقول : أسلم عبدي واستسلم " . قال : فقلت لعمرو - قال أبو بلج : قال عمرو : قلت لأبي هريرة : لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ فقال : لا إنها في سورة الكهف : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله )
وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا ٩٣
قوله تعالى : ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله أي بالقلب ، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه ، إذ قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما في موضع رفع ، تقديره : هذه الجنة هي ما شاء الله . وقال الزجاج والفراء : الأمر ما شاء الله ، أو هو ما شاء الله ; أي الأمر مشيئة الله - تعالى - . وقيل : الجواب مضمر ، أي ما شاء الله كان ، وما لا يشاء لا يكون .
لا قوة إلا بالله أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله - تعالى - وقوته لا بقدرتك وقوتك ، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع .
الثانية : قال أشهب قال مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا . وقال ابن وهب قال لي حفص بن ميسرة : رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا ما شاء الله لا قوة إلا بالله . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي هريرة : ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة قلت : بلى يا رسول الله ، قال لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله - عز وجل - أسلم عبدي واستسلم أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى . وفيه : فقال يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - قلت : ما هي يا رسول الله ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . وعنه قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة قلت : بلى ; فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وروي أنه من دخل منزله أو خرج منه فقال : باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله - تعالى - عليه البركات . وقالت عائشة : إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت ، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت ، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت . خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له : هديت وكفيت ووقيت . وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي . وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث : سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء من الضعيف ؟ قال : الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة . وقال أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين . وقد قال قوم : ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به . وروي أن من قال أربعا أمن من أربع : من قال هذه أمن من العين ، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان ، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس ، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم .
قوله تعالى : إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا إن شرط ترن مجزوم به ، والجواب فعسى ربي وأنا فاصلة لا موضع لها من الإعراب . ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء . وقرأ عيسى بن عمر إن ترن أنا أقل منك بالرفع ; يجعل أنا مبتدأ " وأقل " خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمفعول الأول النون والياء ; إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها ، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة .
وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا ٩٣
أي: قال للكافر صاحبه المؤمن: أنت -وإن فخرت علي بكثرة مالك وولدك، ورأيتني أقل منك مالا وولدا -فإن ما عند الله، خير وأبقى، وما يرجى من خيره وإحسانه، أفضل من جميع الدنيا، التي يتنافس فيها المتنافسون.
فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا ٠٤
وقوله : ( فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ) أي : في الدار الآخرة ( ويرسل عليها ) أي : على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى ( حسبانا من السماء ) قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، ومالك عن الزهري : أي عذابا من السماء .
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج ، يقلع زرعها وأشجارها ؛ ولهذا قال : ( فتصبح صعيدا زلقا ) أي : بلقعا ترابا أملس ، لا يثبت فيه قدم .
وقال ابن عباس : كالجرز الذي لا ينبت شيئا .
فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا ٠٤
فعسى ربي بمعنى لعل أي فلعل ربي .
أن يؤتين خيرا من جنتك أي في الآخرة . وقيل في الدنيا .
ويرسل عليها أي على جنتك .
حسبانا أي مرامي من السماء ، واحدها حسبانة ; قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة . وقال ابن الأعرابي : والحسبانة السحابة ، والحسبانة الوسادة ، والحسبانة الصاعقة . وقال الجوهري : والحسبان ( بالضم ) : العذاب . وقال أبو زياد الكلابي : أصاب الأرض حسبان أي جراد . والحسبان أيضا الحساب ، قال الله - تعالى - : الشمس والقمر بحسبان . وقد فسر الحسبان هنا بهذا . قال الزجاج : الحسبان من الحساب ; أي يرسل عليها عذاب الحساب ، وهو حساب ما اكتسبت يداك ; فهو من باب حذف المضاف . والحسبان أيضا : سهام قصار يرمى بها في طلق واحد ، وكان من رمي الأكاسرة . والمرامي من السماء عذاب . فتصبح صعيدا زلقا يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم ، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض ; وزلقا تأكيد لوصف الصعيد ; أي تزل عنها الأقدام لملاستها . يقال : مكان زلق ( بالتحريك ) أي دحض ، وهو في الأصل مصدر قولك : زلقت رجله تزلق زلقا ، وأزلقها غيره . والزلق أيضا عجز الدابة . قال رؤبة :
كأنها حقباء بلقاء الزلق
والمزلقة والمزلقة : الموضع الذي لا يثبت عليه قدم . وكذلك الزلاقة . والزلق الحلق ، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه ; قاله الجوهري . والزلق المحلوق ، كالنقض والنقض . وليس المراد أنها تصير مزلقة ، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر ; قاله القشيري .
فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا ٠٤
{ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي: على جنتك التي طغيت بها وغرتك { حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ } أي: عذابا، بمطر عظيم أو غيره، { فَتُصْبِحَ } بسبب ذلك { صَعِيدًا زَلَقًا } أي: قد اقتلعت أشجارها، وتلفت ثمارها، وغرق زرعها، وزال نفعها.s
أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا ١٤
نسخ
مشاركة
التفسير
أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا ١٤
وقوله : ( أو يصبح ماؤها غورا ) أي : غائرا في الأرض ، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض ، فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى : ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) [ الملك : 30 ] أي : جار وسائج . وقال هاهنا : ( أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ) والغور : مصدر بمعنى غائر ، وهو أبلغ منه ، كما قال الشاعر
تظل جياده نوحا عليه تقلده أعنتها صفوفا
بمعنى نائحات عليه .
أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا ١٤
أو يصبح ماؤها غورا أي غائرا ذاهبا ، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء . والغور مصدر وضع موضع الاسم ; كما يقال : رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ، ونساء نوح ; ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع . قال عمرو بن كلثوم :
تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا
آخر :
هريقي من دموعهما سجاما ضباع وجاوبي نوحا قياما
أي نائحات . وقيل : أو يصبح ماؤها ذا غور ; فحذف المضاف ; مثل واسأل القرية ذكره النحاس . وقال الكسائي : ماء غور . وقد غار الماء يغور غورا وغؤورا ، أي سفل في الأرض ، ويجوز الهمزة لانضمام الواو . وغارت عينه تغور غورا وغؤورا ; دخلت في الرأس . وغارت تغار لغة فيه . وقال :
أغارت عينه أم لم تغارا
وغارت الشمس تغور غيارا ، أي غربت . قال أبو ذؤيب :
هل الدهر إلا ليلة ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
فلن تستطيع له طلبا أي لن تستطيع رد الماء الغائر ، ولا تقدر عليه بحيلة . وقيل : فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه . وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره .
أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا ١٤
{ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا } الذي مادتها منه { غَوْرًا } أي: غائرا في الأرض { فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } أي: غائرا لا يستطاع الوصول إليه بالمعاول ولا بغيرها، وإنما دعا على جنته المؤمن، غضبا لربه، لكونها غرته وأطغته، واطمأن إليها، لعله ينيب، ويراجع رشده، ويبصر في أمره.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٢٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٢٤
يقول تعالى : ( وأحيط بثمره ) بأمواله ، أو بثماره على القول الآخر . والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر ، مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته ، التي اغتر بها وألهته عن الله ، عز وجل ( فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ) وقال قتادة : يصفق كفيه متأسفا متلهفا على الأموال التي أذهبها عليه ( ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٢٤
قوله تعالى : وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن اسم ما لم يسم فاعله مضمر ، وهو المصدر . ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع . ومعنى أحيط بثمره أي أهلك ماله كله . وهذا أول ما حقق الله - تعالى - به إنذار أخيه .
فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما ; لأن هذا يصدر من النادم . وقيل : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق ; وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد ، من قولهم : في يده مال ، أي في ملكه مال . ودل قوله فأصبح على أن هذا الإهلاك جرى بالليل ; كقوله فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم ويقال : أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها .
وهي خاوية على عروشها أي خالية قد سقط بعضها على بعض ; مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت ، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها . وأخوت مثله . وخوت الدار خواء أقوت ، وكذلك إذا سقطت ; ومنه قوله - تعالى - : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ويقال ساقطة ; كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها ; فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل ، وهذا من أعظم الجوائح ، مقابلة على بغيه .
ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أي يا ليتني عرفت نعم الله علي ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به . وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم .
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا ٢٤
فاستجاب الله دعاءه { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي: أصابه عذاب، أحاط به، واستهلكه، فلم يبق منه شيء، والإحاطة بالثمر يستلزم تلف جميع أشجاره، وثماره، وزرعه، فندم كل الندامة، واشتد لذلك أسفه، { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي على كثرة نفقاته الدنيوية عليها، حيث اضمحلت وتلاشت، فلم يبق لها عوض، وندم أيضا على شركه، وشره، ولهذا قال: { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا }
وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ٣٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ٣٤
أي : عشيرة أو ولد ، كما افتخر بهم واستعز ( ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق ) اختلف القراء هاهنا ، فمنهم من يقف على قوله : ( وما كان منتصرا)
وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ٣٤
قوله تعالى : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا قوله تعالى : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله فئة اسم تكن وله الخبر . ينصرونه في موضع الصفة ، أي فئة ناصرة . ويجوز أن يكون ينصرونه الخبر . والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم له . وأبو العباس يخالفه ، ويحتج بقول الله - عز وجل - ولم يكن له كفوا أحد . وقد أجاز سيبويه الآخر . وينصرونه على معنى فئة ; لأن معناها أقوام ، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره ; أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم .
وما كان منتصرا أي ممتنعا ; قاله قتادة . وقيل : مستردا بدل ما ذهب منه . وقد تقدم اشتقاق الفئة في " آل عمران " . والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه ، أصله فيء مثل فيع ; لأنه من فاء ، ويجمع على فئون وفئات ، مثل شيات ولدات ومئات . أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله ، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد .
وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ٣٤
{ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } أي: لما نزل العذاب بجنته، ذهب عنه ما كان يفتخر به من قوله لصاحبه: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فلم يدفعوا عنه من العذاب شيئا، أشد ما كان إليهم حاجة، وما كان بنفس منتصرا، وكيف ينتصر، أي: يكون له أنصارا على قضاء الله وقدره الذي إذا أمضاه وقدره، لو اجتمع أهل السماء والأرض على إزالة شيء منه، لم يقدروا؟"
ولا يستبعد من رحمة الله ولطفه، أن صاحب هذه الجنة، التي أحيط بها، تحسنت حاله، ورزقه الله الإنابة إليه، وراجع رشده، وذهب تمرده وطغيانه، بدليل أنه أظهر الندم على شركه بربه، وأن الله أذهب عنه ما يطغيه، وعاقبه في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا. وفضل الله لا تحيط به الأوهام والعقول، ولا ينكره إلا ظالم جهول.
هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا ٤٤
نسخ
مشاركة
التفسير
هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا ٤٤
أي : في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله ، فلا منقذ منه . ويبتدئ [ بقوله ] ( الولاية لله الحق ) ومنهم من يقف على : ( وما كان منتصرا ) ويبتدئ بقوله : ( هنالك الولاية لله الحق ) .
ثم اختلفوا في قراءة ( الولاية ) فمنهم من فتح الواو ، فيكون المعنى : هنالك الموالاة لله ، أي : هنالك كل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب ، كقوله : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) [ غافر : 84 ] وكقوله إخبارا عن فرعون : ( حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) [ يونس : 91 ، 90 ]
ومنهم من كسر الواو من ( الولاية ) أي : هنالك الحكم لله الحق .
ثم منهم من رفع ) الحق ) على أنه نعت للولاية ، كقوله تعالى : ( الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ) [ الفرقان : 26 ]
ومنهم من خفض القاف ، على أنه نعت لله عز وجل ، كقوله : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) [ الأنعام : 62 ] ؛ ولهذا قال تعالى : ( هو خير ثوابا ) أي : جزاء ( وخير عقبا ) أي : الأعمال التي تكون لله - عز وجل - ثوابها خير ، وعاقبتها حميدة رشيدة ، كلها خير .
هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا ٤٤
قوله تعالى : هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا قوله تعالى : هنالك الولاية لله الحق اختلف في العامل في قوله هنالك وهو ظرف ; فقيل : العامل فيه ولم تكن له فئة ولا كان هنالك ; أي ما نصر ولا انتصر هنالك ، أي لما أصابه من العذاب . وقيل : تم الكلام عند قوله منتصرا . والعامل في قوله هنالك : الولاية . وتقديره على التقديم والتأخير : الولاية لله الحق هنالك ، أي في القيامة . وقرأ أبو عمرو والكسائي الحق بالرفع نعتا للولاية . وقرأ أهل المدينة وحمزة الحق بالخفض نعتا لله - عز وجل - ، والتقدير : لله ذي الحق . قال الزجاج : ويجوز الحق بالنصب على المصدر والتوكيد ; كما تقول : هذا لك حقا . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي " الولاية " بكسر الواو ، الباقون بفتحها ، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة . وقيل : الولاية بالفتح من الموالاة ; كقوله الله ولي الذين آمنوا . ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا . وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة ; كقوله والأمر يومئذ لله أي له الملك والحكم يومئذ ، أي لا يرد أمره إلى أحد ; والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوى والتوهمات يوم القيامة . وقال أبو عبيد : إنها بفتح الواو للخالق ، وبكسرها للمخلوق .
هو خير ثوابا أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به ، وليس ثم غير يرجى منه ، ولكنه أراد في ظن الجهال ; أي هو خير من يرجى .
وخير عقبا قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى عقبا ساكنة القاف ، الباقون بضمها ، وهما بمعنى واحد ; أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به . يقال : هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه ، أي آخره .
هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا ٤٤
{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي: في تلك الحال التي أجرى الله فيها العقوبة على من طغى، وآثر الحياة الدنيا، والكرامة لمن آمن، وعمل صالحا، وشكر الله، ودعا غيره لذلك، تبين وتوضح أن الولاية لله الحق، فمن كان مؤمنا به تقيا، كان له وليا، فأكرمه بأنواع الكرامات، ودفع عنه الشرور والمثلات، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه، خسر دينه ودنياه، فثوابه الدنيوي والأخروي، خير ثواب يرجى ويؤمل، ففي هذه القصة العظيمة، اعتبار بحال الذي أنعم الله عليه نعما دنيوية، فألهته عن آخرته وأطغته، وعصى الله فيها، أن مآلها الانقطاع والاضمحلال، وأنه وإن تمتع بها قليلا، فإنه يحرمها طويلا، وأن العبد ينبغي له -إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده- أن يضيف النعمة إلى موليها ومسديها، وأن يقول: { ما شاء الله، لا قوة إلا بالله } ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه، لقوله: { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } وفيها: الإرشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها، بما عند الله من الخير لقوله: { إِنْ تَرَن أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } وفيها أن المال والولد لا ينفعان، إن لم يعينا على طاعة الله كما قال تعالى: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا } وفيه الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصا إن فضل نفسه بسببه على المؤمنين، وفخر عليهم، وفيها أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحق الجزاء، ووجد العاملون أجرهم فـ { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي: عاقبة ومآلا.
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا ٥٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا ٥٤
يقول تعالى : ( واضرب ) يا محمد للناس ( مثل الحياة الدنيا ) في زوالها وفنائها وانقضائها ( كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) أي : ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله ( فأصبح هشيما ) يابسا ( تذروه الرياح ) أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) أي : هو قادر على هذه الحال ، وهذه الحال ، وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة " يونس " : ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت ) الآية [ يونس : 24 ] ، وقال في سورة " الزمر " : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) [ الزمر : 21 ] ، وقال في سورة " الحديد " : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) [ الحديد : 20 ] .
وفي الحديث الصحيح : " الدنيا حلوة خضرة "
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا ٥٤
قوله تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا قوله تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا ، أي شبهها .
كماء أنزلناه من السماء فاختلط به أي بالماء .
نبات الأرض حتى استوى . وقيل : إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء ; لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر . وقد تقدم هذا المعنى في " يونس " مبينا . وقالت الحكماء : إنما شبه - تعالى - الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع ، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا ، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى ، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا ، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر . وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رجل : يا رسول الله ، إني أريد أن أكون من الفائزين ; قال : ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي . وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه .
فأصبح أي النبات .
هشيما أي متكسرا من اليبس متفتتا ، يعني بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه . والهشم : كسر الشيء اليابس . والهشيم من النبات اليابس المتكسر ، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء . ومنه قولهم : ما فلان إلا هشيمة كرم ; إذا كان سمحا . ورجل هشيم : ضعيف البدن . وتهشم عليه فلان إذا تعطف . واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه . ويقال : هشم الثريد ; ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو ، وفيه يقول عبد الله بن الزبعرى :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له ، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة ، وهشم ذلك الخبز ، يعني كسره وثرده ، ونحر تلك الإبل ، ثم أمر الطهاة فطبخوا ، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة ; فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم ; فسمي بذلك هاشما .
تذروه الرياح أي تفرقه ; قاله أبو عبيدة . ابن قتيبة : تنسفه . ابن كيسان : تذهب به وتجيء . ابن عباس : تديره ; والمعنى متقارب . وقرأ طلحة بن مصرف " تذريه الريح " . قال الكسائي : وفي قراءة عبد الله " تذريه " . يقال : ذرته الريح تذروه ذروا و [ تذريه ] ذريا وأذرته تذريه إذراء إذا طارت به . وحكى الفراء : أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته . وأنشد سيبويه والفراء :
فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
قوله تعالى : وكان الله على كل شيء مقتدرا من الإنشاء والإفناء والإحياء ، سبحانه .
وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا ٥٤
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولمن قام بوراثته بعده تبعا: اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور، ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار. وأن مثل هذه الحياة الدنيا، كمثل المطر، ينزل على الأرض، فيختلط نباتها، تنبت من كل زوج بهيج، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين، وتفرح المتفرجين، وتأخذ بعيون الغافلين، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح، فذهب ذلك النبات الناضر، والزهر الزاهر، والمنظر البهي، فأصبحت الأرض غبراء ترابا، قد انحرف عنها النظر، وصدف عنها البصر، وأوحشت القلب، كذلك هذه الدنيا، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه، وفاق فيها على أقرانه وأترابه، وحصل درهمها ودينارها، واقتطف من لذته أزهارها، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره، وزالت لذته وحبوره، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح، أو سيئ أعماله، هنالك يعض الظالم على يديه، حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العود إلى الدنيا، لا ليستكمل الشهوات، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات، بالتوبة والأعمال الصالحات، فالعاقل الجازم الموفق، يعرض على نفسه هذه الحالة، ويقول لنفسه: قدري أنك قد مت، ولا بد أن تموتي، فأي: الحالتين تختارين؟ الاغترار بزخرف هذه الدار، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل، لدار أكلها دائم وظلها، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه، وربحه من خسرانه
ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٦٤
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٦٤
وقوله : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) كقوله ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) [ آل عمران : 14 ] ، وقال تعالى : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) [ التغابن : 15 ] أي : الإقبال عليه والتفرغ لعبادته ، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم ، والشفقة المفرطة عليهم ؛ ولهذا قال : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف : " الباقيات الصالحات " الصلوات الخمس .
وقال عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " الباقيات الصالحات " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن : " الباقيات الصالحات " ما هي ؟ فقال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة ، أنبأنا أبو عقيل ، أنه سمع الحارث مولى عثمان - رضي الله عنه - يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن ، فدعا بماء في إناء ، أظنه أنه سيكون فيه مد ، فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام فصلى صلاة الظهر ، غفر له ما كان بينها وبين الصبح ، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر ، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح ، غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات " قالوا : هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به .
وروى مالك ، عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال : " الباقيات الصالحات " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال محمد بن عجلان ، عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن " الباقيات الصالحات " فقلت : الصلاة والصيام . قال : لم تصب . فقلت : الزكاة والحج . فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن نافع عن سرجس ، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن : ( والباقيات الصالحات ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، [ وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . قال ابن جريج : وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك .
وقال مجاهد : ( والباقيات الصالحات ) سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : " الباقيات الصالحات " قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان الله ، هن الباقيات الصالحات .
قال ابن جرير : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار ، عن أبي نصر التمار ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، من الباقيات الصالحات " .
قال : وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن ابن الهيثم ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " استكثروا من الباقيات الصالحات " . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الملة " . قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " التكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله " .
وهكذا رواه أحمد ، من حديث دراج ، به .
وبه قال ابن وهب : أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن ، مولى سالم بن عبد الله حدثه قال : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي ، فقال : قل له : القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة . قال : فالتقيا ، فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعد الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها " لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ " فقال : ما زلت أجعلها . قال : فراجعه مرتين أو ثلاثا ، فلم ينزع ، قال فأبيت قال سالم : أجل فأبيت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يقول : " عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام ، فقال : يا جبريل من هذا معك ؟ فقال : محمد فرحب بي وسهل ، ثم قال : مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة ، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة . فقلت : وما غراس الجنة ؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله "
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن يزيد ، عن العوام ، حدثني رجل من الأنصار ، من آل النعمان بن بشير ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء ، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض ، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء ، ثم قال : " أما إنه سيكون بعدي أمراء ، يكذبون ويظلمون ، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم ، فليس مني ولا أنا منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه . ألا وإن " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر هن الباقيات الصالحات "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى بن كثير ، عن زيد ، عن أبي سلام [ عن ] مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] قال : " بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده " . وقال : " بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن ، دخل الجنة : يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، وبالجنة وبالنار ، وبالبعث بعد الموت ، وبالحساب
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه ، [ في سفر ] فنزل منزلا فقال لغلامه : " ائتنا بالشفرة نعبث بها " . فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه . فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب "
ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد ، بنحوه
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثني أبي ، حدثنا عمر بن الحسين ، عن يونس بن نفيع الجدلي ، عن سعد بن جنادة - رضي الله عنه - قال : كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف ، فخرجت من أهلي من السراة غدوة ، فأتيت منى عند العصر ، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، وعلمني : ( قل هو الله أحد ) و ( إذا زلزلت ) وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وقال : " هن الباقيات الصالحات " . وبهذا الإسناد : " من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ، ثم قال : سبحان الله مائة مرة ، والحمد لله مائة مرة ، والله أكبر مائة مرة ، ولا إله إلا الله مائة مرة ، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل "
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( والباقيات الصالحات ) قال : هي ذكر الله ، قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله ، والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ، والجهاد ، والصلة ، وجميع أعمال الحسنات . وهن الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ، ما دامت السموات والأرض .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هن الكلام الطيب .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها . واختاره ابن جرير ، رحمه الله .
ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٦٤
قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا ويجوز " زينتا " وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد . وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا ، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا ، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين ; لأن المعنى : المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم . وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف ، فأخبر - تعالى - أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح ; إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة . وكان يقال : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك . ويكفي في هذا قول الله - تعالى - : إنما أموالكم وأولادكم فتنة . وقال - تعالى - : إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .
قوله تعالى : والباقيات الصالحات أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات
واختلف العلماء في الباقيات الصالحات ; خير عند ربك ثوابا أي أفضل .
وخير أملا أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح ، وليس في زينة الدنيا خير ، ولكنه خرج مخرج قوله أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا .
وقيل : خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم .
فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل : هي الصلوات الخمس . وعن ابن عباس أيضا : إنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة . وقاله ابن زيد ورجحه الطبري . وهو الصحيح إن شاء الله ; لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا . وقال علي - رضي الله عنه - : الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون ; وحرث الآخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعهن الله - تعالى - لأقوام . وقال الجمهور : هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات : إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله . أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصالحات قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله . صححه أبو محمد عبد الحق - رحمه الله - . وروى قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال : إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات . ذكره الثعلبي ، وخرجه ابن ماجه بمعناه من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها . وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال : إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة . قال : هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس ، إلا أنه قد رآه ونظر إليه . وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقيت إبراهيم - عليه السلام - ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال : حديث حسن غريب ، خرجه الماوردي بمعناه . وفيه - فقلت : ما غراس الجنة ؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يغرس غرسا فقال : يا أبا هريرة ما الذي تغرس قلت غراسا . قال : ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة . وقد قيل : إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات ; لأن بها تقبل الأعمال وترفع ; قال الحسن . وقال عبيد بن عمير : هن البنات ; يدل عليه أوائل الآية ; قال الله - تعالى - : المال والبنون زينة الحياة الدنيا ثم قال والباقيات الصالحات يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا ، وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن . يدل عليه ما روته عائشة - رضي الله عنها - قالت : دخلت علي امرأة مسكينة . . الحديث ، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله يتوارى من القوم الآية . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا - فرحمه الله - بهن . وقال قتادة في قوله - تعالى - : فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما قال : أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبي فولدت له اثني عشر غلاما كلهم أنبياء .
ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٦٤
أن المال والبنين، زينة الحياة الدنيا، أي: ليس وراء ذلك شيء، وأن الذي يبقى للإنسان وينفعه ويسره، الباقيات الصالحات، وهذا يشمل جميع الطاعات الواجبة والمستحبة من حقوق الله، وحقوق عباده، من صلاة، وزكاة، وصدقة، وحج، وعمرة، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير، وقراءة، وطلب علم نافع، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وصلة رحم، وبر والدين، وقيام بحق الزوجات، والمماليك، والبهائم، وجميع وجوه الإحسان إلى الخلق، كل هذا من الباقيات الصالحات، فهذه خير عند الله ثوابا وخير أملا، فثوابها يبقى، ويتضاعف على الآباد، ويؤمل أجرها وبرها ونفعها عند الحاجة، فهذه التي ينبغي أن يتنافس بها المتنافسون، ويستبق إليها العاملون، ويجد في تحصيلها المجتهدون، وتأمل كيف لما ضرب الله مثل الدنيا وحالها واضمحلالها ذكر أن الذي فيها نوعان: نوع من زينتها، يتمتع به قليلا، ثم يزول بلا فائدة تعود لصاحبه، بل ربما لحقته مضرته وهو المال والبنون ونوع يبقى وينفع صاحبه على الدوام، وهي الباقيات الصالحات.
وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا ٧٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا ٧٤
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة ، وما يكون فيه من الأمور العظام ، كما قال تعالى : ( يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا ) [ الطور : 9 ، 10 ] أي : تذهب من أماكنها وتزول ، كما قال تعالى : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) [ النمل : 88 ] ، وقال تعالى : ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) [ القارعة : 5 ] وقال : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) [ طه : 105 - 107 ] يقول تعالى : إنه تذهب الجبال ، وتتساوى المهاد ، وتبقى الأرض ( قاعا صفصفا ) أي : سطحا مستويا لا عوج فيه ( ولا أمتا ) أي : لا وادي ولا جبل ؛ ولهذا قال تعالى : ( وترى الأرض بارزة ) [ أي بادية ظاهرة ، ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يواري أحدا ، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية .
قال مجاهد ، وقتادة : ( وترى الأرض بارزة ) ] لا خمر فيها ولا غيابة . قال قتادة : لا بناء ولا شجر .
وقوله : ( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) أي : وجمعناهم ؛ الأولين منهم والآخرين ، فلم نترك منهم أحدا ، لا صغيرا ولا كبيرا ، كما قال : ( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) [ الواقعة : 50 ، 49 ] ، وقال : ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) [ هود : 103 ] ،
وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا ٧٤
قوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا قوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة قال بعض النحويين : التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال . قال النحاس : وهذا غلط من أجل الواو وقيل : المعنى واذكر يوم نسير الجبال ، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض ، ونسيرها كما نسير السحاب ; كما قال في آية أخرى وهي تمر مر السحاب . ثم تكسر فتعود إلى الأرض ; كما قال : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا . وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر " ويوم تسير " بتاء مضمومة وفتح الياء . و " الجبال " رفعا على الفعل المجهول . وقرأ ابن محيصن ومجاهد " ويوم تسير الجبال " بفتح التاء مخففا من سار . " الجبال " رفعا . دليل قراءة أبي عمرو وإذا الجبال سيرت . ودليل قراءة ابن محيصن وتسير الجبال سيرا . واختار أبو عبيد القراءة الأولى نسير بالنون لقوله وحشرناهم . ومعنى " بارزة " ظاهرة ، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان ; أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها ، وهدم بنيانها ; فهي بارزة ظاهرة . وعلى هذا القول أهل التفسير . وقيل : وترى الأرض بارزة أي برز ما فيها من الكنوز والأموات ; كما قال وألقت ما فيها وتخلت وقال وأخرجت الأرض أثقالها وهذا قول عطاء .
وحشرناهم أي إلى الموقف .
فلم نغادر منهم أحدا أي لم نترك ; يقال : غادرت كذا أي تركته . قال عنترة :
غادرته متعفرا أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل
أي تركته . والمغادرة الترك ; ومنه الغدر ; لأنه ترك الوفاء . وإنما سمي الغدير من الماء غديرا لأن الماء ذهب وتركه . ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها . يقول : حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم .
وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا ٧٤
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة، وما فيه من الأهوال المقلقة، والشدائد المزعجة فقال: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } أي: يزيلها عن أماكنها، يجعلها كثيبا، ثم يجعلها كالعهن المنفوش، ثم تضمحل وتتلاشى، وتكون هباء منبثا، وتبرز الأرض فتصير قاعا صفصفا، لا عوج فيه ولا أمتا، ويحشر الله جميع الخلق على تلك الأرض، فلا يغادر منهم أحدا، بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وقعور البحار، ويجمعهم بعدما تفرقوا، ويعيدهم بعد ما تمزقوا، خلقا جديدا
وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۢۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا ٨٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۢۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا ٨٤
وقوله : ( وعرضوا على ربك صفا ) يحتمل أن يكون المراد : أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفا واحدا ، كما قال تعالى : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) [ النبإ : 38 ] ويحتمل أنهم يقومون صفوفا صفوفا ، كما قال : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) [ الفجر : 22 ]
وقوله : ( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) هذا تقريع للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد ؛ ولهذا قال مخاطبا لهم : ( بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) أي : ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أن هذا كائن .
وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۢۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا ٨٤
قوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا قوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا صفا نصب على الحال . قال مقاتل : يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة ، كل أمة وزمرة صفا ; لا أنهم صف واحد . وقيل جميعا ; كقوله ثم ائتوا صفا أي جميعا . وقيل قياما . وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - تبارك وتعالى - ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسئولون محاسبون . يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب .
قلت : هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية ، ولم يذكره كثير من المفسرين ، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ، ومنه نقلناه والحمد لله .
لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة أي يقال لهم : لقد جئتمونا حفاة عراة ، لا مال معكم ولا ولدا وقيل فرادى ; دليله قوله ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة . وقد تقدم . وقال الزجاج : أي بعثناكم كما خلقناكم .
بل زعمتم هذا خطاب لمنكري البعث أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث . وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض . " غرلا " أي غير مختونين . وقد تقدم في " الأنعام " بيانه .
وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۢۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا ٨٤
فيعرضون عليه صفا ليستعرضهم وينظر في أعمالهم، ويحكم فيهم بحكمه العدل، الذي لا جور فيه ولا ظلم، ويقول لهم: { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } أي: بلا مال، ولا أهل، ولا عشيرة، ما معهم إلا الأعمال، التي عملوها، والمكاسب في الخير والشر، التي كسبوها كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } وقال هنا، مخاطبا للمنكرين للبعث، وقد شاهدوه عيانا: { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي: أنكرتم الجزاء على الأعمال، ووعد الله ووعيده، فها قد رأيتموه وذقتموه
وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٩٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٩٤
وقوله : ( ووضع الكتاب ) أي : كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير ( فترى المجرمين مشفقين مما فيه ) أي : من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، ( ويقولون ياويلتنا ) أي : يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا ( مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) أي : لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا عملا وإن صغر ( إلا أحصاها ) أي : ضبطها ، وحفظها .
وروى الطبراني ، بإسناده المتقدم في الآية قبلها ، إلى سعد بن جنادة قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين ، نزلنا قفرا من الأرض ، ليس فيه شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا ، من وجد عودا فليأت به ، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به . قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا . فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها محصاة عليه "
وقوله : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) أي : من خير أوشر كما قال تعالى : ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) [ آل عمران : 30 ] ، وقال تعالى : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) [ القيامة : 13 ] وقال تعالى : ( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المخبآت والضمائر .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل غادر لواء يوم القيامة [ يعرف به " .
أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ : " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة ] عند استه بقدر غدرته ، يقال : هذه غدرة فلان بن فلان "
وقوله : ( ولا يظلم ربك أحدا ) أي : فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يعفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، [ ثم ينجي أصحاب المعاصي ] ويخلد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) [ النساء : 40 ] وقال : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء : 47 ] والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي ، فسرت عليه شهرا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب : قل له : جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟ فقلت : نعم . فخرج يطأ ثوبه ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال : العباد - عراة غرلا بهما " قلت : وما بهما ؟ قال : " ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من أهل الجنة حق ، حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه منه حتى اللطمة " . قال : قلنا : كيف ، وإنما نأتي الله - عز وجل - حفاة عراة غرلا بهما ؟ قال : بالحسنات والسيئات " .
وعن شعبة ، عن العوام بن مزاحم ، عن أبي عثمان ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة " رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) [ الأنبياء : 47 ] وعند قوله تعالى : ( إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) [ الأنعام : 38 ]
وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٩٤
قوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا قوله تعالى : ووضع الكتاب الكتاب اسم جنس ، وفيه وجهان : أحدهما : أنها كتب الأعمال في أيدي العباد ; قاله مقاتل . الثاني : أنه وضع الحساب ; قاله الكلبي ، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة . والقول الأول أظهر ; ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بني أسد قال : قال عمر لكعب : ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة ; قال : نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش ، وذلك قوله - تعالى - : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها قال الأسدي : الصغيرة ما دون الشرك ; والكبيرة الشرك ، إلا أحصاها - قال كعب ; ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة ; فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه ثم يدعى بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوى عنقه ; فذلك قوله وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات . وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول : يا ويلتاه ضجوا إلى الله - تعالى - من الصغائر قبل الكبائر . قال ابن عباس : الصغيرة التبسم ، والكبيرة الضحك ; يعني ما كان من ذلك في معصية الله - عز وجل - ; ذكره الثعلبي . وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك .
قلت : فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية ، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية ، وعلى هذا تكون كبيرة ، فيكون وجه الجمع هذا والله أعلم . أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم ، وقد قال - تعالى - : فتبسم ضاحكا من قولها . وقال سعيد بن جبير : إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل ، والكبيرة المواقعة والزنا . وقد مضى في " النساء " بيان هذا . قال قتادة : اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أحد ظلما ، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه . وقد مضى . ومعنى أحصاها عدها وأحاط بها ; وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا .
أحصاها ووجدوا ما عملوا أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا وقيل : وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا .
حاضرا ولا يظلم ربك أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد ، ولا يأخذه بما لم يعمله ; قاله الضحاك . وقيل : لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه .
وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٩٤
فحينئذ تحضر كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة الكرام فتطير لها القلوب، وتعظم من وقعها الكروب، وتكاد لها الصم الصلاب تذوب، ويشفق منها المجرمون، فإذا رأوها مسطرة عليهم أعمالهم، محصى عليهم أقوالهم وأفعالهم، قالوا: { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } أي: لا يترك خطيئة صغيرة ولا كبيرة، إلا وهي مكتوبة فيه، محفوظة لم ينس منها عمل سر ولا علانية، ولا ليل ولا نهار، { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } لا يقدرون على إنكاره { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } فحينئذ يجازون بها، ويقررون بها، ويخزون، ويحق عليهم العذاب، ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد، بل هم غير خارجين عن عدله وفضله.
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا ٠٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا ٠٥
يقول تعالى منبها بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ، ومقرعا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه ، الذي أنشأه وابتداه ، وبألطاف رزقه وغذاه ، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله ، فقال تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة ) أي : لجميع الملائكة ، كما تقدم تقريره في أول سورة " البقرة " .
( اسجدوا لآدم ) أي : سجود تشريف وتكريم وتعظيم ، كما قال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ الحجر : 29 ، 28 ]
وقوله ( فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) أي : خانه أصله ؛ فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " . فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه ، وخانه الطبع عند الحاجة ، وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم ، وتعبد وتنسك ، فلهذا دخل في خطابهم ، وعصى بالمخالفة .
ونبه تعالى هاهنا على أنه ( من الجن ) أي : إنه خلق من نار ، كما قال : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) [ الأعراف : 12 ، وص : 76 ]
قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم ، عليه السلام ، أصل البشر . رواه ابن جرير بإسناد صحيح [ عنه ] .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة ، يقال لهم : الجن ، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال : وكان اسمه الحارث ، وكان خازنا من خزان الجنة ، وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي - قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار . وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
وقال الضحاك أيضا ، عن ابن عباس : كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان [ السماء ] الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سولت له نفسه ، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله . فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم " فاستكبر ، وكان من الكافرين . قال ابن عباس : وقوله : ( كان من الجن ) أي : من خزان [ الجنان ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ، وبصري ، وكوفي . وقال ابن جريج ، عن ابن عباس ، نحو ذلك .
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : هو من خزان ] الجنة ، وكان يدبر أمر السماء الدنيا ، رواه ابن جرير من حديث الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد ، به .
وقال سعيد بن المسيب : كان رئيس ملائكة سماء الدنيا .
وقال ابن إسحاق ، عن خلاد بن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان إبليس - قبل أن يركب المعصية - من الملائكة ، اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض . وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما . فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمون جنا .
وقال ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر ؛ أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض . فعصى ، فسخط الله عليه ، فمسخه شيطانا رجيما - لعنه الله - ممسوخا ، قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت في معصية فارجه .
وعن سعيد بن جبير أنه قال : كان من الجنانين ، الذين يعملون في الجنة .
وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف ، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها ، والله أعلم بحال كثير منها . ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا ، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة ؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة ، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، كما لهذه [ الأمة من ] الأئمة والعلماء ، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النقاد ، والحفاظ الجياد ، الذين دونوا الحديث وحرروه ، وبينوا صحيحه من حسنه ، من ضعيفه ، من منكره وموضوعه ، ومتروكه ومكذوبه ، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين ، وغير ذلك من أصناف الرجال ، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي ، خاتم الرسل ، وسيد البشر [ عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات ] ، أن ينسب إليه كذب ، أو يحدث عنه بما ليس [ منه ] ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل .
وقوله : ( ففسق عن أمر ربه ) أي : فخرج عن طاعة الله ؛ فإن الفسق هو الخروج ، يقال فسقت الرطبة : إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جحرها : إذا خرجت منه للعيث والفساد .
ثم قال تعالى مقرعا وموبخا لمن اتبعه وأطاعه : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) أي : بدلا عني ؛ ولهذا قال : ( بئس للظالمين بدلا )
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة " يس " : ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) [ يس : 59 - 62 ] .
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا ٠٥
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه تقدم في ( البقرة ) هذا مستوفى . قال أبو جعفر النحاس : وفي هذه الآية سؤال ، يقال : ما معنى ففسق عن أمر ربه ففي هذا قولان : أحدهما : وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى ، فكان سبب الفسق أمر ربه ; كما تقول : أطعمته عن جوع . والقول الآخر : وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى : ففسق عن رد أمر ربه
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وقف - عز وجل - الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو ; أي أعداء ، فهو اسم جنس .
بئس للظالمين بدلا أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله . أو بئس إبليس بدلا عن الله . واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه ; فقال الشعبي : سألني رجل فقال هل لإبليس زوجة ؟ فقلت : إن ذلك عرس لم أشهده ، ثم ذكرت قوله أفتتخذونه وذريته أولياء فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم . وقال مجاهد : إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات ; فهذا أصل ذريته . وقيل : إن الله - تعالى - خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا ; فهو ينكح هذا بهذا ، فيخرج له كل يوم عشر بيضات ، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة ، فهو يخرج وهو يطير ، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة ، وقال قوم : ليس له أولاد ولا ذرية ، وذريته أعوانه من الشياطين . قال القشيري أبو نصر : والجملة أن الله - تعالى - أخبر أن لإبليس أتباعا وذرية ، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم ، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس ، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح .
قلت : الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ . وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه ، والله أعلم . قال ابن عطية : وقوله وذريته ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين ، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل . وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال : ذرية إبليس الشياطين ، وكان يعدهم : زلنبور صاحب الأسواق ، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض ، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق . ثبر صاحب المصائب ، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ، والدعاء بالويل والحرب . والأعور صاحب أبواب الزنا . ومسوط صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا . وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه . قال الأعمش : وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم ، فرأيت مطهرة فقلت : ارفعوا هذه وخاصمتهم ، ثم أذكر فأقول : داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد : والأبيض ، وهو الذي يوسوس للأنبياء . وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان - عليه السلام - . والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها . والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها . ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى . والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم . ومنهم الغيلان . وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلؤيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب ، لقوس صاحب التحريش ، والأعور صاحب أبواب السلطان . قال وقال الداراني : إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي ، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة ، فيحدث به في العلانية . قال ابن عطية : وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح ، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة ، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب . وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان .
قلت : أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح ; وأما أن له أتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به ، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه ، كما قال مجاهد وغيره . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود : إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث . وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته . وفي مسند أحمد بن حنبل قال : أنبأنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال : إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته ، قال : يوشك أن يتزوج . ويقول آخر : لم أزل بفلان حتى عق ; قال : يوشك أن يبر . قال ويقول القائل : لم أزل بفلان حتى شرب ; قال : أنت قال ويقول : لم أزل بفلان حتى زنى ; قال : أنت قال ويقول : لم أزل بفلان حتى قتل ; قال : أنت أنت وفي صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت . وقد تقدم وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبد المعطي بثغر الإسكندرية يقول : إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا .
وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا ٠٥
يخبر تعالى، عن عداوة إبليس لآدم وذريته، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، إكراما وتعظيما، وامتثالا لأمر الله، فامتثلوا ذلك { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } وقال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وقال: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } فتبين بهذا عداوته لله ولأبيكم ولكم، فكيف تتخذونه وذريته أي: الشياطين { أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } أي: بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته. وفي هذه الآية، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا، والإغراء بذلك، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم، وأي: ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه الحقيقي وليا، وترك الولي الحميد؟".
قال تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } وقال تعالى: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
۞ مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا ١٥
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا ١٥
يقول تعالى : هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم ، لا يملكون شيئا ، ولا أشهدتهم خلقي للسموات والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ، ومدبرها ومقدرها وحدي ، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ، ولا مشير ولا نظير ، كما قال : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) الآية [ سبإ : 23 ، 22 ] ؛ ولهذا قال : ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) قال مالك : أعوانا .
۞ مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا ١٥
قوله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا
قوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم قيل : الضمير عائد على إبليس وذريته ; أي لم أشاورهم في خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ، بل خلقتهم على ما أردت . وقيل : ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني ؟ . وقيل : الكناية في قوله : ما أشهدتهم ترجع إلى المشركين ، وإلى الناس بالجملة ، فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من ينخرط في هذه الأشياء . وقال ابن عطية : وسمعت أبي - رضي الله عنه - يقول سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاذ المهدي بالمهدية يقول : سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول ، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية ، وأنها رادة على هذه الطوائف .
وذكر هذا بعض الأصوليين . قال ابن عطية وأقول : إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته ; وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة ، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن ; حين يقولون : أعوذ بعزيز هذا الوادي ; إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع ، فهم المراد الأول بالمضلين ; وتندرج هذه الطوائف في معناهم .
قال الثعلبي : وقال بعض أهل العلم ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض رد على المنجمين أن قالوا : إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض ، وقوله : والأرض رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا : إن الأرض كروية والأفلاك تجري تحتها ، والناس ملصقون عليها وتحتها ، وقوله : ولا خلق أنفسهم رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس . وقرأ أبو جعفر " ما أشهدناهم " بالنون والألف على التعظيم . الباقون بالتاء .
بدليل قوله : وما كنت متخذ يعني ما استعنتهم على خلق السماوات والأرض ولا شاورتهم .
وما كنت متخذ المضلين عضدا يعني الشياطين . وقيل : الكفار .
عضدا أي أعوانا يقال : اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت والأصل فيه عضد اليد ، ثم يوضع موضع العون ; لأن اليد قوامها العضد . يقال : عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه . ومنه قوله : سنشد عضدك بأخيك أي سنعينك بأخيك . ولفظ العضد على جهة المثل ، والله - سبحانه وتعالى - لا يحتاج إلى عون أحد . وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ . وقرأ أبو جعفر الجحدري " وما كنت " بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا . وفي عضد ثمانية أوجه : " عضدا " بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور ، وهي أفصحها . و " عضدا " بفتح العين وإسكان الضاد ، وهي لغة بني تميم . و " عضدا " بضم العين والضاد ، وهي قراءة أبي عمرو والحسن . و " عضدا " بضم العين وإسكان الضاد ، وهي قراءة عكرمة . و " عضدا " بكسر العين وفتح الضاد ، وهي قراءة الضحاك . و " عضدا " بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر . وحكى هارون القارئ " عضدا " واللغة الثامنة " عضدا " على لغة من قال : كتف وفخذ .
۞ مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا ١٥
يقول تعالى: ما أشهدت الشياطين [وهؤلاء المضلين]، خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي: ما أحضرتهم ذلك، ولا شاورتهم عليه، فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد بالخلق والتدبير، والحكمة والتقدير، هو الله، خالق الأشياء كلها، المتصرف فيها بحكمته، فكيف يجعل له شركاء من الشياطين، يوالون ويطاعون، كما يطاع الله، وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا، ولم يعاونوا الله تعالى؟! ولهذا قال: { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } أي: معاونين، مظاهرين لله على شأن من الشئون، أي: ما ينبغي ولا يليق بالله، أن يجعل لهم قسطا من التدبير، لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم، فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم.
وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا ٢٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا ٢٥
يقول تعالى مخبرا عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا : ( نادوا شركائي الذين زعمتم ) أي : في دار الدنيا ، ادعوهم اليوم ، ينقذونكم مما أنتم فيه ، كما قال تعالى : ( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) [ الأنعام : 94 ] .
وقوله : ( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) ] كما قال : ( وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) [ القصص : 64 ] ، وقال ( ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ) [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، قال تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم : 82 ، 81 ]
وقوله : ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال ابن عباس ، وقتادة وغير واحد : مهلكا .
وقال قتادة : ذكر لنا أن عمرا البكالي حدث عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد عميق ، فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة .
وقال قتادة : ( موبقا ) واديا في جهنم .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى : ( وجعلنا بينهم موبقا ) قال : واد في جهنم ، من قيح ودم .
وقال الحسن البصري : ( موبقا ) عداوة .
والظاهر من السياق هاهنا : أنه المهلك ، ويجوز أن يكون واديا في جهنم أو غيره ، إلا أن الله تعالى أخبر أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير .
وأما إن جعل الضمير في قوله : ( بينهم ) عائدا إلى المؤمنين والكافرين ، كما قال عبد الله بن عمرو : إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به ، فهو كقوله تعالى : ( ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ) [ الروم : 14 ] ، وقال ( يومئذ يصدعون ) [ الروم : 43 ] ، وقال تعالى : ( وامتازوا اليوم أيها المجرمون ) [ يس : 59 ] ، وقال تعالى : ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون ) [ يونس : 28 - 30 ] .
وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا ٢٥
قوله تعالى : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم أي اذكروا يوم يقول الله : أين شركائي ؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي . وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان . وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر " نقول " بنون . الباقون بالياء ; لقوله : شركائي ولم يقل : شركائنا .
فدعوهم أي فعلوا ذلك .
فلم يستجيبوا لهم أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا .
وجعلنا بينهم موبقا قال أنس بن مالك : هو واد في جهنم من قيح ودم . وقال ابن عباس : أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا . وقيل : بين الأوثان وعبدتها ، ونحو قوله : فزيلنا بينهم قال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق ، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله - تعالى - : موبقا قال واد في جهنم يقال له موبق ، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال : يحجز بينهم وبين المؤمنين . عكرمة : هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار .
وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال : موبقا ( واد من قيح ودم في جهنم ) . وقال عطاء والضحاك : مهلكا في جهنم ; ومنه يقال : أوبقته ذنوبه إيباقا . وقال أبو عبيدة : موعدا للهلاك . الجوهري : وبق يبق وبوقا هلك ، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد ، ومنه قوله - تعالى - : وجعلنا بينهم موبقا . وفيه لغة أخرى : وبق يوبق وبقا . وفيه لغة ثالثة : وبق يبق بالكسر فيهما ، وأوبقه أي أهلكه . وقال زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه من كل شنعاء موبق
قال الفراء : جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة .
وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا ٢٥
ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال، وحكم بجهل صاحبه وسفهه، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة، وأن الله يقول لهم: { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم أي: على موجب زعمكم الفاسد، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض، ولا في السماء، أي: نادوهم، لينفعوكم، ويخلصوكم من الشدائد، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لأن الحكم والملك يومئذ لله، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي: بين المشركين وشركائهم { مَوْبِقًا } أي، مهلكا، يفرق بينهم وبينهم، ويبعد بعضهم من بعض، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم، وكفرهم بهم، وتبريهم منهم، كما قال تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا ٣٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا ٣٥
وقوله : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ) أي : إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فإذا رأى المجرمون النار ، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ؛ ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه ، عذاب ناجز .
( ولم يجدوا عنها مصرفا ) أي : ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها .
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الكافر يرى جهنم ، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة "
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة ، كما لم يعمل في الدنيا ، وإن الكافر ليرى جهنم ، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة " .
وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا ٣٥
قوله تعالى : ورأى المجرمون النار رأى أصله رأي ; قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها ; ولهذا زعم الكوفيون أن رأى يكتب بالياء ، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين . فأما البصريون الحذاق ، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف . قال النحاس : سمعت علي ابن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف ، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط ، كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو ، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء ورماه بالألف ، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء ، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة ، وكسا جمع كسوة ، وهما من ذوات الواو بالياء ، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل .
فظنوا أنهم مواقعوها فظنوا هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
أي أيقنوا ; وقد تقدم . قال ابن عباس : أيقنوا أنهم مواقعوها . وقيل : رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها ، وظنوا أنها تأخذهم في الحال . وفي الخبر : إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة . والمواقعة ملابسة الشيء بشدة . وعن علقمة أنه قرأ " فظنوا أنهم ملافوها " أي مجتمعون فيها ، واللفف الجمع .
ولم يجدوا عنها مصرفا أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب . وقال القتبي : معدلا ينصرفون إليه . وقيل : ملجأ يلجئون إليه ، والمعنى واحد . وقيل : ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين .
وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا ٣٥
أي: لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل، وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم، وحقت كلمة العذاب على المجرمين، فرأوا جهنم قبل دخولها، فانزعجوا واشتد قلقهم لظنهم أنهم مواقعوها، وهذا الظن قال المفسرون: إنه بمعنى اليقين، فأيقنوا أنهم داخلوها { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي: معدلا يعدلون إليه، ولا شافع لهم من دون إذنه، وفي هذا من التخويف والترهيب، ما ترعد له الأفئدة والقلوب.
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ٤٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ٤٥
يقول تعالى : ولقد بينا للناس في هذا القرآن ، ووضحنا لهم الأمور ، وفصلناها ، كيلا يضلوا عن الحق ، ويخرجوا عن طريق الهدى . ومع هذا البيان وهذا الفرقان ، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني علي بن الحسين ، أن حسين بن علي أخبره ، أن علي بن أبي طالب أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : " ألا تصليان ؟ " فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا . فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يرجع إلي شيئا ، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه [ ويقول ] ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) أخرجاه في الصحيحين .
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ٤٥
قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل يحتمل وجهين :
[ أحدهما ] ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية . [ الثاني ] ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في " سبحان " ; فهو على الوجه الأول زجر ، وعلى الثاني بيان .
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحارث وجداله في القرآن وقيل : الآية في أبي بن خلف . وقال الزجاج : أي الكافر أكثر شيء جدلا ; والدليل على أنه أراد الكافر قوله ويجادل الذين كفروا بالباطل
وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له : ما صنعت فيما أرسلت إليك ؟ فيقول : رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك ، فيقول الله : له هذه صحيفتك ليس فيها من ذلك ، فيقول : يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة ، فيقال له : هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك ، فيقول : ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي ، فيقول الله - تعالى - : هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك ، فقال : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : بلى ، فقال : يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي إلا من نفسي ، فيقول الله - تعالى - : الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك ، فيتفكر من ذا الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لأعضائه لعنكن الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله - تعالى - يكتم حديثا فذلك قوله - تعالى - : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا . وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي - صلي الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة فقال : ألا تصلون ؟ فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ; فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قلت له ذلك ، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ٤٥
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن، وجلالته، وعمومه، وأنه صرف فيه من كل مثل، أي: من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب، اعتقادا، وطمأنينة، ونورا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } ولهذا قال: { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } أي: مجادلة ومنازعة فيه، مع أن ذلك، غير لائق بهم، ولا عدل منهم، والذي أوجب له ذلك وعدم الإيمان بالله، إنما هو الظلم والعناد، لا لقصور في بيانه وحجته، وبرهانه، وإلا فلو جاءهم العذاب، وجاءهم ما جاء قبلهم، لم تكن هذه حالهم، ولهذا قال:
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا ٥٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا ٥٥
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [ والآثار ] والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانا ، كما قال أولئك لنبيهم : ( فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين ) [ الشعراء : 187 ] ، وآخرون قالوا : ( ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ) [ العنكبوت : 29 ] ، وقالت قريش : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال : 32 ] ، ( وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) [ الحجر : 7 ، 6 ] إلى غير ذلك [ من الآيات الدالة على ذلك ] .
ثم قال : ( إلا أن تأتيهم سنة الأولين ) من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم ، ( أو يأتيهم العذاب قبلا ) أي : يرونه عيانا مواجهة [ ومقابلة ]
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا ٥٥
قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى أي القرآن والإسلام ومحمد - عليه الصلاة والسلام -
ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أي سنتنا في إهلاكهم أي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك ; ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا . وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال . وقيل : المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف . وسنة الأولين معاينة العذاب ، فطلب المشركون ذلك ، وقالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية .
أو يأتيهم العذاب قبلا نصب على الحال ، ومعناه عيانا قاله ابن عباس . وقال الكلبي : هو السيف يوم بدر . وقال مقاتل : فجأة وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي قبلا بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله ، جمع قبيل نحو سبيل وسبل . النحاس : ومذهب الفراء أن قبلا جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا . ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا . وقال الأعرج : وكانت قراءته قبلا معناه جميعا وقال أبو عمرو : وكانت قراءته قبلا ومعناه عيانا .
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا ٥٥
أي: ما منع الناس من الإيمان، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق، بين الهدى والضلال، والحق والباطل، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان، عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا، عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم، ورأوه مقابلة ومعاينة، أي: فليخافوا من ذلك، وليتوبوا من كفرهم، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.
وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ٦٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ٦٥
ثم قال : ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) أي : قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم ، ومنذرين من كذبهم وخالفهم .
ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل ) ليدحضوا به ) أي : ليضعفوا به ) الحق ) الذي جاءتهم به الرسل ، وليس ذلك بحاصل لهم . ( واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) أي : اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب ) هزوا ) أي : سخروا منهم في ذلك ، وهو أشد التكذيب .
وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ٦٥
قوله تعالى : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين أي بالجنة لمن آمن .
ومنذرين أي مخوفين بالعذاب من الكفر . وقد تقدم .
ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق قيل : نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقولون : ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم . ومعنى يدحضوا يزيلوا ويبطلوا وأصل الدحض الزلق يقال : دحضت رجله أي زلقت ، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت ، وأدحضها الله والإدحاض الإزلاق . وفي وصف الصراط : ويضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دحض مزلقة أي تزلق فيه القدم قال طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
واتخذوا آياتي يعني القرآن .
وما أنذروا من الوعيد . هزوا و " ما " بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل : بمعنى الذي ; أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا .
; وقد تقدم في " البقرة " بيانه . وقيل : هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل : هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين ، وقالوا للرسول : هل هذا إلا بشر مثلكم وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم و ماذا أراد الله بهذا مثلا .
وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ٦٥
أي: لم نرسل الرسل عبثا، ولا ليتخذهم الناس أربابا، ولا ليدعوا إلى أنفسهم، بل أرسلناهم يدعون الناس إلى كل خير، وينهون عن كل شر، ويبشرونهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والأجل، وينذرونهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والآجل، فقامت بذلك حجة الله على العباد، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون، إلا المجادلة بالباطل، ليدحضوا به الحق، فسعوا في نصر الباطل مهما أمكنهم، وفي دحض الحق وإبطاله، واستهزءوا برسل الله وآياته، وفرحوا بما عندهم من العلم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ويظهر الحق على الباطل { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } ومن حكمة الله ورحمته، أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق بالباطل، من أعظم الأسباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته، وتبين الباطل وفساده، فبضدها تتبين الأشياء.
وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٧٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٧٥
يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ، أي : تناساها وأعرض عنها ، ولم يصغ لها ، ولا ألقى إليها بالا ( ونسي ما قدمت يداه ) أي : من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة . ( إنا جعلنا على قلوبهم ) أي قلوب هؤلاء ) أكنة ) أي : أغطية وغشاوة ، ( أن يفقهوه ) أي : لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان ، ( وفي آذانهم وقرا ) أي : صمم معنوي عن الرشاد ، ( وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ) .
وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٧٥
قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه ، فتهاون بها وأعرض عن قبولها .
ونسي ما قدمت يداه أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها ، فالنسيان هنا بمعنى الترك . وقيل : المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصل من العذاب ; والمعنى متقارب .
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا بسبب كفرهم ; أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم .
وإن تدعهم إلى الهدى أي إلى الإيمان .
فلن يهتدوا إذا أبدا نزل في قوم معينين ، وهو يرد على القدرية قولهم ; وقد تقدم معنى هذه الآية في سبحان وغيرها .
وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا ٧٥
يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب ورغب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسى ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب، فهذا أعظم ظلما من المعرض الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها، وإن كان ظالما، فإنه أخف ظلما من هذا، لكون العاصي على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك، ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه، حالة الشر مع علمه بها، أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعتها، فليس في إمكانها الفقه الذي يصل إلى القلب، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمما يمنعهم من وصول الآيات، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإذا كانوا بهذه الحالة، فليس لهدايتهم سبيل، { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما، وأما هؤلاء، الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه، أن يحال بينهم وبينه، ولا يتمكن منه بعد ذلك، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.
وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا ٨٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا ٨٥
وقوله : ( وربك الغفور ذو الرحمة ) أي : ربك - يا محمد - غفور ذو رحمة واسعة ، ( لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ) ، كما قال : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) [ فاطر : 45 ] ، وقال : ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ) [ الرعد : 6 ] . والآيات في هذا كثيرة .
ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر ، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ ولهذا قال : ( بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ) أي : ليس لهم عنه محيد ولا محيص ولا معدل .
وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا ٨٥
قوله تعالى : وربك الغفور ذو الرحمة أي للذنوب . وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به .
ذو الرحمة فيه أربع تأويلات :
[ أحدها ] ذو العفو . [ الثاني ] ذو الثواب ; وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الإيمان دون الكفر . [ الثالث ] ذو النعمة . [ الرابع ] ذو الهدى ; وهو على هذين الوجهين يعم أهل الإيمان والكفر ، لأنه ينعم في الدنيا على الكافر ، كإنعامه على المؤمن . وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر .
ومعنى قوله : لو يؤاخذهم بما كسبوا أي من الكفر والمعاصي .
لعجل لهم العذاب ولكنه يمهل .
بل لهم موعد أي أجل مقدر يؤخرون إليه ، نظيره لكل نبإ مستقر ، لكل أجل كتاب أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة .
لن يجدوا من دونه موئلا أي ملجأ ; قاله ابن عباس وابن زيد ، وحكاه الجوهري في الصحاح . وقد وأل يئل وألا ووءولا على فعول أي لجأ ; وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة . وقال مجاهد : محرزا . قتادة : وليا . وأبو عبيدة : منجى . وقيل : محيصا ; والمعنى واحد والعرب تقول : لا وألت نفسه أي لا نجت ; ومنه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى :
وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو .
وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا ٨٥
ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته، وأنه يغفر الذنوب، ويتوب الله على من يتوب، فيتغمده برحمته، ويشمله بإحسانه، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب، لعجل لهم العذاب، ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل ولا يهمل، والذنوب لا بد من وقوع آثارها، وإن تأخرت عنها مدة طويلة، ولهذا قال:{ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا } أي: لهم موعد، يجازون فيه بأعمالهم، لا بد لهم منه، ولا مندوحة لهم عنه، ولا ملجأ، ولا محيد عنه، وهذه سنته في الأولين والآخرين، أن لا يعاجلهم بالعقاب، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة، فإن تابوا وأنابوا، غفر لهم ورحمهم، وأزال عنهم العقاب، وإلا، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم، أنزل بهم بأسه
وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا ٩٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا ٩٥
وقوله : ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ) أي : الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ) أي : جعلناه إلى مدة معلومة ووقت [ معلوم ] معين ، لا يزيد ولا ينقص ، أي : وكذلك أنتم أيها المشركون ، احذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي ، ولستم بأعز علينا منهم ، فخافوا عذابي ونذر .
وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا ٩٥
قوله تعالى : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا تلك في موضع رفع بالابتداء . القرى نعت أو بدل . وأهلكناهم في موضع الخبر محمول على المعنى ; لأن المعني أهل القرى . ويجوز أن تكون تلك في موضع نصب على قول من قال : زيدا ضربته ; أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم ، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا .
وجعلنا لمهلكهم موعدا أي وقتا معلوما لم تعده و " مهلك " من أهلكوا . وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك . وأجاز الكسائي والفراء لمهلكهم بكسر اللام وفتح الميم . النحاس : قال الكسائي وهو أحب إلي لأنه من هلك . الزجاج : اسم للزمان والتقدير : لوقت مهلكهم ، كما يقال : أتت الناقة على مضربها .
وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا ٩٥
{ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } أي: بظلمهم، لا بظلم منا { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } أي: وقتا مقدرا، لا يتقدمون عنه ولا يتأخرون.
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا ٠٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا ٠٦
سبب قول موسى [ عليه السلام ] لفتاه - وهو يوشع بن نون - هذا الكلام : أنه ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين ، عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الذهاب إليه ، وقال لفتاه ذلك : ( لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ) أي لا أزال سائرا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال الفرزدق :
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
قال قتادة وغير واحد : وهما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب .
وقال محمد بن كعب القرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم .
وقوله : ( أو أمضي حقبا ) أي : ولو أني أسير حقبا من الزمان .
قال ابن جرير ، رحمه الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة . ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحقب ثمانون سنة . وقال مجاهد : سبعون خريفا . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( أو أمضي حقبا ) قال : دهرا . وقال قتادة ، وابن زيد ، مثل ذلك .
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا ٠٦
قوله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره . وقالت فرقة منها نوف البكالي : إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران . وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره . وفتاه : هو يوشع بن نون . وقد مضى ذكره في " المائدة " وآخر " يوسف " . ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون .
لا أبرح أي لا أزال أسير ; قال الشاعر :
وأبرح ما أدام الله قومي بحمد الله منتطقا مجيدا
وقيل : لا أبرح لا أفارقك .
حتى أبلغ مجمع البحرين أي ملتقاهما . قال قتادة : وهو بحر فارس والروم ; وقاله مجاهد . قال ابن عطية : وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان ، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول . وقيل : هما بحر الأردن وبحر القلزم . وقيل : مجمع البحرين عند طنجة ; قال محمد بن كعب . وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية . وقال السدي : الكر والرس بأرمينية .
وقال بعض أهل العلم : هو بحر الأندلس من البحر المحيط ; حكاه النقاش ; وهذا مما يذكر كثيرا . وقالت فرقة : إنما هما موسى والخضر ; وهذا قول ضعيف ; وحكي عن ابن عباس ، ولا يصح ; فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم له بحر ماء .
وسبب هذه القصة ما خرجه الصحيحان عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن موسى - عليه السلام - قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . . . وذكر الحديث ، واللفظ للبخاري . وقال ابن عباس : لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أمره الله أن ذكرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكرهم ما أتاهم الله من الخير والنعمة إذ نجاهم من آل فرعون ، وأهلك عدوهم ، واستخلفهم في الأرض ، ثم قال : وكلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاه لنفسه ، وألقى علي محبة منه ، وآتاكم من كل ما سألتموه ، فجعلكم أفضل أهل الأرض ، ورزقكم العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والتوراة بعد أن كنتم جهالا ; فقال له رجل من بني إسرائيل : عرفنا الذي تقول ، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا ; فعتب عليه حين لم يرد العلم إليه ، فبعث الله جبريل : أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك . . . ) وذكر الحديث .
قال علماؤنا : قوله في الحديث ( هو أعلم منك ) أي بأحكام وقائع مفصلة ، وحكم نوازل معينة ، لا مطلقا بدليل قول الخضر لموسى : إنك على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، وأنا على علم علمنيه لا تعلمه أنت ، وعلى هذا فيصدق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما ولا يعلمه الآخر ، فلما سمع موسى هذا تشوقت نفسه الفاضلة ، وهمته العالية ، لتحصيل علم ما لم يعلم ، وللقاء من قيل فيه : إنه أعلم منك ; فعزم فسأل سؤال الذليل بكيف السبيل ، فأمر بالارتحال على كل حال وقيل له احمل معك حوتا مالحا في مكتل - وهو الزنبيل - فحيث يحيا وتفقده فثم السبيل ، فانطلق مع فتاه لما واتاه ، مجتهدا طلبا قائلا : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا
الثانية : في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب ، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم ، وذلك كان في دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح ، وحصلوا على السعي الناجح ، فرسخت لهم في العلوم أقدام ، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال البخاري : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث .
الثالثة : وإذ قال موسى لفتاه للعلماء فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان معه يخدمه ، والفتى في كلام العرب الشاب ، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب ، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي فهذا ندب إلى التواضع ; وقد تقدم هذا في " يوسف " . والفتى في الآية هو الخادم وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف - عليه السلام - . ويقال : هو ابن أخت موسى - عليه السلام - . وقيل : إنما سمي فتى موسى لأنه لزمه ليتعلم منه وإن كان حرا ; وهذا معنى الأول . وقيل : إنما سماه فتى لأنه قام مقام الفتى وهو العبد ، قال الله - تعالى - : وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم وقال : تراود فتاها عن نفسه قال ابن العربي : فظاهر القرآن يقتضي أنه عبد ، وفي الحديث : ( أنه كان يوشع بن نون ) وفي التفسير : أنه ابن أخته ، وهذا كله مما لا يقطع به ، والتوقف فيه أسلم .
الرابعة : أو أمضي حقبا بضم الحاء والقاف وهو الدهر ، والجمع أحقاب . وقد تسكن قافه فيقال حقب . وهو ثمانون سنة . ويقال : أكثر من ذلك . والجمع حقاب . والحقبة بكسر الحاء واحدة الحقب وهي السنون . قال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة . مجاهد : سبعون خريفا . قتادة : زمان ، النحاس : الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود ; كما أن رهطا وقوما مبهم غير محدود : وجمعه أحقاب .
وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا ٠٦
يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك:- { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ْ} أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ} أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه.
فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا ١٦
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا ١٦
وقوله : ( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما ) ، وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه ، وقيل له : متى فقدت الحوت فهو ثمة . فسارا حتى بلغا مجمع البحرين ؛ وهناك عين يقال لها : " عين الحياة " ، فناما هنالك ، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب ، وكان في مكتل مع يوشع [ عليه السلام ] ، وطفر من المكتل إلى البحر ، فاستيقظ يوشع ، عليه السلام ، وسقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه ، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ؛ ولهذا قال : ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) أي : مثل السرب في الأرض .
قال ابن جريج : قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة .
وقال محمد - [ هو ] ابن إسحاق - عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك : " ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت مكان الحوت الذي فيه ، فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه " ، فقال : ( ذلك ما كنا نبغ ) .
وقال قتادة : سرب من البر ، حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا جعل ماء جامدا .
فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا ١٦
قوله تعالى : فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا الضمير في قوله : بينهما للبحرين ; قاله مجاهد . والسرب المسلك ; قاله مجاهد . وقال قتادة : جمد الماء فصار كالسرب .
وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا ، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت ، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر ، وفيها وجد الخضر . وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله : نسيا حوتهما وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل : المعنى ; نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة ، كقوله - تعالى - : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من الملح ، وقوله : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري ; ( فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كثيرا ; فذلك قوله - عز وجل - : وإذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون - ليست عن سعيد - قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه ; حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر ، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر ; قال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما ) وفي رواية ( وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به ، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) وقيل : إن النسيان كان منهما لقوله - تعالى - : نسيا فنسب النسيان إليهما ; وذلك أن بدو حمل الحوت كان منموسى لأنه الذي أمر به ، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا .
فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا ١٦
{ فَلَمَّا بَلَغَا ْ} أي: هو وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ْ} وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله، أي: طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات.
قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيا.
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا ٢٦
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا ٢٦
وقوله : ( فلما جاوزا ) أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ، ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو الذي نسيه ، كقوله تعالى : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين .
فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه مرحلة ) قال ) موسى ( لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) أي : الذي جاوزا فيه المكان ( نصبا ) يعني : تعبا .
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا ٢٦
فلما جاوزا يعني الحوت هناك منسيا - أي متروكا - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة ، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين وهو الصخرة ، فقد كان موسى شريكا في النسيان ; لأن النسيان التأخير ; من ذلك قولهم في الدعاء : أنسأ الله في أجلك . فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت .
قوله تعالى : آتنا غداءنا فيه مسألة واحدة :
وهو اتخاذ الزاد في الأسفار ، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار ، الذين يقتحمون المهامة والقفار ، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار ; هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه ، وتوكله على رب العباد . وفي صحيح البخاري : ( إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا سألوا الناس ، فأنزل الله - تعالى - وتزودوا ) وقد مضى هذا في " البقرة " . واختلف في زاد موسى ; فقال ابن عباس : كان حوتا مملوحا في زنبيل ، وكانا يصيبان منه غداء وعشاء ، فلما انتهيا إلى الصخرة على ساحل البحر ، وضع فتاه المكتل ، فأصاب الحوت جري البحر فتحرك الحوت في المكتل ، فقلب المكتل وانسرب الحوت ، ونسي الفتى أن يذكر قصة الحوت لموسى . وقيل : إنما كان الحوت دليلا على موضع الخضر لقوله في الحديث : احمل معك حوتا في مكتل فحيث فقدت الحوت فهو ثم على هذا فيكون تزودا شيئا آخر غير الحوت ، وهذا ذكره شيخنا الإمام أبو العباس واختاره . وقال ابن عطية : قال أبي - رضي الله عنه - ، سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه : مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم .
نصبا أي تعبا ، والنصب التعب والمشقة . وقيل : عنى به هنا الجوع ، وفي هذا دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض ، وأن ذلك لا يقدح في الرضا ، ولا في التسليم للقضاء لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر ولا سخط .
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا ٢٦
فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ} أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا مس التعب فيه، وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى، على وجود مطلبه، وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان، سهل لهما الطريق، فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعبs
قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٣٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٣٦
قال : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) قال قتادة : وقرأ ابن مسعود : [ " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ] ؛ ولهذا قال : ( واتخذ سبيله ) أي : طريقه
قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٣٦
وفي قوله : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره أن مع الفعل بتأويل المصدر ، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه وهو بدل الظاهر من المضمر ، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ; وفي مصحف عبد الله " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان " . وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى : ( لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ; فقال : ما كلفت كثيرا ) فاعتذر بذلك القول .
قوله تعالى : واتخذ سبيله في البحر عجبا يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى ; أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله : واتخذ سبيله في البحر تمام الخبر ، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه : عجبا لهذا الأمر . وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك .
قال أبو شجاع في كتاب الطبري : رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة ، وشق آخر ليس فيه شيء قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة .
ويحتمل أن يكون قوله : واتخذ سبيله إخبارا من الله - تعالى - ، وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا ، أي تعجب منه وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس . ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية : ( أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة ، ما مست قط شيئا إلا حيي ) وفي التفسير : إن العلامة كانت أن يحيا الحوت ; فقيل : لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيي . وقال الترمذي في حديثه قال سفيان : ( يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة ، ولا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش ، قال : وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش ) وذكر صاحب كتاب ( العروس ) : أن موسى - عليه السلام - توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي ; والله أعلم .
قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا ٣٦
قال له فتاه: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ْ}
أي: ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ْ} لأنه السبب في ذلك { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ} أي: لما انسرب في البحر ودخل فيه، كان ذلك من العجائب.قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت، وجد الخضر، فقال موسى: { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ}
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا ٤٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا ٤٦
( في البحر عجبا قال ذلك ما كنا نبغ ) أي : هذا الذي نطلب ( فارتدا ) أي : رجعا ( على آثارهما ) أي طريقهما ( قصصا ) أي : يقصان أثر مشيهما ، ويقفوان أثرهما .
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا ٤٦
قوله تعالى : ذلك ما كنا نبغ أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب ، فإن الرجل الذي جئنا له ثم ; فرجعا يقصان آثارهما لئلا يخطئا طريقهما . وفي البخاري : ( فوجدا خضرا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليهموسى ، فكشف عن وجهه وقال : هل بأرضك من سلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . قال : فما شأنك ؟ قال جئت لتعلمني مما علمت رشدا . . . ) الحديث . وقال الثعلبي في كتاب العرائس : ( إن موسى وفتاه وجدا الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو متشح بثوب أخضر فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه فقال : وأنى بأرضنا السلام ؟ ثم رفع رأسه واستوى جالسا وقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال له موسى : وما أدراك بي ؟ ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : الذي أدراك بي ودلك علي ; ثم قال : يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل ، قال موسى : إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك ، ثم جلسا يتحدثان ، فجاءت خطافة وحملت بمنقارها من الماء . . . ) وذكر الحديث على ما يأتي .
قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا ٤٦
تفسير الآيتين 64 و 65 :ـ
{ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ} أي: نطلب { فَارْتَدَّا ْ} أي: رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ْ} أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح.
آتيناه [رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَلَّمْنَاهُ ْ}] { مِنْ لَدُنَّا ْ} [أي: من عندنا] عِلْمًا، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه.
فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا ٥٦
نسخ
مشاركة
التفسير
فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا ٥٦
( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ) وهذا هو الخضر ، عليه السلام ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . بذلك قال البخاري :
حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل . قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك . فقال موسى : يا رب ، وكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتا ، تجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم . فأخذ حوتا ، فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون عليهما السلام ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه ، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق . فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به . قال له فتاه : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا ) قال : " فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا ، فقال : ( ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ) . قال : " فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام! . قال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا . ( قال إنك لن تستطيع معي صبرا ) ، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه . فقال موسى : ( ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ) قال له الخضر : ( فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ) .
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئا إمرا . ( قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ) قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسيانا " . قال : وجاء عصفور فنزل على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة ، [ أو نقرتين ] فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر .
ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه [ بيده ] فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : ( أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ) ؟ ! قال : " وهذه أشد من الأولى " ، ( قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) قال : مائل . فقال الخضر بيده : ( فأقامه ) ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ، ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " .
قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ : " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " وكان يقرأ : " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " .
ثم رواه البخاري عن قتيبة ، عن سفيان بن عيينة . . . فذكر نحوه ، وفيه : " فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ، ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة ، فنزلا عندها - قال : فوضع موسى رأسه فنام - قال سفيان : وفي حديث غير عمرو قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة ، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي : فأصاب الحوت من ماء تلك العين ، قال ، فتحرك وانسل من المكتل ، فدخل البحر ، فلما استيقظ قال موسى لفتاه : ( آتنا غداءنا ) كذا قال : وساق الحديث . ووقع عصفور على حرف السفينة ، فغمس منقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه .
وقال البخاري أيضا : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف ، أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير - يزيد أحدهما على صاحبه - وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال : إنا لعند ابن عباس في بيته ، إذ قال : سلوني . فقلت : أي أبا عباس ، جعلني الله فداك ، بالكوفة رجل قاص ، يقال له : " نوف " يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل - أما عمرو فقال لي : قال : كذب عدو الله! وأما يعلى فقال لي : قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موسى رسول الله ، ذكر الناس يوما ، حتى إذا فاضت العيون ، ورقت القلوب ، ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله ، هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ قال : لا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله ، قيل : بلى قال : أي رب ، وأين ؟ قال : بمجمع البحرين . قال : أي رب ، اجعل لي علما أعلم ذلك به " . قال لي عمرو : قال : حيث يفارقك الحوت ، وقال لي يعلى : خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح . فأخذ حوتا فجعله في مكتل ، فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت ، قال ما كلفت كبيرا . فذلك قوله : ( وإذ قال موسى لفتاه ) يوشع بن نون ، ليست عند سعيد بن جبير ، قال : " فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر ، فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كأن أثره في حجر " . [ قال : فقال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر ] ، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما : ( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) قال : " وقد قطع الله عنك النصب " ليست هذه عند سعيد - أخبره ، فرجعا فوجدا خضرا . قال : قال عثمان بن أبي سليمان : على طنفسة خضراء على كبد البحر . قال سعيد بن جبير : مسجى بثوب ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى ، فكشف عن وجهه ، وقال : هل بأرض من سلام ؟ من أنت ؟ قال أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . قال : فما شأنك ؟ قال : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا . قال : يكفيك التوراة بيدك ، وأن الوحي يأتيك! . يا موسى ، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه . فأخذ طائر بمنقاره من البحر [ فقال : والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر ] ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر عرفوه ، فقالوا : عبد الله الصالح ؟ . قال فقلنا لسعيد : خضر ؟ قال : نعم . لا نحمله بأجر . فخرقها ، ووتد فيها وتدا . قال موسى : ( أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ) . قال مجاهد : منكرا . قال : ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ) كانت الأولى نسيانا ، والوسطى شرطا ، والثالثة عمدا ( قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا ) . حتى لقيا غلاما فقتله . قال يعلى : قال سعيد ، وجد غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه ، ثم ذبحه بالسكين ، فقال : ( أقتلت نفسا زكية ) لم تعمل بالحنث . وابن عباس قرأها ( زكية ) - " زاكية " مسلمة ، كقولك : غلاما زكيا فانطلقا ، فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، قال [ سعيد ] بيده هكذا ، ورفع يده فاستقام - قال يعلى : حسبت أن سعيدا قال : فمسحه بيده فاستقام - قال : ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) قال سعيد : أجرا نأكله ( وكان وراءهم ملك ) وكان أمامهم ، قرأها ابن عباس : " أمامهم ملك " يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد ، والغلام المقتول اسمه - يزعمون - جيسور ( ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها ، فإذا جاوزه أصلحوها فانتفعوا بها . ومنهم من يقول : سدوها بقارورة . ومنهم من يقول : بالقار . ( فكان أبواه مؤمنين ) وكان كافرا ، ( فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) . أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة ) كقوله : ( أقتلت نفسا زكية ) ، ( وأقرب رحما ) : هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر . وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية . وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد : إنها جارية .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : خطب موسى ، عليه السلام ، بني إسرائيل فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني . فأمر أن يلقى هذا الرجل . فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان ، والله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير قال : جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم : يا أبا العباس ، إن نوفا ابن امرأة كعب ، يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا ؟ قال سعيد : فقال ابن عباس : أنوف يقول هذا ؟ قال سعيد : فقلت له : نعم ، أنا سمعت نوفا يقول ذلك . قال : أنت سمعته يا سعيد ؟ قال : قلت : نعم . قال : كذب نوف . ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال : أي رب ، إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني ، فدلني عليه . فقال له : نعم ، في عبادي من هو أعلم منك . ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه . فخرج موسى ومعه فتاه ، ومعه حوت مليح ، قد قيل له : إذا حيي هذا الحوت في مكان ، فصاحبك هنالك ، وقد أدركت حاجتك . فخرج موسى ومعه فتاه ، ومعه ذلك الحوت يحملانه ، فسار حتى جهده السير ، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء ، وذلك الماء ماء الحياة ، من شرب منه خلد ، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي . فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ) فانطلقا فلما جاوز منقلبه قال : موسى لفتاه : ( آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ) قال الفتى - وذكر - : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا ) . قال ابن عباس : فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها ، فإذا رجل متلفف في كساء له ، فسلم موسى ، فرد عليه العالم ثم قال له : ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل ؟ . قال له موسى : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا ( قال إنك لن تستطيع معي صبرا ) وكان رجلا يعلم علم الغيب قد علم ذلك - فقال موسى : بلى . قال : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) ؟ أي : إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم . ( قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ) وإن رأيت ما يخالفني ، قال : ( فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء ) [ وإن أنكرته ] ( حتى أحدث لك منه ذكرا ) : فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس ، يلتمسان من يحملهما ، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة ، لم يمر بهما من السفن أحسن ولا أكمل ولا أوثق منها . فسألا أهلها أن يحملوهما ، فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها ، أخرج منقارا له ومطرقة ، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها . ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ، ثم جلس عليها يرقعها ، فقال : له موسى - ورأى أمرا أفظع به - : ( أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ) أي : بما تركت من عهدك ، ( ولا ترهقني من أمري عسرا ) . ثم خرجا من السفينة فانطلقا ، حتى أتيا أهل قرية ، فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه ، فأخذه بيده ، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه ، صبي صغير قتله لا ذنب له قال : ( أقتلت نفسا زكية ) أي صغيرة ( بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) أي : قد أعذرت في شأني . ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) ، فهدمه ثم قعد يبنيه ، فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف ، وما ليس عليه صبر ، قال : ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) أي : قد استطعمناهم فلم يطعمونا ، وضفناهم فلم يضيفونا ، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة ، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله ؟ . قال : ( هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) - وفي قراءة أبي بن كعب : " كل سفينة صالحة " - وإنما عبتها لأرده عنها ، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها . ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) أي : ما فعلته عن نفسي ، ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) وكان ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علما .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر ، أنزل قومه ، فلما استقرت بهم الدار ، أنزل الله : أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه ، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة ، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون ، وذكرهم هلاك عدوهم ، وما استخلفهم الله في الأرض ، وقال : كلم الله نبيكم تكليما ، واصطفاني لنفسه ، وأنزل علي محبة منه ، وآتاكم الله من كل ما سألتموه ؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض ، وأنتم تقرءون التوراة ، فلم يترك نعمة أنعمها عليهم إلا وعرفهم إياها . فقال له رجل من بني إسرائيل : هم كذلك يا نبي الله ، قد عرفنا الذي تقول ، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا . فبعث الله جبرائيل إلى موسى ، عليهما السلام ، فقال : إن الله [ عز وجل ] يقول : وما يدريك أين أضع علمي ؟ بلى . إن على شط البحر رجلا هو أعلم منك - قال ابن عباس : هو الخضر - فسأل موسى ربه أن يريه إياه ، فأوحى إليه : أن ائت البحر ، فإنك تجد على شط البحر حوتا ، فخذه فادفعه إلى فتاك ، ثم الزم شط البحر ، فإذا نسيت الحوت وهلك منك ، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب . فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه ، سأل فتاه عن الحوت ، فقال له فتاه وهو غلامه : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) لك ، قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربا فأعجب ذلك موسى ، فرجع حتى أتى الصخرة ، فوجد الحوت ، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى ، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت ، وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس ، حتى يكون صخرة ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك ، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر ، فلقي الخضر بها فسلم عليه ، فقال الخضر : وعليك السلام ، وأنى يكون السلام بهذه الأرض ؟ ومن أنت ؟ قال : أنا موسى . فقال الخضر : أصاحب بني إسرائيل ؟ [ قال : نعم ] فرحب به وقال : ما جاء بك ؟ قال جئتك ( على أن تعلمني مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا ) يقول : لا تطيق ذلك . قال موسى ( ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ) قال : فانطلق به ، وقال له : لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه ، فذلك قوله : ( حتى أحدث لك منه ذكرا )
وقال الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس : أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خضر . فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك ؟ قال : لا ؛ فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر . فسأل موسى السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية وقيل له : إذا فقدت الحوت [ فهو ثمة ] فارجع ، فإنك ستلقاه . فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر . فقال فتى موسى لموسى : ( أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ) قال موسى ( ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ) فوجدا عبدنا خضرا فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه .
فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا ٥٦
قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا العبد هو الخضر - عليه السلام - في قول الجمهور ، وبمقتضى الأحاديث الثابتة . وخالف من لا يعتد بقوله ، فقال : ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر وحكى أيضا هذا القول القشيري ، قال : وقال قوم هو عبد صالح ، والصحيح أنه كان الخضر ; بذلك ورد الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال مجاهد : سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله ، وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلي الله عليه وسلم - : إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء هذا حديث صحيح غريب . الفروة هنا وجه الأرض ; قاله الخطابي وغيره .
والخضر نبي عند الجمهور . وقيل : هو عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي . وأيضا فإن الإنسان لا يتعلم ولا يتبع إلا من فوقه ، وليس يجوز أن يكون فوق النبي من ليس نبي وقيل : كان ملكا أمر الله موسى أن يأخذ عنه مما حمله من علم الباطن . والأول الصحيح ; والله أعلم .
قوله تعالى : آتيناه رحمة من عندنا الرحمة في هذه الآية النبوة وقيل : النعمة .
وعلمناه من لدنا علما أي علم الغيب ، ابن عطية : كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه ، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها ; وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم .
فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا ٥٦
تفسير الآيتين 64 و 65 :ـ
{ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ} أي: نطلب { فَارْتَدَّا ْ} أي: رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ْ} أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح.
آتيناه [رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَلَّمْنَاهُ ْ}] { مِنْ لَدُنَّا ْ} [أي: من عندنا] عِلْمًا، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه.
قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا ٦٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا ٦٦
يخبر تعالى عن قيل موسى ، عليه السلام لذلك [ الرجل ] العالم ، وهو الخضر ، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى ، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر ، ( قال له موسى هل أتبعك ) سؤال بتلطف ، لا على وجه الإلزام والإجبار . وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم . وقوله : ( أتبعك ) أي : أصحبك وأرافقك ، ( على أن تعلمني مما علمت رشدا ) أي : مما علمك الله شيئا ، أسترشد به في أمري ، من علم نافع وعمل صالح .
قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا ٦٦
قوله تعالى : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا فيه مسألتان :
[ الأولى ] قال له موسى هل أتبعك هذا سؤال الملاطف ، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب ، المعنى : هل يتفق لك ويخف عليك ؟ وهذا كما في الحديث : ( هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ؟ . . . ) وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله - تعالى - : هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء . . . حسب ما تقدم بيانه في " المائدة " .
[ الثانية ] في هذه الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب ، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه ، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول ، والفضل لمن فضله الله ; فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه ، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي ، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة . والله أعلم .
ورشدا مفعول ثان ب تعلمني .
قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا ٦٦
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ} أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة، ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٧٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٧٦
فعندها ) قال ) الخضر لموسى : ( إنك لن تستطيع معي صبرا ) أي : أنت لا تقدر أن تصاحبني لما ترى [ مني ] من الأفعال التي تخالف شريعتك ؛ لأني على علم من علم الله ، ما علمكه الله ، وأنت على علم من علم الله ، ما علمنيه الله ، فكل منا مكلف بأمور . من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتي .
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٧٦
قال الخضر .
إنك لن تستطيع معي صبرا أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي ; لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه ، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه ، ولا طريق الصواب .
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٧٦
فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك { لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ} أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك
وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا ٨٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا ٨٦
( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه ، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك .
وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا ٨٦
وهو معنى قوله : وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا والأنبياء لا يقرون على منكر ، ولا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك . وانتصب خبرا على التمييز المنقول عن الفاعل . وقيل : على المصدر الملاقى في المعنى ، لأن قوله : لم تحط . معناه لم تخبره ، فكأنه قال : لم تخبره خبرا ; وإليه أشار مجاهد والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها .
وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا ٨٦
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ} أي: كيف تصبر على أمر،ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟
قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا ٩٦
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا ٩٦
( قال ) له موسى : ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) أي : على ما أرى من أمورك ، ( ولا أعصي لك أمرا ) أي : ولا أخالفك في شيء . فعند ذلك شارطه الخضر
قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا ٩٦
قوله تعالى : قال ستجدني إن شاء الله صابرا أي سأصبر بمشيئة الله .
ولا أعصي لك أمرا أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء ، هل هو يشمل قوله : ولا أعصي لك أمرا أم لا ؟ فقيل : يشمله كقوله : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات . وقيل : استثنى في الصبر فصبر ، وما استثنى في قوله : ولا أعصي لك أمرا فاعترض وسأل ، قال علماؤنا : إنما كان ذلك منه ; لأن الصبر أمر مستقبل ولا يدرى كيف يكون حاله فيه ، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال ، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه ، ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبا لنا بخلاف فعل المعصية وتركه ، فإن ذلك كله مكتسب لنا ; والله أعلم .
قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا ٩٦
فقال موسى: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ْ} وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء، ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر.
قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا ٠٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا ٠٧
( قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء ) أي : ابتداء ( حتى أحدث لك منه ذكرا ) أي : حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : سأل موسى ربه - عز وجل - فقال : رب ، أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال أي رب ، أي عبادك أعلم ؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى . قال : أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني ؟ قال : نعم . قال : فمن هو ؟ قال الخضر . قال : فأين أطلبه ؟ قال على الساحل عند الصخرة ، التي ينفلت عندها الحوت . قال : فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر الله ، وانتهى موسى إليه عند الصخرة ، فسلم كل واحد منهما على صاحبه . فقال له موسى : إني أريد أن تصحبني قال إنك لن تطيق صحبتي . قال : بلى . قال : فإن صحبتني ( فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ) قال : فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه . قال : وبعث الله الخطاف ، فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء ؟ قال : ما أقل ما رزأ! قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء . وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه ، أو تكلم به ، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر . وذكر تمام الحديث في خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإصلاح الجدار ، وتفسيره له ذلك .
قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا ٠٧
قوله تعالى : قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك ، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة ، فلو صبر ودأب لرأى العجب ، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض .
قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسَۡٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا ٠٧
فحينئذ قال له الخضر: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ْ} أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرٗا ١٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرٗا ١٧
يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه ، وهو الخضر ، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا ، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه ، فركبا في السفينة . وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة ، وأنهم عرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول - يعني بغير أجرة - تكرمة للخضر . فلما استقلت بهم السفينة في البحر ، ولججت أي : دخلت اللجة ، قام الخضر فخرقها ، واستخرج لوحا من ألواحها ثم رقعها . فلم يملك موسى ، عليه السلام ، نفسه أن قال منكرا عليه : ( أخرقتها لتغرق أهلها ) . وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل ، كما قال الشاعر : لدوا للموت وابنوا للخراب
( لقد جئت شيئا إمرا ) قال مجاهد : منكرا . وقال قتادة عجبا .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرٗا ١٧
قوله : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا
قوله تعالى : فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها فيه مسألتان :
[ الأولى ] في صحيح مسلم والبخاري : ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ موسى إلا والخضر قد قلع منها لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ) قال : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وكانت الأولى من موسى نسيانا قال : ( وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة في البحر ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر )
قال علماؤنا : حرف السفينة طرفها وحرف كل شيء طرفه ، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد . والعلم هنا بمعنى المعلوم ، كما قال : ولا يحيطون بشيء من علمه أي من معلوماته ، وهذا من الخضر تمثيل ; أي معلوماتي ومعلوماتك لا أثر لها في علم الله ; كما أن ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لا أثر له بالنسبة إلى ماء البحر ، وإنما مثل له ذلك بالبحر لأنه أكثر ما يشاهده مما بين أيدينا ، وإطلاق لفظ النقص هنا تجوز قصد به التمثيل والتفهيم ، إذ لا نقص في علم الله ، ولا نهاية لمعلوماته . وقد أوضح هذا المعنى البخاري فقال : ( والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطير بمنقاره من البحر ) وفي التفسير عن أبي العالية : لم ير الخضر حين خرق السفينة غير موسى وكان عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله له أن يريه ، ولو رآه القوم لمنعوه من خرق السفينة . وقيل : خرج أهل السفينة إلى جزيرة ، وتخلف الخضر فخرق السفينة ، وقال ابن عباس : ( لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحية ، وقال في نفسه : ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت في بني إسرائيل أتلو كتاب الله عليهم غدوة وعشية فيطيعوني قال له الخضر : يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك ؟ قال : نعم . قال : كذا وكذا قال : صدقت ; ذكره الثعلبي في كتاب العرائس .
الثانية : في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا ، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه وقال أبو يوسف : يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي " ليغرق " بالياء " أهلها " بالرفع فاعل يغرق ، فاللام على قراءة الجماعة في لتغرق لام المآل مثل ليكون لهم عدوا وحزنا . وعلى قراءة حمزة لام كي ، ولم يقل لتغرقني ; لأن الذي غلب عليه في الحال فرط الشفقة عليهم ، ومراعاة حقهم .
إمرا معناه عجبا ; قاله القتبي ، وقيل : منكرا ; قاله مجاهد ، وقال أبو عبيدة : الإمر الداهية العظيمة ; وأنشد :
قد لقي الأقران مني نكرا داهية دهياء إدا إمرا
وقال الأخفش : يقال أمر أمره يأمر " أمرا " إذا اشتد ، والاسم الإمر .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيًۡٔا إِمۡرٗا ١٧
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ْ} أي: اقتلع الخضر منها لوحا، وكان له مقصود في ذلك، سيبينه، فلم يصبر موسى عليه السلام، لأن ظاهره أنه منكر، لأنه عيب للسفينة، وسبب لغرق أهلها، ولهذا قال موسى: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ْ} أي: عظيما شنيعا، وهذا من عدم صبره عليه السلام
قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٢٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٢٧
فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط : ( ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ) يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا ، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر علي فيها ، لأنك لم تحط بها خبرا ، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت .
قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٢٧
قَالَ
الخضر .أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي ; لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه , وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه , ولا طريق الصواب .
قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٢٧
{ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ} أي: فوقع كما أخبرتك، وكان هذا من موسى نسيانا
قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا ٣٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا ٣٧
( قال ) أي موسى : ( لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ) أي : لا تضيق علي وتشدد علي ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كانت الأولى من موسى نسيانا " .
قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا ٣٧
قوله تعالى : قال لا تؤاخذني بما نسيت في معناه قولان :
أحدهما : يروى عن ابن عباس ، قال : ( هذا من معاريض الكلام ) . والآخر : أنه نسي فاعتذر ; ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة ، وأنه لا يدخل تحت التكليف ، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره ; وقد تقدم ، ولو نسي في الثانية لاعتذر .
قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا ٣٧
{ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ْ} أي: لا تعسر علي الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة. فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر.
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡٔٗا نُّكۡرٗا ٤٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡٔٗا نُّكۡرٗا ٤٧
يقول تعالى : ( فانطلقا ) أي : بعد ذلك ، ( حتى إذا لقيا غلاما فقتله ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى ، وأنه عمد إليه من بينهم ، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله ، فروي أنه احتز رأسه ، وقيل : رضخه بحجر . وفي رواية : اقتطفه بيده . والله أعلم .
فلما شاهد موسى ، عليه السلام ، هذا أنكره أشد من الأول ، وبادر فقال : ( أقتلت نفسا زكية ) أي صغيرة لم تعمل الحنث ، ولا حملت إثما بعد ، فقتلته ؟ ! ( بغير نفس ) أي : بغير مستند لقتله ( لقد جئت شيئا نكرا ) أي ظاهر النكارة .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡٔٗا نُّكۡرٗا ٤٧
قوله تعالى : فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا في البخاري قال يعلى قال سعيد : ( وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ) قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لم تعمل بالحنث ، وفي الصحيحين وصحيح الترمذي : ( ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، قال له موسى : أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا قال : وهذه أشد من الأولى . قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) لفظ البخاري . وفي التفسير : إن الخضر مر بغلمان يلعبون فأخذ بيده غلاما ليس فيهم أضوأ منه ، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه ، فقتله . قال أبو العالية : لم يره إلا موسى ، ولو رأوه لحالوا بينه وبين الغلام .
قلت : ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة ، فإنه يحتمل أن يكون دمغه أولا بالحجر ، ثم أضجعه فذبحه ، ثم اقتلع رأسه ; والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح . وقرأ الجمهور " زاكية " بالألف وقرأ الكوفيون وابن عامر زكية بغير ألف وتشديد الياء ; قيل المعنى واحد ; قاله الكسائي وقال ثعلب : الزكية أبلغ قال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب قط ، والزكية التي أذنبت ثم تابت .
قوله تعالى : غلاما اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا ؟ فقال الكلبي : كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين ، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين ، وأمه من عظماء القرية الأخرى ، فأخذه الخضر فصرعه ، ونزع رأسه عن جسده . قال الكلبي : واسم الغلام شمعون وقال الضحاك : حيسون وقال وهب : اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى وقال الجمهور : لم يكن بالغا ; ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب ، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام ; فإن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سره ، وأنه طبع كافرا كما في صحيح الحديث ، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا ، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك ; فإن الله - تعالى - الفعال لما يريد ، القادر على ما يشاء ، وفي كتاب العرائس : إن موسى لما قال للخضر أقتلت نفسا زكية الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر ، وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب : كافر لا يؤمن بالله أبدا . وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام ، ومنه قول ليلى الأخيلية :
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها
وقال صفوان لحسان :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وفي الخبر : ( إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض ، ويقسم لأبويه أنه ما فعل ، فيقسمان على قسمه ، ويحميانه ممن يطلبه )
قالوا وقوله : بغير نفس يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس ، وهذا يدل على كبر الغلام ، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا . قال ابن عباس : كان شابا يقطع الطريق ، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس " وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين " والكفر والإيمان من صفات المكلفين ، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه ، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ ، فتعين أن يصار إليه والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق .
قوله تعالى : نكرا اختلف الناس أيهما أبلغ إمرا أو قوله نكرا فقالت فرقة : هذا قتل بين ، وهناك مترقب ; ف نكرا أبلغ ، وقالت فرقة : هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة ف إمرا أبلغ . قال ابن عطية : وعندي أنهما لمعنيين وقوله : إمرا أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم ، ونكرا بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع ; وهذا بين قوله : قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني شرط وهو لازم ، والمسلمون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء ، والتزم للأنبياء . وقوله : قد بلغت من لدني عذرا يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا ، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع ; قاله ابن العربي . ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة ، وأيام المتلوم ثلاثة ; فتأمله .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡٔٗا نُّكۡرٗا ٤٧
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا ْ} أي: صغيرا { فَقَتَلَهُ ْ} الخضر، فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب. { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ} وأي: نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحد؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر
۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٥٧
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٥٧
" قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " فأكد أيضًا وفي التذكار بالشرط الأول.
۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٥٧
قَالَ
الخضر .أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي ; لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه , وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه , ولا طريق الصواب .
۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا ٥٧
فقال له الخضر معاتبا ومذكرا: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ}
قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا ٦٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا ٦٧
فلهذا قال له موسى : ( إن سألتك عن شيء بعدها ) أي : إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة ( فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ) أي : قد أعذرت إلي مرة بعد مرة .
قال ابن جرير : حدثنا عبد الله بن زياد ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن حمزة الزيات ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له ، بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا "مثقلة.
قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا ٦٧
قوله تعالى : فلا تصاحبني كذا قرأ الجمهور ; أي تتابعني . وقرأ الأعرج " تصحبني " بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ " تصحبني " أي تتبعني وقرأ يعقوب " تصحبني " بضم التاء وكسر الحاء ; ورواها سهل عن أبي عمرو ; قال الكسائي : معناه فلا تتركني أصحبك .
قد بلغت من لدني عذرا أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي ، وقرأ الجمهور : من لدني بضم الدال ، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون ، فهي " لدن " اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي ، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه . وقرأ أبو بكر عن عاصم " لدني " بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وروي عن عاصم " لدني " بضم اللام وسكون الدال ; قال ابن مجاهد : وهي غلط ; قال أبو علي : هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية ، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور عذرا وقرأ عيسى " عذرا " بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " عذري " بكسر الراء وياء بعدها .
مسألة : أسند الطبري قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا لأحد بدأ بنفسه ، فقال يوما : رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب ولكنه قال فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا والذي في صحيح مسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة ولو صبر لرأى العجب قال : وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه : رحمة الله علينا وعلى أخي كذا وفي البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما الذمامة بالذال المعجمة المفتوحة ، وهو بمعنى المذمة بفتح الذال وكسرها ، وهي الرقة والعار من تلك الحرمة : يقال أخذتني منك مذمة ومذمة وذمامة وكأنه استحيا من تكرار مخالفته ، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار .
قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۢ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا ٦٧
فقال [له] موسى: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ ْ} بعد هذه المرة { فَلَا تُصَاحِبْنِي ْ} أي: فأنت معذور بذلك، وبترك صحبتي { قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ْ} أي: أعذرت مني، ولم تقصر.
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا ٧٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا ٧٧
يقول تعالى مخبرا عنهما : إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين ( حتى إذا أتيا أهل قرية ) روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما " أي بخلاء ( فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة ، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل . والانقضاض هو : السقوط .
وقوله : ( فأقامه ) أي : فرده إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ، ودعمه حتى رد ميله . وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) أي : لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا ٧٧
قوله : فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : حتى إذا أتيا أهل قرية في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لئاما ; فطافا في المجالس ف استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض يقول : مائل قال : فأقامه الخضر بيده قال له موسى : قوم أتيناهم فلم يضيفونا ، ولم يطعمونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما .
الثانية : واختلف العلماء في القرية فقيل : هي أبلة ; قاله قتادة ، وكذلك قال محمد بن سيرين ، وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء وقيل : أنطاكية وقيل : بجزيرة الأندلس ; روي ذلك عن أبي هريرة وغيره ، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وقالت فرقة : هي باجروان وهي بناحية أذربيجان وحكى السهيلي وقال : إنها برقة . الثعلبي : هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة ، وإليها تنسب النصارى ; وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك .
الثالثة : كان موسى - عليه السلام - حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر ; ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء ، وفي القرية سأل القوت ; وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة ; منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره .
قلت : وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع ; والله أعلم .
وقيل : لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة ، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت .
الرابعة : في هذه الآية دليل على سؤال القوت ، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام ، والمراد به هنا سؤال الضيافة . بدليل قوله : فأبوا أن يضيفوهما فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا ، وينسبوا إلى اللؤم والبخل ، كما وصفهم بذلك نبينا - عليه الصلاة والسلام - قال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه . ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة ، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة ، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء ، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في " هود " والحمد لله .
ويعفو الله عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن ، وأتى بخطل من القول وزل ; فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها ، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله ، ولا منقصة عليه ; فقال :
وإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضر
قلت : وهذا لعب بالدين ، وانسلال عن احترام النبيين ، وهي شنشنة أدبية ، وهفوة سخافية ; ويرحم الله السلف الصالح ، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح ، فقالوا : مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك .
الخامسة : قوله تعالى : جدارا الجدار والجدر بمعنى واحد ; وفي الخبر : ( حتى يبلغ الماء الجدر ) . ومكان جدير بني حواليه جدار ، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت ; ومنه الجدري .
السادسة : قوله تعالى : يريد أن ينقض أي قرب أن يسقط ، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله : ( مائل ) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن ، وهو مذهب الجمهور . وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة ، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل ، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير ; فمن ذلك قول الأعشى :
أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
فأضاف النهي إلى الطعن . ومن ذلك قول الآخر :
يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال آخر :
إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
وقال آخر :
في مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
أي ثبوتا في الأرض ; من قولهم : نصل السيف إذا ثبت في الرمية ; فشبه وقع السيوف على رءوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج . وقال حسان بن ثابت :
لو أن اللؤم ينسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيف
وقال عنترة :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقد فسر هذا المعنى بقوله :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس : إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث : اشتكت النار إلى ربها وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن ، منهم أبو إسحاق الإسفراييني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما ، فإن كلام الله - عز وجل - وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين ; لأنه يقص الحق كما أخبر الله - تعالى - في كتابه ،
ومما احتجوا به أن قالوا : لو خاطبنا الله - تعالى - بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا ، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة ، وهو على الله - تعالى - محال ; قال الله - تعالى - : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقال - تعالى - : وتقول هل من مزيد وقال - تعالى - : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وقال - تعالى - : تدعو من أدبر وتولى و اشتكت النار إلى ربها واحتجت النار والجنة وما كان مثلها حقيقة ، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها . وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه . هذا في الآخرة .
وأما في الدنيا ; ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده قال أبو عيسى : وفي الباب عن أبي هريرة ، وهذا حديث حسن غريب .
السادسة : قوله تعالى : فأقامه قيل : هدمه ثم قعد يبنيه .
فقال موسى للخضر : قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا لأنه فعل يستحق أجرا ، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه " قال أبو بكر : وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول - عليه الصلاة والسلام - مجرى التفسير للقرآن ، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان ; على ما قاله بعض الطاعنين ، وقال سعيد بن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام ، وهذا القول هو الصحيح ، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بل والأولياء ، وفي بعض الأخبار : إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن ، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع ، وعرضه خمسون ذراعا ، فأقامه الخضر - عليه السلام - أي سواه بيده فاستقام ; قاله الثعلبي في كتاب العرائس : فقال موسى للخضر لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي طعاما تأكله ; ففي هذا دليل على كرامات الأولياء ، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر - عليه السلام - في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة ; هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي .
وقوله - تعالى - : وما فعلته عن أمري يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام ، كما أوحي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول ; والله أعلم .
الثامنة : واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحت جدار مائل يخاف سقوطه ، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه ; لأن في حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : كان أبو عبيدة يقول : الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة ; والبناء المرتفع ; قال جرير :
ألوى بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طربال
يقال منه : وكن يكن إذا جلس ، وفي الصحاح : الطربال القطعة العالية من الجدار ، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل ، وطرابيل الشام صوامعها . ويقال : طربل بوله إذا مده إلى فوق .
التاسعة : كرامات الأولياء ثابتة ، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة ، والآيات المتواترة ، ولا ينكرها إلا المتبدع الجاحد ، أو الفاسق الحائد ; فالآيات ما أخبر الله - تعالى - في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف ، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت ، وهي ليست بنبية ; على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر - عليه السلام - من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار . قال بعض العلماء : ولا يجوز أن يقال كان نبيا ; لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد ، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا نبي بعدي وقال - تعالى - : وخاتم النبيين والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة ، فوجب أن يكونا غير نبيين ، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا - عليه الصلاة والسلام - نبي ، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده .
قلت : الخضر كان نبيا - على ما تقدم - وليس بعد نبينا - عليه الصلاة والسلام - نبي ، أي يدعي النبوة بعده أبدا ; والله أعلم .
العاشرة : اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا ؟ على قولين : [ أحدهما ] أنه لا يجوز ; وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بعين خوف المكر ، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له ; وقد حكي عن السري أنه كان يقول : لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح : السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به ; ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف ، وحصل له الأمن . ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة ، كما قال - عز وجل - : تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة ، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به ; ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : إنما الأعمال بالخواتيم . [ القول الثاني ] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي ; ألا ترى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - يجوز أن يعلم أنه ولي ، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي الله - تعالى - ، فجاز أن يعلم ذلك . وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة ، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم ، بل كانوا أكثر تعظيما لله - سبحانه وتعالى - ، وأشد خوفا وهيبة ; فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم . وكان الشبلي يقول : أنا أمان هذا الجانب ; فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم ، واستولوا على بغداد ، ويقول الناس : مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم . ولا يقال : إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله ، لجواز أن يكون ذلك استدراجا ، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا ، لأن فيه إبطال الكرامات . وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله : فانسلخ منها فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية . وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم ; والله أعلم .
والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار ، والمعجزة من شرطها الإظهار . وقيل : الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك . وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة ، والحمد لله - تعالى - وحده لا شريك له . وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات ، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة ، فقالوا : هذا تمر يثرب ; فاقتصوا آثارهم ، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد ، وأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا ; فقال عاصم بن ثابت أمير السرية : أما فوالله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر ، اللهم أخبر عنا نبيك ، فرموا بالنبل فقتلواعاصما في سبعة ، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق ، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخر ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم ، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر والله لا أصحبكم ; إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ; فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر ، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بن عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ; فأخبر عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته ، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه ، قالت : فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي ; فقال : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك . قالت : والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب ; والله لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده ، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر ; وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله - تعالى - خبيبا ; فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب : دعوني أركع ركعتين ; فتركوه فركع ركعتين ثم قال : لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت ; ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا ; ثم قال :
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بنو الحارث ، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا ; فاستجاب الله - تعالى - لعاصم يوم أصيب ; فأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه خبرهم وما أصيبوا . وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه ، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر ; فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا . وقال ابن إسحاق في هذه القصة : وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر ، فلما حالت بينه وبينهم قالوا : دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه ، فبعث الله - تعالى - الوادي فاحتمل عاصما فذهب ، وقد كان عاصم أعطى الله - تعالى - عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته ، فمنعه الله - تعالى - بعد وفاته مما امتنع منه في حياته . وعن عمرو بن أمية الضمري : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه عينا وحده فقال : جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته ، فوقع في الأرض ، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ، ثم التفت فكأنما ابتلعته الأرض . وفي رواية أخرى زيادة : فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة ; ذكره البيهقي .
الحادية عشرة : ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله ، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم ، وهم الحجة على غيرهم . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبد الله ما اسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل .
قلت : وهذا الحديث لا يناقضه قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن ; فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها ، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال ، وهي من أفضل الأموال ; قال - عليه الصلاة والسلام - : نعم المال الصالح للرجل الصالح . وقد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية ; والله الموفق للهداية .
الثانية عشرة : قوله - تعالى - : لاتخذت عليه أجرا فيه دليل على صحة جواز الإجارة ، وهي سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة " القصص " إن شاء الله - تعالى - . وقرأ الجمهور لاتخذت وأبو عمرو " لتخذت " وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة ، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ ، مثل قولك : تبع واتبع ، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء ، ولم يدغمها بعضهم وفي حديث أبي بن كعب : ( لو شئت لأوتيت أجرا ) وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض .
فعند ذلك قال له الخضر هذا فراق بيني وبينك بحكم ما شرطت على نفسك . وتكريره بيني وبينك وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد . قال سيبويه : كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك ; أي منا . وقال ابن عباس : وكان قول موسى في السفينة والغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا ، فكان سبب الفراق . وقال وهب بن منبه : كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع .
الثالثة عشرة : سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا تأويل الشيء مآله أي قال له : إني أخبرك لم فعلت ما فعلت . وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر : إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر .
فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا ٧٧
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ْ} أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ْ} أي: قد عاب واستهدم { فَأَقَامَهُ ْ} الخضر أي: بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى: { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ْ} أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟. فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر الخضر منه
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ٨٧
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ٨٧
( قال هذا فراق بيني وبينك ) [ أي : لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، فهو فراق بيني وبينك ] ، ( ، سأنبئك بتأويل ) أي : بتفسير ( ما لم تستطع عليه صبرا ) .
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ٨٧
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
فعند ذلك قال له الخضر " هذا فراق بيني وبينك " بحكم ما شرطت على نفسك .
وتكريره " بيني وبينك " وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد .
قال سيبويه : كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك ; أي منا .
وقال ابن عباس : وكان قول موسى في السفينة والغلام لله , وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا , فكان سبب الفراق .
وقال وهب بن منبه : كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع .سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
تأويل الشيء مآله أي قال له : إني أخبرك لم فعلت ما فعلت .
وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر : إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر .
قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا ٨٧
{ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ْ} فإنك شرطت ذلك على نفسك، فلم يبق الآن عذر، ولا موضع للصحبة، { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ} أي: سأخبرك بما أنكرت عليَّ، وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب، وما يئول إليه الأمر.
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا ٩٧
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا ٩٧
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى ، عليه السلام ، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر ، عليه السلام ، على باطنة فقال إن : السفينة إنما خرقتها لأعيبها ؛ [ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة ) يأخذ كل سفينة ) صالحة ، أي : جيدة ) غصبا ) فأردت أن أعيبها ] لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها . وقد قيل : إنهم أيتام .
و [ قد ] روى ابن جريج عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي ؛ أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد ، وقد تقدم أيضا في رواية البخاري ، وهو مذكور في التوراة في ذرية " العيص بن إسحاق " وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة ، والله أعلم
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا ٩٧
قوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر استدل بهذا من قال : إن المسكين أحسن حالا من الفقير ، وقد مضى هذا المعنى مستوفى من سورة " براءة " . وقد قيل : إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر ، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين ; إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها ، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب : مسكين . وقال كعب وغيره : كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى ، وخمسة يعملون في البحر . وقيل : كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر . وقد ذكر النقاش أسماءهم ; فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما ; والثاني أعور ، والثالث أعرج ، والرابع آدر ، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم ; والخمسة الذين لا يطيقون العمل : أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون ، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم ; ذكره الثعلبي . وقرأت فرقة : " لمساكين " بتشديد السين ، واختلف في ذلك فقيل : هم ملاحو السفينة ، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة ، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمي الجميع مساكين . وقالت فرقة : أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك . والأظهر قراءة مساكين بالتخفيف جمع مسكين ، وأن معناها : إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم . والله أعلم .
قوله تعالى : فأردت أن أعيبها أي أجعلها ذات عيب ، يقال : عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب ، فهو معيب وعائب .
وقوله : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا قرأ ابن عباس وابن جبير ( صحيحة ) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان ( صالحة ) . و ( وراء ) أصلها بمعنى خلف ; فقال بعض المفسرين : إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه . والأكثر على أن معنى ( وراء ) هنا أمام ; يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا " . قال ابن عطية : وراءهم هو عندي على بابه ; وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام ، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف ، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي ، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد ، فهذه الآية معناها : إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك ; ومن قرأ " أمامهم " أراد في المكان ، أي كأنهم يسيرون إلى بلد ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : الصلاة أمامك يريد في المكان ، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان ; وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ; ووقع لقتادة في كتاب الطبري وكان وراءهم ملك قال قتادة : أمامهم ألا تراه يقول : من ورائهم جهنم وهي بين أيديهم ; وهذا القول غير مستقيم ، وهذه هي العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها ; قاله الزجاج .
قلت : وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة ; قال الهروي قال ابن عرفة : يقول القائل كيف قال " من ورائه " وهي أمامه ؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قطرب أن هذا من الأضداد ، وأن وراء في معنى قدام ، وهذا غير محصل ; لأن أمام ضد وراء ، وإنما يصلح هذا في الأوقات ، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال : ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه ، لأنه يخلفه إلى وقت وعده ; وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال : إنما يقال هذا في الأوقات ، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك ; قال الفراء : وجوزه غيره ; والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك ، فأخبر الله - تعالى - الخضر حتى عيب السفينة ; وذكره الزجاج . وقال الماوردي : اختلف أهل العربية في استعمال وراء موضع أمام على ثلاثة أقوال : [ أحدها ] يجوز استعمالها بكل حال وفي كل مكان وهو من الأضداد قال الله - تعالى - : ومن ورائهم جهنم أي من أمامهم : وقال الشاعر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
يعني أمامي . [ والثاني ] أن وراء تستعمل في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها . [ الثالث ] أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما ; وهذا قول علي بن عيسى .
واختلف في اسم هذا الملك فقيل : هدد بن بدد . وقيل : الجلندي ; وقاله السهيلي . وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال : هو ( هدد بن بدد والغلام المقتول ) اسمه حيسور ، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المروزي ، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة : وهي حيسون وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها ; ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها ، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه ، وقد تقدم . وفي صحيح مسلم وجه الحكمة بخرق السفينة وذلك قوله : ( فإذا جاء الذي يسخرها وجدها منخرقة فتجاوزها ، فأصلحوها بخشبة . . . ) الحديث . وتحصل من هذا الحض على الصبر في الشدائد ، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد ، وهذا معنى قوله : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا ٩٧
{ أَمَّا السَّفِينَةُ ْ} التي خرقتها { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} يقتضي ذلك الرقة عليهم، والرأفة بهم. { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ْ} أي: كان مرورهم على ذلك الملك الظالم، فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما، فأردت أن أخرقها ليكون فيها عيب، فتسلم من ذلك الظالم.
وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٠٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٠٨
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور . وفي الحديث عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " . رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، به ؛ ولهذا قال : ( فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) أي : يحملهما حبه على متابعته على الكفر .
قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب .
وصح في الحديث : " لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له " . وقال تعالى : ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) [ البقرة : 216 ] .
وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٠٨
قوله تعالى : وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين جاء في صحيح الحديث : أنه طبع يوم طبع كافرا وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا ; وقد تقدم .
قوله تعالى : فخشينا أن يرهقهما قيل : هو من كلام الخضر - عليه السلام - ، وهو الذي يشهد له سياق الكلام ، وهو قول كثير من المفسرين ; أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة . وقيل : هو من كلام الله - تعالى - وعنه عبر الخضر ; قال الطبري : معناه فعلمنا ; وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا ، وهذا كما كنى عن العلم بالخوف في قوله إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . وحكي أن أبيا قرأ " فعلم ربك " وقيل : الخشية بمعنى الكراهة ; يقال : فرقت بينهما خشية أن يقتتلا ; أي كراهة ذلك . قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة ، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين . وقرأ ابن مسعود " فخاف ربك " وهذا بين في الاستعارة ، وهذا نظير ما وقع في القرآن في جهة الله - تعالى - من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون . ويرهقهما يجشمهما ويكلفهما ; والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه .
وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٠٨
{ وَأَمَّا الْغُلَامُ ْ} الذي قتلته { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ} وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟" وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه
فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ١٨
نسخ
مشاركة
التفسير
فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ١٨
وقوله [ تعالى ] ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) أي : ولدا أزكى من هذا ، وهما أرحم به منه ، قاله ابن جريج .
وقال قتادة : أبر بوالديه .
وقد تقدم أنهما بدلا جارية . وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم . قاله ابن جريح
فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ١٨
قوله تعالى : فأردنا أن يبدلهما ربهما قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال ، وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال ; أي أن يرزقهما الله ولدا . خيرا منه زكاة أي دينا وصلاحا .
يقال : بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونزل وأنزل .
وأقرب رحما قرأ ابن عباس " رحما " بالضم ، قال الشاعر :
وكيف بظلم جارية ومنها اللين والرحم
الباقون بسكونها ; ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا
واختلف عن أبي عمرو ، ورحما معطوف على " زكاة " أي رحمة ; يقال : رحمه رحمة ورحما ; وألفه للتأنيث ، ومذكره رحم . وقيل : الرحم هنا بمعنى الرحم ; قرأها ابن عباس " وأوصل رحما " أي رحما ، وقرأ أيضا " أزكى منه " . وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بدلا جارية ; قال الكلبي فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله - تعالى - على يديه أمة من الأمم . قتادة : ولدت اثني عشر نبيا ، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا . وعن ابن عباس : فولدت جارية ولدت نبيا ; وفي رواية : أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا ; وقاله جعفر بن محمد عن أبيه ; قال علماؤنا : وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل ، وهذه المرأة لم تكن فيهم .
ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد ، ومن سلم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء . قال قتادة : لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما . فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله - تعالى - ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب .
فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ١٨
{ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ْ} أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.
وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا ٢٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا ٢٨
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة; لأنه قال أولا ( حتى إذا أتيا أهل قرية ) [ الكهف : 77 ] وقال هاهنا : فكان لغلامين يتيمين في المدينة كما قال تعالى : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك [ محمد : 13 ] ، وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ الزخرف : 31 ] يعني : مكة والطائف . ومعنى الآية : أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما . قال عكرمة ، وقتادة ، وغير واحد : كان تحته مال مدفون لهما . وهذا ظاهر السياق من الآية ، وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله . وقال العوفي عن ابن عباس : كان تحته كنز علم . وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال مجاهد : صحف فيها علم ، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك ، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا بشر بن المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس القتباني عن ابن حجيرة ، عن أبي ذر رضي الله عنه ، [ رفعه ] قال : " إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه : لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " . بشر بن المنذر هذا يقال له : قاضي المصيصة . قال الحافظ أبو جعفر العقيلي : في حديثه وهم . وقد روي في هذا آثار عن السلف ، فقال ابن جرير في تفسيره : حدثني يعقوب ، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة حدثنا سلمة ، عن نعيم العنبري - وكان من جلساء الحسن - قال : سمعت الحسن - يعني البصري - يقول في قوله : وكان تحته كنز لهما قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش عن عمر مولى غفرة قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف : وكان تحته كنز لهما قال : كان لوحا من ذهب مصمت مكتوبا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجب لمن عرف النار ثم ضحك! عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، حدثنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى وكان تحته كنز لهما قال : سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى : وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ الأنبياء : 47 ] قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء ، وكان نساجا . وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ، وورد به الحديث المتقدم وإن صح ، لا ينافي قول عكرمة : أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحا من ذهب ، وفيه مال جزيل ، أكثر ما زادوا أنه كان مودعا فيه علم ، وهو حكم ومواعظ ، والله أعلم . وقوله : وكان أبوهما صالحا فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت السنة به . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاح ، وتقدم أنه كان الأب السابع . [ فالله أعلم ] وقوله : فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما : هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى; لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله; وقال في الغلام : فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه وقال في السفينة : فأردت أن أعيبها ، فالله أعلم . وقوله : رحمة من ربك وما فعلته عن أمري أي : هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة ، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ، ووالدي الغلام ، وولدي الرجل الصالح ، وما فعلته عن أمري لكني أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ، عليه السلام ، مع ما تقدم من قوله : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما . وقال آخرون : كان رسولا . وقيل بل كان ملكا . نقله الماوردي في تفسيره . وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيا . بل كان وليا . فالله أعلم . وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، عليه السلام قالوا : وكان يكنى أبا العباس ، ويلقب بالخضر ، وكان من أبناء الملوك ، ذكره النووي في تهذيب الأسماء ، وحكى هو وغيره في كونه باقيا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات وآثارا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث . ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها أحاديث التعزية وإسناده ضعيف . ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ الأنبياء : 34 ] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولا حضر عنده ، ولا قاتل معه . ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه; لأنه عليه السلام كان مبعوثا إلى جميع الثقلين : الجن والإنس ، وقد قال : " لو كان موسى وعيسى حيين ما وسعهما إلا اتباعي " وأخبر قبل موته بقليل : أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف ، إلى غير ذلك من الدلائل . قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ في الخضر قال ] إنما سمي " خضرا " ; لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تحته [ تهتز ] خضراء " . ورواه أيضا عن عبد الرزاق . وقد ثبت أيضا في صحيح البخاري ، عن همام ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما سمي الخضر ; لأنه جلس على فروة ، فإذا هي تهتز [ من خلفه ] خضراء " والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس ، وهو الهشيم من النبات ، قاله عبد الرزاق . وقيل : المراد بذلك وجه الأرض . وقوله : ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا أي : هذا تفسير ما ضقت به ذرعا ، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال : [ ما لم ] تسطع وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا فقال : سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف ، كما قال تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه وهو الصعود إلى أعلاه ، وما استطاعوا له نقبا [ الكهف : 97 ] ، وهو أشق من ذلك ، فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى والله أعلم . فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب : أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما ، وفتى موسى معه تبع ، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون ، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى ، عليهما السلام . وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، حدثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال : شرب الفتى من الماء [ فخلد ، فأخذه ] العالم ، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر ، فإنها تموج به إلى يوم القيامة; وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب إسناد ضعيف ، والحسن متروك ، وأبوه غير معروف . . . . "
وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا ٢٨
قوله تعالى : وأما الجدار فكان لغلامين هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم ، واسمهما أصرم وصريم . وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : لا يتم بعد بلوغ هذا هو الظاهر . وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ إن كانا يتيمين ، على معنى الشفقة عليهما . وقد تقدم أن اليتم في الناس من قبل فقد الأب ، وفي غيرهم من الحيوان من قبل فقد الأم .
ودل قوله : في المدينة على أن القرية تسمى مدينة ; ومنه الحديث ( أمرت بقرية تأكل القرى . . . ) وفي حديث الهجرة ( لمن أنت ) فقال الرجل : من أهل المدينة ; يعني مكة .
قوله تعالى : وكان تحته كنز لهما اختلف الناس في الكنز ; فقال عكرمة وقتادة : كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع ; وقد مضى القول فيه . وقال ابن عباس : ( كان علما في صحف مدفونة ) وعنه أيضا قال : ( كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن لها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وروي نحوه عن عكرمة وعمر مولى غفرة ، ورواه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله تعالى : وكان أبوهما صالحا ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دنية . وقيل : هو الأب السابع ; قاله جعفر بن محمد . وقيل : العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح ; وكان يسمى كاشحا ; قاله مقاتل . اسم أمهما دنيا ; ذكره النقاش . ففيه ما يدل على أن الله - تعالى - يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله - تعالى - يحفظ الصالح في سبعة من ذريته ; وعلى هذا يدل قوله - تعالى - : إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين
قوله تعالى : وما فعلته عن أمري يقتضي أن الخضر نبي ; وقد تقدم الخلاف في ذلك .
ذلك تأويل أي تفسير .
ما لم تسطع عليه صبرا قرأت فرقة " تستطع " وقرأ الجمهور تسطع قال أبو حاتم : كذا نقرأ كما في خط المصحف . وهنا خمس مسائل :
الأولى : إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها ، قيل له : اختلف في ذلك ; فقال عكرمة لابن عباس : لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه ؟ فقال : ( شرب الفتى من الماء فخلد ، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة ثم أرسله في البحر ، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه ) قال القشيري : وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون ; فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته ; والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر . وقال شيخنا الإمام أبو العباس : يحتمل أن يكون اكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم .
الثانية : إن قال قائل : كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله - تعالى - ، وقال في خرق السفينة : فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه ؟ قيل له : إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله - تعالى - لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله - تعالى - ، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله - تعالى - أن يريده وقيل : لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله - تعالى - وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم - عليه السلام - في قوله : وإذا مرضت فهو يشفين فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله - تعالى - ، وأسند إلى نفسه المرض ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، فلا يضاف إليه - سبحانه وتعالى - من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح ، وهذا كما قال - تعالى - : بيدك الخير واقتصر عليه فلم ينسب الشر إليه ، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع ، إذ هو على كل شيء قدير ، وهو بكل شيء خبير ، ولا اعتراض بما حكاه - عليه السلام - عن ربه - عز وجل - أنه يقول يوم القيامة : ( يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني ) فإن ذلك تنزل في الخطاب وتلطف في العتاب مقتضاه التعريف بفضل ذي الجلال وبمقادير ثواب هذه الأعمال وقد تقدم هذا المعنى والله - تعالى - أعلم . ولله - تعالى - أن يطلق على نفسه ما يشاء ، ولا نطلق نحن إلا ما أذن لنا فيه من الأوصاف الجميلة والأفعال الشريفة جل وتعالى عن النقائص والآفات علوا كبيرا . وقال في الغلام : فأردنا فكأنه أضاف القتل إلى نفسه ، والتبديل إلى الله - تعالى - والأشد كمال الخلق والعقل . وقد مضى الكلام فيه في " الأنعام " والحمد لله .
الثالثة : قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية ، فقالوا : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم . وقالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوها عن الأعيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق للخضر ; فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم ، عما كان عند موسى من تلك الفهوم . وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون . قال شيخنا - رضي الله عنه - : وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب ; لأنه إنكار ما علم من الشرائع ; فإن الله - تعالى - قد أجرى سنته ، وأنفذ حكمته ، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه ، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه ، المبينون شرائعه وأحكامه ; اختارهم لذلك ، وخصهم بما هنالك ; كما قال - تعالى - : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير وقال - تعالى - : الله أعلم حيث يجعل رسالته وقال - تعالى - : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين إلى غير ذلك من الآيات . وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي ، واليقين الضروري ، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله - تعالى - التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل ، فمن قال : إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر ، يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب ، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا - عليه الصلاة والسلام - ; الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول . وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم الله - تعالى - وأنه يعمل بمقتضاه ، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة ، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإن هذا نحو ما قاله - عليه الصلاة والسلام - : إن روح القدس نفث في روعي . . . الحديث .
الرابعة : ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات - صلى الله عليه وسلم - . وقالت فرقة : حي لأنه شرب من عين الحياة ، وأنه باق في الأرض وأنه يحج البيت . قال ابن عطية : وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره ، وكلها لا تقوم على ساق . ولو كان الخضر - عليه السلام - حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور ; والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره . ومما يقضي بموت الخضر - عليه السلام - الآن قوله - عليه الصلاة السلام - : أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد .
قلت : إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي ، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره . والحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال صلى بنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال : أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد قال ابن عمر : فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة ; وإنما قال - عليه الصلاة والسلام - : لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن . ورواه أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت بشهر : تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة وفي أخرى قال سالم : تذاكرنا أنها هي مخلوقة يومئذ . وفي أخرى : ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ . وفسرها عبد الرحمن صاحب السقاية قال : نقص العمر . وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث قال علماؤنا : وحاصل ما تضمنه هذا الحديث أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر قبل موته بشهر أن كل من كان من بني آدم موجودا في ذلك لا يزيد عمره على مائة سنة ; لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ما من نفس منفوسة وهذا اللفظ لا يتناول الملائكة ولا الجن إذ لم يصح عنهم أنهم كذلك ، ولا الحيوان غير العاقل ; لقوله : ممن هو على ظهر الأرض أحد وهذا إنما يقال بأصل وضعه على من يعقل ، فتعين أن المراد بنو آدم . وقد بين ابن عمر هذا المعنى ; فقال : يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن . ولا حجة لمن استدل به على بطلان قول من يقول : إن الخضر حي لعموم قوله : ما من نفس منفوسة لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق فليس نصا فيه ، بل هو قابل للتخصيص . فكما لم يتناول عيسى - عليه السلام - ، فإنه لم يمت ولم يقتل فهو حي بنص القرآن ومعناه ، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة ، فكذلك لم يتناول الخضر - عليه السلام - وليس مشاهدا للناس ، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا ، فمثل هذا العموم لا يتناوله . وقد قيل : إن أصحاب الكهف أحياء ويحجون مع عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، كما تقدم . وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا . وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتاب العرائس له : والصحيح أن الخضر نبي معمر محجوب عن الأبصار ; وروى محمد بن المتوكل عن ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب قال : الخضر - عليه السلام - من ولد فارس ، وإلياس من بني إسرائيل يلتقيان كل عام في الموسم . وعن عمرو بن دينار قال : إن الخضر وإلياس لا يزالان حيين في الأرض ما دام القرآن على الأرض ، فإذا رفع ماتا . وقد ذكر شيخنا الإمام أبو محمد عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي اللخمي في شرح الرسالة له للقشيري حكايات كثيرة عن جماعة من الصالحين والصالحات بأنهم رأوا الخضر - عليه السلام - ولقوه ، يفيد مجموعها غاية الظن بحياته مع ما ذكره النقاش والثعلبي وغيرهما . وقد جاء في صحيح مسلم : أن الدجال ينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو - من خير الناس . . . الحديث ; وفي آخره قال أبو إسحاق : يعني أن هذا الرجل هو الخضر . وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الهواتف : بسند يوقفه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - ( أنه لقي الخضر وعلمه هذا الدعاء ، وذكر أن فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قاله في أثر كل صلاة ، وهو : يا من لا يشغله سمع عن سمع ، ويا من لا تغلطه المسائل ، ويا من لا يتبرم من إلحاح الملحين ، أذقني برد عفوك ، وحلاوة مغفرتك ) وذكر أيضا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذا الدعاء بعينه نحوا مما ذكر عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - في سماعه من الخضر . وذكر أيضا اجتماع إلياس مع النبي - عليه الصلاة والسلام - . وإذا جاز بقاء إلياس إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جاز بقاء الخضر ، وقد ذكر أنهما يجتمعان عند البيت في كل حول ، وأنهما يقولان عند افتراقهما : ( ما شاء الله ما شاء الله ، لا يصرف السوء إلا الله ، ما شاء الله ما شاء الله ، ما يكون من نعمة فمن الله ، ما شاء الله ما شاء الله ، توكلت على الله ، حسبنا الله ونعم الوكيل ) وأما خبر إلياس فيأتي في " الصافات " إن شاء الله - تعالى - .
وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال : ( لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم أهل البيت كل نفس ذائقة الموت - الآية - إن في الله خلفا من كل هالك ، وعوضا من كل تالف ، وعزاء من كل مصيبة ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ) فكانوا يرون أنه الخضر - عليه الصلاة والسلام - . يعني أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - . والألف واللام في قوله : على الأرض للعهد لا للجنس وهي أرض العرب ، بدليل تصرفهم فيها وإليها غالبا دون أرض يأجوج ومأجوج ، وأقاصي جزر الهند والسند مما لا يقرع السمع اسمه ، ولا يعلم علمه . ولا جواب عن الدجال .
قال السهيلي : واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا ; فعن ابن منبه أنه قال : أبليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح . وقيل : هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق ، وأن أباه كان ملكا ، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى ، وأنها ولدته في مغارة ، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية ، فأخذه الرجل فرباه ، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث ، كان ممن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه ، فلما استحسن خطه ومعرفته ، وبحث عن جلية أمره عرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها ، فهو حي إلى أن يخرج الدجال ، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله - تعالى - . وقيل : لم يدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; وهذا لا يصح وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي - رحمه الله تعالى - : إنه مات قبل انقضاء المائة ، من قوله - عليه الصلاة والسلام - : إلى رأس مائة عام لا يبقى على هذه الأرض ممن هو عليها أحد يعني من كان حيا حين قال هذه المقالة
قلت : قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه ، وبينا حياة الخضر إلى الآن ، والله أعلم .
الخامسة : قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى : أوصني ; قال : كن بساما ولا تكن ضحاكا ، ودع اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران .
وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا ٢٨
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ} الذي أقمته { فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ} أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما، لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما.
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ} أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، وأعدته مجانا.
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ} أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ} أي: أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره.
{ ذَلِكَ ْ} الذي فسرته لك { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ} وفي هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله. فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ}
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْ}
ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ}
ومنها: استحباب كون خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهر قوله: { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ} إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ} والإشارة إلى السفر المجاوز، لمجمع البحرين، وأما الأول، فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفرعلى الحقيقة. وأما الأخير، فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ} فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبيا، بل عبدا صالحا، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر ذلك كما ذكره غيره.
وأما قوله في آخر القصة: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ} فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ} { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْ}
ومنها: أن العلم الذي يعلمه الله [لعباده] نوعان:
علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده. ونوع علم لدني، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْ}
ومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام:
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ} فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا، وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم.
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر.
ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة.
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه.
فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله: { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ} أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أن العلم النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: { أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ}
ومنها: أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ} فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول { إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْ}
ومنها: أن العزم على فعل الشيء، ليس بمنزلة فعله، فإن موسى قال: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ} فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث.
ومنها: جواز ركوب البحر، في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْ}
ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام، أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها، أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما، أعظم شرا منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته، وإن كان يظن أنه خير، فالخير ببقاء دين أبويه، وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها، داخل في هذا.
ومنها: القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر لقوله: { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} ولم ينكر عليهم عملهم.
ومنها: أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين، لهم سفينة.
ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ}
ومنها: أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ ْ}
ومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ} وأما الخير، فأضافه إلى الله تعالى لقوله: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ} كما قال إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ} وقالت الجن: { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ} مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.
وَيَسَۡٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٣٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَسَۡٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٣٨
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( ويسألونك ) يا محمد ( عن ذي القرنين ) أي : عن خبره . وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف .
وقد أورد ابن جرير هاهنا ، والأموي في مغازيه ، حديثا أسنده وهو ضعيف ، عن عقبة بن عامر ، أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء ، فكان فيما أخبرهم به : " أنه كان شابا من الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ، وأنه علا به ملك في السماء ، وذهب به إلى السد ، ورأى أقواما وجوههم مثل وجوه الكلاب " . وفيه طول ونكارة ، ورفعه لا يصح ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل . والعجب أن أبا زرعة الرازي ، مع جلالة قدره ، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة ، وذلك غريب منه ، وفيه من النكارة أنه من الروم ، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني ، الذي تؤرخ به الروم ، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، أول ما بناه وآمن به واتبعه ، وكان معه الخضر ، عليه السلام ، وأما الثاني فهو ، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني ، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور ، والله أعلم . وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم . وقد كان قبل المسيح ، عليه السلام ، بنحو من ثلاثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل ، كما ذكره الأزرقي وغيره ، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم ، عليه السلام ، وقرب إلى الله قربانا ، وقد ذكرنا طرفا من أخباره في كتاب " البداية والنهاية " ، بما فيه كفاية ولله الحمد .
وقال وهب بن منبه : كان ملكا ، وإنما سمي ذا القرنين ؛ لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، قال : وقال بعض أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس . وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين ، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل قال : سئل علي ، رضي الله عنه ، عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدا ناصح الله فناصحه ، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين .
وكذا رواه شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل ، سمع عليا يقول ذلك .
ويقال : إنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب ، من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب .
وَيَسَۡٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٣٨
قوله تعالى : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا قال ابن إسحاق : وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتي ما لم يؤت غيره ، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها ، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق . قال ابن إسحاق : حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح . قال ابن هشام : واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه . قال ابن إسحاق : وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذي القرنين فقال : ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب وقال خالد : وسمع عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - رجلا يقول يا ذا القرنين ، فقال : ( اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ) قال ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان ؟ أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أم لا ؟ والحق ما قال .
قلت : وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - مثل قول عمر ; سمع رجلا يدعو آخر يا ذا القرنين ، فقال علي : ( أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة ) وعنه أنه عبد ملك ( بكسر اللام ) صالح نصح الله فأيده . وقيل : هو نبي مبعوث فتح الله - تعالى - على يديه الأرض . وذكر الدارقطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين ، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة ، وينقضها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة ; فيما ذكر بعض أهل العلم . وقال السهيلي : وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها ; كما أن قصة خالد بن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها ، وهو مالك - عليه السلام - وعلى جميع الملائكة أجمعين . ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته ، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار ، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار الحدثان ، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها ، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد . واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا ; فأما اسمه فقيل : هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني ، وقد تشدد قافه فيقال : المقدوني . وقيل : اسمه هرمس . ويقال : اسمه هرديس . وقال ابن هشام : هو الصعب بن ذي يزن الحميري من ولد وائل بن حمير ; وقد تقدم قول ابن إسحاق . وقال وهب بن منبه : هو رومي . وذكر الطبري حديثا عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أن ذا القرنين شاب من الروم وهو حديث واهي السند ; قاله ابن عطية . قال السهيلي : والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان : أحدهما : كان على عهد إبراهيم - عليه السلام - ، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم - عليه السلام - حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام . والآخر : أنه كان قريبا من عهد عيسى - عليه السلام - . وقيل : إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم - عليه السلام - ، أو قبله بزمان . وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به ، فقيل : إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما ; ذكره الثعلبي وغيره . والضفائر قرون الرأس ; ومنه قول الشاعر :
فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقيل : إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس ، فقص ذلك ، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس ، فسمي بذلك ذا القرنين . وقيل : إنما سمي بذلك لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا . وقالت طائفة : إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين ; أو قرني الشيطان بها . وقال وهب بن منبه : كان له قرنان تحت عمامته . وسأل ابن الكواء عليا - رضي الله تعالى عنه - عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا ؟ فقال : ( لا ذا ولا ذا ، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله - تعالى - فشجوه على قرنه ، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر ، فسمي ذا القرنين ) واختلفوا أيضا في وقت زمانه ، فقال قوم : كان بعد موسى . وقال قوم : كان في الفترة بعد عيسى وقيل : كان في وقت إبراهيم وإسماعيل . وكان الخضر - عليه السلام - صاحب لوائه الأعظم ; وقد ذكرناه في " البقرة " . وبالجملة فإن الله - تعالى - مكنه وملكه ودانت له الملوك ، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة : مؤمنان وكافران ; فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر ، والكافران نمرود وبختنصر ; وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله - تعالى - : ليظهره على الدين كله وهو المهدي وقد قيل : إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي وقيل : لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا . وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن . وقيل : لأنه دخل الظلمة والنور . وقيل : لأنه ملك فارس والروم .
وَيَسَۡٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا ٣٨
كان أهل الكتاب أو المشركون، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة ذي القرنين، فأمره الله أن يقول: { سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ْ} فيه نبأ مفيد، وخطاب عجيب.
أي: سأتلوا عليكم من أحواله، ما يتذكر فيه، ويكون عبرة، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يتله عليهم.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٤٨
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٤٨
وقوله ( إنا مكنا له في الأرض ) أي : أعطيناه ملكا عظيما متمكنا ، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك ، من التمكين والجنود ، وآلات الحرب والحصارات ؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ، وخدمته الأمم ، من العرب والعجم ؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها .
وقوله : ( وآتيناه من كل شيء سببا ) : قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : يعني علما .
وقال قتادة أيضا في قوله : ( وآتيناه من كل شيء سببا ) قال : منازل الأرض وأعلامها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( وآتيناه من كل شيء سببا ) قال : تعليم الألسنة ، كان لا يغزو قوما إلا كلمهم بلسانهم .
وقال ابن لهيعة : حدثني سالم بن غيلان ، عن سعيد بن أبي هلال ؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال : ( وآتيناه من كل شيء سببا ) .
وهذا الذي أنكره معاوية ، رضي الله عنه ، على كعب الأحبار هو الصواب ، والحق مع معاوية في الإنكار ؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب : " إن كنا لنبلو عليه الكذب " يعني : فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته ، ولكن الشأن في صحيفته ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض . وتأويل كعب قول الله : ( وآتيناه من كل شيء سببا ) واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ، ولا إلى الترقي في أسباب السماوات . وقد قال الله في حق بلقيس : ( وأوتيت من كل شيء ) [ النمل : 23 ] أي : مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب ، أي : الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء ، وكبت ملوك الأرض ، وإذلال أهل الشرك . قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا ، والله أعلم .
وفي " المختارة " للحافظ الضياء المقدسي ، من طريق قتيبة ، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب ، عن حبيب بن حماز قال : كنت عند علي ، رضي الله عنه ، وسأله رجل عن ذي القرنين : كيف بلغ المشارق والمغارب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب ، وقدر له الأسباب ، وبسط له اليد .
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٤٨
قوله تعالى : إنا مكنا له في الأرض قال علي - رضي الله عنه - : ( سخر له السحاب ، ومدت له الأسباب ، وبسط له في النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ) وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال : إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له انظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه محيطا بها هو البحر وإنما أراد الله - تعالى - أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض فعلم الجاهل وثبت العالم الحديث .
قوله تعالى : وآتيناه من كل شيء سببا قال ابن عباس : ( من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد ) وقال الحسن : بلاغا إلى حيث أراد . وقيل : من كل شيء يحتاج إليه الخلق . وقيل : من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء . وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء .
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا ٤٨
تفسير الآيتين 84 و 85 :ـ
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ْ} أي: ملكه الله تعالى، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له. { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ} أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.
فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٥٨
نسخ
مشاركة
التفسير
فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٥٨
قال ابن عباس : ( فأتبع سببا ) يعني : بالسبب المنزل ] . وقال مجاهد : ( فأتبع سببا ) : منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب .
وفي رواية عن مجاهد : ( سببا ) قال : طريقا في الأرض .
وقال قتادة : أي أتبع منازل الأرض ومعالمها .
وقال الضحاك : ( فأتبع سببا ) أي المنازل .
وقال سعيد بن جبير في قوله : ( فأتبع سببا ) قال : علما . وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى ، والسدي .
وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك .
فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٥٨
فأتبع سببا قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي فأتبع سببا مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو " فاتبع سببا " بوصلها ; أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها . قال الأخفش : تبعته وأتبعته بمعنى ; مثل ردفته وأردفته ، ومنه قوله - تعالى - : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح . قال النحاس : واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال : لأنها من السير ، وحكى هو والأصمعي أنه يقال : تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه ، وأتبعه إذا لحقه ; قال أبو عبيد : ومثله فأتبعوهم مشرقين قال النحاس : وهذا التفريق وإن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل . وقوله - عز وجل - : فأتبعوهم مشرقين ليس في الحديث أنهم لحقوهم ، وإنما الحديث : لما خرج موسى - عليه السلام - وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد ، وهي بمعنى السير ، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون .
فَأَتۡبَعَ سَبَبًا ٥٨
تفسير الآيتين 84 و 85 :ـ
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ْ} أي: ملكه الله تعالى، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له. { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ} أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا ٦٨
نسخ
مشاركة
التفسير
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا ٦٨
وقوله : ( حتى إذا بلغ مغرب الشمس ) أي : فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب ، وهو مغرب الأرض . وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له . وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب ، واختلاق زنادقتهم وكذبهم
وقوله : ( وجدها تغرب في عين حمئة ) أي : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه ، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه .
والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من " الحمأة " وهو الطين ، كما قال تعالى : ( إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ) [ الحجر : 28 ] أي طين أملس . وقد تقدم بيانه .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب حدثني نافع بن أبي نعيم ، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول ( في عين حمئة ) ثم فسرها : ذات حمأة . قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وغير واحد .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار ، عن سعد بن أوس ، عن مصدع ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ( حمئة )
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " وجدها تغرب في عين حامية " يعني حارة . وكذا قال الحسن البصري .
وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب .
قلت : ولا منافاة بين معنييهما ؛ إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و ( حمئة ) في ماء وطين أسود ، كما قال كعب الأحبار وغيره .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام ، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو ، عن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت ، فقال : " في نار الله الحامية [ في نار الله الحامية ] ، لولا ما يزعها من أمر الله ، لأحرقت ما على الأرض " .
قلت : ورواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو ، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا محمد - يعني ابن بشر - حدثنا عمرو بن ميمون ، أنبأنا ابن حاضر ، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف " تغرب في عين حامية " قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا ( حمئة ) فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها : فقال عبد الله : كما قرأتها . قال ابن عباس : فقلت لمعاوية : في بيتي نزل القرآن ؟ فأرسل إلى كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ [ فقال له كعب : سل أهل العربية ، فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة ] في ماء وطين . وأشار بيده إلى المغرب . قال ابن حاضر : لو أني عندكما أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة . قال ابن عباس : وإذا ما هو ؟ قلت : فيما يؤثر من قول تبع ، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه :
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها
في عين ذي خلب وثأط حرمد
قال ابن عباس : ما الخلب ؟ قلت : الطين بكلامهم . [ يعني بكلام حمير ] . قال : ما الثاط ؟ قلت : الحمأة . قال : فما الحرمد ؟ قلت : الأسود . قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلاما فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل .
وقال سعيد بن جبير : بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ : ( وجدها تغرب في عين حمئة ) فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس ، فإنا نجدها في التوراة : تغرب في مدرة سوداء .
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف قال : في تفسير ابن جريج ( ووجد عندها قوما ) قال : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب .
وقوله : ( ووجد عندها قوما ) أي أمة من الأمم ، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم .
وقوله : ( قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) معنى هذا : أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم ، وأظفره بهم وخيره : إن شاء قتل وسبى ، وإن شاء من أو فدى . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا ٦٨
حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي " حامية " أي حارة . الباقون حمئة أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء ، تقول : حمأت البئر حمأ ( بالتسكين ) إذا نزعت حمأتها . وحمئت البئر حمأ ( بالتحريك ) كثرت حمأتها . ويجوز أن تكون " حامية " من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء . وقد يجمع بين القراءتين فيقال : كانت حارة وذات حمأة . وقال عبد الله بن عمرو : نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشمس حين غربت ; فقال : نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض . وقال ابن عباس : ( أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عين حمئة ; وقال معاوية : هي " حامية " فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : فأنا مع أمير المؤمنين ; فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا : يا كعب كيف تجد هذا في التوراة ؟ فقال : أجدها تغرب في عين سوداء ، فوافق ابن عباس ) وقال الشاعر وهو تبع اليماني :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
الخلب : الطين : والثأط : الحمأة . والحرمد : الأسود . وقال القفال قال بعض العلماء : ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها ; لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض ، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض ، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ; ولهذا قال : وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم ، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم . وقال القتبي : ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها ، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم .
ووجد عندها قوما أي عند العين ، أو عند نهاية العين ، وهم أهل جابرس ، ويقال لها بالسريانية : جرجيسا ; يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح ; ذكره السهيلي . وقال وهب بن منبه : ( كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر ، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله - تعالى - : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم أمم جميع الأرض ، وهم أصناف : أمتان بينهما طول الأرض كله ، وأمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ; فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل ; وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل . فقال ذو القرنين : إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ; فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم ؟ وبأي صبر أقاسيهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة ؟ فقال الله - تعالى - : سأظفرك بما حملتك ; أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء ، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك ، يهديك النور من أمامك ، وتحفظك الظلمة من ورائك ; فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه ، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس ; لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك ، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله - تعالى - وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله . وألسنة مختلفة ، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة ; فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان ، حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله - تعالى - وإلى عبادته ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه ، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان ، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان ، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا ، فعجوا إلى الله - تعالى - بصوت واحد : إنا آمنا ; فكشفها عنهم ، وأخذهم عنوة ، ودخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه ، والنور أمامهم يقوده ويدله ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهي هاويل ، وسخر الله - تعالى - يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا ، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم ، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله ، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا ، ففرغ منهم ، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى ، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل ، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض ، ففعل فيها كفعله فيما قبلها ، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله - تعالى - كثيرا ليس لهم عدد ، وليس فيهم مشابهة من الإنس ، وهم أشباه البهائم ; يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع ، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله - تعالى - في الأرض ، وليس لله - تعالى - خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، فإن طالت المدة فسيملئون الأرض ، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ . . . ) وذكر الحديث ; وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية .
قوله تعالى : قلنا ياذا القرنين قال القشيري أبو نصر : إن كان نبيا فهو وحي ، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله - تعالى - .
إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال إبراهيم بن السري : خيره بين هذين كما خير محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ونحوه . وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى أن الله - تعالى - خيره بين هذين الحكمين ; قال النحاس : ورد علي بن سليمان عليه قوله ; لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا ، فكيف يقول لربه - عز وجل - : ثم يرد إلى ربه ؟ وكيف يقول : فسوف نعذبه فيخاطب بالنون ؟ قال : التقدير ; قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين . قال أبو جعفر النحاس : هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء . أما قوله : قلنا ياذا القرنين فيجوز أن يكون الله - عز وجل - خاطبه على لسان نبي في وقته ، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه : فإما منا بعد وإما فداء ، وأما إشكال فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فإن تقديره أن الله - تعالى - لما خيره بين القتل في قوله - تعالى - : إما أن تعذب وبين الاستبقاء في قوله جل وعز : وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال لأولئك القوم : أما من ظلم أي من أقام على الكفر منكم .
فسوف نعذبه أي بالقتل .
ثم يرد إلى ربه أي يوم القيامة .
فيعذبه عذابا نكرا أي شديدا في جهنم .
وأما من آمن وعمل صالحا أي تاب من الكفر .
. قال أحمد بن يحيى : أن في موضع نصب في إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال : ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو ، كما قال :
فسيرا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا ٦٨
تفسير الآيات من 86 حتى 88 :ـ
وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما. { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ} أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ْ} بالكفر { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ْ} أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ْ} أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ} أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٧٨
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٧٨
في قوله : ( أما من ظلم ) أي : من استمر على كفره وشركه بربه ( فسوف نعذبه ) قال قتادة : بالقتل : وقال السدي : كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا . وقال وهب بن منبه : كان يسلط الظلمة ، فتدخل أفواههم وبيوتهم ، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم .
وقوله : ( ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ) أي : شديدا بليغا وجيعا أليما . وفيه إثبات المعاد والجزاء .
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٧٨
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ
أي من أقام على الكفر منكم .فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ
أي بالقتل .ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ
أي يوم القيامة .فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا
أي شديدا في جهنم .
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا ٧٨
تفسير الآيات من 86 حتى 88 :ـ
وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما. { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ} أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ْ} بالكفر { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ْ} أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ْ} أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ} أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.
وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا ٨٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا ٨٨
وقوله : ( وأما من آمن ) أي : تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ( فله جزاء الحسنى ) أي : في الدار الآخرة عند الله - عز وجل - ( وسنقول له من أمرنا يسرا ) قال مجاهد : معروفا .
وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا ٨٨
فله جزاء الحسنى قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم فله جزاء الحسنى بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار . و الحسنى في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة ; أي له جزاء الحسنى عند الله - تعالى - في الآخرة وهي الجنة ، فأضاف الجزاء إلى الجنة ، كقوله : حق اليقين ، ولدار الآخرة ; قاله الفراء . ويحتمل أن يريد ب الحسنى الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين ; أي أعطيه وأتفضل عليه ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون الحسنى في موضع رفع على البدل عند البصريين ، وعلى الترجمة عند الكوفيين ، وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق فله جزاء الحسنى إلا أنك لم تحذف التنوين ، وهو أجود . وقرأ سائر الكوفيين فله جزاء الحسنى منصوبا منونا ; أي فله الحسنى جزاء قال الفراء : جزاء منصوب على التمييز وقيل : على المصدر ; وقال الزجاج : هو مصدر في موضع الحال ; أي مجزيا بها جزاء وقرأ ابن عباس ومسروق فله جزاء الحسنى منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل فله جزاء الحسنى في أحد الوجهين . النحاس : وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره : فله الثواب جزاء الحسنى .
وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا ٨٨
تفسير الآيات من 86 حتى 88 :ـ
وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما. { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ} أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ْ} بالكفر { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ْ} أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ْ} أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ْ} أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٨
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٨
يقول تعالى ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم.
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٨
تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل .
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٩٨
أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس فـ { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ْ} أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به ولهذا قال { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبَرًا ْ} أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه، حيثما توجه وسار.
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا ٠٩
نسخ
مشاركة
التفسير
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا ٠٩
وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب . ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى : ( وجدها تطلع على قوم ) أي أمة ( لم نجعل لهم من دونها سترا ) أي : ليس لهم بناء يكنهم ، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس .
قال سعيد بن جبير : كانوا حمرا قصارا ، مساكنهم الغيران ، أكثر معيشتهم من السمك .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا سهل بن أبي الصلت ، سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى : ( لم نجعل لهم من دونها سترا ) قال : إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه ، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم . قال الحسن : هذا حديث سمرة .
وقال قتادة : ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئا ، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب ، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم .
وعن سلمة بن كهيل أنه قال : ليس لهم أكنان ، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم ، فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما ويلبس الأخرى .
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ) قال : هم الزنج .
وقال ابن جريج في قوله : ( وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ) قال : لم يبنوا فيها بناء قط ، ولم يبن عليهم فيها بناء قط ، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس ، أو دخلوا البحر ، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل ، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها : لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها . قالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس ، ما هذه العظام ؟ قالوا : هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا . قال : فذهبوا هاربين في الأرض .
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا ٠٩
حتى إذا بلغ مطلع الشمس وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام ; يقال : طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا . والمطلع والمطلع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري .
وجدها تطلع على قوم المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس . والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة وقد اختلف فيهم ; فعن وهب بن منبه ما تقدم ، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك ; وقاله مقاتل وقال قتادة : يقال لهما الزنج وقال الكلبي : هم تارس وهاويل ومنسك ; حفاة عراة عماة عن الحق ، يتسافدون مثل الكلاب ، ويتهارجون تهارج الحمر . وقيل : هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود ، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس ; ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب ، وبين كل باب فرسخ ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج وأهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي - عليه الصلاة والسلام - ( مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه ، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه ) ; ذكره السهيلي وقال : اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه ; والله أعلم .
قوله تعالى : لم نجعل لهم من دونها سترا أي حجابا يستترون منها عند طلوعها . قال قتادة : لم يكن بينهم وبين الشمس سترا ; كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء ، وهم يكونون في أسراب لهم ، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم ; يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها . وقال أمية : وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس ، فقال بعضهم : خرجت حتى جاوزت الصين ، فقيل لي : إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم ، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى ، وكان صاحبي يحسن كلامهم ، فبتنا بهم ، فقالوا : فيم جئتم ؟ قلنا : جئنا ننظر كيف تطلع الشمس ; فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة ، فغشي علي ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن ، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت ، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط ، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم ، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رءوسهم خرجوا يصطادون السمك ، فيطرحونه في الشمس فينضج . وقال ابن جريج : جاءهم جيش مرة ، فقال لهم أهلها : لا تطلع الشمس وأنتم بها ، فقالوا : ما نبرح حتى تطلع الشمس . ثم قالوا : ما هذه العظام ؟ قالوا : هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا قال : فولوا هاربين في الأرض . وقال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ، وكانت لا تحمل البناء ، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء ، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا ، فيتراعون كما تتراعى البهائم .
قلت : وهذه الأقوال تدل على أن لا مدينة هناك والله أعلم . وربما يكون منهم من يدخل في النهر . ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة .
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا ٠٩
أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس فـ { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ْ} أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به ولهذا قال
كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا ١٩
نسخ
مشاركة
التفسير
كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا ١٩
وقوله : ( كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ) قال مجاهد ، والسدي : علما ، أي : نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه ، لا يخفى علينا منها شيء ، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض ، فإنه تعالى : ( لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ) [ آل عمران : 5 ]
كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا ١٩
كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا
كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا ١٩
( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه، حيثما توجه وسار.
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٢٩
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٢٩
قول تعالى مخبرا عن ذي القرنين : ( ثم أتبع سببا ) أي : ثم سلك طريقا من مشارق الأرض .
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٢٩
تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل .
ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا ٢٩
تفسير الآيتين 92 و 93 :ـ
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ْ} قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق، قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا، لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٣٩
نسخ
مشاركة
التفسير
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٣٩
( حتى إذا بلغ بين السدين ) وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيهم فسادا ، ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم ، عليه السلام ، كما ثبت في الصحيحين : " إن الله تعالى يقول : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فيقول : ابعث بعث النار . فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ؟ فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فيقال : إن فيكم أمتين ، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج " .
وقد حكى النووي ، رحمه الله ، في شرح " مسلم " عن بعض الناس : أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب ، فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم ، وليسوا من حواء . وهذا قول غريب جدا ، [ ثم ] لا دليل عليه لا من عقل ولا [ من ] نقل ، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب ؛ لما عندهم من الأحاديث المفتعلة ، والله أعلم .
وفي مسند الإمام أحمد ، عن سمرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ولد نوح ثلاثة : سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك " . قال بعض العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، قال : [ إنما سموا هؤلاء تركا ؛ لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة ، وإلا فهم أقرباء أولئك ، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا عجيبا في سير ذي القرنين ، وبنائه السد ، وكيفية ما جرى له ، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم ، [ وطولهم ] وقصر بعضهم ، وآذانهم . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها ، والله أعلم .
وقوله : ( وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ) [ أي ] : لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس .
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٣٩
حتى إذا بلغ بين السدين حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان . روى عطاء الخراساني عن ابن عباس : بين السدين الجبلين أرمينية وأذربيجان .
وجد من دونهما أي من ورائهما .
قوما لا يكادون يفقهون قولا وقرأ حمزة والكسائي " يفقهون " بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما . الباقون بفتح الياء والقاف ، أي يعلمون . والقراءتان صحيحتان ، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم .
حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا ٣٩
تفسير الآيتين 92 و 93 :ـ
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ْ} قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق، قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا، لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم
قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٤٩
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٤٩
( قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ) قال ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس : أجرا عظيما ، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه ، حتى يجعل بينهم وبينهم سدا .
قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٤٩
قالوا ياذا القرنين أي قالت له أمة من الإنس صالحة .
إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض قال الأخفش : من همز يأجوج فجعل الألفين من الأصل يقول : يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار . قال : ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول : " ياجوج " من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين ; قال رؤبة :
لو أن ياجوج وماجوج معا وعاد عاد واستجاشوا تبعا
ذكره الجوهري . وقيل : إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان ، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين ; علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث . وقالت فرقة : هو معرب من أج وأجج علتاهما في منع الصرف التعريف والتأنيث . وقال أبو علي : يجوز أن يكونا عربيين ; فمن همز يأجوج فهو على وزن يفعول مثل يربوع ، من قولك أجت النار أي ضويت ، ومنه الأجيج ، ومنه ملح أجاج ، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس ، وأما مأجوج فهو مفعول من أج ، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة ، ويجوز أن يكون فاعولا من مج ، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة . واختلف في إفسادهم ; سعيد بن عبد العزيز : إفسادهم أكل بني آدم . وقالت فرقة : إفسادهم إنما كان متوقعا ، أي سيفسدون ، فطلبوا وجه التحرز منهم . وقالت فرقة : إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر ، والله أعلم . وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد يافث . روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان . وقال كعب الأحبار : احتلم آدم - عليه السلام - فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء ، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم . وهذا فيه نظر ; لأن الأنبياء - صلوات الله عليهم - لا يحتلمون ، وإنما هم من ولد يافث ، وكذلك قال مقاتل وغيره . وروى أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل . يعني يأجوج ومأجوج . وقال أبو سعيد : هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل ذكره القشيري . وقال عبد الله بن مسعود : سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يأجوج ومأجوج ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح قيل : يا رسول الله صفهم لنا . قال : ( هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس . وقال علي - رضي الله - تعالى - عنه - : ( وصنف منهم في طول شبر ، لهم مخالب وأنياب السباع ، وتداعي الحمام ، وتسافد البهائم ، وعواء الذئاب ، وشعور تقيهم الحر والبرد ، وأذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها ، والأخرى جلدة يصيفون فيها ، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان ، فيقولون : ننقبه غدا إن شاء الله - تعالى - فينقبونه ويخرجون ، ويتحصن الناس بالحصون ، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم ، ثم يهلكهم الله - تعالى - بالنغف في رقابهم ) . ذكره الغزنوي . وقال علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده .
قلت : وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة ، خرجه ابن ماجه في السنن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله - تعالى - أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله - تعالى - فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله - تعالى - عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم قال الجوهري شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة ; وأشكر الضرع امتلأ لبنا .
وقال وهب بن منبه : رآهم ذو القرنين ، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع ، وأحناك كأحناك الإبل ، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان ، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى ، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا ، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى . وقال السدي والضحاك : الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير ، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب . قال السدي : بني السد على إحدى وعشرين قبيلة ، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك . وقاله قتادة .
قلت : وإذا كان هذا ، فقد نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الترك كما نعت يأجوج ومأجوج ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر في رواية ينتعلون الشعر خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما . ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال - عليه الصلاة والسلام - : اتركوا الترك ما تركوكم . وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله - تعالى - ، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله - تعالى - ، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم . وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال : إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - ، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك .
قوله تعالى : فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : فهل نجعل لك خرجا استفهام على جهة حسن الأدب خرجا أي جعلا وقرئ " خراجا " والخرج أخص من الخراج يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري : الخراج يقع على الضريبة ، ويقع على مال الفيء ، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال . والخرج : المصدر .
وقوله تعالى : على أن تجعل بيننا وبينهم سدا أي ردما ; والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع ، قاله الهروي يقال : ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد وقيل : الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ومنه قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم
أي من قول يركب بعضه على بعض . وقرئ سدا بالفتح في السين ، فقال الخليل وسيبويه : الضم هو الاسم والفتح المصدر . وقال الكسائي : الفتح والضم لغتان بمعنى واحد وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : ما كان من خلقة الله لم يشاركه فيه أحد بعمل فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح . ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرءوا سدا بالفتح وقبله بين السدين بالضم ، وهي قراءة حمزة والكسائي . وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة . وقال ابن أبي إسحاق : ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح .
الثانية : في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون ، وحبس أهل الفساد فيها ، ومنعهم من التصرف لما يريدونه ، ولا يتركون وما هم عليه ، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر - رضي الله عنه - .
قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا ٤٩
{ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ} بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ْ} أي جعلا { عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ْ} ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا ٥٩
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا ٥٩
فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير : ( ما مكني فيه ربي خير ) أي : إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه ، كما قال سليمان عليه السلام : ( أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ) [ النمل : 36 ] وهكذا قال ذو القرنين : الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ، ولكن ساعدوني ) بقوة ) أي : بعملكم وآلات البناء ،
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا ٥٩
قوله تعالى : قال ما مكني فيه ربي خير فيه مسألتان :
[ الأولى ] قوله - تعالى - : قال ما مكني فيه ربي خير المعنى قال لهم ذو القرنين : ما بسطه الله - تعالى - لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان ، أي برجال وعمل منكم بالأبدان ، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله - تعالى - لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولوكلوه إلى البنيان ، ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج . وقرأ ابن كثير وحده " ما مكنني " بنونين . وقرأ الباقون ما مكني فيه ربي
[ الثانية ] في هذه الآية دليل على أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم ، وسد فرجتهم ، وإصلاح ثغورهم ، من أموالهم التي تفيء عليهم ، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره ، حتى لو أكلتها الحقوق ، وأنفذتها المؤن ، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم ، وعليه حسن النظر لهم ; وذلك بثلاثة شروط : الأول : ألا يستأثر عليهم بشيء . الثاني : أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم ، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم ، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير ، وتصريف بتدبير ; فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال : لست أحتاج إليه وإنما أحتاج إليكم فأعينوني بقوة أي اخدموا بأنفسكم معي ، فإن الأموال عندي والرجال عندكم ، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم ، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه ، فيعود بالأجر عليهم ، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى . وضابط الأمر أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض ، فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا ، وينفق بالعدل لا بالاستئثار ، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر . والله - تعالى - الموفق للصواب .
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا ٥٩
فقال لهم: { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ْ} أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ْ} أي: مانعا من عبورهم عليكم.
ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا ٦٩
نسخ
مشاركة
التفسير
ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا ٦٩
( أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد ) والزبر : جمع زبرة ، وهي القطعة منه ؛ قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . وهي كاللبنة ، يقال : كل لبنة [ زنة ] قنطار بالدمشقي ، أو تزيد عليه .
( حتى إذا ساوى بين الصدفين ) أي : وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضا . واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال . ( قال انفخوا ) أي : أجج عليه النار حتى صار كله نارا ، ( قال آتوني أفرغ عليه قطرا ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : هو النحاس . وزاد بعضهم : المذاب . ويستشهد بقوله تعالى : ( وأسلنا له عين القطر ) [ سبإ : 12 ] ولهذا يشبه بالبرد المحبر .
قال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا قال : يا رسول الله ، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال : " انعته لي " قال : كالبرد المحبر ، طريقة سوداء . وطريقة حمراء . قال : " قد رأيته " . هذا حديث مرسل .
وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه ، ووجه معه جيشا سرية ، لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا . فتوصلوا من بلاد إلى بلاد ، ومن ملك إلى ملك ، حتى وصلوا إليه ، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس ، وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما ، وعليه أقفال عظيمة ، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك . وأن عنده حرسا من الملوك المتاخمة له ، وأنه منيف عال ، شاهق ، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال . ثم رجعوا إلى بلادهم ، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين ، وشاهدوا أهوالا وعجائب .
ثم قال الله تعالى :
ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا ٦٩
قوله تعالى : آتوني زبر الحديد أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة ، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة ، وإنما هو استدعاء للمناولة ، لأنه قد ارتبط من قوله : إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة ، وأعمال الأبدان . و زبر الحديد قطع الحديد . وأصل الكلمة الاجتماع ، ومنه زبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله . وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه . وقرأ أبو بكر والمفضل " ردما ايتوني " من الإتيان الذي هو المجيء ; أي جيئوني بزبر الحديد ، فلما سقط الخافض انتصب بالفعل على نحو قول الشاعر :
أمرتك الخير . . .
حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور زبر بفتح الباء وقرأ الحسن بضمها ; وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه .
قوله تعالى : حتى إذا ساوى يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه .
بين الصدفين قال أبو عبيدة : هما جانبا الجبل ، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما . وقاله الزهري وابن عباس ; ( كأنه يعرض عن الآخر ) من الصدوف ; قال الشاعر :
كلا الصدفين ينفذه سناها توقد مثل مصباح الظلام
ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل . وفي الحديث : كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي . قال أبو عبيد : الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع . ابن عطية : الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف ، وإنما يقال صدفان للاثنين ; لأن أحدهما يصادف الآخر . وقرأ نافع وحمزة والكسائي الصدفين بفتح الصاد وشدها وفتح الدال ، وهي قراءة عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وعمر بن عبد العزيز ، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " الصدفين " بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر " الصدفين " بضم الصاد وسكون الدال ، نحو الجرف والجرف فهو تخفيف . وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال . وقرأ قتادة " بين الصدفين " بفتح الصاد وسكون الدال ، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان .
قوله تعالى : قال انفخوا إلى آخر الآية أي على زبر الحديد بالأكيار ، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى ، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار ، فذلك قوله - تعالى - : حتى إذا جعله نارا ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر ، فيفرغه على تلك الطاقة المنضدة ، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى ، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا . قال قتادة : هو كالبرد المحبر ، طريقة سوداء ، وطريقة حمراء . ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جاءه رجل فقال : يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال : كيف رأيته قال : رأيته كالبرد المحبر ، طريقة صفراء ، وطريقة حمراء ، وطريقة سوداء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأيته . ومعنى حتى إذا جعله نارا أي كالنار .
ومعنى آتوني أفرغ عليه قطرا أي أعطوني قطرا أفرغ عليه ، على التقديم والتأخير . ومن قرأ " ائتوني " فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا . والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب ، وأصله من القطر ; لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة : القطر الحديد المذاب . وقالت فرقة منهم ابن الأنباري : الرصاص المذاب . وهو مشتق من قطر يقطر قطرا . ومنه وأسلنا له عين القطر .
ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا ٦٩
{ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ْ} أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك.
{ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ْ} أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد { قَالَ انْفُخُوا ْ} النار أي: أوقدوها إيقادا عظيما، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد { قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ْ} أي: نحاسا مذابا، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاما هائلا، وامتنع من وراءه من الناس، من ضرر يأجوج ومأجوج.
فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا ٧٩
نسخ
مشاركة
التفسير
فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا ٧٩
يقول تعالى مخبرا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله . ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال : ( فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ) وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ، ولا على شيء منه .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا روح ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، حدثنا أبو رافع ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس [ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ] قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله . ويستثني ، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس ، فينشفون المياه ، ويتحصن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، [ فترجع وعليها هيئة الدم ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ] . فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم ، فيقتلهم بها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إن دواب الأرض لتسمن ، وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم " .
ورواه أحمد أيضا عن حسن - هو ابن موسى الأشيب - عن سفيان ، عن قتادة ، به . وكذا رواه ابن ماجه ، عن أزهر بن مروان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة قال : حدث رافع . وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عوانة ، عن قتادة . ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وهذا إسناده قوي ، ولكن في رفعه نكارة ؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه ، لإحكام بنائه وصلابته وشدته . ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار : أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل ، فيقولون : غدا نفتحه . فيأتون من الغد وقد عاد كما كان ، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل ، فيقولون كذلك ، ويصبحون وهو كما كان ، فيلحسونه ويقولون : غدا نفتحه . ويلهمون أن يقولوا : " إن شاء الله " ، فيصبحون وهو كما فارقوه ، فيفتحونه . وهذا متجه ، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب . فإنه كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه ، فحدث به أبو هريرة ، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع ، فرفعه ، والله أعلم .
ويؤكد ما قلناه - من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ، ومن نكارة هذا المرفوع - قول الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن [ زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها أم حبيبة ، عن ] زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان أربع نسوة - قالت : استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه . وهو محمر وجهه ، وهو يقول : " لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب ! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " . وحلق . قلت : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم إذا كثر الخبث " .
هذا حديث صحيح ، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه ، من حديث الزهري ، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة ، وأثبتها مسلم . وفيه أشياء عزيزة نادرة قليلة الوقوع في صناعة الإسناد ، منها رواية الزهري عن عروة ، وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده ، كلهن يروي بعضهن عن بعض . ثم كل منهن صحابية ، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان ، رضي الله عنهن .
وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وعقد التسعين . وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب ، به .
فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا ٧٩
قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه ; لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام . وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا . وروي : في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ ، وفي عرضه خمسون فرسخا ; قاله وهب بن منبه .
وما استطاعوا له نقبا لبعد عرضه وقوته . وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها . . . وذكر الحديث . وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس . . . الحديث وقد تقدم .
قوله - تعالى - : فما اسطاعوا بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور . وقيل : هي لغة بمعنى استطاعوا . وقيل : بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا : اسطاعوا . وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع ، وهي لغة مشهورة . وقرأ حمزة وحده " فما اسطاعوا " بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا ، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها ، وهي قراءة ضعيفة الوجه ; قال أبو علي : هي غير جائزة . وقرأ الأعمش " فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " بالتاء في الموضعين .
فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا ٧٩
{ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ْ} أي: فما لهم استطاعة، ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه، ولا على نقبه لإحكامه وقوته.
قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا ٨٩
نسخ
مشاركة
التفسير
قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا ٨٩
وقوله : ( قال هذا رحمة من ربي ) أي : لما بناه ذو القرنين ( قال هذا رحمة من ربي ) أي : بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد . ( فإذا جاء وعد ربي ) أي : إذا اقترب الوعد الحق ( جعله دكاء ) أي : ساواه بالأرض . تقول العرب : ناقة دكاء : إذا كان ظهرها مستويا لا سنام لها . وقال تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) [ الأعراف : 143 ] أي : مساويا للأرض .
وقال عكرمة في قوله : ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ) قال : طريقا كما كان .
( وكان وعد ربي حقا ) أي : كائنا لا محالة .
قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا ٨٩
قوله تعالى : قال هذا رحمة من ربي القائل ذو القرنين ، وأشار بهذا إلى الردم ، والقوة عليه ، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج . وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي .
قوله تعالى : فإذا جاء وعد ربي أي يوم القيامة . وقيل : وقت خروجهم .
جعله دكاء أي مستويا بالأرض ; ومنه قوله - تعالى - : إذا دكت الأرض قال ابن عرفة : أي جعلت مستوية لا أكمة فيها ، ومنه قوله - تعالى - : جعله دكا قال اليزيدي : أي مستويا ; يقال : ناقة دكاء إذا ذهب سنامها . وقال القتبي : أي جعله مدكوكا ملصقا بالأرض . وقال الكلبي : قطعا متكسرا ; قال :
هل غير غاد دك غارا فانهدم
وقال الأزهري : يقال دككته أي دققته . ومن قرأ " دكاء " أراد جعل الجبل أرضا دكاء ، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات . قرأ حمزة وعاصم والكسائي " دكاء " بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء ، وهي التي لا سنام لها ، وفي الكلام حذف تقديره : جعله مثل دكاء ; ولا بد من تقدير هذا الحذف . لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء . ومن قرأ " دكا " فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض ; ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق . وينصب " دكا " على الحال . وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين .
قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا ٨٩
فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها وقال: { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ْ} أي: من فضله وإحسانه عليَّ، وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله كما قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ْ} بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار، تزيدهم أشرا وبطرا.
كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ْ}
وقوله: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ْ} أي: لخروج يأجوج ومأجوج { جَعَلَهُ ْ} أي: ذلك السد المحكم المتقن { دَكَّاءَ ْ} أي: دكه فانهدم، واستوى هو والأرض { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ْ}
۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا ٩٩
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا ٩٩
وقوله : ( وتركنا بعضهم [ يومئذ يموج في بعض ] ) أي الناس يومئذ أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم ، وهكذا قال السدي في قوله : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) قال : ذاك حين يخرجون على الناس . وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق ) [ الأنبياء : 96 ، 97 ] وهكذا قال هاهنا : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ) قال ابن زيد في قوله : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) قال : هذا أول يوم القيامة ، ( ونفخ في الصور ) على أثر ذلك ( فجمعناهم جمعا ) .
وقال آخرون : بل المراد بقوله : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) أي : يوم القيامة يختلط الإنس والجن .
وروى ابن جرير ، عن محمد بن حميد ، عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة ، عن شيخ من بني فزارة في قوله : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) قال : إذا ماج الإنس والجن قال إبليس : أنا أعلم لكم علم هذا الأمر . فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض ، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول : " ما من محيص " . ثم يظعن يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول : " ما من محيص " فبينما هو كذلك ، إذ عرض له طريق كالشراك ، فأخذ عليه هو وذريته ، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار ، فأخرج الله خازنا من خزان النار ، فقال : ياإبليس ، ألم تكن لك المنزلة عند ربك ؟ ! ألم تكن في الجنان ؟ ! فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه . فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة . فيقول : ما هي ؟ فيقول : يأمرك أن تدخل النار . فيتلكأ عليه ، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار . فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به . رواه من وجه آخر عن يعقوب ، عن هارون عن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ) قال : الجن والإنس ، يموج بعضهم في بعض .
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا المغيرة بن مسلم ، عن أبي إسحاق ، عن وهب بن جابر ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتايس ومنسك " . هذا حديث غريب بل منكر ضعيف .
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبيه ، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعا : " إن يأجوج ومأجوج لهم نساء ، يجامعون ما شاءوا ، وشجر يلقحون ما شاءوا ، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا "
وقوله : ( ونفخ في الصور ) : والصور كما جاء في الحديث : " قرن ينفخ " فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل ، عليه السلام ، كما قد تقدم في الحديث بطوله ، والأحاديث فيه كثيرة .
وفي الحديث عن عطية ، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعا : " كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر " . قالوا : كيف نقول ؟ قال : " قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا "
وقوله ) فجمعناهم جمعا ) أي : أحضرنا الجميع للحساب ( قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) [ الواقعة : 49 ، 50 ] ، ( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) [ الكهف : 47 ]
۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا ٩٩
قوله تعالى : وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض الضمير في تركنا لله - تعالى - ; أي تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض . وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يومئذ أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض . واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض ، كالمولهين من هم وخوف ; فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض . وقيل : تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم . قلت : فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها ، وأبعدها آخرها ، وحسن الأول ; لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله - تعالى - : فإذا جاء وعد ربي . والله أعلم .
قوله تعالى : ونفخ في الصور تقدم في الأنعام . فجمعناهم جمعا يعني الجن والإنس في عرصات القيامة .
۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا ٩٩
يحتمل أن الضمير، يعود إلى يأجوج ومأجوج، وأنهم إذا خرجوا على الناس -من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها- يموج بعضهم ببعض، كما قال تعالى { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ْ} ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، وأنهم يجتمعون فيه فيكثرون ويموج بعضهم ببعض، من الأهوال والزلازل العظام، بدليل قوله: { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا ْ} أي: إذا نفخ إسرافيل في الصور، أعاد الله الأرواح إلى الأجساد، ثم حشرهم وجمعهم لموقف القيامة، الأولين منهم والأخرين، والكافرين والمؤمنين، ليسألوا ويحاسبوا ويجزون بأعمالهم، فأما الكافرون -على اختلافهم- فإن جهنم جزاؤهم، خالدين فيها أبدا.
وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا ٠٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا ٠٠١
يقول تعالى مخبرا عما يفعله بالكفار يوم القيامة : إنه يعرض عليهم جهنم ، أي : يبرزها لهم ويظهرها ، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم .
وفي صحيح مسلم ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها
وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا ٠٠١
أي أبرزناها لهم .
وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا ٠٠١
كما قال تعالى: { وبرزت الجحيم للغاوين ْ} أي: عرضت لهم لتكون مأواهم ومنزلهم، وليتمتعوا بأغلالها وسعيرها، وحميمها، وزمهريرها، وليذوقوا من العقاب، ما تبكم له القلوب، وتصم الآذان، وهذا آثار أعمالهم، وجزاء أفعالهم، فإنهم في الدنيا .
ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا ١٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا ١٠١
ثم قال مخبرا عنهم : ( الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ) أي : تعاموا وتغافلوا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق ، كما قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) [ الزخرف : 36 ] وقال هاهنا : ( وكانوا لا يستطيعون سمعا ) أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه .
ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا ١٠١
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ
في موضع خفض نعت " للكافرين " .فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي
أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى .وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا
أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى , فهم بمنزلة من صم .
ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا ١٠١
أي: معرضين عن الذكر الحكيم، والقرآن الكريم، وقالوا: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وفي أعينهم أغطية تمنعهم من رؤية آيات الله النافعة، كما قال تعالى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا أي: لا يقدرون على سمع آيات الله الموصلة إلى الإيمان، لبغضهم القرآن والرسول، فإن المبغض لا يستطيع أن يلقي سمعه إلى كلام من أبغضه، فإذا انحجبت عنهم طرق العلم والخير، فليس لهم سمع ولا بصر، ولا عقل نافع فقد كفروا بالله وجحدوا آياته، وكذبوا رسله، فاستحقوا جهنم، وساءت مصيرا.
أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا ٢٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا ٢٠١
ثم قال ( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ) أي : اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك ، وينتفعون بذلك ؟ ( كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ) [ مريم : 82 ] ; ولهذا أخبر أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلا .
أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا ٢٠١
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أي ظن .
وقرأ علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن " أفحسب " بإسكان السين وضم الباء ; أي كفاهم .أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي
يعني عيسى والملائكة وعزيرا .مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ
ولا أعاقبهم ; ففي الكلام حذف .
وقال الزجاج : المعنى ; أفحسبوا أن ينفعهم ذلك .
أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا ٢٠١
وهذا برهان وبيان، لبطلان دعوى المشركين الكافرين، الذين اتخذوا بعض الأنبياء والأولياء، شركاء لله يعبدونهم، ويزعمون أنهم يكونون لهم أولياء، ينجونهم من عذاب الله، وينيلونهم ثوابه، وهم قد كفروا بالله وبرسله.
يقول الله لهم على وجه الاستفهام والإنكار المتقرر بطلانه في العقول: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ْ} أي: لا يكون ذلك ولا يوالي ولي الله معاديا لله أبدا، فإن الأولياء موافقون لله في محبته ورضاه، وسخطه وبغضه، فيكون على هذا المعنى مشابها لقوله تعالى { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ْ}
فمن زعم أنه يتخذ ولي الله وليا له، وهو معاد لله، فهو كاذب، ويحتمل -وهو الظاهر- أن المعنى: أفحسب الكفار بالله، المنابذون لرسله، أن يتخذوا من دون الله أولياء ينصرونهم، وينفعونهم من دون الله، ويدفعون عنهم الأذى؟ هذا حسبان باطل، وظن فاسد، فإن جميع المخلوقين، ليس بيدهم من النفع والضر، شيء، ويكون هذا، كقوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ْ} { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ْ} ونحو ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها، أن المتخذ من دونه وليا ينصره ويواليه، ضال خائب الرجاء، غير نائل لبعض مقصوده.
{ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ْ} أي ضيافة وقرى، فبئس النزل نزلهم، وبئست جهنم، ضيافتهم.
قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ٣٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ٣٠١
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو ، عن مصعب قال : سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص - : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) أهم الحرورية ؟ قال : لا هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى كفروا بالجنة ، وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب . والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه . وكان سعد رضي الله عنه ، يسميهم الفاسقين .
وقال علي بن أبي طالب والضحاك ، وغير واحد : هم الحرورية .
ومعنى هذا عن علي ، رضي الله عنه : أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم ، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا; فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية ، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها ، وأن عمله مقبول ، وهو مخطئ ، وعمله مردود ، كما قال تعالى : ( وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) الغاشية : 2 - 4 وقوله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) [ الفرقان : 23 ] وقال تعالى : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) [ النور : 39 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة : ( قل هل ننبئكم ) أي : نخبركم ( بالأخسرين أعمالا ) ؟
قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ٣٠١
قوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا - الآية - فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه ، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة ، والمراد هنا الكفر . روى البخاري عن مصعب قال : سألت أبيا قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا أهم الحرورية ؟ قال : لا ; هم اليهود والنصارى . وأما اليهود فكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأما النصارى فكفروا بالجنة ، فقالوا : لا طعام فيها ولا شراب ; والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ; وكان سعد يسميهم الفاسقين . والآية معناها التوبيخ ; أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري : يخيب سعيهم وآمالهم غدا ; فهم الأخسرون أعمالا ، وهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا في عبادة من سواي .
قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ٣٠١
أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-: هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق ؟
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ٤٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ٤٠١
ثم فسرهم فقال : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ) أي : عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة ، ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) أي " يعتقدون أنهم على شيء ، وأنهم مقبولون محبوبون .
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ٤٠١
قال ابن عباس : ( يريد كفار أهل مكة ) .
وقال علي : ( هم الخوارج أهل حروراء .
وقال مرة : هم الرهبان أصحاب الصوامع ) .
وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له : أنت وأصحابك .
قال ابن عطية : ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك : " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم " .
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ٤٠١
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ْ} أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة، وأنها محادة لله ورسله ومعاداة؟" فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم،فـ { فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟ ألا ذلك هو الخسران المبين ْ}
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ٥٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ٥٠١
وقوله : ( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ) أي : جحدوا آيات الله في الدنيا ، وبراهينه التي أقام على وحدانيته ، وصدق رسله ، وكذبوا بالدار الآخرة ، ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) أي : لا نثقل موازينهم; لأنها خالية عن الخير .
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة ، حدثني أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة " وقال : " اقرءوا إن شئتم : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .
وعن يحيى بن بكير ، عن مغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد ، مثله .
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا . وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن بكير ، به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم ، فيوزن بحبة فلا يزنها " . قال : وقرأ : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا )
وكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي الصلت ، عن أبي الزناد ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا فذكره بلفظ البخاري سواء .
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا عون بن عمارة حدثنا هشام بن حسان ، عن واصل ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له . فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بريدة ، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا " .
ثم قال : تفرد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عمارة وليس بالحافظ ، ولم يتابع عليه . وقد قال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شمر عن أبي يحيى ، عن كعب قال : يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرءوا : ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ٥٠١
قال ابن عباس : ( يريد كفار أهل مكة ) . وقال علي : ( هم الخوارج أهل حروراء . وقال مرة : هم الرهبان أصحاب الصوامع ) . وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له : أنت وأصحابك . قال ابن عطية : ويضعف هذا كله قوله - تعالى - بعد ذلك : أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم .
وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور ، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان ، وعلي وسعد - رضي الله عنهما - ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه الآية . و أعمالا نصب على التمييز . و حبطت قراءة الجمهور بكسر الباء . وقرأ ابن عباس " حبطت " بفتحها .
الثانية : قوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا قراءة الجمهور نقيم بنون العظمة . وقرأ مجاهد بياء الغائب ; يريد فلا يقيم الله - عز وجل - ، وقرأ عبيد بن عمير " فلا يقوم " ويلزمه أن يقرأ " وزن " وكذلك قرأ مجاهد " فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن " . قال عبيد بن عمير : يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة .
قلت : هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ، وقد ثبت معناه مرفوعا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا . والمعنى أنهم لا ثواب لهم ، وأعمالهم مقابلة بالعذاب ، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار . وقال أبو سعيد الخدري : يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا . وقيل : يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة ; كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ ; والله أعلم . وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه ، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إن أبغض الرجال إلى الله - تعالى - الحبر السمين ومن حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن وهذا ذم . وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره ، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها ، فهو عبد نفسه لا عبد ربه ، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام ، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به ; وقد ذم الله - تعالى - الكفار بكثرة الأكل فقال : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فإذا كان المؤمن يتشبه بهم ، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه ، فأين حقيقة الإيمان ، والقيام بوظائف الإسلام ؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه ، وزاد بالليل كسله ونومه ، فكان نهاره هائما ، وليله نائما . وقد مضى في " الأعراف " هذا المعنى ; وتقدم فيها ذكر الميزان ، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة . وقال - عليه الصلاة والسلام - حين ضحكوا من حمش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة : تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض فدل هذا على أن الأشخاص توزن ; ذكره الغزنوي .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا ٥٠١
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ْ} أي: جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية، الدالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر.{ فَحَبِطَتْ ْ} بسبب ذلك { أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ْ} لأن الوزن فائدته، مقابلة الحسنات بالسيئات، والنظر في الراجح منها والمرجوح، وهؤلاء لا حسنات لهم لعدم شرطها، وهو الإيمان، كما قال تعالى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ْ} لكن تعد أعمالهم وتحصى، ويقررون بها، ويخزون بها على رءوس الأشهاد، ثم يعذبون عليها
ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ٦٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ٦٠١
وقوله : ( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا ) أي : إنما جازيناهم بهذا الجزاء جهنم ، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا ، استهزءوا بهم ، وكذبوهم أشد التكذيب .
ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ٦٠١
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ
" ذلك " إشارة إلى ترك الوزن , وهو في موضع رفع بالابتداء " جزاؤهم " خبره .جَهَنَّمُ
بدل من المبتدأ الذي هو " ذلك " .بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا
و " ما " في قوله : " بما كفروا " مصدرية , والهزء الاستخفاف والسخرية ; وقد تقدم .
ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ٦٠١
{ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ ْ} أي: حبوط أعمالهم، وأنه لا يقام لهم يوم القيامة، { وَزْنًا ْ} لحقارتهم وخستهم، بكفرهم بآيات الله، واتخاذهم آياته ورسله، هزوا يستهزئون بها، ويسخرون منها، مع أن الواجب في آيات الله ورسله، الإيمان التام بها، والتعظيم لها، والقيام بها أتم القيام، وهؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرهم، وتعسوا، وانتكسوا في العذاب. ولما بين مآل الكافرين وأعمالهم، بين أعمال المؤمنين ومآلهم
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا ٧٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا ٧٠١
يخبر تعالى عن عباده السعداء ، وهم الذين آمنوا بالله ورسله ، وصدقوهم فيما جاءوا به بأن لهم جنات الفردوس .
قال مجاهد : الفردوس هو : البستان بالرومية .
وقال كعب ، والسدي ، والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب .
وقال أبو أمامة الفردوس : سرة الجنة .
وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها .
وقد روي هذا مرفوعا من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الفردوس ربوة الجنة ، أوسطها وأحسنها "
وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعا . وروي عن قتادة ، عن أنس بن مالك مرفوعا بنحوه . وقد نقله ابن جرير ، رحمه الله
وفي الصحيحين : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة "
وقوله : ( نزلا ) أي ضيافة ، فإن النزل هو الضيافة .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا ٧٠١
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا قال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها وقال أبو أمامة الباهلي : الفردوس سرة الجنة . وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس ; فيها الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا : يا رسول الله أفلا نبشر الناس ؟ قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله - تعالى - فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة - أراه قال - وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة وقال مجاهد : والفردوس البستان بالرومية . الفراء : هو عربي . والفردوس حديقة في الجنة . وفردوس اسم روضة دون اليمامة . والجمع فراديس ، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل
والفراديس موضع بالشام . وكرم مفردس أي معرش .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا ٧٠١
أي: إن الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم، وشمل هذا الوصف جميع الدين، عقائده، وأعماله، أصوله، وفروعه الظاهرة، والباطنة، فهؤلاء -على اختلاف طبقاتهم من الإيمان والعمل الصالح -لهم جنات الفردوس.
يحتمل أن المراد بجنات الفردوس، أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها، وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح، والأنبياء والمقربون.
ويحتمل أن يراد بها، جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان، من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله، وهذا أولى المعنيين لعمومه، ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس، ولأن الفردوس يطلق على البستان، المحتوي على الكرم، أو الأشجار الملتفة، وهذا صادق على جميع الجنة، فجنة الفردوس نزل، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح، وأي: ضيافة أجل وأكبر، وأعظم من هذه الضيافة، المحتوية على كل نعيم، للقلوب، والأرواح، والأبدان، وفيها ما تشتهيه الأنفس. وتلذ الأعين، من المنازل الأنيقة، والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة،. والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية، والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة، والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة، وأعلى ذلك وأفضله وأجله، التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه، الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم، وسماع كلام الرءوف الرحيم، فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها"، وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق، أو تخطر على القلوب، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم، لطارت إليها قلوبهم بالأشواق، ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق، ولساروا إليها زرافات ووحدانا، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية، ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة، ولكن الغفلة شملت، والإيمان ضعف، والعلم قل، والإرادة نفذت فكان، ما كان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا ٨٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا ٨٠١
وقوله : ( خالدين فيها ) أي : مقيمين ساكنين فيها ، لا يظعنون عنها أبدا ، ( لا يبغون عنها حولا ) أي : لا يختارون غيرها ، ولا يحبون سواها ، كما قال الشاعر :
فحلت سويدا القلب لا أنا باغيا سواها ولا عن حبها أتحول
وفي قوله : ( لا يبغون عنها حولا ) تنبيه على رغبتهم فيها ، وحبهم لها ، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائما أنه يسأمه أو يمله ، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي ، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا
خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا ٨٠١
خالدين فيها أي دائمين .
لا يبغون عنها حولا أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها . والحول بمعنى التحويل ; قاله أبو علي . وقال الزجاج : حال من مكانه حولا كما يقال : عظم عظما . قال : ويجوز أن يكون من الحيلة ، أي لا يحتالون منزلا غيرها . قال الجوهري : التحول التنقل من موضع إلى موضع ، والاسم الحول ، ومنه قوله - تعالى - : خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .
خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا ٨٠١
{ خَالِدِينَ فِيهَا ْ} هذا هو تمام النعيم، إن فيها النعيم الكامل، ومن تمامه أنه لا ينقطع { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ْ} أي: تحولا ولا انتقالا، لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم، ويسرهم ويفرحهم، ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.
قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا ٩٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا ٩٠١
يقول تعالى : قل يا محمد : لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه ، ( لنفد البحر ) أي : لفرغ البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك ) ولو جئنا بمثله ) أي : بمثل البحر آخر ، ثم آخر ، وهلم جرا ، بحور تمده ويكتب بها ، لما نفدت كلمات الله ، كما قال تعالى : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ) [ لقمان : 27 ] .
قال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) .
يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ; لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة ، كحبة من خردل في خلال الأرض كلها .
قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا ٩٠١
قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي نفد الشيء إذا تم وفرغ ; وقد تقدم .
ولو جئنا بمثله مددا أي زيادة على البحر عددا أو وزنا . وفي مصحف أبي " مدادا " وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد . وانتصب مددا على التمييز أو الحال . وقال ابن عباس : قالت اليهود لما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أوتيتم من العلم إلا قليلا قالوا : وكيف وقد أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ؟ فنزلت قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر الآية . وقيل : قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة ، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح ؟ ! فقال الله - تعالى - قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله - تعالى - قليلة ، قال ابن عباس : كلمات ربي أي مواعظ ربي . وقيل : عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى ، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فوائد الكلمات ، ولأنه ينوب منابها ، فجازت العبارة عنها بصيغة الجمع تفخيما ; وقال الأعشى :
ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبر باللبات عن اللبة . وفي التنزيل نحن أولياؤكم و إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لنحن نحيي ونميت وكذلك إن إبراهيم كان أمة لأنه ناب مناب أمة . وقيل : أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه - سبحانه وتعالى - . وقال السدي : أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب . وقال عكرمة : لنفد البحر قبل أن ينفد ثواب من قال لا إله إلا الله . ونظير هذه الآية : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله . وقرأ حمزة والكسائي " قبل أن ينفد " بالياء لتقدم الفعل .
قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا ٩٠١
أي: قل لهم مخبرا عن عظمة الباري، وسعة صفاته، وأنها لا يحيط العباد بشيء منها: { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ ْ} أي: هذه الأبحر الموجودة في العالم { مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ْ} أي: وأشجار الدنيا من أولها إلى آخرها، من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام، { لَنَفِدَ الْبَحْرُ ْ} وتكسرت الأقلام { قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ْ} وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد.
وفي الآية الأخرى { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ْ} وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان، لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية، وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله تعالى، كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته، فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لكان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته، ذلك بأن الله، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى.
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ٠١١
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ٠١١
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن قيس الكوفي ، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال : هذه آخر آية أنزلت .
يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل ) لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم : ( إنما أنا بشر مثلكم ) فمن زعم أني كاذب ، فليأت بمثل ما جئت به ، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي ، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف ، وخبر ذي القرنين ، مما هو مطابق في نفس الأمر ، لولا ما أطلعني الله عليه ، وأنا أخبركم ) أنما إلهكم ) الذي أدعوكم إلى عبادته ، ( إله واحد ) لا شريك له ، ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) أي : ثوابه وجزاءه الصالح ، ( فليعمل عملا صالحا ) ، ما كان موافقا لشرع الله ) ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له ، وهذان ركنا العمل المتقبل . لا بد أن يكون خالصا لله ، صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن طاوس قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني أقف المواقف أريد وجه الله ، وأحب أن يرى موطني . فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا . حتى نزلت هذه الآية : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) .
وهكذا أرسل هذا مجاهد ، وغير واحد .
وقال الأعمش : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم ، عن شهر بن حوشب قال : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال : أنبئني عما أسألك عنه : أرأيت رجلا يصلي ، يبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ، ويصوم ويبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ، ويتصدق ويبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ، ويحج ويبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : " أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله ، لا حاجة لي فيه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، ثنا كثير بن زيد ، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنبيت عنده ، تكون له الحاجة ، أو يطرقه أمر من الليل ، فيبعثنا . فكثر المحتسبون وأهل النوب ، فكنا نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما هذه النجوى ؟ ألم أنهكم عن النجوى . قال : فقلنا : تبنا إلى الله ، أي نبي الله ، إنما كنا في ذكر المسيح ، وفرقنا منه ، فقال : " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي ؟ " قال : قلنا : بلى . قال : " الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بهرام - قال : قال شهر بن حوشب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء ، لقينا عبادة بن الصامت ، فأخذ يميني بشماله ، وشمال أبي الدرداء بيمينه ، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى ، والله أعلم بما نتناجى به ، فقال عبادة بن الصامت : إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما ، لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين - يعني من وسط - قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، ونزل عند منازله ، لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت . قال : فبينما نحن كذلك ، إذ طلع شداد بن أوس - رضي الله عنه - وعوف بن مالك ، فجلسا إلينا ، فقال شداد : إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من الشهوة الخفية والشرك " . فقال عبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء : اللهم غفرا . أولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب . وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها ، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها ، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد ؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل ، أو يصوم لرجل ، أو تصدق له ، أترون أنه قد أشرك ؟ قالوا : نعم ، والله إنه من صلى لرجل أو صام له أو تصدق له ، لقد أشرك . فقال شداد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ؟ " فقال عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله ، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به ؟ فقال شداد عن ذلك : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي ، من أشرك بي شيئا فإن حشده عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به ، وأنا عنه غني " .
طريق أخرى لبعضه : قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني عبد الواحد بن زياد ، أخبرنا عبادة بن نسي ، عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أنه بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فذكرته فأبكاني ، سمعت رسول الله يقول : " أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية " . قلت : يا رسول الله ، أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : " نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ، ولا حجرا ولا وثنا ، ولكن يراءون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه .
ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذكوان ، عن عبادة بن نسي ، به . وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر ، حدثنا علي بن ثابت ، حدثنا قيس بن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله يوم القيامة : أنا خير شريك ، من أشرك بي أحدا فهو له كله " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت العلاء يحدث عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال : " أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا منه بريء ، وهو للذي أشرك " . تفرد به من هذا الوجه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو ، عن محمود بن لبيد ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " . قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : " الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء "
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر - أخبرني أبي ، عن زياد بن ميناء ، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة - أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه ، نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " .
وأخرجه الترمذي وابن ماجه ، من حديث محمد بن بكر وهو البرساني ، به
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا بكار ، حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية ، حدثنا شيبان ، عن فراس ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من يرائي يرائي الله به ، ومن يسمع يسمع الله به " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، حدثني عمرو بن مرة ، قال : سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة ; أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سمع الناس بعمله سمع الله به ، سامع خلقه وصغره وحقره " قال : فذرفت عينا عبد الله .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي ، حدثنا الحارث بن غسان ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله - عز وجل - يوم القيامة في صحف مختومة ، فيقول الله : ألقوا هذا ، واقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : يا رب ، والله ما رأينا منه إلا خيرا . فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي " .
ثم قال الحارث بن غسان : روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس
وقال ابن وهب : حدثني يزيد بن عياض ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبد الله بن قيس الخزاعي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قام رياء وسمعة ، لم يزل في مقت الله حتى يجلس " .
وقال أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا محمد بن دينار ، عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص ، عن عوف بن مالك ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة استهان بها ربه ، عز وجل " .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي ; أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن .
وهذا أثر مشكل ، فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف . والكهف كلها مكية ، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما تنسخها ولا يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة ، فاشتبه ذلك على بعض الرواة ، فروى بالمعنى على ما فهمه ، والله أعلم .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا أبو قرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ في ليلة : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) ، كان له من نور ، من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة " . غريب جدا .
آخر تفسير سورة الكهف ولله الحمد .
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ٠١١
قوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله - تعالى - ، وعلم الله - تعالى - لا يحصى ، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله .
فمن كان يرجو لقاء ربه أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه .
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري قال : يا رسول الله إني أعمل العمل لله - تعالى - ، وأريد وجه الله - تعالى - ، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني ; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية . وقال طاوس قال رجل : يا رسول الله ! إني أحب الجهاد في سبيل الله - تعالى - وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : جاء رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ! إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله - تعالى - فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل شيئا ، فأنزل الله - تعالى - فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
قلت : والكل مراد ، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال . وقد تقدم في سورة " هود " حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس . وقد تقدم في سورة " النساء " الكلام على الرياء ، وذكرنا من الأخبار هناك ما فيه كفاية . وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل : معنى قوله - تعالى - : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا إنه لا يرائي بعمله أحدا . وروى الترمذي الحكيم - رحمه الله تعالى - في ( نوادر الأصول ) قال : حدثنا أبي - رحمه الله تعالى - قال : حدثنا مكي بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الواحد بن زيد عن عبادة بن نسي قال : أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي ، فقلت : ما الذي أبكاك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك ؟ قال : أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي قلت : ما هو يا رسول الله ؟ قال : الشرك والشهوة الخفية قلت : يا رسول الله ! وتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراءون بأعمالهم قلت : والرياء شرك هو ؟ قال : نعم . قلت : فما الشهوة الخفية ؟ قال : يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر قال عبد الواحد : فلقيت الحسن ، فقلت : يا أبا سعيد ! أخبرني عن الرياء أشرك هو ؟ قال : نعم ; أما تقرأ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا . وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال : كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس جالسين ، فقالا : إنا نتخوف على هذه الأمة من الشرك والشهوة الخفية ، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء . وقالا : سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك ثم تلا فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
قلت : وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا ، وقد ذكرناه في " النساء " . وقال سهل بن عبد الله : وسئل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال : من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك ، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك ، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي ، وتذكر قوله - تعالى - : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا . والذين يؤتون ما آتوا الآية ; يؤتون الإخلاص ، وهم يخافون ألا يقبل منهم ; وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا ; قيل لها : كيف يكون هذا ؟ قال : من طلب بعمل بينه وبين الله - تعالى - سوى وجه الله - تعالى - والدار الآخرة فهو رياء . وقال علماؤنا - رضي الله تعالى عنهم - : وقد يفضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به ; كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لأبي عبد الله المروزي : منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله ؟ قال : دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم ; فقال يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين . وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم ، فقالوا : ما أحسن صلاتك ؟ ! فقال : وأنا مع ذلك صائم . أين هذا من قول الأشعث بن قيس وقد صلى فخفف ، فقيل له إنك خففت ، فقال : إنه لم يخالطها رياء ; فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه ، والتصنع من صلاته ; وقد تقدم في " النساء " دواء الرياء من قول لقمان ; وأنه كتمان العمل ، وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي - رحمه الله تعالى - قال : أنبأنا الحماني قال : أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال : قال أبو بكر وشهد به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرك ، قال : هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات . وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر فمن كان يرجو لقاء ربه فقال : إنها لآخر آية نزلت من السماء . وقال عمر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أوحي إلي أنه من قرأ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له . وقال معاذ بن جبل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء وعن ابن عباس أنه قال له رجل : إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم ، فقال : إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي إلى آخر السورة فإن الله - تعالى - يوقظك متى شئت من الليل ; ذكر هذه الفضائل الثعلبي - رضي الله تعالى عنه - . وفي مسند الدارمي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل قامها ; قال عبدة فجربناه فوجدناه كذلك قال ابن العربي : كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول : لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الأقران ، ومواصلة الإخوان ; وقد ختم - سبحانه وتعالى - البيان بقوله : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا ٠١١
أي: { قُلْ ْ} يا محمد للكفار وغيرهم: { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ْ} أي: لست بإله، ولا لي شركة في الملك، ولا علم بالغيب، ولا عندي خزائن الله، { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ْ} عبد من عبيد ربي، { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ْ} أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه الله إلي، الذي أجله الإخبار لكم: أنما إلهكم إله واحد، أي: لا شريك له، ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره، وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه، وينيلكم ثوابه، ويدفع عنكم عقابه. ولهذا قال: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ْ} وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب، { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ْ} أي: لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى، فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة، هو الذي ينال ما يرجو ويطلب، وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه، وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه.
آخر تفسير سورة الكهف، ولله الحمد.
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم