بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ١
تفسير سورة القيامة وهي مكية .
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيا ، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي . والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد ، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بعث الأجساد ; ولهذا قال تعالى : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة ) قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة . وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعا . هكذا حكاه ابن أبي حاتم . وقد حكى ابن جرير ، عن الحسن والأعرج أنهما قرآ : " لأقسم [ بيوم القيامة ] " ، وهذا يوجه قول الحسن ; لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة . والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه الله ، وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، واختاره ابن جرير .
فأما يوم القيامة فمعروف ، وأما النفس اللوامة ، فقال قرة بن خالد ، عن الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن - والله - ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه .
لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ١
سورة القيامة
مكية ، وهي تسع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بيوم القيامة
قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة قيل : إن " لا " صلة ، وجاز وقوعها في أول السورة ; لأن القرآن متصل بعضه ببعض ، فهو في حكم كلام واحد ; ولهذا قد يذكر الشيء في سورة ويجيء جوابه في سورة أخرى ; كقوله تعالى : وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون . وجوابه في سورة أخرى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون . ومعنى الكلام : أقسم بيوم القيامة ; قاله ابن عباس وابن جبير وأبو عبيدة ; ومثله قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع
وحكى أبو الليث السمرقندي : أجمع المفسرون أن معنى لا أقسم : أقسم . واختلفوا في تفسير : لا قال بعضهم : لا زيادة في الكلام للزينة ، ويجري في كلام العرب زيادة لا كما قال في آية أخرى : قال ما منعك ألا تسجد . يعني أن تسجد ، وقال بعضهم : " لا " رد لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم .
قلت : وهذا قول الفراء ; قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون ( لا ) صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يجعل صلة ; لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه وغير المبتدأ وذلك كقولهم لا والله لا أفعل ف ( لا ) رد لكلام قد مضى ، وذلك كقولك : لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه . وأنشد غير الفراء لامرئ القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمى :
ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي
وفائدتها توكيد القسم في الرد . قال الفراء : وكان من لا يعرف هذه الجهة يقرأ لأقسم بغير ألف ; كأنها لام تأكيد دخلت على " أقسم " ، وهو صواب ; لأن العرب تقول : لأقسم بالله وهي قراءة الحسن وابن كثير والزهري وابن هرمز بيوم القيامة أي بيوم يقوم الناس فيه لربهم ، ولله - عز وجل - أن يقسم بما شاء .
لَآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ١
ليست { لا } [ها] هنا نافية، [ولا زائدة] وإنما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين، لا يستغرب الاستفتاح بها، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح.
فالمقسم به في هذا الموضع، هو المقسم عليه، وهو البعث بعد الموت، وقيام الناس من قبورهم، ثم وقوفهم ينتظرون ما يحكم به الرب عليهم.
وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢
وقال جويبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) قال : ليس أحد من أهل السماوات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم ، عن إسرائيل ، عن سماك : أنه سأل عكرمة عن قوله : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) قال : يلوم على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا .
ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن وكيع ، عن إسرائيل .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن الحسن بن مسلم ، عن سعيد بن جبير في : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) قال : تلوم على الخير والشر .
ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك : فقال : هي النفس اللئوم .
وقال علي بن أبي نجيح ، عن مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : اللوامة : المذمومة .
وقال قتادة : ( اللوامة ) الفاجرة .
قال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات .
وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢
ولا أقسم بالنفس اللوامة لا خلاف في هذا بين القراء ، وهو أنه أقسم سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه ولم يقسم بالنفس . وعلى قراءة ابن كثير أقسم بالأولى ولم يقسم بالثانية .
وقيل : ولا أقسم بالنفس اللوامة رد آخر وابتداء قسم بالنفس اللوامة . قال الثعلبي : والصحيح أنه أقسم بهما جميعا .
ومعنى : بالنفس اللوامة أي بنفس المؤمن الذي لا تراه إلا يلوم نفسه ، يقول : ما أردت بكذا ؟ فلا تراه إلا وهو يعاتب نفسه ; قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم . قال الحسن : هي والله نفس المؤمن ، ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلامي ؟ ما أردت بأكلي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ والفاجر لا يحاسب نفسه .
وقال مجاهد : هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لا تستكثر منه . وقيل : إنها ذات اللوم . وقيل : إنها تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها ; فعلى هذه الوجوه تكون اللوامة بمعنى اللائمة ، وهو صفة مدح ; وعلى هذا يجيء القسم بها سائغا حسنا . وفي بعض التفسير : إنه آدم - عليه السلام - لم يزل لائما لنفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة . وقيل : اللوامة بمعنى الملومة المذمومة عن ابن عباس أيضا - فهي صفة ذم وهو قول من نفى أن يكون قسما ; إذ ليس للعاصي خطر يقسم به ، فهي كثيرة اللوم . وقال مقاتل : هي نفس الكافر يلوم نفسه ، ويتحسر في الآخرة على ما فرط في جنب الله . وقال الفراء : ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها ; فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا ، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته .
وَلَآ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢
{ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } وهي جميع النفوس الخيرة والفاجرة، سميت { لوامة } لكثرة ترددها وتلومها وعدم ثبوتها على حالة من أحوالها، ولأنها عند الموت تلوم صاحبها على ما عملت ، بل نفس المؤمن تلوم صاحبها في الدنيا على ما حصل منه، من تفريط أو تقصير في حق من الحقوق، أو غفلة، فجمع بين الإقسام بالجزاء، وعلى الجزاء، وبين مستحق الجزاء.
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣
أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة.
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣
قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه فنعيدها خلقا جديدا بعد أن صارت رفاتا .
قال الزجاج : أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة : ليجمعن العظام للبعث ، فهذا جواب القسم .
وقال النحاس : جواب القسم محذوف أي لتبعثن ; ودل عليه قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه للإحياء والبعث . والإنسان هنا الكافر المكذب للبعث . الآية نزلت في عدي بن ربيعة قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حدثني عن يوم القيامة متى تكون ، وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ; فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به ، أويجمع الله العظام ؟ ! ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللهم اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة ، والأخنس بن شريق " . وقيل : نزلت في عدو الله أبي جهل حين أنكر البعث بعد الموت . وذكر العظام والمراد نفسه كلها ; لأن العظام قالب الخلق .
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَلَّن نَّجۡمَعَ عِظَامَهُۥ ٣
ثم أخبر مع هذا، أن بعض المعاندين يكذب بيوم القيامة، فقال: { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أن لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } بعد الموت، كما قال في الآية الأخرى: { قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ؟ فاستبعد من جهله وعدوانه قدرة الله على خلق عظامه التي هي عماد البدن.
بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤
قال سعيد بن جبير والعوفي ، عن ابن عباس : أن نجعله خفا أو حافرا . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جرير . ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا .
والظاهر من الآية أن قوله : ( قادرين ) حال من قوله : ( نجمع ) أي : أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه ، أي : قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان ، فنجعل بنانه - وهي أطراف أصابعه - مستوية . وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج .
بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤
بلى وقف حسن ثم تبتدئ ( قادرين ) . قال سيبويه : على معنى نجمعها قادرين ، ف ( قادرين ) حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير . وقيل : المعنى بل نقدر قادرين . قال الفراء : قادرين نصب على الخروج من نجمع أي نقدر ونقوى قادرين على أكثر من ذلك . وقال أيضا : يصلح نصبه على التكرير أي بلى فليحسبنا قادرين . وقيل : المضمر ( كنا ) أي كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون . وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بتأويل نحن قادرون .
على أن نسوي بنانه البنان عند العرب : الأصابع ، واحدها بنانة ; قال النابغة :
بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
وقال عنترة :
وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندواني
فنبه بالبنان على بقية الأعضاء . وأيضا فإنها أصغر العظام ، فخصها بالذكر لذلك .
قال القتبي والزجاج : وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام ; فقال الله تعالى : بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها ، ونؤلف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر .
وقال ابن عباس وعامة المفسرين : المعنى على أن نسوي بنانه أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلف الخنزير ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا ، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء . وكان الحسن يقول : جعل لك أصابع فأنت تبسطهن ، وتقبضهن بهن ، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك . وقيل : أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ; وهو كقوله تعالى : وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون .
قلت : والتأويل الأول أشبه بمساق الآية . والله أعلم .
بَلَىٰ قَٰدِرِينَ عَلَىٰٓ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُۥ ٤
فرد عليه بقوله: { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } أي: أطراف أصابعه وعظامه، المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا وجدت الأنامل والبنان، فقد تمت خلقة الجسد، وليس إنكاره لقدرة الله تعالى قصورا بالدليل الدال على ذلك، وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمد.
بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥
وقوله : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ) قال سعيد ، عن ابن عباس : يعني يمضي قدما .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( ليفجر أمامه ) يعني : الأمل ، يقول الإنسان : أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة .
وقال مجاهد ( ليفجر أمامه ) ليمضي أمامه راكبا رأسه . وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما ، إلا من عصمه الله .
وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي ، وغير واحد من السلف : هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب . وكذا قال ابن زيد ، وهذا هو الأظهر من المراد ; ولهذا قال بعده
بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥
قوله تعالى : بل يريد الإنسان ليفجر أمامه قال ابن عباس : يعني الكافر يكذب بما أمامه من البعث والحساب . وقاله عبد الرحمن بن زيد ; ودليله :يسأل أيان يوم القيامة أي يسأل متى يكون ! على وجه الإنكار والتكذيب . فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب ، ولكن يأثم لما بين يديه . ومما يدل على أن الفجور التكذيب ما ذكره القتبي وغيره أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشكا إليه نقب إبله ودبرها ، وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله ; فقال الأعرابي :
أقسم بالله أبو حفص عمر ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
يعني إن كان كذبني فيما ذكرت . وعن ابن عباس أيضا : يعجل المعصية ويسوف التوبة . وفي بعض الحديث قال : يقول سوف أتوب ولا يتوب ; فهو قد أخلف فكذب . وهذا قول مجاهد والحسن وعكرمة والسدي وسعيد بن جبير ، يقول : سوف أتوب ، سوف أتوب ، حتى يأتيه الموت على أشر أحواله .
وقال الضحاك : هو الأمل يقول سوف أعيش وأصيب من الدنيا ولا يذكر الموت . وقيل : أي يعزم على المعصية أبدا وإن كان لا يعيش إلا مدة قليلة . فالهاء على هذه الأقوال للإنسان . وقيل : الهاء ليوم القيامة . والمعنى بل يريد الإنسان ليكفر بالحق بين يدي يوم القيامة . والفجور أصله الميل عن الحق .
بَلۡ يُرِيدُ ٱلۡإِنسَٰنُ لِيَفۡجُرَ أَمَامَهُۥ ٥
وإنما [ وقع ] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمد.
ثم ذكر أحوال القيامة فقال:
يَسَۡٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
يَسَۡٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦
( يسأل أيان يوم القيامة ) ؟ أي : يقول متى يكون يوم القيامة ؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه ، وتكذيب لوجوده ، كما قال تعالى : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ) [ سبأ : 29 ، 30 ] .
يَسَۡٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦
يسأل أيان يوم القيامة أي متى يوم القيامة .
يَسَۡٔلُ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلۡقِيَٰمَةِ ٦
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧
وقال تعالى هاهنا : ( فإذا برق البصر ) قال أبو عمرو بن العلاء : ( برق ) بكسر الراء ، أي : حار . وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى : ( لا يرتد إليهم طرفهم ) [ إبراهيم : 43 ] ، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر على شيء ; من شدة الرعب .
وقرأ آخرون : " برق " بالفتح ، وهو قريب في المعنى من الأول . والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور .
فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧
قوله تعالى : فإذا برق البصر قرأ نافع وأبان عن عاصم برق بفتح الراء ، معناه : لمع بصره من شدة شخوصه ، فتراه لا يطرف . قال مجاهد وغيره : هذا عند الموت . وقال الحسن : هذا يوم القيامة . وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر والباقون بالكسر برق ومعناه : تحير فلم يطرف ; قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما . قال ذو الرمة :
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق
الفراء والخليل : برق بالكسر : فزع وبهت وتحير . والعرب تقول للإنسان المتحير المبهوت : قد برق فهو برق ; وأنشد الفراء :
فنفسك فانع ولا تنعني وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم التي بك . وقيل : برق يبرق بالفتح : شق عينيه وفتحهما . قاله أبو عبيدة ; وأنشد قول الكلابي :
لما أتاني ابن عمير راغبا أعطيته عيسا صهابا فبرق
أي فتح عينيه . وقيل : إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنى
فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧
أي: إذا كانت القيامة برقت الأبصار من الهول العظيم، وشخصت فلا تطرف كما قال تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }
وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨
أي ذهب ضوءه.
وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨
قوله تعالى : وخسف القمر أي ذهب ضوءه . والخسوف في الدنيا إلى انجلاء ، بخلاف الآخرة ، فإنه لا يعود ضوءه . ويحتمل أن يكون بمعنى غاب ; ومنه قوله تعالى : فخسفنا به وبداره الأرض .
وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج : ( وخسف القمر ) بضم الخاء وكسر السين يدل عليه وجمع الشمس والقمر .
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس : إذا ذهب بعضه فهو الكسوف ، وإذا ذهب كله فهو الخسوف .
وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨
{ وَخَسَفَ الْقَمَرُ } أي: ذهب نوره وسلطانه
وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩
( وجمع الشمس والقمر ) قال مجاهد : كورا . وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية : ( إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت ) [ التكوير : 1 ، 2 ] وروي عن ابن مسعود أنه قرأ : " وجمع بين الشمس والقمر " .
وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩
وجمع الشمس والقمر أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما ، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه ; قاله الفراء والزجاج .
قال الفراء : ولم يقل جمعت ; لأن المعنى جمع بينهما . وقال أبو عبيدة : هو على تغليب المذكر . وقال الكسائي : هو محمول على المعنى ، كأنه قال الضوءان . المبرد : التأنيث غير حقيقي .
وقال ابن عباس وابن مسعود : جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكورين مظلمين مقرنين كأنهما ثوران عقيران . وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة ( الأنعام ) .
وفي قراءة عبد الله ( وجمع بين الشمس والقمر ) وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى . وقال علي وابن عباس : يجعلان في نور الحجب . وقد يجمعان في نار جهنم ; لأنهما قد عبدا من دون الله ولا تكون النار عذابا لهما لأنهما جماد ، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم .
وفي مسند أبي داود الطيالسي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار وقيل : هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان ، ويقربان من الناس ، فيلحقهم العرق لشدة الحر ; فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم . وقيل : يجمع الشمس والقمر ، فلا يكون ثم تعاقب ليل ولا نهار .
وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩
{ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وهما لم يجتمعا منذ خلقهما الله تعالى، فيجمع الله بينهما يوم القيامة، ويخسف القمر، وتكور الشمس، ثم يقذفان في النار، ليرى العباد أنهما عبدان مسخران، وليرى من عبدهما أنهم كانوا كاذبين.
يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ٠١
أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجإ أو موئل.
يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ٠١
قوله تعالى : يقول الإنسان يومئذ أين المفر أي يقول ابن آدم ، ويقال : أبو جهل ; أي أين المهرب ؟ قال الشاعر :
أين المفر والكباش تنتطح وأي كبش حاد عنها يفتضح
الماوردي : ويحتمل وجهين : أحدهما : أين المفر من الله استحياء منه . الثاني : أين المفر من جهنم حذرا منها . ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون من الكافر خاصة في عرضة القيامة دون المؤمن ; لثقة المؤمن ببشرى ربه . الثاني : أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها . وقراءة العامة المفر بفتح الفاء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ; لأنه مصدر . وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم ; قال الكسائي : هما لغتان مثل مدب ومدب ، ومصح ومصح . وعن الزهري بكسر الميم وفتح الفاء . المهدوي : من فتح الميم والفاء من ( المفر ) فهو مصدر بمعنى الفرار ، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفر إليه . ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيد الفرار ; فالمعنى أين الإنسان الجيد الفرار ولن ينجو مع ذلك .
قلت : ومنه قول امرئ القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
يريد أنه حسن الكر والفر جيده .
يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ٠١
{ يَقُولُ الْإِنْسَانُ } حين يرى تلك القلاقل المزعجات: { أَيْنَ الْمَفَرُّ } أي: أين الخلاص والفكاك مما طرقنا وأصابنا ؟
كَلَّا لَا وَزَرَ ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
كَلَّا لَا وَزَرَ ١١
قال الله تعالى : ( كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ) قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف : أي لا نجاة .
وهذه كقوله : ( ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير ) [ الشورى : 47 ] أي : ليس لكم مكان تتنكرون فيه ، وكذا قال هاهنا ( لا وزر ) أي : ليس لكم مكان تعتصمون فيه
كَلَّا لَا وَزَرَ ١١
كلا أي لا مفر ف " كلا " رد وهو من قول الله تعالى ، ثم فسر هذا الرد فقال : لا وزر أي لا ملجأ من النار . وكان ابن مسعود يقول : لا حصن . وكان الحسن يقول : لا جبل . وابن عباس يقول : لا ملجأ . وابن جبير : لا محيص ولا منعة . المعنى في ذلك كله واحد . والوزر في اللغة : ما يلجأ إليه من حصن أو جبل أو غيرهما ; قال الشاعر :
لعمري ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
قال السدي : كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال ، فقال الله لهم : لا وزر يعصمكم يومئذ مني ; قال طرفة :
ولقد تعلم بكر أننا فاضلو الرأي وفي الروع وزر
أي ملجأ للخائف .
ويروى : وقر .
كَلَّا لَا وَزَرَ ١١
{ كَلَّا لَا وَزَرَ } أي: لا ملجأ لأحد دون الله،
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ٢١
أي المرجع والمصير.
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ٢١
إلى ربك يومئذ المستقر أي المنتهى ; قاله قتادة نظيره وأن إلى ربك المنتهى . وقال ابن مسعود : إلى ربك المصير والمرجع . قيل : أي المستقر في الآخرة حيث يقره الله تعالى ; إذ هو الحاكم بينهم . وقيل : إن كلا من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفر قال لنفسه : كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر .
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ٢١
{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } لسائر العباد فليس في إمكان أحد أن يستتر أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بد من إيقافه ليجزى بعمله.
يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ٣١
ثم قال تعالى : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) أي : يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : 49 ]
يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ٣١
قوله تعالى : ينبأ الإنسان أي يخبر ابن آدم برا كان أو فاجرا بما قدم وأخر : أي بما أسلف من عمل سيئ أو صالح ، أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده ; قاله ابن عباس وابن مسعود .
وروى منصور عن مجاهد قال : ينبأ بأول عمله وآخره . وقاله النخعي . وقال ابن عباس أيضا : أي بما قدم من المعصية ، وأخر من الطاعة . وهو قول قتادة .
وقال ابن زيد : بما قدم : من أمواله لنفسه . وأخر : خلف للورثة . وقال الضحاك : ينبأ بما قدم من فرض ، وأخر من فرض . قال القشيري : وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال . ويجوز أن يكون عند الموت .
قلت : والأول أظهر ; لما خرجه ابن ماجه في سننه من حديث الزهري ، حدثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره ، وولدا صالحا تركه ، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه ، أو بيتا لابن السبيل بناه ، أو نهرا أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته وخرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره : من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته فقوله : بعد موته وهو في قبره نص على أن ذلك لا يكون عند الموت ، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله ، وإن كان يبشر بذلك في قبره . ودل على هذا أيضا قوله الحق : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقوله تعالى : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال . والله أعلم .
وفي الصحيح : من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء .
يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ٣١
{ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي: بجميع عمله الحسن والسيء، في أول وقته وآخره، وينبأ بخبر لا ينكره.
بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ٤١
وهكذا قال هاهنا : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) أي : هو شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) [ الإسراء : 14 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) يقول : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه .
وقال قتادة : شاهد على نفسه . وفي رواية قال : إذا شئت - والله - رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم ، تبصر القذاة في عين أخيك ، وتترك الجذل في عينك لا تبصره .
بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ٤١
قوله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة قال الأخفش : جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك .
وقال ابن عباس : بصيرة أي شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما بطش بهما ، ورجلاه بما مشى عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما . والبصيرة : الشاهد . وأنشد الفراء :
كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهم
من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح ، لأنها شاهدة على نفس الإنسان ; فكأنه قال : بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة ; قال معناه القتبي وغيره . وناس يقولون : هذه الهاء في قوله : بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كالهاء في قولهم : داهية وعلامة وراوية . وهو قول أبي عبيد . وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر ; يدل عليه قوله تعالى : ولو ألقى معاذيره فيمن جعل المعاذير الستور . وهو قول السدي والضحاك .
وقال بعض أهل التفسير : المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة ; أي شاهد فحذف حرف الجر . ويجوز أن يكون ( بصيرة ) نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره : بل الإنسان على نفسه عين بصيرة ; وأنشد الفراء :
كأن على ذي العقل عينا بصيرة
وقال الحسن في قوله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة يعني : بصير بعيوب غيره ، جاهل بعيوب نفسه .
ولو ألقى معاذيره أي ولو أرخى ستوره . والستر بلغة أهل اليمن : معذار ; قاله الضحاك وقال الشاعر :
ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت فوقها بالمعاذر
قال الزجاج : المعاذر : الستور ، والواحد معذار ; أي وإن أرخى ستره ; يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه . وقيل : أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا ، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه ، فعليه شاهد يكذب عذره ; قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل . قال مقاتل : أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك . نظيره قوله تعالى : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم وقوله : ولا يؤذن لهم فيعتذرون فالمعاذير على هذا : مأخوذ من العذر ; قال الشاعر :
وإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر
واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له : قد عذرتك غير معتذر ، إن المعاذير يشوبها الكذب . وقال ابن عباس : ولو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه . حكاه الماوردي .
قلت : والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب ; ومنه قول النابغة :
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك النكد
والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار والله ربنا ما كنا مشركين وقوله تعالى في المنافقين : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم . وفي الصحيح أنه يقول : " يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع " الحديث . وقد تقدم في ( حم السجدة ) وغيرها . والمعاذير والمعاذر : جمع معذرة ; ويقال : عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا ، والاسم المعذرة والعذرى ; قال الشاعر : [ الجموح الظفري ]
إني حددت ولا عذرى لمحدود
وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة ; قال النابغة :
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلد
وتضمنت هذه الآية مسائل :
الأولى : قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره : فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ; لأنها بشهادة منه عليها ; قال الله سبحانه وتعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ولا خلاف فيه ; لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه ; لأن العاقل لا يكذب على نفسه ، وهي المسألة :
الثانية : وقد قال سبحانه في كتابه الكريم : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ثم قال تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وهو في الآثار كثير ; قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها .
فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون ، فيقول أحدهم : إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه ، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد ، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه ، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده .
قال مالك : وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار ، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه ، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار ، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق ، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه . وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة ، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم ، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه ، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه ، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء .
الثالثة : لا يصح الإقرار إلا من مكلف ، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ; لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط ، ومنه جائز . وبيانه في مسائل الفقه . وللعبد حالتان في الإقرار : إحداهما في ابتدائه ، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم . والثانية في انتهائه ، وذلك مثل إبهام الإقرار ، وله صور كثيرة وأمهاتها ست :
الصورة الأولى : أن يقول له عندي شيء ، قال الشافعي : لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه . والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر ، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه .
الصورة الثانية : أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة : لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له .
الصورة الثالثة : أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب ، فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء ، فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء ، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله ، وقال بعض أصحاب الشافعي : يلزم الخمر والخنزير ، وهو قول باطل .
وقال أبو حنيفة : إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون ، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما . وهذا ضعيف ; فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا .
الصورة الرابعة : إذا قال له : عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين ، ما لم يجئ من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه .
الصورة الخامسة : أن يقول له : عندي مال كثير أو عظيم ; فقال الشافعي : يقبل في الحبة .
وقال أبو حنيفة : لا يقبل إلا في نصاب الزكاة . وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة ، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة ، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم . وبه قال أكثر الحنفية .
ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد : إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما . فقيل له : ومن أين تقول ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين . وهذا لا يصح ; لأنه أخرج حنينا منها ، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين ، وقد قال الله تعالى : اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وقال : لا خير في كثير من نجواهم ، وقال : والعنهم لعنا كبيرا .
الصورة السادسة : إذا قال له : عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه ، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه . وبه قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا ; كقوله : مائة وخمسون درهما ; لأن الدرهم تفسير للخمسين ، والخمسون تفسير للمائة . وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي : الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء .
بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ٤١
{ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } أي: شاهد ومحاسب.
وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ ٥١
وقال مجاهد : ( ولو ألقى معاذيره ) ولو جادل عنها فهو بصير عليها . وقال قتادة : ( ولو ألقى معاذيره ) ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه . وقال السدي : ( ولو ألقى معاذيره ) حجته . وكذا قال ابن زيد والحسن البصري ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .
وقال قتادة ، عن زرارة ، عن ابن عباس : ( ولو ألقى معاذيره ) يقول : لو ألقى ثيابه .
وقال الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وأهل اليمن يسمون الستر : المعذار .
والصحيح قول مجاهد وأصحابه ، كقوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] وكقوله ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) [ المجادلة : 18 ] .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( ولو ألقى معاذيره ) هي الاعتذار ، ألم تسمع أنه قال : ( لا ينفع الظالمين معذرتهم ) [ غافر : 52 ] وقال ( وألقوا إلى الله يومئذ السلم ) [ النحل : 87 ] ( فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء ) [ النحل : 28 ] وقولهم ( والله ربنا ما كنا مشركين )
وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ ٥١
قوله تعالى : ولو ألقى معاذيره ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه . وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعدما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله ; فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة : يقبل رجوعه بعد الإقرار . وقال به مالك في أحد قوليه ، وقال في القول الآخر : لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا .
والصحيح جواز الرجوع مطلقا ; لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد المقر بالزنا مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه ، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " أبك جنون ؟ " قال : لا . قال : " أحصنت ؟ " قال : نعم . وفي حديث البخاري : " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " . وفي النسائي وأبي داود : حتى قال له في الخامسة " أجامعتها ؟ " قال : نعم . قال : " حتى غاب ذلك منك في ذلك منها " قال : نعم . قال : " كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر " . قال : نعم . ثم قال : " هل تدري ما الزنا " قال : نعم ، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا . قال : " فما تريد مني ؟ قال : أريد أن تطهرني . قال : فأمر به فرجم . قال الترمذي وأبو داود : فلما وجد مس الحجارة فر يشتد ، فضربه رجل بلحي جمل ، وضربه الناس حتى مات . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هلا تركتموه " وقال أبو داود والنسائي : ليتثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأما لترك حد فلا . وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله . وفي قوله - عليه السلام - : " لعلك قبلت أو غمزت " إشارة إلى قول مالك : إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها .
وهذا في الحر المالك لأمر نفسه ، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين : إما أن يقر على بدنه ، أو على ما في يده وذمته ; فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه .
وقال محمد بن الحسن : لا يقبل ذلك منه ; لأن بدنه مستغرق لحق السيد ، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه ; ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإن من يبد لنا صفحته نقم عليه الحد . المعنى أن محل العقوبة أصل الخلقة ، وهي الدمية في الآدمية ، ولا حق للسيد فيها ، وإنما حقه في الوصف والتبع ، وهي المالية الطارئة عليه ; ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل ، حتى قال أبو حنيفة : إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له .
وقال علماؤنا : السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق ; لأن مال العبد للسيد إجماعا ، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه ، لا سيما وأبو حنيفة يقول : إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك ، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه . ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين . والله أعلم .
وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ ٥١
{ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } فإنها معاذير لا تقبل، ولا تقابل ما يقرر به العبد ، فيقر به، كما قال تعالى: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } .
فالعبد وإن أنكر، أو اعتذر عما عمله، فإنكاره واعتذاره لا يفيدانه شيئا، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره، وجميع جوارحه بما كان يعمل، ولأن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه: { فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }
لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ٦١
هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له ، وتكفل له أن يجمعه في صدره ، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه ، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه ، فالحالة الأولى جمعه في صدره ، والثانية تلاوته ، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ; ولهذا قال : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) أي : بالقرآن ، كما قال : ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ) [ طه : 114 ] .
لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ٦١
قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به في الترمذي : عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه ، يريد أن يحفظه ، فأنزل الله تبارك وتعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به قال : فكان يحرك به شفتيه . وحرك سفيان شفتيه .
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة ، كان يحرك شفتيه ، فقال لي ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما ; فقال سعيد : أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما ، فحرك شفتيه ; فأنزل الله - عز وجل - : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه قال " جمعه " في صدرك ثم تقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت . ثم إن علينا أن نقرأه ; قال : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع ، وإذا انطلق جبريل - عليه السلام - قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه ; خرجه البخاري أيضا .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقد تقدم . وقال عامر الشعبي : إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له ، وحلاوته في لسانه ، فنهي عن ذلك حتى يجتمع ; لأن بعضه مرتبط ببعض ، وقيل : كان - عليه السلام - إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه ، فنزلت ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ونزل : سنقرئك فلا تنس ونزل : لا تحرك به لسانك قاله ابن عباس : وقرآنه أي وقراءته عليك . والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران . وقال قتادة : فاتبع قرآنه أي فاتبع شرائعه وأحكامه .
لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ٦١
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه جبريل بالوحي، وشرع في تلاوته عليه، بادره النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص قبل أن يفرغ، وتلاه مع تلاوة جبريل إياه، فنهاه الله عن هذا، وقال: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ }
وقال هنا: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ثم ضمن له تعالى أنه لا بد أن يحفظه ويقرأه، ويجمعه الله في صدره،
إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ٧١
أي في صدرك وقرآنه أي أن تقرأه.
إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ٧١
ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة , كان يحرك شفتيه , فقال لي ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما ; فقال سعيد : أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما , فحرك شفتيه ; فأنزل الله عز وجل : " لا تحرك به لسانك لتعجل به .
إن علينا جمعه وقرآنه "
قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه
إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ٧١
{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فالحرص الذي في خاطرك، إنما الداعي له حذر الفوات والنسيان، فإذا ضمنه الله لك فلا موجب لذلك.
فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ٨١
"فإذا قرأناه" أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى "فاتبع قرآنه" أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك.
فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ٨١
قال فاستمع له وأنصت .
ثم إن علينا أن نقرأه ; قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع , وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه ; خرجه البخاري أيضا .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " [ طه : 114 ] وقد تقدم وقال عامر الشعبي : إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له , وحلاوته في لسانه , فنهي عن ذلك حتى يجتمع ; لأن بعضه مرتبط ببعض , وقيل : كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه , فنزلت " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " [ طه : 114 ] ونزل : " سنقرئك فلا تنسى " [ الأعلى : 6 ] ونزل : " لا تحرك به لسانك " قاله ابن عباس : " وقرآنه " أي وقراءته عليك .
والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران .
وقال قتادة : " فاتبع قرآنه " أي فاتبع شرائعه وأحكامه .
فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ٨١
{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: إذا كمل جبريل قراءة ما أوحى الله إليك، فحينئذ اتبع ما قرأه وأقرأه.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ٩١
( ثم إن علينا بيانه ) أي : بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي عوانة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة ، فكان يحرك شفتيه - قال : فقال لي ابن عباس : أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه . وقال لي سعيد : وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه - فأنزل الله عز وجل ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) قال : جمعه في صدرك ، ثم تقرأه ، ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) فاستمع له وأنصت . ( ثم إن علينا بيانه ) فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه .
وقد رواه البخاري ومسلم ، من غير وجه ، عن موسى بن أبي عائشة ، به ، ولفظ البخاري : فكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى التيمي ، حدثنا موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة ، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه ، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره ، فأنزل الله : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به )
وهكذا قال الشعبي ، والحسن البصري ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وغير واحد : إن هذه الآية نزلت في ذلك .
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) قال : كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه ، فقال الله : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا ) أن نجمعه لك ( وقرآنه ) أن نقرئك فلا تنسى .
وقال ابن عباس وعطية العوفي : ( ثم إن علينا بيانه ) تبيين حلاله وحرامه . وكذا قال قتادة .
ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ٩١
وقوله : ثم إن علينا بيانه أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام ; قاله قتادة . وقيل : ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما وقيل : أي إن علينا أن نبينه بلسانك .
ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ٩١
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بيان معانيه، فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون، فامتثل صلى الله عليه وسلم لأدب ربه، فكان إذا تلا عليه جبريل القرآن بعد هذا، أنصت له، فإذا فرغ قرأه.
وفي هذه الآية أدب لأخذ العلم، أن لا يبادر المتعلم المعلم قبل أن يفرغ من المسألة التي شرع فيها، فإذا فرغ منها سأله عما أشكل عليه، وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الرد أو الاستحسان، أن لا يبادر برده أو قبوله، حتى يفرغ من ذلك الكلام، ليتبين ما فيه من حق أو باطل، وليفهمه فهما يتمكن به من الكلام عليه، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما بين للأمة ألفاظ الوحي، فإنه قد بين لهم معانيه.
كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ ٠٢
أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم.
كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ ٠٢
قوله تعالى : كلا قال ابن عباس : أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه . وقيل : أي ( كلا ) لا يصلون ولا يزكون يريد كفار مكة . بل تحبون أي بل تحبون يا كفار أهل مكة العاجلة أي الدار الدنيا والحياة فيها
كَلَّا بَلۡ تُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ ٠٢
أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم { تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم، وربحتم ربحا لا خسار معه، وفزتم فوزا لا شقاء يصحبه.
وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ١٢
إنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.
وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ١٢
وتذرون أي تدعون الآخرة والعمل لها . وفي بعض التفسير قال : الآخرة الجنة . وقرأ أهل المدينة والكوفيون بل تحبون وتذرون بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد ; قال : ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء ; لذكر الإنسان قبل ذلك . الباقون بالياء على الخبر ، وهو اختيار أبي حاتم ، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى : ينبأ الإنسان وهو بمعنى الناس . ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع ; لأن ذلك أبلغ في المقصود ; نظيره : إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا .
وَتَذَرُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ١٢
أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم { تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم، وربحتم ربحا لا خسار معه، وفزتم فوزا لا شقاء يصحبه.
وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢
من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة.
وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢
قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة الأول من النضرة التي هي الحسن والنعمة . والثاني من النظر أي وجوه المؤمنين مشرقة حسنة ناعمة ; يقال : نضرهم الله ينضرهم نضرة ونضارة وهو الإشراق والعيش والغنى ; ومنه الحديث نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها .
وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ ٢٢
ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح.
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٣٢
( إلى ربها ناظرة ) أي : تراه عيانا ، كما رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه : " إنكم سترون ربكم عيانا " . وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ; لحديثأبي سعيد وأبي هريرة - وما في الصحيحين - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ " قالوا : لا . قال : " فإنكم ترون ربكم كذلك " . وفي الصحيحين عن جرير قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا " وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . وفي أفراد مسلم ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة " قال : " يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ " قال : " فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ، وهي الزيادة " . ثم تلا هذه الآية : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس : 26 ] .
وفي أفراد مسلم ، عن جابر في حديثه : " إن الله يتجلى للمؤمنين يضحك " - يعني في عرصات القيامة - ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عز وجل في العرصات ، وفي روضات الجنات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبجر ، حدثنا ثوير بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه . وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين " .
ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن شبابة ، عن إسرائيل ، عن ثوير قال : " سمعت ابن عمر . . " . فذكره ، قال : " ورواه عبد الملك بن أبجر ، عن ثوير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قوله " . وكذلك رواه الثوري ، عن ثوير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، لم يرفعه ، ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضع من هذا التفسير ، وبالله التوفيق . وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام . وهداة الأنام .
ومن تأول ذلك بأن المراد ب ) إلى ) مفرد الآلاء ، وهي النعم ، كما قال الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : ( إلى ربها ناظرة ) فقال تنتظر الثواب من ربها . رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد . وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ؟ [ المطففين : 15 ] ، قال الشافعي ، رحمه الله : ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل . ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة ، وهي قوله : ( إلى ربها ناظرة ) قال ابن جرير : حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك ، عن الحسن : ( وجوه يومئذ ناضرة ) قال : حسنة ، ( إلى ربها ناظرة ) قال تنظر إلى الخالق ، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق .
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٣٢
إلى ربها إلى خالقها ومالكها ناظرة أي تنظر إلى ربها ; على هذا جمهور العلماء . وفي الباب حديث صهيب خرجه مسلم وقد مضى في ( يونس ) عند قوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة . وكان ابن عمر يقول : أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ; ثم تلا هذه الآية : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال : تنظر إلى ربها نظرا . وكان الحسن يقول : نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم .
وقيل : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب . وروي عن ابن عمر ومجاهد . وقال عكرمة : تنتظر أمر ربها . حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضا . وليس معروفا إلا عن مجاهد وحده . واحتجوا بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهذا القول ضعيف جدا ، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار .
وفي الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة قال هذا حديث غريب . وقد روي عن ابن عمرو ولم يرفعه .
وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جل وعز إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن .
وروى جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوسا ، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا . ثم قرأ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب متفق عليه . وخرجه أيضا أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح . وخرج أبو داود عن أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله ، أكلنا يرى ربه ؟ قال ابن معاذ : مخليا به يوم القيامة ؟ قال : " نعم يا أبا رزين " قال : وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : " يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر " قال ابن معاذ : ليلة البدر مخليا به . قلنا : بلى . قال : " فالله أعظم " قال ابن معاذ قال : " فإنما هو خلق من خلق الله - يعني القمر - فالله أجل وأعظم " .
وفي كتاب النسائي عن صهيب قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر ، ولا أقر لأعينهم .
وفي التفسير لأبي إسحاق الثعلبي عن الزبير عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يتجلى ربنا - عز وجل - حتى ينظروا إلى وجهه ، فيخرون له سجدا ، فيقول ارفعوا رؤوسكم فليس هذا بيوم عبادة " .
قال الثعلبي : وقول مجاهد إنها بمعنى تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه فتأويل مدخول ، لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا نظرته ; كما قال تعالى : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا تأويله ، و ما ينظرون إلا صيحة واحدة وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا : نظرت فيه ، فأما إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى ، وذكر الوجه فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان .
وقال الأزهري : إن قول مجاهد تنتظر ثواب ربها خطأ ; لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى الانتظار ، وإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، كذلك تقوله العرب ; لأنهم يقولون نظرت إليه : إذا أرادوا نظر العين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ; قال :
فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب
لما أراد الانتظار قال تنظراني ، ولم يقل تنظران إلي ; وإذا أرادوا نظر العين قالوا : نظرت إليه ; قال :
نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال
وقال آخر [ عمر بن أبي ربيعة ] :
نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عارم
وقال آخر :
إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي إني أنظر إليك بذل ; لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسئول ; فأما ما استدلوا به من قوله تعالى : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فإنما ذلك في الدنيا . وقد مضى القول فيه في موضعه مستوفى . وقال عطية العوفي : ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، ونظره يحيط بها ; يدل عليه : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار قال القشيري أبو نصر : وقيل : ( إلى ) واحد الآلاء ، أي : نعمه منتظرة وهذا أيضا باطل ; لأن واحد الآلاء يكتب بالألف لا بالياء ، ثم الآلاء : نعمه الدفع ، وهم في الجنة لا ينتظرون دفع نقمه عنهم ، والمنتظر للشيء متنغص العيش ، فلا يوصف أهل الجنة بذلك . وقيل : أضاف النظر إلى الوجه ; وهو كقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار والماء يجري في النهر لا النهر . ثم قد يذكر الوجه بمعنى العين ; قال الله تعالى : فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا أي على عينيه . ثم لا يبعد قلب العادة غدا ، حتى يخلق الرؤية والنظر في الوجه ; وهو كقوله تعالى : أفمن يمشي مكبا على وجهه ، فقيل : يا رسول الله ! كيف يمشون في النار على وجوههم ؟ قال : " الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " .
إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ ٣٢
{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي: تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالا إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم.
وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ ٤٢
وقوله : ( وجوه يومئذ باسرة ) هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة . قال قتادة : كالحة . وقال السدي : تغير ألوانها . وقال ابن زيد ( باسرة ) أي : عابسة .
وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ ٤٢
ووجوه يومئذ باسرة أي وجوه الكفار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة . وفي الصحاح : وبسر الفحل الناقة وابتسرها : إذا ضربها من غير ضبعة . وبسر الرجل وجهه بسورا أي كلح ; يقال : عبس وبسر . وقال السدي : باسرة أي متغيرة والمعنى واحد .
وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ ٤٢
وقال في المؤثرين العاجلة على الآجلة: { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } أي: معبسة ومكدرة ، خاشعة ذليلة.
تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ ٥٢
( تظن ) أي : تستيقن ، ( أن يفعل بها فاقرة ) قال مجاهد : داهية . وقال قتادة : شر . وقال السدي : تستيقن أنها هالكة . وقال ابن زيد : تظن أن ستدخل النار .
وهذا المقام كقوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) [ آل عمران : 106 ] وكقوله ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) [ عبس : 38 - 42 ] وكقوله ( وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) إلى قوله : ( وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية ) [ الغاشية : 2 - 10 ] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات .
تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ ٥٢
تظن أن يفعل بها فاقرة أي توقن وتعلم ، والفاقرة : الداهية والأمر العظيم ; يقال : فقرته الفاقرة : أي كسرت فقار ظهره . قال معناه مجاهد وغيره . وقال قتادة : الفاقرة الشر . السدي : الهلاك . ابن عباس وابن زيد : دخول النار . والمعنى متقارب وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم ; قاله الأصمعي . يقال : فقرت أنف البعير : إذا حززته بحديدة ثم جعلت على موضع الحز الجرير وعليه وتر ملوي ، لتذلله بذلك وتروضه ; ومنه قولهم : قد عمل به الفاقرة . وقال النابغة :
أبى لي قبر لا يزال مقابلي وضربة فأس فوق رأسي فاقره
أي كاسرة .
تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ ٥٢
{ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } أي: عقوبة شديدة، وعذاب أليم، فلذلك تغيرت وجوههم وعبست.
كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ٦٢
يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال - ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت - فقال تعالى : ( كلا إذا بلغت التراقي ) إن جعلنا ) كلا ) رادعة فمعناها : لست يا ابن آدم تكذب هناك بما أخبرت به ، بل صار ذلك عندك عيانا . وإن جعلناها بمعنى ( حقا ) فظاهر ، أي : حقا إذا بلغت التراقي ، أي : انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي : جمع ترقوة ، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ، كقوله : ( فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين ) [ الواقعة : 83 - 87 ] . وهكذا قال هاهنا : ( كلا إذا بلغت التراقي ) ويذكر هاهنا حديث بسر بن جحاش الذي تقدم في سورة " يس " . والتراقي : جمع ترقوة ، وهي قريبة من الحلقوم .
كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ٦٢
قوله تعالى : كلا إذا بلغت التراقي كلا ردع وزجر ; أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة ; ثم استأنف فقال : إذا بلغت التراقي أي بلغت النفس أو الروح التراقي ; فأخبر عما لم يجر له ذكر ، لعلم المخاطب به ; كقوله تعالى : حتى توارت بالحجاب وقوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم وقد تقدم .
وقيل : كلا معناه حقا ; أي حقا أن المساق إلى الله إذا بلغت التراقي أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي .
وكان ابن عباس يقول : إذا بلغت نفس الكافر التراقي . والتراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لنقرة النحر ، وهو مقدم الحلق من أعلى الصدر ، موضع الحشرجة ; قال دريد بن الصمة :
ورب عظيمة دافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي
وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي ، والمقصود تذكيرهم شدة الحال عند نزول الموت .
كَلَّآ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ٦٢
يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق ، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب، يظن أن يحصل به الشفاء والراحة.
وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٖ ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٖ ٧٢
( وقيل من راق ) قال : عكرمة ، عن ابن عباس : أي من راق يرقي ؟ وكذا قال أبو قلابة : ( وقيل من راق ) أي : من طبيب شاف . وكذا قال قتادة والضحاك وابن زيد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : ( وقيل من راق ) قال : قيل : من يرقى بروحه : ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة .
وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٖ ٧٢
قوله تعالى : وقيل من راق اختلف فيه ; فقيل : هو من الرقية ; عن ابن عباس وعكرمة وغيرهما . روى سماك عن عكرمة قال : من راق يرقي : أي يشفي . وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس : أي هل من طبيب يشفيه ; وقاله أبو قلابة وقتادة ; وقال الشاعر :
هل للفتى من بنات الدهر من واق أم هل له من حمام الموت من راق
وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس ; أي من يقدر أن يرقي من الموت .
وعن ابن عباس أيضا وأبي الجوزاء أنه من رقي يرقى : إذا صعد ، والمعنى : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ وقيل : إن ملك الموت يقول من راق ؟ أي من يرقى بهذه النفس ; وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها ، فيقول ملك الموت : يا فلان اصعد بها .
وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى : من راق واللام في قوله : ( بل ران ) لئلا يشبه " مراق " وهو بائع المرقة ، و ( بران ) في تثنية البر . والصحيح ترك الإظهار ، وكسرة القاف في من راق ، وفتحة النون في بل ران تكفي في زوال اللبس . وأمثل مما ذكر : قصد الوقف على ( من ) و ( بل ) ، فأظهرهما ; قاله القشيري .
وَقِيلَ مَنۡۜ رَاقٖ ٧٢
{ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } أي: من يرقيه من الرقية لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فلم يبق إلا الأسباب الإلهية . ولكن القضاء والقدر، إذا حتم وجاء فلا مرد له.
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ ٨٢
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ ٨٢
قوله تعالى : وظن أي أيقن الإنسان أنه الفراق أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد ، وذلك حين عاين الملائكة . وقال الشاعر :
فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ ٨٢
{ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ } للدنيا.
وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ٩٢
وبهذا الإسناد ، عن ابن عباس في قوله : ( والتفت الساق بالساق ) قال : التفت عليه الدنيا والآخرة . وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( والتفت الساق بالساق ) يقول : آخر يوم في الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحم الله .
وقال عكرمة : ( والتفت الساق بالساق ) الأمر العظيم بالأمر العظيم . وقال مجاهد : بلاء ببلاء . وقال الحسن البصري في قوله : ( والتفت الساق بالساق ) هما ساقاك إذا التفتا . وفي رواية عنه : ماتت رجلاه فلم تحملاه ، وقد كان عليها جوالا . وكذا قال السدي ، عن أبي مالك .
وفي رواية عن الحسن : هو لفهما في الكفن .
وقال الضحاك : ( والتفت الساق بالساق ) اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه .
وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ٩٢
والتفت الساق بالساق أي فاتصلت الشدة بالشدة ; شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ; قاله ابن عباس والحسن وغيرهما .
وقال الشعبي وغيره : المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدة الكرب . وقال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى .
وقال سعيد بن المسيب والحسن أيضا : هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن . وقال زيد بن أسلم : التفت ساق الكفن بساق الميت .
وقال الحسن أيضا : ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه ، ولقد كان عليهما جوالا . قال النحاس : القول الأول أحسنها .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : والتفت الساق بالساق قال : آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من - رحمه الله - ; أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع ; والدليل على هذا قوله تعالى : إلى ربك يومئذ المساق وقال مجاهد : بلاء ببلاء . يقول : تتابعت عليه الشدائد .
وقال الضحاك وابن زيد : اجتمع عليه أمران شديدان : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه ، والعرب لا تذكر الساق إلا في المحن والشدائد العظام ; ومنه قولهم : قامت الدنيا على ساق ، وقامت الحرب على ساق . قال الشاعر :
صبرا أمام إنه شر باق وقامت الحرب بنا على ساق
وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة ( ن والقلم ) .
وقال قوم : الكافر تعذب روحه عند خروج نفسه ، فهذه الساق الأولى ، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده
وَٱلۡتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ ٩٢
{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه.
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ ٠٣
وقوله : ( إلى ربك يومئذ المساق ) أي : المرجع والمآب ، وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات ، فيقول الله عز وجل : ردوا عبدي إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى . كما ورد في حديث البراء الطويل . وقد قال الله تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ) [ الأنعام : 61 ، 62 ] .
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ ٠٣
إلى ربك أي إلى خالقك يومئذ أي يوم القيامة المساق أي المرجع . وفي بعض التفاسير قال : يسوقه ملكه الذي كان يحفظ عليه السيئات . والمساق : المصدر من ساق يسوق ، كالمقال من قال يقول .
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمَسَاقُ ٠٣
فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها بأعمالها، ويقررها بفعالها.
فهذا الزجر، [الذي ذكره الله] يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها. ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمرا على بغيه وكفره وعناده.
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ١٣
هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه متوليا عن العمل بقالبه فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا ولهذا قال تعالى "فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى".
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ١٣
قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل . وقيل : يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة ، وهو اسم جنس . والأول قول ابن عباس . أي لم يصدق بالرسالة ولا صلى ودعا لربه ، وصلى على رسوله .
وقال قتادة : فلا صدق بكتاب الله ، ولا صلى لله . وقيل : ولا صدق بمال له ، ذخرا له عند الله ، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها . وقيل : فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه .
قال الكسائي : لا بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره ; تقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان ، ولا تقول : مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل ، وقوله تعالى : فلا اقتحم العقبة ليس من هذا القبيل ; لأن معناه أفلا اقتحم ; أي فهلا اقتحم ، فحذف ألف الاستفهام . وقال الأخفش : فلا صدق أي لم يصدق ; كقوله : فلا اقتحم أي لم يقتحم ، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر ، والعرب تقول : لا ذهب ، أي لم يذهب ، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل ; ومنه قول زهير :
فلا هو أبداها ولم يتقدم
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ١٣
{ فَلَا صَدَّقَ } أي: لا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره { وَلَا صَلَّى}
وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٢٣
هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه متوليا عن العمل بقالبه فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا ولهذا قال تعالى "فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى".
وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٢٣
أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان
وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٢٣
{ وَلَكِنْ كَذَّبَ } بالحق في مقابلة التصديق، { وَتَوَلَّى } عن الأمر والنهي، هذا وهو مطمئن قلبه، غير خائف من ربه،
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣
(ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) أي : جذلا أشرا بطرا كسلانا ، لا همة له ولا عمل ، كما قال : ( وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ) [ المطففين : 34 ] . وقال ( إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور ) أي : يرجع ( بلى إن ربه كان به بصيرا ) [ الانشقاق : 13 - 15 ] .
وقال الضحاك : عن ابن عباس : ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) [ أي ] . يختال . وقال قتادة وزيد بن أسلم : يتبختر .
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣
ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتبختر ، افتخارا بذلك ; قاله مجاهد وغيره . مجاهد : المراد به أبو جهل .
وقيل : يتمطى من المطا وهو الظهر ، والمعنى يلوي مطاه . وقيل : أصله يتمطط ، وهو التمدد من التكسل والتثاقل ، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق ; فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف ، والتمطي يدل على قلة الاكتراث ، وهو التمدد ، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر . والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض ; لأنه يتمطى أي يتمدد ; وفي الخبر : " إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم " . والمطيطاء : التبختر ومد اليدين في المشي .
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣
بل يذهب { إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } أي: ليس على باله شيء،
أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٤٣
قال الله تعالى : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته ، أي : يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] . وكقوله : ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ) [ المرسلات : 46 ] ، وكقوله ( فاعبدوا ما شئتم من دونه ) [ الزمر : 15 ] ، وكقوله ( اعملوا ما شئتم ) [ فصلت : 40 ] . إلى غير ذلك .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - ، عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) ؟ قال : قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ، ثم نزل به القرآن .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي : حدثنا إبراهيم بن يعقوب . حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة - ( ح ) وحدثنا أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان . حدثنا أبو عوانة - عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزله الله عز وجل .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب ، عن إسحاق ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) وعيد على أثر وعيد ، كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبي الله بمجامع ثيابه ، ثم قال : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " ، فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها .
أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٤٣
قوله تعالى : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة ; كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي . فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ; فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة . والله أعلم . لا يقال : فإن قوله : ثم ذهب إلى أهله يتمطى خصلة خامسة ; فإنا نقول : تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي ، فأخبر عنها . وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره . وقيل : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال : " أولى لك فأولى " فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه . ونزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال لأبي جهل . وهي كلمة وعيد . قال الشاعر [ امرؤ القيس ] :
فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال : " أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى " . فقال : ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا ، إني لأعز من بين جبليها . فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا . فضرب الله عنقه ، وقتله شر قتلة . وقيل : معناه : الويل لك ; ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت ; وعلى هذا التأويل قيل : هو من المقلوب ; كأنه قيل : أويل ، ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار ; وهذا التكرير كما قال :
لك الويلات إنك مرجلي
أي لك الويل ، ثم الويل ، ثم الويل ، وضعف هذا القول . وقيل : معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف . وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب .
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول : قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ; وأصله من الولي ، وهو القرب ; قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أي يقربون منكم ; وأنشد الأصمعي :
وأولى أن يكون له الولاء
أي قارب أن يكون له ; وأنشد أيضا :
أولى لمن هاجت له أن يكمدا
أي قد دنا صاحبها من الكمد . وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول : ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي .
النحاس : العرب تقول أولى لك كدت تهلك ثم أفلت ، وكأن تقديره : أولى لك وأولى بك الهلكة .
المهدوي قال : ولا تكون أولى ( أفعل منك ) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال : الوعيد أولى له من غيره ; لأن أبا زيد قد حكى : أولاة الآن : إذا أوعدوا . فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك .
و ( لك ) خبر عن أولى . ولم ينصرف أولى لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد . وقيل : التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيئ الأول ، ثم على الثاني ، والثالث ، والرابع ، كما تقدم .
أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٤٣
توعده بقوله: { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وهذه كلمات وعيد، كررها لتكرير وعيده، ثم ذكر الإنسان بخلقه الأول
ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٥٣
قال الله تعالى : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) وهذا تهديد ووعيد أكيد منه تعالى للكافر به المتبختر في مشيته ، أي : يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد كقوله : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] . وكقوله : ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ) [ المرسلات : 46 ] ، وكقوله ( فاعبدوا ما شئتم من دونه ) [ الزمر : 15 ] ، وكقوله ( اعملوا ما شئتم ) [ فصلت : 40 ] . إلى غير ذلك .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - ، عن إسرائيل ، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) ؟ قال : قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ، ثم نزل به القرآن .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي : حدثنا إبراهيم بن يعقوب . حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة - ( ح ) وحدثنا أبو داود : حدثنا محمد بن سليمان . حدثنا أبو عوانة - عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزله الله عز وجل .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب ، عن إسحاق ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) وعيد على أثر وعيد ، كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبي الله بمجامع ثيابه ، ثم قال : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " ، فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد ؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، وإني لأعز من مشى بين جبليها .
ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٥٣
قوله تعالى : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى تهديد بعد تهديد ، ووعيد بعد وعيد ، أي فهو وعيد أربعة لأربعة ; كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى أي لا صدق رسول الله ، ولا وقف بين يدي فصلى ، ولكن كذب رسولي ، وتولى عن التصلية بين يدي . فترك التصديق خصلة ، والتكذيب خصلة ، وترك الصلاة خصلة ، والتولي عن الله تعالى خصلة ; فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة . والله أعلم . لا يقال : فإن قوله : ثم ذهب إلى أهله يتمطى خصلة خامسة ; فإنا نقول : تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي ، فأخبر عنها . وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره . وقيل : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المسجد ذات يوم ، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد ، مما يلي باب بني مخزوم ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ، فهزه مرة أو مرتين ثم قال : " أولى لك فأولى " فقال له أبو جهل : أتهددني ؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه . ونزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال لأبي جهل . وهي كلمة وعيد . قال الشاعر [ امرؤ القيس ] :
فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد
قال قتادة : أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال : " أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى " . فقال : ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا ، إني لأعز من بين جبليها . فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال : لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا . فضرب الله عنقه ، وقتله شر قتلة . وقيل : معناه : الويل لك ; ومنه قول الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها
سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها
الآلة : الحالة ، والآلة : السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت ; وعلى هذا التأويل قيل : هو من المقلوب ; كأنه قيل : أويل ، ثم أخر الحرف المعتل ، والمعنى : الويل لك حيا ، والويل لك ميتا ، والويل لك يوم البعث ، والويل لك يوم تدخل النار ; وهذا التكرير كما قال :
لك الويلات إنك مرجلي
أي لك الويل ، ثم الويل ، ثم الويل ، وضعف هذا القول . وقيل : معناه الذم لك ، أولى ، من تركه ، إلا أنه كثير في الكلام فحذف . وقيل : المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب .
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى : قال الأصمعي أولى في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك ، كأنه يقول : قد وليت الهلاك ، قد دانيت الهلاك ; وأصله من الولي ، وهو القرب ; قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار أي يقربون منكم ; وأنشد الأصمعي :
وأولى أن يكون له الولاء
أي قارب أن يكون له ; وأنشد أيضا :
أولى لمن هاجت له أن يكمدا
أي قد دنا صاحبها من الكمد . وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول : ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي .
النحاس : العرب تقول أولى لك كدت تهلك ثم أفلت ، وكأن تقديره : أولى لك وأولى بك الهلكة .
المهدوي قال : ولا تكون أولى ( أفعل منك ) ، وتكون خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قال : الوعيد أولى له من غيره ; لأن أبا زيد قد حكى : أولاة الآن : إذا أوعدوا . فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك .
و ( لك ) خبر عن أولى . ولم ينصرف أولى لأنه صار علما للوعيد ، فصار كرجل اسمه أحمد . وقيل : التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيئ الأول ، ثم على الثاني ، والثالث ، والرابع ، كما تقدم .
ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٥٣
توعده بقوله: { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } وهذه كلمات وعيد، كررها لتكرير وعيده، ثم ذكر الإنسان بخلقه الأول
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٦٣
وقوله : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) قال السدي : يعني : لا يبعث .
وقال مجاهد والشافعي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني لا يؤمر ولا ينهى .
والظاهر أن الآية تعم الحالين ، أي : ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث ، بل هو مأمور منهي في الدنيا ، محشور إلى الله في الدار الآخرة . والمقصود هنا إثبات المعاد ، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ، ولهذا قال مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال .
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٦٣
قوله تعالى : أيحسب الإنسان أي يظن ابن آدم أن يترك سدى أي أن يخلى مهملا ، فلا يؤمر ولا ينهى ; قاله ابن زيد ومجاهد ، ومنه إبل سدى : ترعى بلا راع . وقيل : أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث . وقال الشاعر :
فأقسم بالله جهد اليمي ن ما ترك الله شيئا سدى
أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٦٣
{ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } أي: معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن بالله بغير ما يليق بحكمته.
أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٧٣
( ألم يك نطفة من مني يمنى ) ؟ أي : أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين يمنى ، يراق من الأصلاب في الأرحام .
أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٧٣
قوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى أي من قطرة ماء تمنى في الرحم ، أي تراق فيه ; ولذلك سميت ( منيا ) لإراقة الدماء . وقد تقدم .
والنطفة : الماء القليل ; يقال : نطف الماء : إذا قطر . أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة . وقرأ حفص من مني يمنى بالياء ، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو ، واختاره أبو عبيد لأجل المني . الباقون بالتاء لأجل النطفة ، واختاره أبو حاتم .
أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٧٣
{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى }
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٨٣
أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره ؟.
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٨٣
ثم كان علقة أي دما بعد النطفة ، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره . ثم قال : فخلق أي فقدر فسوى أي فسواه تسوية ، وعدله تعديلا ، بجعل الروح فيه
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٨٣
{ ثُمَّ كَانَ } بعد المني { عَلَقَةً } أي: دما، { فَخَلَقَ } الله منها الحيوان وسواه أي: أتقنه وأحكمه.
فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٩٣
فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره ولهذا قال تعالى "فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى".
فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٩٣
فجعل منه أي من الإنسان . وقيل : من المني . الزوجين الذكر والأنثى أي الرجل والمرأة . وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى . وقد مضى في سورة ( الشورى ) أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب . وقد مضى في أول سورة ( النساء ) أيضا القول فيه ، وذكرنا في آية المواريث حكمه ، فلا معنى لإعادته
فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٩٣
{ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى }
أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ ٠٤
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة ، عن شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن آخر : أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ، فإذا قرأ : ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ قال : سبحانك اللهم فبلى ، فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك . وقال أبو داود ، رحمه الله : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته ، فكان إذا قرأ : ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ قال سبحانك ، فبلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي ، ولا يضر ذلك .
وقال أبو داود أيضا : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، حدثني إسماعيل بن أمية : سمعت أعرابيا يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ؟ فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين . ومن قرأ : ( لا أقسم بيوم القيامة ) فانتهى إلى : ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ فليقل : بلى . ومن قرأ : ( والمرسلات ) فبلغ ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) ؟ فليقل : آمنا بالله " .
ورواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة . ورواه الترمذي ، عن ابن أبي عمر ، عن سفيان بن عيينة . وقد رواه شعبة ، عن إسماعيل بن أمية قال : قلت له : من حدثك ؟ قال رجل صدق ، عن أبي هريرة
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : " سبحانك وبلى " .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه مر بهذه الآية : ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) ؟ ، قال : سبحانك ; فبلى .
آخر تفسير سورة " القيامة " ولله الحمد والمنة
أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ ٠٤
أليس ذلك بقادر أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء بقادر على أن يحيي الموتى أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى .
وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا قرأها قال : " سبحانك اللهم ، بلى " وقال ابن عباس : من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماما كان أو غيره فليقل : ( سبحان ربي الأعلى ) ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل : ( سبحانك اللهم بلى ) ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .
ختمت السورة والحمد لله .
أَلَيۡسَ ذَٰلِكَ بِقَٰدِرٍ عَلَىٰٓ أَن يُحۡـِۧيَ ٱلۡمَوۡتَىٰ ٠٤
{ أَلَيْسَ ذَلِكَ } الذي خلق الإنسان [وطوره إلى] هذه الأطوار المختلفة { بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } بلى إنه على كل شيء قدير. تم تفسير سورة القيامة، ولله الحمد والمنة، وذلك في 16 صفر سنة 1344
المجلد التاسع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين آمين.
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم