بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طلق بن حبيب التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله، قوله تعالى { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تسمع منهم، ولا تستشرهم، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } أي من قرآن وسنة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي فلا تخفى عليه خافية، وتوكل على الله، أي في جميع أمورك وأحوالك { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي وكفى به وكيلاً لمن توكل عليه، وأناب إِليه.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١
قوله تعالى: { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } ضُمّت «أيّ» لأنه نداء مفرد؛ والتنبيه لازم لها. و«النبيّ» نعت لأيّ عند النحويين؛ إلا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لأيّ. مكيّ: ولا يُعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء. النحاس: وهو خطأ عند أكثر النحويين؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة، والاحتيال له فيما قال أنه لما كان نعتاً لازماً سُمِّيَ صلة؛ وهكذا الكوفيون يسمّون نعت النكرة صلةً لها. ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين. وأجازه المازنيّ، جعله كقولك: يا زيدُ الظريفَ، بنصب «الظريف» على موضع زيد. مكيّ: وهذا نعت يستغنى عنه، ونعت «أيّ» لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع. وأيضاً فإن نعت «أيّ» هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحبّ إسلام اليهود: قُريظة والنَّضير وبني قَيْنُقَاع؛ وقد تابعه ناس منهم على النفاق، فكان يُلين لهم جانبَه؛ ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم؛ فنزلت. وقيل: إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقُشَيْرِيّ والثَّعلبيّ والماوَرْدِي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعِكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان، نزلوا المدينة على عبد الله بن أُبَيّ بن سلول رأس المنافقين بعد أُحُد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح وطُعْمة بن أُبَيْرِق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا الّلات والعزّى ومَناة، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها، ونَدَعُك وربّك. فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني قد أعطيتهم الأمان " فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة؛ فنزلت الآية. { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ } أي خَفِ الله. { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ } من أهل مكة؛ يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة. { وَٱلْمُنَافِقِينَ } من أهل المدينة؛ يعني عبد الله بن أُبَيّ وطُعْمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح فيما نُهيت عنه، ولا تمل إليهم. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } بكفرهم { حَكِيماً } فيما يفعل بهم. الزَّمخشريّ: وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السُّلَمِيّ قدِموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبد الله بن أُبَيّ ومُعَتّب بن قُشَير والجَدّ بن قيس، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا.
وذكر الخبر بمعنى ما تقدّم. وأن الآية نزلت في نقض العهد ونَبْذ الموادعة. «وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ» من أهل مكة. «وَالْمُنَافِقِينَ» من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروي ن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، ويزوّجه شيبةُ بن ربيعة بنته، وخوّفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع؛ فنزلت. النحاس: ودلّ بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } على أنه كان يميل إليهم استدعاءً لهم إلى الإسلام؛ أي لو علم الله عز وجل أن مَيْلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه؛ لأنه حكيم. ثم قيل: الخطاب له ولأمته.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١
أي: يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك، والتي يجب عليك منها أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق. ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر قد أظهر العداوة للّه ورسوله، ولا منافق قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر ضده. فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض التقوى وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب. { وَ } لكن { ٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } فإنه هو الهدى والرحمة، وَارْجُ بذلك ثواب ربك، فإنه بما تعملون خبير، يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم من الخير والشر. فإن وقع في قلبك، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضرر، أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره، وهو التوكل على اللّه، بأن تعتمد على ربك اعتماد مَنْ لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، في سلامتك من شرهم، وفي إقامة الدين الذي أمرت به، وثق باللّه في حصول ذلك الأمر على أي: حال كان. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } توكل إليه الأمور، فيقوم بها وبما هو أصلح للعبد، وذلك لعلمه بمصالح عبده، من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه، من حيث لا يقدر عليها العبد، وأنه أرحم بعبده من نفسه، ومن والديه، وأرأف به من كل أحد، خصوصاً خواص عبيده، الذين لم يزل يربيهم ببره، ويُدِرُّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة، خصوصاً وقد أمره بإلقاء أموره إليه، ووعده، فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج تقضى، وبركات تنزل، ونقم تدفع، وشرور ترفع. وهناك ترى العبد الضعيف، الذي فوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا يقوم بها أمة من الناس، وقد سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال، وباللّه المستعان.
وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٢
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طلق بن حبيب التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله، قوله تعالى { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تسمع منهم، ولا تستشرهم، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } أي من قرآن وسنة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي فلا تخفى عليه خافية، وتوكل على الله، أي في جميع أمورك وأحوالك { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي وكفى به وكيلاً لمن توكل عليه، وأناب إِليه.
وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٢
قوله تعالى: { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } يعني القرآن. وفيه زَجْر عن اتباع مراسم الجاهلية، وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص. والخطاب له ولأمته. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } قراءة العامة بتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ السلَمِيّ وأبو عمرو وابن أبي إسحاق: «يعملون» بالياء على الخبر؛ وكذلك في قوله:
{ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }
[الأحزاب: 9]. { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ } أي اعتمد عليه في كل أحوالك؛ فهو الذي يمنعك ولا يضرك من خذلك. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } حافظاً. وقال شيخ من أهل الشام: قدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وفد من ثَقيف فطلبوا منه أن يمتعهم باللاّت سنةً ـ وهي الطاغية التي كانت ثَقيف تعبدها ـ وقالوا: لتعلم قريش منزلتنا عندك؛ فهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي كافياً لك ما تخافه منهم. و«بِالِلَّهِ» في موضع رفع لأنه الفاعل. و«وَكِيلاً» نصب على البيان أو الحال.
وَٱتَّبِعۡ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٢
أي: يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك، والتي يجب عليك منها أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق. ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر قد أظهر العداوة للّه ورسوله، ولا منافق قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر ضده. فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض التقوى وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب. { وَ } لكن { ٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } فإنه هو الهدى والرحمة، وَارْجُ بذلك ثواب ربك، فإنه بما تعملون خبير، يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم من الخير والشر. فإن وقع في قلبك، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضرر، أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره، وهو التوكل على اللّه، بأن تعتمد على ربك اعتماد مَنْ لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، في سلامتك من شرهم، وفي إقامة الدين الذي أمرت به، وثق باللّه في حصول ذلك الأمر على أي: حال كان. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } توكل إليه الأمور، فيقوم بها وبما هو أصلح للعبد، وذلك لعلمه بمصالح عبده، من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه، من حيث لا يقدر عليها العبد، وأنه أرحم بعبده من نفسه، ومن والديه، وأرأف به من كل أحد، خصوصاً خواص عبيده، الذين لم يزل يربيهم ببره، ويُدِرُّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة، خصوصاً وقد أمره بإلقاء أموره إليه، ووعده، فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج تقضى، وبركات تنزل، ونقم تدفع، وشرور ترفع. وهناك ترى العبد الضعيف، الذي فوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا يقوم بها أمة من الناس، وقد سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال، وباللّه المستعان.
وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٣
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى، فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا، فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طلق بن حبيب التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله، قوله تعالى { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تسمع منهم، ولا تستشرهم، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال تعالى { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } أي من قرآن وسنة { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي فلا تخفى عليه خافية، وتوكل على الله، أي في جميع أمورك وأحوالك { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي وكفى به وكيلاً لمن توكل عليه، وأناب إِليه.
وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٣
قوله تعالى: { وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } يعني القرآن. وفيه زَجْر عن اتباع مراسم الجاهلية، وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص. والخطاب له ولأمته. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } قراءة العامة بتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ السلَمِيّ وأبو عمرو وابن أبي إسحاق: «يعملون» بالياء على الخبر؛ وكذلك في قوله:
{ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }
[الأحزاب: 9]. { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ } أي اعتمد عليه في كل أحوالك؛ فهو الذي يمنعك ولا يضرك من خذلك. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } حافظاً. وقال شيخ من أهل الشام: قدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وفد من ثَقيف فطلبوا منه أن يمتعهم باللاّت سنةً ـ وهي الطاغية التي كانت ثَقيف تعبدها ـ وقالوا: لتعلم قريش منزلتنا عندك؛ فهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فنزلت { وَتَوَكَّلْ عَلَىٰ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي كافياً لك ما تخافه منهم. و«بِالِلَّهِ» في موضع رفع لأنه الفاعل. و«وَكِيلاً» نصب على البيان أو الحال.
وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٣
أي: يا أيها الذي منَّ اللّه عليه بالنبوة، واختصه بوحيه، وفضله على سائر الخلق، اشكر نعمة ربك عليك باستعمال تقواه، التي أنت أولى بها من غيرك، والتي يجب عليك منها أعظم من سواك، فامتثل أوامره ونواهيه، وبلغ رسالاته، وأدِّ إلى عباده وحيه، وابذل النصيحة للخلق. ولا يصدنك عن هذا المقصود صاد، ولا يردك عنه راد، فلا تطع كل كافر قد أظهر العداوة للّه ورسوله، ولا منافق قد استبطن التكذيب والكفر، وأظهر ضده. فهؤلاء هم الأعداء على الحقيقة، فلا تطعهم في بعض الأمور، التي تنقض التقوى وتناقضها، ولا تتبع أهواءهم، فيضلوك عن الصواب. { وَ } لكن { ٱتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } فإنه هو الهدى والرحمة، وَارْجُ بذلك ثواب ربك، فإنه بما تعملون خبير، يجازيكم بحسب ما يعلمه منكم من الخير والشر. فإن وقع في قلبك، أنك إن لم تطعهم في أهوائهم المضلة، حصل عليك منهم ضرر، أو حصل نقص في هداية الخلق، فادفع ذلك عن نفسك، واستعمل ما يقاومه ويقاوم غيره، وهو التوكل على اللّه، بأن تعتمد على ربك اعتماد مَنْ لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا نشوراً، في سلامتك من شرهم، وفي إقامة الدين الذي أمرت به، وثق باللّه في حصول ذلك الأمر على أي: حال كان. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } توكل إليه الأمور، فيقوم بها وبما هو أصلح للعبد، وذلك لعلمه بمصالح عبده، من حيث لا يعلم العبد، وقدرته على إيصالها إليه، من حيث لا يقدر عليها العبد، وأنه أرحم بعبده من نفسه، ومن والديه، وأرأف به من كل أحد، خصوصاً خواص عبيده، الذين لم يزل يربيهم ببره، ويُدِرُّ عليهم بركاته الظاهرة والباطنة، خصوصاً وقد أمره بإلقاء أموره إليه، ووعده، فهناك لا تسأل عن كل أمر يتيسر، وصعب يسهل، وخطوب تهون، وكروب تزول، وأحوال وحوائج تقضى، وبركات تنزل، ونقم تدفع، وشرور ترفع. وهناك ترى العبد الضعيف، الذي فوض أمره لسيده، قد قام بأمور لا يقوم بها أمة من الناس، وقد سهل اللّه [عليه] ما كان يصعب على فحول الرجال، وباللّه المستعان.
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً معروفاً حسياً، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولاتصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي، أماً له، كذلك لا يصير الدعي ولداً للرجل إِذا تبناه فدعاه ابناً له، فقال { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } كقوله عز وجل
{ نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمْ إِنْ أُمَّهَـٰتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ }
المجادلة 2 الآية. وقوله تعالى { مِنْهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفي، فإِنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له زيد بن محمد، فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ } كما قال تعالى في أثناء السورة { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } وقال ههنا { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ } يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً، فإِنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } قال سعيد بن جبير { يَقُولُ ٱلْحَقَّ } أي العدل، وقال قتادة { وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } أي الصراط المستقيم. وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين، وأنه كان يزعم أن له قلبين، كل منهما بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس، وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة، واختاره ابن جرير وقال الإمام أحمد حدثنا حسن، حدثنا زهير عن قابوس، يعني ابن أبي ظبيان، قال إِن أباه حدثه قال قلت لابن عباس أرأيت قول الله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن } ما عنى بذلك؟ قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون له قلبين قلباً معكم، وقلباً معهم؟ فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني، عن عبد بن حميد، وعن أحمد بن يونس، كلاهما عن زهير، وهو ابن معاوية، به. ثم قال وهذا حديث حسن، وكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير به. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، ضرب له مثل يقول ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد إنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله عز وجل { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إِلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. قال البخاري رحمه الله حدثنا مُعلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال إِن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إِلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما يارسول الله إِنا كنا ندعو سالماً ابناً، وإِن الله قد أنزل ما أنزل، وإِنه كان يدخل علي، وإِني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم " أرضعيه تحرمي عليه " الحديث، ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عز وجل
{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً }
الأحزاب 37 وقال تبارك وتعالى في آية التحريم
{ وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ }
النساء 23 احترازاً عن زوجة الدعي فإِنه ليس من الصلب، فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعاً بقوله صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " " حرِّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب " ، فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إِلا الترمذي، من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العُرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قدّمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول " أُبَيْنِيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " قال أبو عبيدة وغيره أُبَيْنِيَّ تصغير ابني، وهذا ظاهر الدلالة، فإِن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر. وقوله { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان، وأيضاً ففي " صحيح مسلم " من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يابني» ورواه أبو داود والترمذي.
وقوله عز وجل { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إِلى آبائهم إِن عرفوا، فإِن لم يعرفوا، فهم إِخوانهم في الدين ومواليهم، أي عوضاً عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء، وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي ياعم ياعم فأخذها علي رضي الله عنه، وقال لفاطمة رضي الله عنها دونك ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها؟ فكل أدلى بحجة، فقال علي رضي الله عنه أنا أحق بها، وهي ابنة عمي، وقال زيد ابنة أخي، وقال جعفر بن أبي طالب ابنة عمي وخالتها تحتي، يعني أسماء بنت عميس، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال " الخالة بمنزلة الأم " وقال لعلي رضي الله عنه " أنت مني وأنا منك " وقال لجعفر رضي الله عنه " أشبهت خلقي وخلقي " وقال لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا " ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق، وأرضى كلاً من المتنازعين. وقال لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا " كما قال تعالى { فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }. وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إِبراهيم، حدثنا ابن علية، عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال قال أبو بكرة رضي الله عنه قال الله عز وجل { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ } فأنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا من إِخوانكم في الدين، قال أبي والله إِني لأظنه لو علم أن أباه كان حماراً لانتمى إِليه، وقد جاء في الحديث " من ادعى إِلى غير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر " وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ }. ثم قال تعالى { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي إِذا نسبتم بعضهم إِلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإِن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إِثمه كما أرشد إِليه في قوله تبارك وتعالى آمراً عباده أن يقولوا
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا }
البقرة 286 وثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل قد فعلت " وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإِن اجتهد فأخطأ، فله أجر " وفي حديث آخر " إِن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطا، والنسيان، وما يكرهون عليه " وقال تبارك وتعالى ههنا { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي وإِنما الإثم على من تعمد الباطل كما قال عز وجل " لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِىۤ أَيْمَـٰنِكُمْ " المائدة 89 الآية. وفي الحديث المتقدم " ليس من رجل ادعى إِلى غير أبيه، وهو يعلمه، إِلا كفر " وفي القرآن المنسوخ فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن بن عبيد بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال إِن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فإِنما أنا عبد الله، فقولوا عبده ورسوله " وربما قال معمر " كما أطرت النصارى ابن مريم " ورواه في الحديث الآخر " ثلاث في الناس كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ".
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤
فيه خمس مسائل:
الأولى: قال مجاهد: نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه، وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد. قال: وكان من فِهْر. الواحديّ والقُشَيْرِيّ وغيرهما: نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان رجلاً حافظاً لما يسمع. فقالت قريش: ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هُزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر، رآه أبو سفيان في العير وهو معلّق إحدى نَعْلَيْه في يده والأخرى في رجله؛ فقال أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال انهزموا. قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجليّ؛ فعرفوا أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وقال السُّهَيْلِيّ: كان جميل بن معمر الجُمَحيّ، وهو ابن معمر ابن حبيب بن وهب بن حُذافة بن جُمَح، واسم جمح: تَيْم؛ وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية، وفيه يقول الشاعر:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى وَطَراً منها جَمِيلُ بن معمر
قلت: كذا قالوا جميل بن معمر. وقال الزمخشريّ: جميل بن أسد الفهري. وقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمداً له قلبان؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأوّل؛ فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل. وقيل: نزلت في عبد الله بن خَطَل. وقال الزهريّ وابن حبّان: نزل ذلك تمثيلاً في زيد بن حارثة لما تبنّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى: كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين. قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة؛ وهو من منقطعات الزهريّ، رواه معمر عنه. وقيل: هو مثل ضرب للمُظاهر؛ أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المُظاهر أمَّه حتى تكون له أُمّان. وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب يأمرني بكذا؛ فالمنافق ذو قلبين؛ فالمقصود ردّ النفاق. وقيل: لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف؛ فالمعنى: لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب. ويظهر من الآية بجملتها نفي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، والله أعلم.
الثانية: القلب بَضْعة صغيرة على هيئة الصَّنَوْبَرة، خلقها الله تعالى في الآدميّ وجعلها محلاً للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهيّ، ويضبطه فيه بالحفظ الرّباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئاً.
وهو بين لَمَّتَين: لَمَّة من المَلك ولَمَّةٌ من الشيطان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. خرّجه الترمذيّ، وقد مضى في «البقرة». وهو محل الخَطَرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومجرى الانزعاج والطمأنينة. والمعنى في الآية: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار؛ وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز، والله أعلم.
الثالثة: أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدّم ذكرهم؛ أي إنما هو قلب واحد، فإمّا فيه إيمان وإمّا فيه كفر؛ لأن درجة النفاق كأنها متوسطة، فنفاها الله تعالى وبيَّن أنه قلب واحد. وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية، متى نسي شيئاً أو وهم. يقول على جهة الاعتذار: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
الرابعة: قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } يعني قول الرجل لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمّي. وذلك مذكور في سورة «المجادلة» على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الخامسة: قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. وروى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } " وكان زيد فيما روي عن أنس بن مالك وغيره مَسْبِيَّا من الشام، سبته خيل من تِهامة، فابتاعه حكيم بن حزام بن خُويلد، فوهبه لعمته خديجة فوهبته خديجة للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبنّاه، فأقام عنده مدّة، ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك قبل البعث: «خَيِّراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء». فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حريته وقومه؛ فقال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه» وكان يطوف على حِلَق قريش يشهدهم على ذلك، فرضي ذلك عمه وأبوه وانصرفا " وكان أبوه لما سبي يدور الشام ويقول:
بكيتُ على زيدٍ ولم أدر ما فعل أحَيٌّ فيُرجَى أم أتى دونه الأجَلْ
فوالله لا أدري وإني لسائل أغالك بعدِي السَّهلُ أم غالك الجبل
فياليت شعري! هل لك الدهرَ أَوْبَةٌ فحسبي من الدنيا رجوعُك لي بَجَلْ
تُذَكِّرُنِيه الشمس عند طلوعها وتَعْرِض ذكراه إذا غَرْبُهَا أفَلْ
وإن هَبّت الأرياح هَيَّجْنَ ذِكرَه فياطول ما حُزْنِي عليه وما وَجَلْ
سَأُعْمِل نَصّ العِيسِ في الأرض جاهداً ولا أسأل التَّطواف أو تسأمُ الإبل
حياتِيَ أو تأتِي عليّ منيّتي فكل امرىء فانٍ وإن غَرّه الأملْ
فأخبر أنه بمكة؛ فجاء إليه فهلك عنده. وروي أنه جاء إليه فخيّره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف. وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاءٌ عند قوله:
{ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا }
[الأحزاب: 37] إن شاء الله تعالى. وقتل زيد بُمؤْتَةَ من أرض الشام سنة ثمانٍ من الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمّره في تلك الغزاة، وقال: " إن قُتل زيد فجعفر فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة " فقتل الثلاثة في تلك الغزاة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. " ولما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعْي زيد وجعفر بكى وقال: «أخَوَاي ومؤنساي ومحدِّثاي» ".
مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ ٤
يعاتب تعالى [عباده] عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً لا حقيقة له من الأقوال، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا، فإن ذلك القول منكم كذب وزور، يترتب عليه منكرات من الشرع. وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء، والإخبار بوقوع ووجود ما لم يجعله اللّه تعالى. ولكن خص هذه الأشياء المذكورة لوقوعها، وشدة الحاجة إلى بيانها، فقال: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } هذا لا يوجد، فإياكم أن تقولوا عن أحد: إن له قلبين في جوفه، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية. { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ } بأن يقول أحدكم لزوجته: " أنتِ عَليَّ كظهر أُمي أو كأمي " فما جعلهن اللّه { أُمَّهَاتِكُمْ } أمك مَنْ ولدتك، وصارت أعظم النساء عليك حرمة وتحريماً، وزوجتك أحلُّ النساء لك، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر؟ هذا أمر لا يجوز، كما قال تعالى:
{ ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً }
[المجادلة: 2]. { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } والأدعياء، الولد الذي كان الرجل يدّعيه، وهو ليس له، أو يُدْعَى إليه، بسبب تبنيه إياه، كما كان الأمر بالجاهلية، وأول الإسلام. فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه، وأنه باطل وكذب، وكل باطل وكذب، لا يوجد في شرع اللّه، ولا يتصف به عباد اللّه. يقول تعالى: فاللّه لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم، أو يدعون إليكم، أبناءكم، فإن أبناءكم في الحقيقة، من ولدتموهم، وكانوا منكم، وأما هؤلاء الأدعياء من غيركم، فلا جعل اللّه هذا كهذا. { ذَٰلِكُمْ } القول الذي تقولون في الدعي: إنه ابن فلان الذي ادعاه، أو والده فلان { قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } أي: قول لا حقيقة له ولا معنى له. { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } أي: اليقين والصدق، فلذلك أمركم باتباعه على قوله وشرعه، فقوله حق، وشرعه حق، والأقوال والأفعال الباطلة لا تنسب إليه بوجه من الوجوه، وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلاّ إلى السبيل المستقيمة، والطرق الصادقة. وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته، فمشيئته عامة، لكل ما وجد من خير وشر. ثم صرّح لهم بترك الحالة الأولى، المتضمنة للقول الباطل فقال: { ٱدْعُوهُمْ } أي: الأدعياء { لآبَآئِهِمْ } الذين ولدوهم { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي: أعدل وأقوم وأهدى. { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ } الحقيقيين { فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي: إخوتكم في دين اللّه ومواليكم في ذلك، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة، والموالاة على ذلك، فترك الدعوة إلى مَنْ تبناهم حتم، لا يجوز فعلها.
وأما دعاؤهم لآبائهم، فإن علموا، دعوا إليهم، وإن لم يعلموا، اقتصر على ما يعلم منهم، وهو أخوة [الدين] والموالاة، فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم عذر في دعوتهم إلى مَنْ تبناهم، لأن المحذور لا يزول بذلك. { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } بأن سبق على لسان أحدكم دعوته إلى مَنْ تبناه، فهذا غير مؤاخذ به، أو علم أبوه ظاهراً، [فدعوتموه إليه] وهو في الباطن غير أبيه، فليس عليكم في ذلك حرج إذا كان خطأ، { وَلَـٰكِن } يؤاخذكم بـ { مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } من الكلام بما لا يجوز. { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } غفر لكم ورحمكم، حيث لم يعاقبكم بما سلف، وسمح لكم بما أخطأتم به، ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم، فله الحمد تعالى.
ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٥
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً معروفاً حسياً، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، ولاتصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي، أماً له، كذلك لا يصير الدعي ولداً للرجل إِذا تبناه فدعاه ابناً له، فقال { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } كقوله عز وجل
{ نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمْ إِنْ أُمَّهَـٰتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ }
المجادلة 2 الآية. وقوله تعالى { مِنْهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفي، فإِنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، فكان يقال له زيد بن محمد، فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ } كما قال تعالى في أثناء السورة { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } وقال ههنا { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَٰهِكُمْ } يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً، فإِنه مخلوق من صلب رجل آخر، فما يمكن أن يكون أبوان، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } قال سعيد بن جبير { يَقُولُ ٱلْحَقَّ } أي العدل، وقال قتادة { وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ } أي الصراط المستقيم. وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين، وأنه كان يزعم أن له قلبين، كل منهما بعقل وافر، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس، وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة، واختاره ابن جرير وقال الإمام أحمد حدثنا حسن، حدثنا زهير عن قابوس، يعني ابن أبي ظبيان، قال إِن أباه حدثه قال قلت لابن عباس أرأيت قول الله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن } ما عنى بذلك؟ قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون له قلبين قلباً معكم، وقلباً معهم؟ فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني، عن عبد بن حميد، وعن أحمد بن يونس، كلاهما عن زهير، وهو ابن معاوية، به. ثم قال وهذا حديث حسن، وكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير به. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة، ضرب له مثل يقول ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد إنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله عز وجل { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إِلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. قال البخاري رحمه الله حدثنا مُعلى بن أسد، حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال إِن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إِلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما يارسول الله إِنا كنا ندعو سالماً ابناً، وإِن الله قد أنزل ما أنزل، وإِنه كان يدخل علي، وإِني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم " أرضعيه تحرمي عليه " الحديث، ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال عز وجل
{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً }
الأحزاب 37 وقال تبارك وتعالى في آية التحريم
{ وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ }
النساء 23 احترازاً عن زوجة الدعي فإِنه ليس من الصلب، فأما الابن من الرضاعة، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعاً بقوله صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " " حرِّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب " ، فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إِلا الترمذي، من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العُرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قدّمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول " أُبَيْنِيَّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " قال أبو عبيدة وغيره أُبَيْنِيَّ تصغير ابني، وهذا ظاهر الدلالة، فإِن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر. وقوله { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان، وأيضاً ففي " صحيح مسلم " من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يابني» ورواه أبو داود والترمذي.
وقوله عز وجل { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إِلى آبائهم إِن عرفوا، فإِن لم يعرفوا، فهم إِخوانهم في الدين ومواليهم، أي عوضاً عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء، وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي ياعم ياعم فأخذها علي رضي الله عنه، وقال لفاطمة رضي الله عنها دونك ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها؟ فكل أدلى بحجة، فقال علي رضي الله عنه أنا أحق بها، وهي ابنة عمي، وقال زيد ابنة أخي، وقال جعفر بن أبي طالب ابنة عمي وخالتها تحتي، يعني أسماء بنت عميس، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال " الخالة بمنزلة الأم " وقال لعلي رضي الله عنه " أنت مني وأنا منك " وقال لجعفر رضي الله عنه " أشبهت خلقي وخلقي " وقال لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا " ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق، وأرضى كلاً من المتنازعين. وقال لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا " كما قال تعالى { فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }. وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إِبراهيم، حدثنا ابن علية، عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال قال أبو بكرة رضي الله عنه قال الله عز وجل { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ } فأنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا من إِخوانكم في الدين، قال أبي والله إِني لأظنه لو علم أن أباه كان حماراً لانتمى إِليه، وقد جاء في الحديث " من ادعى إِلى غير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر " وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم، ولهذا قال تعالى { ٱدْعُوهُمْ لأَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ }. ثم قال تعالى { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي إِذا نسبتم بعضهم إِلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع، فإِن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إِثمه كما أرشد إِليه في قوله تبارك وتعالى آمراً عباده أن يقولوا
{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا }
البقرة 286 وثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل قد فعلت " وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإِن اجتهد فأخطأ، فله أجر " وفي حديث آخر " إِن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطا، والنسيان، وما يكرهون عليه " وقال تبارك وتعالى ههنا { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي وإِنما الإثم على من تعمد الباطل كما قال عز وجل " لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِىۤ أَيْمَـٰنِكُمْ " المائدة 89 الآية. وفي الحديث المتقدم " ليس من رجل ادعى إِلى غير أبيه، وهو يعلمه، إِلا كفر " وفي القرآن المنسوخ فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن بن عبيد بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال إِن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فإِنما أنا عبد الله، فقولوا عبده ورسوله " وربما قال معمر " كما أطرت النصارى ابن مريم " ورواه في الحديث الآخر " ثلاث في الناس كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ".
ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٥
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } نزلت في زيد بن حارثة، على ما تقدّم بيانه. وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، دليل على أن التَّبَنِّي كان معمولاً به في الجاهلية والإسلام، يُتوارث به ويتناصر، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي أعدل. فرفع الله حكم التَّبَنِّي ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأوْلى والأعدل أن يُنسب الرجل إلى أبيه نَسَباً؛ فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلَده وظَرْفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان يُنْسب إليه فيقال فلان ابن فلان. وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبنّي، وهو من نسخ السنّة بالقرآن؛ فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلا وَلائه، فإن لم يكن له وَلاء معروف قال له يا أخي؛ يعني في الدين، قال الله تعالى:
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }
[الحجرات: 10].
الثانية: لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبنّي فإن كان على جهة الخطأ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة؛ لقوله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }. وكذلك لو دعوت رجلاً إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس؛ قاله قتادة. ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبنّي كالحال في المِقْداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبنّي، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود؛ فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنّاه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المِقْداد: أنا ابن عمرو؛ ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه. ولم يُسمع فيمن مضى من عَصَّى مُطْلِق ذلك عليه وإن كان متعمداً. وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة. وغير هؤلاء ممن تُبُنِّي وانْتُسِب لغير أبيه وشُهِر بذلك وغَلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمّداً عصى لقوله تعالى: { وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي فعليكم الجناح. والله أعلم. ولذلك قال بعده: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي «غَفُوراً» للعمد، و«رَحِيماً» برفع إثم الخطأ.
الثالثة: وقد قيل: إن قول الله تبارك وتعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ } مُجْمَل؛ أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم، وكانت فُتْيَا عطاء وكثيرٍ من العلماء. على هذا إذا حلف رجل ألاّ يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه، فأخذ منه ما يرى أنه جيّد من دنانير فوجدها زيوفاً أنه لا شيء عليه.
وكذلك عنده إذا حلف ألا يسلّم على فلان فسلّم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث؛ لأنه لم يتعمد ذلك. و«ما» في موضع خفض ردًّا على «ما» التي مع «أَخْطَأْتُمْ». ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ والتقدير: ولكن الذي تؤاخَذون به ما تَعمّدت قلوبكم. قال قتادة وغيره: من نسب رجلاً إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه، خطأً فذلك من الذي رفع الله فيه الجناح. وقيل: هو أن يقول له في المخاطبة: يا بنيّ؛ على غير تَبَنٍّ.
الرابعة: قوله تعالى: { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } «بِأَفْوَاهِكُمْ» تأكيد لبطلان القول؛ أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود، إنما هو قول لسانيّ فقط. وهذا كما تقول: أنا أمشي إليك على قَدَم؛ فإنما تريد بذلك المبرّة. وهذا كثير. وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع. { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } «الحقّ» نعت لمصدر محذوف؛ أي يقول القول الحق. و { يَهْدِي } معناه يبين؛ فهو يتعدى بغير حرف جرّ.
الخامسة: الأدعياء جمع الّدعيّ، وهو الذي يدعى ابناً لغير أبيه أو يدّعِي غير أبيه؛ والمصدر الدِّعْوة بالكسر؛ فأمر تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصُّلْب، فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مَوْلًى وأخاً في الدِّين. وذكر الطبريّ أن أبا بكرة قرأ هذه الآية وقال: أنا ممن لا يُعرف أبوه، فأنا أخوكم في الدِّين ومولاكم. قال الراوي عنه: ولو علم ـ واللَّهِ ـ أن أباه حمار لانتمى إليه. ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة: نُفَيع بن الحارث.
السادسة: روى الصحيح عن سعد بن أبي وَقّاص وأبي بكرة كلاهما قال: سَمِعَتْه أذناي ووعاه قلبي محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: " من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام " وفي حديث أبي ذرّ أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس مِن رجل ادّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ".
ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٥
يعاتب تعالى [عباده] عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً لا حقيقة له من الأقوال، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا، فإن ذلك القول منكم كذب وزور، يترتب عليه منكرات من الشرع. وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء، والإخبار بوقوع ووجود ما لم يجعله اللّه تعالى. ولكن خص هذه الأشياء المذكورة لوقوعها، وشدة الحاجة إلى بيانها، فقال: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } هذا لا يوجد، فإياكم أن تقولوا عن أحد: إن له قلبين في جوفه، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية. { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ } بأن يقول أحدكم لزوجته: " أنتِ عَليَّ كظهر أُمي أو كأمي " فما جعلهن اللّه { أُمَّهَاتِكُمْ } أمك مَنْ ولدتك، وصارت أعظم النساء عليك حرمة وتحريماً، وزوجتك أحلُّ النساء لك، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر؟ هذا أمر لا يجوز، كما قال تعالى:
{ ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً }
[المجادلة: 2]. { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } والأدعياء، الولد الذي كان الرجل يدّعيه، وهو ليس له، أو يُدْعَى إليه، بسبب تبنيه إياه، كما كان الأمر بالجاهلية، وأول الإسلام. فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه، وأنه باطل وكذب، وكل باطل وكذب، لا يوجد في شرع اللّه، ولا يتصف به عباد اللّه. يقول تعالى: فاللّه لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم، أو يدعون إليكم، أبناءكم، فإن أبناءكم في الحقيقة، من ولدتموهم، وكانوا منكم، وأما هؤلاء الأدعياء من غيركم، فلا جعل اللّه هذا كهذا. { ذَٰلِكُمْ } القول الذي تقولون في الدعي: إنه ابن فلان الذي ادعاه، أو والده فلان { قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } أي: قول لا حقيقة له ولا معنى له. { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } أي: اليقين والصدق، فلذلك أمركم باتباعه على قوله وشرعه، فقوله حق، وشرعه حق، والأقوال والأفعال الباطلة لا تنسب إليه بوجه من الوجوه، وليست من هدايته، لأنه لا يهدي إلاّ إلى السبيل المستقيمة، والطرق الصادقة. وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته، فمشيئته عامة، لكل ما وجد من خير وشر. ثم صرّح لهم بترك الحالة الأولى، المتضمنة للقول الباطل فقال: { ٱدْعُوهُمْ } أي: الأدعياء { لآبَآئِهِمْ } الذين ولدوهم { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أي: أعدل وأقوم وأهدى. { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ } الحقيقيين { فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي: إخوتكم في دين اللّه ومواليكم في ذلك، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة، والموالاة على ذلك، فترك الدعوة إلى مَنْ تبناهم حتم، لا يجوز فعلها.
وأما دعاؤهم لآبائهم، فإن علموا، دعوا إليهم، وإن لم يعلموا، اقتصر على ما يعلم منهم، وهو أخوة [الدين] والموالاة، فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم عذر في دعوتهم إلى مَنْ تبناهم، لأن المحذور لا يزول بذلك. { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } بأن سبق على لسان أحدكم دعوته إلى مَنْ تبناه، فهذا غير مؤاخذ به، أو علم أبوه ظاهراً، [فدعوتموه إليه] وهو في الباطن غير أبيه، فليس عليكم في ذلك حرج إذا كان خطأ، { وَلَـٰكِن } يؤاخذكم بـ { مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } من الكلام بما لا يجوز. { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } غفر لكم ورحمكم، حيث لم يعاقبكم بما سلف، وسمح لكم بما أخطأتم به، ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم، فله الحمد تعالى.
ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦
قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته، ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم كما قال تعالى
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }
النساء 65 وفي الصحيح " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إِليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله والله لأنت أحب إِلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم " لا يا عمر حتى أكون أحب إِليك من نفسك " فقال يا رسول الله والله لأنت أحب إِلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم " الآن ياعمر " ولهذا قال تعالى في هذه الآية { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }. وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح، حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مؤمن إِلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إِن شئتم { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، فأيما مؤمن ترك مالاً، فليرثه عصبته من كانوا، وإِن ترك ديناً أو ضياعاً، فليأتني، فأنا مولاه " تفرد به البخاري، ورواه أيضاً في الاستقراض، وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله، ورواه أحمد من حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله { ٱلنَّبِىُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فأيما رجل مات وترك ديناً، فإِليّ، ومن ترك مالاً، فهو لورثته " ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه. وقال تعالى { وَأَزْوَٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } أي في الحرمة والاحترام، والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن، ولا ينتشر التحريم إِلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع، وإِن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر، وهو من باب إِطلاق العبارة، لا إِثبات الحكم، وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم، ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك، وهل يقال لهن أمهات المؤمنين، فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليباً؟ وفيه قولان، صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لا يقال ذلك، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرآ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه، حكاه البغوي وغيره، واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنما أنا لكم بمنزلة الوالد، أعلمكم، فإِذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه " وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن عجلان، والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك، واحتجوا بقوله تعالى
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ }
الأحزاب 40. وقوله تعالى { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِى كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } أي في حكم الله { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ } أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم، كما قال ابن عباس وغيره كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا قال سعيد بن جبير وغيره من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثاً عن الزبير بن العوام فقال حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } وذلك أنا ــــ معشر قريش ــــ لما قدمنا المدينة، قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فواخيناهم وأورثناهم، فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد، وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً، وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي، ويقول بعض الناس غيره، قال الزبير رضي الله عنه وواخيت أنا كعب بن مالك، فجئته فابتعلته، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى، والله يابني لو مات يومئذ عن الدنيا، ما ورثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة، فرجعنا إِلى مواريثنا. وقوله تعالى { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } أي ذهب الميراث، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية. وقوله تعالى { كَانَ ذٰلِك فِى ٱلْكِتَـٰبِ مَسْطُورًا } أي هذا الحكم، وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير، قاله مجاهد وغير واحد، وإِن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وهو يعلم أنه سينسخه إِلى ماهو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي، والله أعلم.
ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام؛ منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي على مَيّت عليه دَيْن، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوُفِّيَ وعليه دَين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته " أخرجه الصحيحان. وفيهما أيضاً " فأيكم ترك دَيْناً أو ضَياعاً فأنا مولاه " قال ابن العربيّ: فانقلبت الآن الحال بالذنوب، فإن تركوا مالاً ضُويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعاً أسلموا إليه؛ فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم وتنبيهه؛ (ولا عِطْر بعد عَرُوس). قال ابن عطية: وقال بعض العلماء العارفين هو أوْلى بهم من أنفسهم؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة. قال ابن عطية: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: " أنا آخِذ بحُجَزِكم عن النارِ وأنتم تقتحمون فيها تقحّم الفَراش ". قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها، والحديث الذي ذُكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما مَثَلَي ومَثَل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفَراش يقعن فيه وأنا آخِذٌ بِحُجَزِكم وأنتم تَقَحّمُون فيه " وعن جابر مثله؛ وقال: " وأنتم تَفَلَّتُون من يدي " قال العلماء: الْحُجْزَة للسراويل، والمَعْقِد للإزار؛ فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه. وهذا مثل لاجتهاد نبيَّنا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا، وحرصه على تخلّصنا من الهلكات التي بين أيدينا؛ فهو أوْلى بنا من أنفسنا؛ ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدوّنا اللعين بناصِرنا أحقر من الفِراش وأذلّ من الفَراش، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم! وقيل: أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْلى. وقيل: أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم؛ أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه.
الثانية: قال بعض أهل العلم: يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال: " فعليّ قضاؤه " والضَّياع (بفتح الضاد) مصدر ضاع، ثم جعل اسماً لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم، ومال لا قَيّم له. وسمّيت الأرض ضَيعة لأنها معرّضة للضياع، وتجمع ضِياعاً بكسر الضاد.
الثالثة: قوله تعالى: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } شرّف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين؛ أي في وجوب التعظيم والمبرّة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات. وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثاً كأمومة التَّبنِّي. وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس. وسيأتي عدد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى.
واختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة؛ على قولين: فروى الشعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمّة؛ فقالت لها: لست لك بأمّ، إنما أنا أمّ رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح.
قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء؛ تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء. يدلّ عليه صدر الآية: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً. ويدلّ على ذلك حديث أبي هريرة وجابر؛ فيكون قوله: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } عائداً إلى الجميع. ثم إن في مصحف أُبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم». وقرأ ابن عباس: «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم». وهذا كلّه يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } قيل: إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشاً. وفيه قولان: أحدهما: أنه ناسخ للتوارث بالهجرة. حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ }
[الأنفال: 72] فتوارث المسلمون بالهجرة؛ فكان لا يرث الأعرابيّ المسلم من قريبه المسلم المهاجِر شيئاً حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ }. الثاني: أن ذلك ناسخ للتوارث بالحِلف والمؤاخاة في الدِّين؛ روى هشام بن عُروة عن أبيه عن الزبير: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نِعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم؛ فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخيت أنا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله؛ فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورِثه غيري، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا. وثبت عن عُروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزّبير وبين كعب بن مالك، فارْتُثّ كعب يوم أُحُدٍ فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته؛ فلو مات يومئذٍ كعب عن الضِّح والريح لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ }.
فبيّن الله تعالى أن القرابة أوْلى من الحِلْف، فتركت الوراثة بالحِلْف وورثوا بالقرابة. وقد مضى في «الأنفال» الكلام في توريث ذوي الأرحام. وقوله: { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } يحتمل أن يريد القرآن، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه. و«مِنَ الْمُوْمِنِينَ» متعلق بـ«ـأَوْلَى» لا بقوله: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ } بالإجماع؛ لأن ذلك كان يوجب تخصيصاً ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حلّ إشكالها؛ قاله ابن العربي. النحاس: { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } يجوز أن يتعلق «مِنَ الْمُوْمِنِينَ» بـ«ـأُولُو» فيكون التقدير: وَأُولُو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين. ويجوز أن يكون المعنى أوْلَى من المؤمنين. وقال المهدوِيّ: وقيل إن معناه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُدعَين أمهات المؤمنين. والله تعالى أعلم.
الخامسة: واختلف في كونهن كالأمهات في المَحْرَم وإباحة النظر؛ على وجهين: أحدهما: هنّ مَحْرَم، لا يحرم النظر إليهنّ. الثاني: أن النظر إليهن محرّم، لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، وكان من حفظ حقّه تحريمُ النظر إليهن؛ ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة، فيصير مَحْرَماً يستبيح النظر. وأما اللاتي طلقهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه: أحدها: ثبتت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: لا يثبت لهن ذلك، بل هن كسائر النساء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن، وقال: " أزواجي في الدنيا هنّ أزواجي في الآخرة " الثالث: من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحَرُم نكاحها وإن طلقها؛ حفظاً لحرمته وحراسة لخلوته. ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة؛ وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوّجت فقالت: لم هذا! وما ضرب عَليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سُمّيت أمّ المؤمنين؛ فكفّ عنها عمر رضي الله عنه.
السادسة: قال قوم: لا يجوز أن يُسَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم أباً لقوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ }. ولكن يقال: مِثل الأب للمؤمنين؛ كما قال: " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمكم... " الحديث. خرجه أبو داود. والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أبٌ للمؤمنين، أي في الحرمة، وقوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي في النسب.
وسيأتي. وقرأ ابن عباس: «مِنْ أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه». وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حُكمها يا غلام؟ فقال: إنها في مصحف أُبيّ؛ فذهب إليه فسأله فقال له أُبَيّ: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصَّفْق بالأسواق؟ وأغلظ لعمر. وقد قيل في قول لوط عليه السلام
{ هَؤُلآءِ بَنَاتِي }
[الحجر: 71]: إنما أراد المؤمنات؛ أي تزوّجوهن. وقد تقدّم.
السابعة: قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعيّ رضي الله عنه: تزوّج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة، ولم يقل هي خالة المؤمنين. وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين؛ يعني في الحرمة لا في النسب.
الثامنة: قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت؛ أي إن ذلك جائز؛ قاله قتادة والحسن وعطاء. وقال محمد بن الحنفِيّة، نزلت في إجازة الوصية لليهوديّ والنّصرانيّ؛ أي يفعل هذا مع الولِيّ والقريب وإن كان كافراً؛ فالمشرك وَلِيّ في النسب لا في الدّين فيوصى له بوصية. واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيًّا؛ فجوّز بعضٌ ومنع بعض. وردّ النظر إلى السلطان في ذلك بعض؛ منهم مالك رحمه الله تعالى. وذهب مجاهد وابن زيد والرّماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين. ولفظ الآية يَعْضُد هذا المذهب، وتعميم الوليّ أيضاً حسن. وولاية النسب لا تدفع الكافر، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالموَدّة كولِيّ الإسلام.
التاسعة: قوله تعالى: { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } «الْكتَابِ» يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في «كِتَابِ اللَّهِ». و«مسْطُوراً» من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطاراً. وقال قتادة: أي مكتوباً عند الله عز وجل ألاّ يرث كافرٌ مسلماً. قال قتادة: وفي بعض القراءة «كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوباً». وقال القُرَظِيّ: كان ذلك في التوراة.
ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦
يخبر تعالى المؤمنين خبراً يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة، فقال: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان، وأولى ما له نفسه، فالرسول أولى به من نفسه، لأنه عليه الصلاة والسلام، بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة، ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم، فرسول اللّه، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم من كل أحد، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر، إلا على يديه وبسببه. فلذلك، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس، أو مراد أحد من الناس، مع مراد الرسول، أن يقدم مراد الرسول، وأن لا يعارض قول الرسول بقول أحد، كائناً مَنْ كان، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، ويقدموا محبته على الخلق كلهم، وألا يقولوا حتى يقول، ولا يتقدموا بين يديه. وهو صلى اللّه عليه وسلم أب للمؤمنين، كما في قراءة بعض الصحابة، يربيهم كما يربي الوالد أولاده. فترتب على هذه الأبوة، أن كان نساؤه أمهاتهم، أي: في الحرمة والاحترام والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية، وكأن هذا مقدمة لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة، الذي كان قَبْل يُدْعَى: " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ }
[الأحزاب: 40] فقطع نسبه، وانتسابه منه، فأخبر في هذه الآية، أن المؤمنين كلهم أولاد للرسول، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه، فلا يحزن ولا يأسف. وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين، أنهن لا يحللن لأحد من بعده، كما الله صرح بذلك:
{ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }
[الأحزاب: 53]. { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ } أي: الأقارب، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [أي]: في حكمه، فيرث بعضهم بعضاً، ويبر بعضهم بعضاً، فهم أولى من الحلف والنصرة. والأدعياء الذين كانوا من قبل يرثون بهذه الأسباب، دون ذوي الأرحام، فقطع تعالى التوارث بذلك وجعله للأقارب، لطفاً منه وحكمة، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة، لحصل من الفساد والشر والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث شيء كثير. { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } أي: سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام في جميع الولايات، كولاية النكاح والمال، وغير ذلك. { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } أي: ليس لهم حق مفروض، وإنما هو بإرادتكم، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعاً وتعطوهم معروفاً منكم، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } أي: قد سطر وكتب وقدره اللّه، فلا بد من نفوذه.
وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٧
يقول الله تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إِقامة دين الله تعالى، وإِبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق كما قال تعالى
{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ }
آل عمران 81 فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إِرسالهم، وكذلك هذا، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم، وهو من باب عطف الخاص على العام، وقد صرح بذكرهم أيضاً في هذه الآية، وفي قوله تعالى
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ }
الشورى 13 فذكر الطرفين، والوسط الفاتح، والخاتم، ومن بينهما على الترتيب، فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها كما قال تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم " كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم " سعيد بن بشير فيه ضعف، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به مرسلاً، وهو أشبه، ورواه بعضهم عن قتاده موقوفاً، والله علم. وقال أبو بكر البزار حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا حمزة الزيات، حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خيار ولد آدم خمسة نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم موقوف وحمزة فيه ضعف، وقد قيل إِن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال ورفع أباهم آدم، فنظر إِليهم، يعني ذريته، وأن فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال رب لو سويت بين عبادك، فقال إِني أحببت أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، وهو الذي يقول الله تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } وهذا قول مجاهد أيضاً، وقال ابن عباس الميثاق الغليظ العهد.
وقوله تعالى { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } قال مجاهد المبلغين المؤدين عن الرسل. وقوله تعالى { عَن صِدْقِهِمْ } أي من أممهم { عَذَاباً أَلُيماً } أي موجعاً، فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق الجلي الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء، وإِن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال كما يقول أهل الجنة { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ }.
وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٧
قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ } أي عهدهم على الوفاء بما حمّلوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدّق بعضهم بعضاً؛ أي كان مسطوراً حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء. { وَمِنْكَ } يا محمد { وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } وإنما خصّ هؤلاء الخمسة وإن دخلوا في زمرة النبيّين تفضيلاً لهم. وقيل: لأنهم أصحاب الشرائع والكتب، وأولُو العزم من الرسل وأئمة الأمم. ويحتمل أن يكون هذا تعظيماً في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين؛ أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أي كان في ابتداء الإسلام توارثٌ بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الدّيانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكِيد؛ فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخِذ عليهم المواثيق؛ فلا تُداهنوا في الدين ولا تمالئوا الكفار. ونظيره:
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً ـ إلى قوله ـ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ }
[الشورى: 13]. ومِن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار. وقيل: أي النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كان ذلك في الكتاب مسطوراً ومأخوذاً به المواثيق من الأنبياء. { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أي عهداً وثيقاً عظيماً على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضاً. والميثاق هو اليمين بالله تعالى؛ فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأوّل باليمين. وقيل: الأوّل هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوّة ونظير هذا قوله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي }
[آل عمران: 81] الآية. أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نبيّ بعده. وقدّم محمداً في الذكر لما روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } قال: «كنت أوّلَهم في الخلق وآخرَهم في البعث» " وقال مجاهد: هذا في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.
وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٧
يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عموماً، ومن أولي العزم - وهم، هؤلاء الخمسة المذكورون - خصوصاً، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد، على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله، وأن هذا سبيل قد مشى الأنبياء المتقدمون، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم، محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأمر الناس بالاقتداء بهم. وسيسأل اللّه الأنبياء وأتباعهم عن هذا العهد الغليظ، هل وفوا فيه، وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟ أم كفروا، فيعذبهم العذاب الأليم؟ قال تعالى:
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }
[الأحزاب: 23].
لِّيَسَۡٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
لِّيَسَۡٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨
يقول الله تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إِقامة دين الله تعالى، وإِبلاغ رسالته، والتعاون والتناصر والاتفاق كما قال تعالى
{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ }
آل عمران 81 فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إِرسالهم، وكذلك هذا، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة، وهم أولو العزم، وهو من باب عطف الخاص على العام، وقد صرح بذكرهم أيضاً في هذه الآية، وفي قوله تعالى
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ }
الشورى 13 فذكر الطرفين، والوسط الفاتح، والخاتم، ومن بينهما على الترتيب، فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها كما قال تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم " كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث، فبدأ بي قبلهم " سعيد بن بشير فيه ضعف، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به مرسلاً، وهو أشبه، ورواه بعضهم عن قتاده موقوفاً، والله علم. وقال أبو بكر البزار حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا حمزة الزيات، حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خيار ولد آدم خمسة نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم موقوف وحمزة فيه ضعف، وقد قيل إِن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال ورفع أباهم آدم، فنظر إِليهم، يعني ذريته، وأن فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال رب لو سويت بين عبادك، فقال إِني أحببت أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة، وهو الذي يقول الله تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } وهذا قول مجاهد أيضاً، وقال ابن عباس الميثاق الغليظ العهد.
وقوله تعالى { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } قال مجاهد المبلغين المؤدين عن الرسل. وقوله تعالى { عَن صِدْقِهِمْ } أي من أممهم { عَذَاباً أَلُيماً } أي موجعاً، فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم، ونصحوا الأمم، وأفصحوا لهم عن الحق الجلي الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء، وإِن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين، فما جاءت به الرسل هو الحق، ومن خالفهم فهو على الضلال كما يقول أهل الجنة { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ }.
لِّيَسَۡٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨
قوله تعالى: { لِّيَسْأَلَ ٱلصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } فيه أربعة أوجه:
أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم؛ حكاه النقاش. وفي هذا تنبيه؛ أي إذا كان الأنبياء يُسألون فكيف مَن سواهم.
الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم؛ حكاه عليّ بن عيسى.
الثالث: ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ حكاه ابن شجرة.
الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، وفي التنزيل:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ }
[الأعراف: 6]. وقد تقدّم. وقيل: فائدة سؤالهم توبيخ الكفار؛ كما قال تعالى:
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ }
[المائدة: 116]. { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } وهو عذاب جهنم.
لِّيَسَۡٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡۚ وَأَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨
يخبر تعالى أنه أخذ من النبيين عموماً، ومن أولي العزم - وهم، هؤلاء الخمسة المذكورون - خصوصاً، ميثاقهم الغليظ وعهدهم الثقيل المؤكد، على القيام بدين اللّه والجهاد في سبيله، وأن هذا سبيل قد مشى الأنبياء المتقدمون، حتى ختموا بسيدهم وأفضلهم، محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأمر الناس بالاقتداء بهم. وسيسأل اللّه الأنبياء وأتباعهم عن هذا العهد الغليظ، هل وفوا فيه، وصدقوا؟ فيثيبهم جنات النعيم؟ أم كفروا، فيعذبهم العذاب الأليم؟ قال تعالى:
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }
[الأحزاب: 23].
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩
يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإِحسانه إِلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم، وهزمه إِياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا، وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور. وقال موسى بن عقبة وغيره كان في سنة أربع. وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بن النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إِلى خيبر، منهم سلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إِلى مكة، فاجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة، فأجابوهم إِلى ذلك، ثم خرجوا إِلى غطفان، فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها، وقائدها أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم، أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة ممايلي الشرق، وذلك بإِشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات. وجاء المشركون، فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد، ونزلت طائفة منهم أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، وهم نحو ثلاثة آلاف، وقيل سبعمائة، فأسندوا ظهورهم إِلى سلع، ووجوههم إِلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم، يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إِليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة، وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل، فذهب إِليهم حيي بن أخطب النضري، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالؤا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم الخطب، واشتد الأمر، وضاق الحال كما قال الله تبارك وتعالى { هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريباً من شهر، إِلا أنهم لا يصلون إِليهم، ولم يقع بينهم قتال، إِلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري، وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية، ركب ومعه فوارس، فاقتحموا الخندق، وخلصوا إِلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إِليه، فيقال إِنه لم يبرز أحد، فأمر علياً رضي الله عنه، فخرج إِليه، فتجاولا ساعة، ثم قتله علي رضي الله عنه، فكان علامة النصر.
ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية، حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء، ولا توقد لهم نار، ولا يقر لهم قرار، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين كما قال الله عز وجل { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً } قال مجاهد وهي الصبا، ويؤيده الحديث الآخر " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود عن عكرمة قال قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إِن الحرة لا تسري بالليل، قال فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن حفص بن غياث، عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، فذكره. وقال ابن جرير أيضاً حدثنا يونس حدثنا ابن وهب، حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد وريح إِلى المدينة، فقال أئتنا بطعام ولحاف، قال فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي، وقال " من أتيت من أصحابي، فمرهم يرجعوا " قال فذهبت والريح تسفي كل شيء، فجعلت لاألقى أحداً إِلا أمرته بالرجوع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فما يلوي أحد منهم عنقه، قال وكان معي ترس لي، فكانت الريح تضربه علي، وكان فيه حديد، قال فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي، فأبعدها إِلى الأرض. وقوله { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول يا بني فلان إِلي، فيجتمعون إِليه، فيقول النجاء، النجاء لما ألقى الله عز وجل في قلوبهم من الرعب. وقال محمد بن إِسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه ياأبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال نعم يابن أخي قال وكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد كنا نجهد، قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال قال حذيفة رضي الله عنه يابن أخي والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت فقال " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ ــــ يشترط له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع ــــ أدخله الله الجنة "
قال فما قام رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إِلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إِلينا فقال " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ ــــ يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة ــــ أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال صلى الله عليه وسلم " ياحذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ما يفعلون، ولا تحدثنَّ شيئاً حتى تأتينا ". قال فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قراراً ولا ناراً ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر كل امرىء مَنْ جليسُه، قال حذيفة رضي الله عنه فأخذت بيد الرجل إِلى جنبي، فقلت من أنت؟ فقال أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان يامعشر قريش إِنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولاتقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإِني مرتحل، ثم قام إِلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إِلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي أن لاتحدث شيئاً حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة رضي الله عنه فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني، أدخلني بين رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد، وإِني لفيه، فلما سلم، أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إِلى بلادهم. وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن إِبراهيم التيمي عن أبيه قال كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقال له رجال لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة " فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله، ثم قال صلى الله عليه وسلم
" ياحذيفة قم فأتنا بخبر من القوم " فلم أجد بداً إِذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال " ائتني بخبر القوم، ولاتذعرهم علي " قال فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فإِذا أبو سفيان يَصْلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد قوسي، وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذعرهم عليَّ، ولو رميته لأصبته، قال فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى الصبح، فلما أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قم يانَوْمان ". ورواه يونس بن بكير عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال إِن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه نشكو إِلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة رضي الله عنه ونحن نشكو إِلى الله إِيمانكم به ولم تروه، والله لا تدري يابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، ثم ذكر نحو ما تقدم مطولاً. وروى بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحو ذلك أيضاً، وقد أخرج الحاكم والبيهقي في " الدلائل " من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز بن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه أما والله لو شاهدنا ذلك، كنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إِن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إِلا أذن له، ويأذن لهم فيتسللون، ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك، إِذ استقبلنا رسول الله رجلاً رجلاً، حتى أتى علي، وما علي جنة من العدو ولا من البرد إِلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي، فقال " من هذا؟ " فقلت حذيفة. قال " حذيفة؟ " قتقاصرت الأرض، فقلت بلى يارسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال " إِنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم "
قال وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قُرّاً. قال فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته " قال فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قرّاً في جوفي إِلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئاً، قال فلما وليت، قال صلى الله عليه وسلم " يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني " قال فخرجت حتى إِذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإِذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته، ويقول الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني " قال فأمسكت، ورددت سهمي إِلى كنانتي، ثم إِني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإِذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم. وإِذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إِني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفَرَسَتْهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق، أو نحواً من ذلك، إِذ أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين، فقالوا أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إِلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل عليّ شملة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر، صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وأخرج أبو داود في سننه منه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر صلى، من حديث عكرمة بن عمار به. وقوله تعالى { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أي الأحزاب، { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة، { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } أي شدة الخوف والفزع، { ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } قال ابن جرير ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك. وقال محمد بن إِسحاق في قوله تعالى { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إِلى الغائط.
وقال الحسن في قوله عز وجل { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري، حدثنا أبو عامر، ح وحدثنا أبي، حدثنا أبو عامرالعقدي، حدثنا الزبير، يعني ابن عبد الله مولى عثمان رضي الله عنه، عن رُتيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قلنا يوم الخندق يارسول الله هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم، قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " قال فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح. وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي عامر العقدي.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩
يعني غزوة الخَنْدق والأحزاب وبني قُرَيظة، وكانت حالاً شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة، وتضمّنت أحكاماً كثيرة وآيات باهرات عزيزة، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل:
الأولى: اختلف في أيّ سنة كانت؛ فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله: كانت وقعة الخندق سنة أربع، وهي وبنو قُريظة في يوم واحد، وبين بني قريظة والنَّضير أربع سنين. قال ابن وهب وسمعت مالكاً يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة، وذلك قوله تعالى: { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ }. قال: ذلك يوم الخندق، جاءت قريش من هاهنا واليهود من هاهنا والنَّجدية من هاهنا. يريد مالك: إن الذين جاؤوا من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغَطَفان. وكان سببها: أن نفراً من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيق وسلام بن أبي الحُقَيق وسلام بن مِشْكم وحُيَيّ بن أخْطب النضرِيّون وهَوْذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، هم الذين حزّبوا الأحزاب وألبّوا وجمعوا، خرجوا في نفر من بني النَّضير ونَفَر من بني وائل فأتوا مكة فدعوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك؛ فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غَطَفَان فدعوهم إلى مثل ذلك فأجابوهم؛ فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب، وخرجت غَطَفان وقائدهم عُيينة بن حصن بن حُذيفة بن بدر الفَزَاريّ على فَزارة، والحارث ابن عوف المُرِّي على بني مُرّة، ومسعود بن رُخَيلة على أشجع. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه. وقال المهاجرون يومئذٍ: سلمان منا. وقال الأنصار: سلمان منا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلمان منّا أهل البيت " وكان الخندق أوّلَ مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ حر. فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا؛ فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسلّلْون لِواذاً فنزلت فيهم آيات من القرآن ذكرها ابن إسحاق وغيره. وكان مَن فرغ من المسلمين من حصّته عاد إلى غيره، حتى كمل الخندق. وكانت فيه آيات بيّنات وعلامات للنبوّات.
قلت: ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي:
الثانية: مشاورة السلطان أصحابَه وخاصّته في أمر القتال؛ وقد مضى ذلك في «آل عمران، والنمل».
وفيه التحصّن من العدوّ بما أمكن من الأسباب واستعمالها؛ وقد مضى ذلك في غير موضع. وفيه أن حفر الخندق يكون مقسوماً على الناس؛ فمن فرغ منهم عاون من لم يفرغ، فالمسلمون يدٌ على مَن سواهم؛ وفي البخاري ومسلم عن البَرَاء بن عازِب قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنّي الغبارُ جِلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجِز بكلمات ابن رَواحة ويقول :
اللَّهُمَّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صَلّينا
فأنزِلنْ سكِينةً عَلَيْنَا وثَبّت الأقدام إن لاَقَيْنَا
وأما ما كان فيه من الآيات وهي:
الثالثة: فروى النسائي عن أبي سكينة رجلٍ من المحرَّرين عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ المعْول ووضع ردائه ناحية الخندق وقال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً } [الأنعام: 115] الآية؛ فَنَدَرَ ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر، فَبَرَق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرْقَةٌ، ثم ضرب الثانية وقال: «وَتَمَّتْ» الآية؛ فَنَدَرَ الثلث الآخر؛ فبرقت برقة فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة وقال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً } [الأنعام: 115] الآية؛ فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس. قال سلمان: يا رسول الله، رأيتك حين ضربت! ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ذلك يا سلمان؟» فقال: أيْ والذي بعثك بالحق يا رسول الله! قال: «فإني حين ضربت الضربة الأولى رُفعت لي مدائن كِسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعينيّ» ـ قال له من حضره من أصحابه؛ يا رسول الله، ادع الله أن يفتحها علينا ويغنِّمَنا ذراريهم ويخرّب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ «ثم ضربتُ الضربة الثانية فرُفعت لي مدائن قَيْصر وما حولها حتى رأيتها بعينيّ» ـ قالوا: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ «ثم ضربتُ الضربة الثالثة فرُفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعينيّ» ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: دعوا الحبشة ما وَدَعوكم واتركوا الترك ما تركوكم " وخرجه أيضاً عن البَرَاء قال: " لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفِر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المِعْول وقال: «باسم الله» فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال: «الله أكبر أُعْطيت مفاتيح الشام واللَّهِ إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا» قال: ثم ضرب أخرى وقال: «باسم الله» فكسر ثلثاً آخر ثم قال: «الله أكبر أُعطِيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض». ثم ضرب الثالثة وقال: «باسم الله» فقطع الحجر وقال: «الله أكبر أُعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء» "
صححه أبو محمد عبد الحق.
الرابعة: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهلِ تِهامة، وأقبلت غَطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أُحُد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سَلْع في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل على المدينة ابنَ أُمّ مَكْتوم ـ في قول ابن شهاب ـ وخرج عدوّ الله حُيَيّ بن أخطْب النضري حتى أتى كعب بن أسد القُرَظِيّ، وكان صاحبَ عقد بني قريظة ورئيسَهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاقده وعاهده؛ فلما سمع كعب بن أسد حُيَيّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له؛ فقال له: افتح لي يا أخي؛ فقال له: لا أفتح لك، فإنك رجل مشؤوم، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته، ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، فلست بناقض ما بيني وبينه. فقال حُيَيّ: افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك؛ فقال: لا أفعل؛ فقال: إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك؛ فغضب كعب وفتح له؛ فقال: يا كعب! إنما جئتك بعزّ الدهر، جئتك بقريش وسادتها، وغَطَفان وقادتها؛ قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمداً ومن معه؛ فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه! ويحك يا حُيَيّ؟ دَعْنِي فلستُ بفاعل ما تدعوني إليه؛ فلم يزل حُيَيّ بكَعْب يَعِده ويَغُرّه حتى رجع إليه وعاقده على خِذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم، وقال له حُيَيّ بن أخطب: إن انصرفت قريش وغَطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود. فلما انتهى خبر كعب وحُيَيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عُبادة وهو سيد الخزرج، وسيّد الأوْسِ سعد بن معاذ، وبعث معهما عبد الله بن رَواحة وخَوّات بن جُبير، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انطلقوا إلى بني قُرَيظة فإن كان ما قيل لنا حقاً فالحْنوا لنا لَحْناً ولا تَفُتُّوا في أعضاد الناس. وإن كان كذباً فاجهروا به للناس " فانطلقوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لا عهد له عندنا، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه؛ وكانت فيه حدّة فقال له سعد بن عُبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا: عَضَل والقَارَة ـ يعرّضان بغدر عَضَل والقارة بأصحاب الرَّجيعِ حُبيب وأصحابه ـ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
" أبشروا يا معشر المسلمين " وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف، وأتى المسلمين عدوُّهم من فوقهم؛ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب، حتى ظنوا بالله الظنونا؛ وأظهر المنافقون كثيراً مما كانوا يسرّون، فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة، فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها؛ وممن قال ذلك: أوْس بن قيظي. ومنهم من قال: يَعِدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقَيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال ذلك: مُعَتّب بن قُشير أحد بني عمرو ابن عوف. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر لم يكن بينهم حَرْب إلا الرمي بالنَّبْل والحصى. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتدّ على المسلمين البلاء بعث إلى عُيَيْنة بن حِصن الفَزَاري، وإلى الحارث بن عوف المرِّي، وهما قائدا غَطَفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غَطفان ويخذلا قريشاً ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تك
ن عقداً؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضِيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبّه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: " بل أمر أصنعه لكم، واللَّهِ ما أصنعه إلا أنّي قد رأيت العرب قد رمتكم عن قَوْس واحدة " فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، واللَّهِ لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمِعوا قَطّ أن ينالوا منا ثمرة إلا شِراء أو قِرًى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: " أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث: " انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف " وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.
الخامسة: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم؛ إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد وُدّ العامريّ من بني عامر بن لُوَيّ، وعِكرمة بن أبي جهل، وهُبَيرة بن أبي وهب، وضِرار بن الخطاب الفهريّ، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها.
ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سَلْع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثُّغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ودّ قد أثبتته الجراح يوم بَدْر فلم يشهد أُحُداً، وأراد يوم الخندق أن يُري مكانُه فلما وقف هو وخيله؛ نادى: من يبارز؟ فبرز له عليّ بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تُدْعَى إلى إحدى خَلّتين إلا أخذت إحداهما؟ قال: نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله ما أحبّ أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له عليّ: وأنا والله أحبّ أن أقتلك. فحَمِى عمرو بن عبد وُدّ ونزل عن فرسه، فعقره وصار نحو عليّ، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النَّقْع حتى رُئِيَ عليّ على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابُه أنه قد قتله عليّ اقتحموا بخيلهم الثُّغْرة منهزمين هاربين. وقال عليّ رضي الله عنه في ذلك:
نصر الحجارةَ من سفاهة رأيهِ ونصرتُ دِينَ محمد بِضراب
نازلته فتركته متجدِّلا كالجِذْع بين دَكادكٍ ورَوَابي
وعففتُ عن أثوابه ولو أنني كنت المقطَّرَ بَزَّنِي أثوابي
لا تحسِبُنّ الله خاذلَ دينه ونبيِّه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام: أكثر أهل العلم بالسير يشك فيها لعليّ. قال ابن هشام: وألقى عِكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذٍ وهو منهزم عن عمرو؛ فقال حسان بن ثابت في ذلك :
فرّ وألقَى لنا رُمْحَه لعلّك عِكرِمَ لم تَفْعلِ
وولّيت تَعْدُو كعَدْوِ الظَّلِـ ـيم ما إن تجور عن المَعْدِلِ
ولم تُلق ظهرك مستأنساً كأن قَفاك قَفَا فُرْعُل
قال ابن هشام: فرعل صغير الضباع. وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة، وأُمُّ سعد بن معاذ معها، وعلى سعد درع مُقَلِّصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربته وهو يقول :
لَبِّثْ قليلاً يلحق الهَيْجَا جَمَلْ لا بأس بالموت إذا كان الأجَلْ
ورُمي يومئذٍ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل. واختلف فيمن رماه؛ فقيل: رماه حِبّان بن قيس ابن العَرِقة، أحد بني عامر بن لؤيّ، فلما أصابه قال له: خذها وأنا ابن العَرِقة. فقال له سعد؛ عرّق الله وجهك في النار. وقيل: إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان. وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجُشَمِيّ، حليف بني مخزوم.
ولحسان مع صفية بنت عبد المطلب خبر طريف يومئذٍ؛ ذكره ابن إسحاق وغيره.
قالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حِصن حسان بن ثابت، وحسان معنا في النساء والصبيان، والنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدوّ لا يستطيعون الانصراف إلينا، فإذا يهوديّ يدور، فقلت لحسان: انزل إليه فاقتله؛ فقال: ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبد المطلب! فأخذت عموداً ونزلت من الحصن فقتلته، فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فلم يمنعني من سَلَبه إلا أنه رجل. فقال: مالي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب! قال: فنزلت فسلبته. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السِّيَر وقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاهلية والإسلام، ولَهُجِيَ بذلك ابنه عبد الرحمن؛ فإنه كان كثيراً ما يهاجي الناس من شعراء العرب؛ مثل النجاشي وغيره.
السادسة: " وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعيّ فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي، فمُرْني بما شئت؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد من غَطَفان فلو خرجتَ فخذّلت عنّا إن استطعت كان أحبّ إلينا من بقائك معنا فاخرج فإن الحرب خدعة» " فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قُريظة ـ وكان ينادمهم في الجاهلية ـ فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم وِدّي إياكم، وخاصّة ما بيني وبينكم؛ قالوا: قل فلستَ عندنا بمتَّهَم؛ فقال لهم: إن قريشاً وغَطَفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشاً وغَطَفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نُهْزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحِقوا ببلادهم وخلّوْا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً. ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لهم: قد عرفتم وِدّي لكم معشرَ قريش، وفراقي محمداً، وقد بلغني أمرٌ أرى من الحق أن أبلِّغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عليّ؛ قالوا نفعل؛ قال: تعلمون أن معشر يهودَ، قد نَدِموا على ما كان من خذلانهم محمداً، وقد أرسلوا إليه: إنا قد نَدِمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغَطَفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم. ثم أتى غَطَفان فقال مثل ذلك. فلما كان ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله والمؤمنين، أرسل أبو سفيان إلى بني قُرَيظة عِكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مُقام، قد هلك الخُفّ والحافر، فاغدوا صبيحة غدٍ للقتال حتى نناجز محمداً؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما نال منّا مَن تعدّى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رُهُناً؛ فلما رجع الرسول بذلك قالوا: صَدَقنا واللَّهِ نعيم بن مسعود؛ فردّوا إليهم الرسل وقالوا: والله لا نعطيكم رهناً أبداً فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم.
فقال بنو قريظة: صدق واللَّهِ نعيم بن مسعود. وخذل الله بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم رِيحاً عاصفاً في ليالٍ شديدة البرد؛ فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفَأ قدورهم.
السابعة: فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرّف كل امرىء جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا فلان. ثم قال أبو سفيان: ويلكم يا معشر قريش! إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخُفّ وأخلفتنا بنو قُريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل؛ ووثب على جمله فما حلّ عقال يده إلا وهو قائم. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني، قال لي: " مُرّ إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدِث شيئاً " ـ لقتلته بسهم؛ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم، فوجدته قائماً يصلّي في مِرْطٍ لبعض نسائه مراجل ـ قال ابن هشام: المراجل ضرب من وَشْي اليمن ـ فأخبرته فحمِد الله.
قلت: وخبر حذيفة هذا مذكور في صحيح مسلم، وفيه آيات عظيمة، رواه جرير عن الأعمش " عن إبراهيم التيمِيّ عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتَلْت معه وأبلَيْت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك! لقد رأيتُنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقرّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألاَ رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه أحد. فقال: «قم يا حذيفة فأتنا خبر القوم» فلم أجد بُدًّا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهم عليّ» قال: فلما وَلّيت من عنده جعلت كأنما أمشي في حَمّام حتى أتيتهم؛ فرأيت أبا سفيان يَصْلِي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كَبِد القَوس فأردت أن أرْمِيَه، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَذْعَرْهم عليّ» ولو رميته لأصبته: فرجعت وأنا أمشي في مثل الحَمّام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغتُ قُرِرت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلّي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نَوْمَان» "
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب، رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دِحْيَة بن خليفة الكلبيّ، على بغلة عليها قطيفة ديباج فقال له: يا محمد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها. إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قُريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:
الثامنة: منادياً فنادى: لا يصلّيَنّ أحد العصر إلا في بني قُريظة؛ فتخوّف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قُريظة. وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنّف واحداً من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين. وقد مضى بيانه في «الأنبياء». وكان سعد بن معاذ إذْ أصابه السهم دعا ربه فقال: اللّهُم إن كنت أبقيْتَ من حرب قريش فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب أن أجاهدهم من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه. اللَّهُمَّ وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تُمِتْني حتى تقرّ عيني في بني قُريظة. وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن سعد بن معاذ مَرّ بعائشة رضي الله عنها ونساءٍ معها في الأَطُم (فارع)، وعليه دِرع مُقَلِّصة مشمرّ الكُمّين، وبه أثر صفرة وهو يرتجز:
لَبِّثْ قليلاً يُدْرك الهَيْجَا جَمَلْ لا بأس بالموت إذا حان الأَجَلْ
فقالت عائشة رضي الله عنها: لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه؛ فأصيب في أَكْحَله. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلاً أجمل من سعد ابن معاذ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأصيب في أكحله ثم قال: اللهم إن كان حرب قُريظة لم يبق منه شيء فاقبضني إليك، وإن كان قد بقيت منه بقية فأبقني حتى أجاهد مع رسولك أعداءه؛ فلما حُكّم في بني قُريظة تُوُفِّيَ؛ ففرح الناس وقالوا: نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته.
التاسعة: ولما خرج المسلمون إلى بني قُريظة أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مَكْتوم، ونهض عليّ وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم، فسمعوا سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فانصرف عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعَرّض له.
فقال له: " أظنك سمعت منهم شتمي. لو رأوني لكفُّوا عن ذلك " ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا. فقال لهم: " نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته " فقالوا: ما كنت جاهلاً يا محمد فلا تجهل علينا؛ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة. وعرض عليهم سيّدُهم كعب ثلاثَ خصال ليختاروا أيّها شاؤوا: إما أن يُسلموا ويتبعوا محمداً على ما جاء به فيسلَموا. قال: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوباً في كتابكم. وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا؛ فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم. وإما أن يبيّتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلاً. فقالوا له: أما الإسلام فلا نُسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدّى في السبت. ثم بعثوا إلى أبي لُبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بن عوف وسائر الأوْس، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم، ـ وأشار بيده إلى حَلْقه ـ إنه الذبح إن فعلتم. ثم ندم أبو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمرٌ لا يستره الله عليه عن نبيّه صلى الله عليه وسلم. فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارِية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تَحُلّه لوقت كل صلاة. قال ابن عُيينة وغيره: فيه نزلت
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ }
[الأنفال: 27] الآية. وأقسم ألاّ يدخل أرض بني قُريظة أبداً مكاناً أصاب فيه الذنب. فلما بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم مِن فعل أبي لُبابة قال: " أما إنه لو أتاني لاستغفرت له وأمّا إذْ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى " فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة:
{ وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ }
[التوبة: 102] الآية. فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثب الأوْس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، وقد علمتَ أنهم حلفاؤنا، وقد أسعفت عبد الله بن أبَيّ بن سلول في بني النَّضِير حلفاء الخَزْرج، فلا يكن حظُّنا أوْكَس وأنقص عندك من حَظّ غيرنا، فهم موالينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأوس ألاَ ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ـ قالوا بلى. قال ـ: ـ فذلك إلى سعد بن معاذ " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد، ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق.
فحكم فيهم بأن تُقتل المقاتِلة، وتُسْبَى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة اليوم ـ زمن ابن إسحاق ـ فخندق بها خنادق، ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل يومئذٍ حييّ بن أخْطب وكعب بن أسد، وكانا رأس القوم، وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة. وكان على حُيَيّ حُلّة فُقّاحِيّة قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة، أنملة أنملة لئلا يُسْلبَها. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال: أمَا والله ما لُمتُ نفسي في عداوتك.
ولـكـنـه مـن يـخـذل الله يـخـذل
ثم قال: يا أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب وقَدَر ومَلْحمة كُتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بُنانة امرأة الحكم القُرَظِيّ التي طرحت الرّحَى على خَلاّد بن سُويد فقتلته. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم يُنبت. وكان عطية القُرَظِيّ ممن لم ينبت، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور في الصحابة. ووَهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شمّاس ولدَ الزّبِير بن باطا فاستحياهم؛ منهم عبد الرحمن بن الزّبير أسلم وله صحبة. وَوَهَب أيضاً عليه السلام رفاعة بن سَمَوْءل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سلَيط بن قيس من بني النجار، وكانت قد صلّت إلى القبلتين؛ فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: أتى ثابت بن قيس بن شمّاس إلى ابن باطا ـ وكانت له عنده يد ـ وقال: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي، قال: ذلك يفعل الكريم بالكريم، ثم قال: وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ قال: فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأعطاه أهله وولده؛ فأتى فأعلمه فقال: كيف يعيش رجل لا مال له؟ فأتى ثابت النبيّ صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله، فرجع إليه فأخبره؛ قال: ما فعل ابن أبي الحُقَيق الذي كأن وجهه مرآة صينية؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قُريظة؟ قال: قتلوا. قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا. قال: برئت ذمتك، ولن أصبّ فيها دلواً أبداً، يعني النخل، فألحقني بهم، فأبى أن يقتله فقتله غيره.
واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بُعاث فجز ناصيته وأطلقه.
العاشرة: وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قُريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً. وقد قيل: للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذٍ ستة وثلاثين فرساً. ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سَبْيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة أحد بني عمرو بن قُريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن غَنيمة قريظة هي أوّل غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأوّل غنيمة جعل فيها الخُمس. وقد تقدّم أن أوّل ذلك كان في بعث عبد الله بن جَحْش؛ فالله أعلم. قال: أبو عمر: وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أوّلَ غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله:
{ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ }
[الأنفال: 41] الآية. وكان عبد الله بن جَحش قد خمّس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل ما فعله؛ وكان ذلك من فضائله رحمة الله عليه.
وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأوّل ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة. فلما تمّ أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات رضي الله عنه. وهو الذي أتى الحديث فيه: " اهتَزّ لموته عَرْشُ الرّحمن " يعني سكان العرش من الملائكة فرِحوا بقدوم روحه واهتزُّوا له. وقال ابن القاسم عن مالك: حدّثني يحيـى بن سعيد قال: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملَك، ما نزلوا إلى الأرض قبلها. قال مالك: ولم يستشهد يوم الخَنْدق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة.
قلت: الذي اسْتُشْهِد يوم الخندق من المسلمين ستةُ نفرٍ فيما ذكر أهل العلم بالسِّيَر: سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبد الأشهل، وأنس بن أوْس بن عتيك، وعبد الله بن سهل، وكلاهما أيضاً من بني عبد الأشهل، والطّفيل بن النعمان، وثعلبة بن غَنَمَة، وكلاهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار، أصابه سَهْمٌ غَرْبٌ فقتله، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار ثلاثة: منبّه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم مات منه بمكة. وقد قيل: إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق. ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، اقتحم الخندق فتورّط فيه فقتِل، وغلب المسلمون على جسده؛ " فروي عن الزهري أنهم أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسده عشرة آلاف درهم فقال: «لا حاجة لنا بجسده ولا بثمنه» فخلّى بينهم وبينه " وعمرو بن (عبد) ودّ الذي قتله عليٌّ مبارزة، وقد تقدّم.
واستشهد يوم قُريظة من المسلمين خَلاْد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو من بني الحارث بن الخزرج؛ طرحت عليه امرأةٌ من بني قُريظة رحى فقتلته. ومات في الحصار أبو سنان ابن مِحْصَن بن حُرْثان الأسدي، أخو عُكاشة بن مِحْصَن، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقبرة بني قُريظة التي يتدافن فيها المسلمون السكان بها اليوم. ولم يُصب غير هذين، ولم يغزُ كفارُ قريش المؤمنين بعد الخندق. وأسند الدارِمِيّ أبو محمد في مسنده: أخبرنا يزيد بن هارون عن ابن أبي ذِئب عن المَقْبُرِيّ عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخُدْرِيّ عن أبيه قال: حُبسنا يوم الخندق حتى ذهب هَوِيّ من الليل حتى كفينا؛ وذلك قول الله عز وجل:
{ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }
[الأحزاب: 25] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام فصلّى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاّها، ثم أمره فأقام المغرب فصلاّها، ثم أمره فأقام العشاء فصلاّها، وذلك قبل أن ينزل:
{ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً }
[البقرة: 239] خرّجه النسائي أيضاً. وقد مضت هذه المسألة في «طه». وقد ذكرنا في هذه الغَزاة أحكاماً كثيرة لمن تأملها في مسائل عشر. ثم نرجع إلى أوّل الآي وهي تسع عشرة آية تضمّنت ما ذكرناه.
قوله تعالى: { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } يعني الأحزاب. { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } قال مجاهد: هي الصَّبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم. قال: والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذٍ. وقال عِكْرمة: قالت الجَنوب للشَّمال ليلة الأحزاب: انطلقي لنصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت الشَّمال: إن مَحْوَةَ لا تسرِي بليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصَّبا. وروى سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نُصرت بالصَّبا وأهلِكت عادٌ بالدَّبور " وكانت هذه الريح معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا قريباً منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولا خبر عندهم بها. { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وقرىء بالياء؛ أي لم يرها المشركون. قال المفسرون: بعث الله تعالى عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرُّعْب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر؛ حتى كان سيَّدُ كل خباء يقول: يا بني فلان هُلُمّ إليّ فإذا اجتمعوا قال لهم: النّجاءَ النّجاءَ؛ لما بعث الله تعالى عليهم من الرعب. { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وقرىء: «يعملون» بالياء على الخبر، وهي قراءة أبي عمرو. الباقون بالتاء؛ يعني من حفر الخندق والتحرز من العدوّ.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَآءَتۡكُمۡ جُنُودٞ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا وَجُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرًا ٩
يذكر تعالى عباده المؤمنين نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز، من فوقهم، وأهل نجد من أسفل منهم، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق. ومالأتهم [طوائف] اليهود الذين حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة. وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة، فحصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة مدة طويلة، والأمر كما وصف اللّه: { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } أي: الظنون السيئة، أن اللّه لا ينصر دينه ولا يتم كلمته. { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } بالخوف والقلق والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر - وللّه الحمد - من إيمانهم وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين. وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين،
{ وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }
[الأحزاب: 22]. وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون، قال تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا... }.
إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ٠١
يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإِحسانه إِلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم، وهزمه إِياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا، وذلك عام الخندق، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور. وقال موسى بن عقبة وغيره كان في سنة أربع. وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بن النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إِلى خيبر، منهم سلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، خرجوا إِلى مكة، فاجتمعوا بأشراف قريش، وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة، فأجابوهم إِلى ذلك، ثم خرجوا إِلى غطفان، فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها، وقائدها أبو سفيان صخر بن حرب، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر، والجميع قريب من عشرة آلاف، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم، أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة ممايلي الشرق، وذلك بإِشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا، ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر، وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات. وجاء المشركون، فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد، ونزلت طائفة منهم أعالي أرض المدينة، كما قال الله تعالى { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، وهم نحو ثلاثة آلاف، وقيل سبعمائة، فأسندوا ظهورهم إِلى سلع، ووجوههم إِلى نحو العدو، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم، يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إِليهم، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة، وكانت بنو قريظة، وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل، فذهب إِليهم حيي بن أخطب النضري، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد، ومالؤا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم الخطب، واشتد الأمر، وضاق الحال كما قال الله تبارك وتعالى { هُنَالِكَ ٱبْتُلِىَ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريباً من شهر، إِلا أنهم لا يصلون إِليهم، ولم يقع بينهم قتال، إِلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري، وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية، ركب ومعه فوارس، فاقتحموا الخندق، وخلصوا إِلى ناحية المسلمين، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إِليه، فيقال إِنه لم يبرز أحد، فأمر علياً رضي الله عنه، فخرج إِليه، فتجاولا ساعة، ثم قتله علي رضي الله عنه، فكان علامة النصر.
ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية، حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء، ولا توقد لهم نار، ولا يقر لهم قرار، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين كما قال الله عز وجل { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً } قال مجاهد وهي الصبا، ويؤيده الحديث الآخر " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود عن عكرمة قال قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إِن الحرة لا تسري بالليل، قال فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج، عن حفص بن غياث، عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، فذكره. وقال ابن جرير أيضاً حدثنا يونس حدثنا ابن وهب، حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد وريح إِلى المدينة، فقال أئتنا بطعام ولحاف، قال فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي، وقال " من أتيت من أصحابي، فمرهم يرجعوا " قال فذهبت والريح تسفي كل شيء، فجعلت لاألقى أحداً إِلا أمرته بالرجوع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فما يلوي أحد منهم عنقه، قال وكان معي ترس لي، فكانت الريح تضربه علي، وكان فيه حديد، قال فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي، فأبعدها إِلى الأرض. وقوله { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول يا بني فلان إِلي، فيجتمعون إِليه، فيقول النجاء، النجاء لما ألقى الله عز وجل في قلوبهم من الرعب. وقال محمد بن إِسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه ياأبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال نعم يابن أخي قال وكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد كنا نجهد، قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال قال حذيفة رضي الله عنه يابن أخي والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت فقال " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ ــــ يشترط له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع ــــ أدخله الله الجنة "
قال فما قام رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إِلينا فقال مثله، فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل، ثم التفت إِلينا فقال " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ ــــ يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة ــــ أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال صلى الله عليه وسلم " ياحذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ما يفعلون، ولا تحدثنَّ شيئاً حتى تأتينا ". قال فذهبت فدخلت في القوم، والريح وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قراراً ولا ناراً ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر كل امرىء مَنْ جليسُه، قال حذيفة رضي الله عنه فأخذت بيد الرجل إِلى جنبي، فقلت من أنت؟ فقال أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان يامعشر قريش إِنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولاتقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإِني مرتحل، ثم قام إِلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إِلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي أن لاتحدث شيئاً حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة رضي الله عنه فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل، فلما رآني، أدخلني بين رجليه، وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد، وإِني لفيه، فلما سلم، أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إِلى بلادهم. وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن إِبراهيم التيمي عن أبيه قال كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقال له رجال لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال له حذيفة أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة " فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله، ثم قال صلى الله عليه وسلم
" ياحذيفة قم فأتنا بخبر من القوم " فلم أجد بداً إِذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال " ائتني بخبر القوم، ولاتذعرهم علي " قال فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فإِذا أبو سفيان يَصْلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد قوسي، وأردت أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذعرهم عليَّ، ولو رميته لأصبته، قال فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى الصبح، فلما أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قم يانَوْمان ". ورواه يونس بن بكير عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال إِن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه نشكو إِلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إِنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة رضي الله عنه ونحن نشكو إِلى الله إِيمانكم به ولم تروه، والله لا تدري يابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، ثم ذكر نحو ما تقدم مطولاً. وروى بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحو ذلك أيضاً، وقد أخرج الحاكم والبيهقي في " الدلائل " من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز بن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه أما والله لو شاهدنا ذلك، كنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً، في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إِن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إِلا أذن له، ويأذن لهم فيتسللون، ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك، إِذ استقبلنا رسول الله رجلاً رجلاً، حتى أتى علي، وما علي جنة من العدو ولا من البرد إِلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي، فقال " من هذا؟ " فقلت حذيفة. قال " حذيفة؟ " قتقاصرت الأرض، فقلت بلى يارسول الله كراهية أن أقوم، فقمت فقال " إِنه كائن في القوم خبر، فأتني بخبر القوم "
قال وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قُرّاً. قال فخرجت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته " قال فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قرّاً في جوفي إِلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئاً، قال فلما وليت، قال صلى الله عليه وسلم " يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني " قال فخرجت حتى إِذا دنوت من عسكر القوم، نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإِذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته، ويقول الرحيل الرحيل، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني " قال فأمسكت، ورددت سهمي إِلى كنانتي، ثم إِني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإِذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون يا آل عامر الرحيل الرحيل، لا مقام لكم. وإِذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إِني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفَرَسَتْهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق، أو نحواً من ذلك، إِذ أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين، فقالوا أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إِلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل عليّ شملة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر، صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ تَعْمَلُونَ بَصِيراً } وأخرج أبو داود في سننه منه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر صلى، من حديث عكرمة بن عمار به. وقوله تعالى { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أي الأحزاب، { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة، { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } أي شدة الخوف والفزع، { ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } قال ابن جرير ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك. وقال محمد بن إِسحاق في قوله تعالى { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَـٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إِلى الغائط.
وقال الحسن في قوله عز وجل { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } ظنون مختلفة، ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري، حدثنا أبو عامر، ح وحدثنا أبي، حدثنا أبو عامرالعقدي، حدثنا الزبير، يعني ابن عبد الله مولى عثمان رضي الله عنه، عن رُتيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قلنا يوم الخندق يارسول الله هل من شيء نقول، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم، قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " قال فضرب وجوه أعدائه بالريح، فهزمهم بالريح. وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي عامر العقدي.
إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ٠١
قوله تعالى: { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } «إِذْ» في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا «وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ». «مِنْ فَوْقِكُمْ» يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عَوْف بن مالك في بني نصر، وعيينة بن حِصْن في أهل نجد، وطُليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. «وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جَحْش على قريش، وجاء أبو الأعور السُّلَمي ومعه حُيَيُّ بن أخطب اليهودي في يهود بني قُريظة مع عامر بن الطُّفَيل من وجه الخندق. { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ } أي شَخُصت. وقيل: مالت؛ فلم تلتفت إلا إلى عدوّها دَهَشاً من فرط الهَوْل. { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ } أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة؛ فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت؛ قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد؛ قال :
إذا ما غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَرِيَّة هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دَمَا
أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلاً؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سَحْره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدّة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدّة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحُنجور (بزيادة النون) حرف الحلق. { وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يُنصرون. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القرّاء في قوله تعالى: «الظُّنُونَا، والرسولا، والسبيلا» آخر السورة؛ فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو والكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد؛ إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ قال :
نحن جلبنا القُرّح القوافِلاَ تستنفر الأواخرُ الأوائلا
وقرأ أبو عمرو والجحدرِيّ ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معاً. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى :
{ ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ }
[التوبة: 47] فكتبوها كذلك، وغير هذا. وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه. قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ: «الظنون. والسبيل. والرسول» بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطّهن في المصحف بألف لأن الألف التي في «أطعنا» والداخلة في أوّل «الرسول.
والظنون. والسبيل» كفى من الألف المتطرفة المتأخرة كما كَفَتْ ألفُ أبي جادٍ من ألف هوّاز. وفيه حجة أخرى: أن الألف أنزلت منزلة الفتحة وما يُلحق دِعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط؛ فلما عُمل على هذا كانت الألف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقفُ سقوطَهما ويعمل على أن صورة الألف في الخط لا توجب موضعاً في اللفظ، وأنها كالألف في
{ سٰحِران }
[ طه: 63] وفي
{ فٰطِر السموات والأرض }
[فاطر:1] وفي
{ وٰعَدْنَا مُوسى }
[البقرة:51] وما يشبههن مما يُحذف من الخط وهو موجود في اللفظ، وهو مسقط من الخط. وفيه حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا. وقرىء على لغة من يقول: لقيت الرجل، بغير ألف. أخبرنا أحمد بن يحيـى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرّجلُو، بواو، ومررت بالرجلي، بياء، في الوصل والوقف. ولقيت الرجلا؛ بألف في الحالتين كلتيهما. قال الشاعر :
أسائلةٌ عُميرةُ عن أبيها خلالَ الجيش تَعْتَرِف الرّكابا
فأثبت الألف في «الركاب» بناء على هذه اللغة. وقال الآخر :
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره. وقرأ ابن كثير وابن محيْصِن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل. قال ابن الأنباريّ: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصاً على بقاء الفتحة، وأن الألف تدعمها وتقوّيها.
إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ٠١
يذكر تعالى عباده المؤمنين نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز، من فوقهم، وأهل نجد من أسفل منهم، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق. ومالأتهم [طوائف] اليهود الذين حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة. وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة، فحصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة مدة طويلة، والأمر كما وصف اللّه: { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } أي: الظنون السيئة، أن اللّه لا ينصر دينه ولا يتم كلمته. { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } بالخوف والقلق والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر - وللّه الحمد - من إيمانهم وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين. وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين،
{ وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }
[الأحزاب: 22]. وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون، قال تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا... }.
هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١
يقول الله تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً، فحينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } أما المنافق، فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله، فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إِيمانه وشدة ماهو فيه من ضيق الحال، وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يعني المدينة. كما جاء في الصحيح " أريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنها هجر، فإِذا هي يثرب " وفي لفظ المدينة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا إِبراهيم بن مهدي، حدثنا صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمى المدينة يثرب، فليستغفر الله تعالى، إِنما هي طابة هي طابة " تفرد به الإمام أحمد، وفي إِسناده ضعف، والله أعلم. ويقال إنما كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إِرم بن سام بن نوح، قاله السهيلي. قال وروي عن بعضهم أنه قال إِن لها في التوراة أحد عشر اسماً المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال إِنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة ياطيبة وياطابة ويامسكينة لا تُقلي الكنوز، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى. وقوله { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي ههنا، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة، { فَٱرْجِعُواْ } أي إِلى بيوتكم ومنازلكم، { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ } قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هم بنو حارثة قالوا بيوتنا نخاف عليها السراق، وكذا قال غير واحد، وذكر ابن إِسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي، يعني اعتذروا في الرجوع إِلى منازلهم بأنها عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من العدو، فهم يخشون عليها منهم، قال الله تعالى { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } أي ليست كما يزعمون، { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي هرباً من الزحف.
هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١
«هنا» للقريب من المكان. و«هنالك» للبعيد. و«هناك» للوسط. ويشار به إلى الوقت؛ أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال. { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } أي حرّكوا تحريكاً. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فِعلال يجوز فيه الكسر والفتح؛ نحو قلقلته قِلقالا وقَلقالاً، وزلزلوا زِلزالاً وزَلزالاً. والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دِحراجاً. وقراءة العامة بكسر الزاي. وقرأ عاصم والجحدرِيّ «زَلزالا» بفتح الزاي. قال ابن سلام: أي حرّكوا بالخوف تحريكاً شديداً. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه؛ فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه. و«هنالِك» يجوز أن يكون العامل فيه «ابْتُلِيَ» فلا يوقف على «هنالك». ويجوز أن يكون «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُّونَا» فيوقف على «هنالك».
هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١
يذكر تعالى عباده المؤمنين نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز، من فوقهم، وأهل نجد من أسفل منهم، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق. ومالأتهم [طوائف] اليهود الذين حوالي المدينة، فجاءوا بجنود عظيمة وأمم كثيرة. وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة، فحصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة مدة طويلة، والأمر كما وصف اللّه: { وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ } أي: الظنون السيئة، أن اللّه لا ينصر دينه ولا يتم كلمته. { هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } بالخوف والقلق والجوع، ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر - وللّه الحمد - من إيمانهم وشدة يقينهم، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين. وعندما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين،
{ وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }
[الأحزاب: 22]. وهنالك تبين نفاق المنافقين، وظهر ما كانوا يضمرون، قال تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا... }.
وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا ٢١
يقول الله تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً، فحينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } أما المنافق، فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله، فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إِيمانه وشدة ماهو فيه من ضيق الحال، وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يعني المدينة. كما جاء في الصحيح " أريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنها هجر، فإِذا هي يثرب " وفي لفظ المدينة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا إِبراهيم بن مهدي، حدثنا صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمى المدينة يثرب، فليستغفر الله تعالى، إِنما هي طابة هي طابة " تفرد به الإمام أحمد، وفي إِسناده ضعف، والله أعلم. ويقال إنما كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إِرم بن سام بن نوح، قاله السهيلي. قال وروي عن بعضهم أنه قال إِن لها في التوراة أحد عشر اسماً المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال إِنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة ياطيبة وياطابة ويامسكينة لا تُقلي الكنوز، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى. وقوله { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي ههنا، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة، { فَٱرْجِعُواْ } أي إِلى بيوتكم ومنازلكم، { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ } قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هم بنو حارثة قالوا بيوتنا نخاف عليها السراق، وكذا قال غير واحد، وذكر ابن إِسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي، يعني اعتذروا في الرجوع إِلى منازلهم بأنها عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من العدو، فهم يخشون عليها منهم، قال الله تعالى { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } أي ليست كما يزعمون، { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي هرباً من الزحف.
وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا ٢١
قوله تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شك ونفاق. { مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } أي باطلاً من القول. وذلك أن طُعْمة بن أُبَيْرِق ومُعَتِّب بن قُشير وجماعة نحو من سبعين رجلاً قالوا يوم الخندق: كيف يَعِدُنا كنوزَ كِسْرى وقَيْصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرّز؟ وإنما قالوا ذلك لمّا فَشَا في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائيّ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وَإِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ إِلَّا غُرُورٗا ٢١
{ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }. وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة، ويصدق ظنه. { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ } من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضاً من المُخْذَّلين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون: " يا أهل المدينة " ، فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية]، فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي. { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق وخارج المدينة، { فَٱرْجِعُواْ } إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة أشرّ الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال اللّه فيهم: { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك. { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ } أي: ما قصدهم { إِلاَّ فِرَاراً } ولكن جعلوا هذا الكلام وسيلة وعذراً. [لهم] فهؤلاء قلَّ إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة { مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها - لا كان ذلك - { ثُمَّ } سئل هؤلاء { ٱلْفِتْنَةَ } أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين { لآتَوْهَا } أي: لأعطوها مبادرين. { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم. والحال أنهم قد { عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًاً بربهم ؟
وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا ٣١
يقول الله تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً، فحينئذ ظهر النفاق، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم { وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } أما المنافق، فنجم نفاقه، والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله، فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إِيمانه وشدة ماهو فيه من ضيق الحال، وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يعني المدينة. كما جاء في الصحيح " أريت في المنام دار هجرتكم، أرض بين حرتين، فذهب وهلي أنها هجر، فإِذا هي يثرب " وفي لفظ المدينة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا إِبراهيم بن مهدي، حدثنا صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمى المدينة يثرب، فليستغفر الله تعالى، إِنما هي طابة هي طابة " تفرد به الإمام أحمد، وفي إِسناده ضعف، والله أعلم. ويقال إنما كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إِرم بن سام بن نوح، قاله السهيلي. قال وروي عن بعضهم أنه قال إِن لها في التوراة أحد عشر اسماً المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال إِنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة ياطيبة وياطابة ويامسكينة لا تُقلي الكنوز، أرفع أحاجرك على أحاجر القرى. وقوله { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي ههنا، يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة، { فَٱرْجِعُواْ } أي إِلى بيوتكم ومنازلكم، { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ } قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هم بنو حارثة قالوا بيوتنا نخاف عليها السراق، وكذا قال غير واحد، وذكر ابن إِسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي، يعني اعتذروا في الرجوع إِلى منازلهم بأنها عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من العدو، فهم يخشون عليها منهم، قال الله تعالى { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ } أي ليست كما يزعمون، { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي هرباً من الزحف.
وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا ٣١
قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ } الطائفة تقع على الواحد فما فوقه. وعُنِي به هنا أوْس بن قَيْظِيّ والد عَرَابة بن أوس؛ الذي يقول فيه الشماخ :
إذا ما رايةٌ رُفعت لمَجْد تلقّاها عَرابةُ باليمين
و«يَثْرِب» هي المدينة؛ وسَمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم طَيْبة وطابة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها. السُّهَيْلِيّ: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب ابن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجُحْفَة فأجحفت بهم السيول فيها. وبها سميت الجحفة. { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } بفتح الميم قراءة العامّة. وقرأ حفص والسُّلمي والجحدريّ وأبو حَيْوَة: بضم الميم؛ يكون مصدراً من أقام يقيم، أي لا إقامة، أو موضعاً يقيمون فيه. ومن فتح فهو اسم مكان؛ أي لا موضع لكم تقيمون فيه. { فَٱرْجِعُواْ } أي إلى منازلكم. أمروهم بالهروب من عسكر النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: قالت اليهود لعبدالله بن أُبَيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون.
قوله تعالى: { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ } في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة بن الحارث، في قول ابن عباس. وقال يزيد بن رُومان: قال ذلك أوس بن قَيظِيّ عن ملإ من قومه. { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدوّ وقيل: مُمْكِنة للسّراق لخلوها من الرجال. يقال: دارٌ مُعْوِرة وذات عَوْرة إذا كان يسهل دخولها. يقال: عَوِر االمكان عَوَراً فهو عَوِر. وبيت عَوِرة. وأعْور فهو مُعوِر. وقيل: عَوِرة ذات عَوْرة. وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عَوْرة؛ قاله الهرَوِيّ. وقرأ ابن عباس وعِكرمة ومجاهد وأبو رجاء العُطارِديّ: «عَوِرة» بكسر الواو؛ يعني قصيرة الجدران فيها خلل. تقول العرب: دار فلانٍ عَوِرة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارِس إذا بَدَا فيه خَلَل للضرب والطعن؛ قال الشاعر :
متى تَلْقَهم لم تَلْقَ في البيت مُعْوِراً ولا الضيفَ مفجوعاً ولا الجارَ مُرْمِلاَ
الجوهريّ: والعَوْرة كل خلل يُتَخَوَّف منه في ثَغر أو حرب. النحاس: يقال أعور المكان إذا تُبُيِّنت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تُبُيِّن فيه موضع الخلل. المهدوِيّ: ومن كسر الواو في «عورة» فهو شاذ؛ ومثله قولهم: رجل عوِر؛ أي لا شيء له، وكان القياس أن يُعَلَّ فيقال: عارٍ، كيوم راحٍ، ورجلٍ مالٍ؛ أصلهما روِح وموِل. ثم قال تعالى: { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } تكذيباً لهم ورداً عليهم فيما ذكروه. { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي ما يريدون إلا الهرب. قيل: من القتل. وقيل: من الدِّين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارِثة وبني سَلِمة؛ وهَموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى :
{ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ }
[آل عمران: 122] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا: واللَّهِ ما ساءنا ما كنا هممنا به؛ إذ اللَّهُ ولِيُّنَا. وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما: أبو عَرابة بن أوس، والآخر أوْس بن قيْظِيّ. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلاً بغير إذنه.
وَإِذۡ قَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ يَٰٓأَهۡلَ يَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُواْۚ وَيَسۡتَٔۡذِنُ فَرِيقٞ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوۡرَةٞ وَمَا هِيَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارٗا ٣١
{ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }. وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة، ويصدق ظنه. { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ } من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضاً من المُخْذَّلين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون: " يا أهل المدينة " ، فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية]، فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي. { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق وخارج المدينة، { فَٱرْجِعُواْ } إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة أشرّ الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال اللّه فيهم: { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك. { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ } أي: ما قصدهم { إِلاَّ فِرَاراً } ولكن جعلوا هذا الكلام وسيلة وعذراً. [لهم] فهؤلاء قلَّ إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة { مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها - لا كان ذلك - { ثُمَّ } سئل هؤلاء { ٱلْفِتْنَةَ } أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين { لآتَوْهَا } أي: لأعطوها مبادرين. { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم. والحال أنهم قد { عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًاً بربهم ؟
وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا ٤١
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { مِّنْهُمُ ٱلنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة، وهي الدخول في الكفر، لكفروا سريعاً، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير، وهذا ذم لهم في غاية الذم، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، { وَكَانَ عَهْدُ مَسْئُولاً } أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد، لا بد من ذلك، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي بعد هربكم وفراركم
{ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ }
النساء 77 ثم قال تعالى { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ }؟ أي يمنعكم { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا ٤١
قوله تعالى: { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قُطْر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القُتْر لغة في القطر. { ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا } أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر. وقرأ الباقون بالمدّ؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يعذَّبون في الله ويُسألون الشرك، فكلٌّ أعطى ما سألوه إلا بلالاً. وفيه دليل على قراءة المدّ، من الإعطاء. ويدل على قراءة القصر قوله: { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ }؛ فهذا يدل على «لأَتَوْهَا» مقصوراً. وفي «الفتنة» هنا وجهان: أحدهما سُئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك. الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن. { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ } أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلاً حتى يهلكوا؛ قاله السّدِّي والقُتَيبِيّ والحسن والفراء. وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلاً ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.
وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَيۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلۡفِتۡنَةَ لَأٓتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلَّا يَسِيرٗا ٤١
{ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }. وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة، ويصدق ظنه. { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ } من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضاً من المُخْذَّلين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون: " يا أهل المدينة " ، فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية]، فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي. { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق وخارج المدينة، { فَٱرْجِعُواْ } إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة أشرّ الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال اللّه فيهم: { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك. { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ } أي: ما قصدهم { إِلاَّ فِرَاراً } ولكن جعلوا هذا الكلام وسيلة وعذراً. [لهم] فهؤلاء قلَّ إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة { مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها - لا كان ذلك - { ثُمَّ } سئل هؤلاء { ٱلْفِتْنَةَ } أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين { لآتَوْهَا } أي: لأعطوها مبادرين. { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم. والحال أنهم قد { عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًاً بربهم ؟
وَلَقَدۡ كَانُواْ عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا يُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسُۡٔولٗا ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَقَدۡ كَانُواْ عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا يُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسُۡٔولٗا ٥١
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { مِّنْهُمُ ٱلنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة، وهي الدخول في الكفر، لكفروا سريعاً، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير، وهذا ذم لهم في غاية الذم، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، { وَكَانَ عَهْدُ مَسْئُولاً } أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد، لا بد من ذلك، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي بعد هربكم وفراركم
{ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ }
النساء 77 ثم قال تعالى { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ }؟ أي يمنعكم { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
وَلَقَدۡ كَانُواْ عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا يُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسُۡٔولٗا ٥١
قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر. قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ. وقال يزيد بن رُومان: هم بنو حارثة، هَمُّوا يوم أُحُد أن يفشلوا مع بني سَلِمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. { وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } أي مسؤولاً عنه. قال مقاتل والكَلْبي :
" هم سبعون رجلاً بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك ولربّك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم» فقالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبيّ الله؟ قال: «لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة » "
فذلك قوله تعالى: { وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة.
وَلَقَدۡ كَانُواْ عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا يُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسُۡٔولٗا ٥١
{ وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }. وهذه عادة المنافق عند الشدة والمحنة، لا يثبت إيمانه، وينظر بعقله القاصر، إلى الحالة القاصرة، ويصدق ظنه. { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ } من المنافقين، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم، وصاروا أيضاً من المُخْذَّلين، فلا صبروا بأنفسهم، ولا تركوا الناس من شرهم، فقالت هذه الطائفة: { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون: " يا أهل المدينة " ، فنادوهم باسم الوطن المنبئ [عن التسمية]، فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية، ليس له في قلوبهم قدر، وأن الذي حملهم على ذلك، مجرد الخور الطبيعي. { يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي: في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة، وكانوا عسكروا دون الخندق وخارج المدينة، { فَٱرْجِعُواْ } إلى المدينة، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم، ويأمرونهم بترك القتال، فهذه الطائفة أشرّ الطوائف وأضرها، وطائفة أخرى دونهم، أصابهم الجبن والجزع، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة، وهم الذين قال اللّه فيهم: { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي: عليها الخطر، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء، ونحن غُيَّبٌ عنها، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها، فنحرسها، وهم كذبة في ذلك. { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ } أي: ما قصدهم { إِلاَّ فِرَاراً } ولكن جعلوا هذا الكلام وسيلة وعذراً. [لهم] فهؤلاء قلَّ إيمانهم، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن. { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة { مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي: لو دخل الكفار إليها من نواحيها، واستولوا عليها - لا كان ذلك - { ثُمَّ } سئل هؤلاء { ٱلْفِتْنَةَ } أي: الانقلاب عن دينهم، والرجوع إلى دين المستولين المتغلبين { لآتَوْهَا } أي: لأعطوها مبادرين. { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } أي: ليس لهم منعة ولا تَصلُّبٌ على الدين، بل بمجرد ما تكون الدولة للأعداء، يعطونهم ما طلبوا، ويوافقونهم على كفرهم، هذه حالهم. والحال أنهم قد { عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } سيسألهم عن ذلك العهد، فيجدهم قد نقضوه، فما ظنهم إذًاً بربهم ؟
قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦١
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { مِّنْهُمُ ٱلنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة، وهي الدخول في الكفر، لكفروا سريعاً، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير، وهذا ذم لهم في غاية الذم، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، { وَكَانَ عَهْدُ مَسْئُولاً } أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد، لا بد من ذلك، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي بعد هربكم وفراركم
{ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ }
النساء 77 ثم قال تعالى { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ }؟ أي يمنعكم { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦١
قوله تعالى: { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } أي مَن حضر أجلُه مات أو قُتل؛ فلا ينفع الفِرار. { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي في الدنيا بعد الفِرار إلى أن تنقضي آجالكم؛ وكل ما هو آتٍ فقريب. وروى السّاجي عن يعقوب الحضرميّ «وَإذاً لاَ يُمَتَّعُونَ» بياء. وفي بعض الروايات «وإذا لا تمتعوا» نصب بـ«ـإذاً» والرفع بمعنى ولا تمتعون. و«إذاً» ملغاة، ويجوز إعمالها. فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء فإذا كانت مبتدأة نَصَبْت بها فقلت: إذاً أكرمَك.
قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذٗا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦١
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةٗۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةٗۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٧١
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { مِّنْهُمُ ٱلنَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة، وقطر من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة، وهي الدخول في الكفر، لكفروا سريعاً، وهم لا يحافظون على الإيمان، ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير، وهذا ذم لهم في غاية الذم، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار، ولا يفرون من الزحف، { وَكَانَ عَهْدُ مَسْئُولاً } أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد، لا بد من ذلك، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم، ولا يطول أعمارهم، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة، ولهذا قال تعالى { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي بعد هربكم وفراركم
{ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ }
النساء 77 ثم قال تعالى { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ }؟ أي يمنعكم { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث.
قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةٗۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٧١
قوله تعالى: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ } أي يمنعكم منه. { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي هلاكاً. { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } أي خيراً ونصراً وعافية. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي لا قريباً ينفعهم ولا ناصراً ينصرهم.
قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوٓءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةٗۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٧١
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
۞ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَيۡنَاۖ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَيۡنَاۖ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا ٨١
يخبر تعالى عن إِحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب، والقائلين لإخوانهم، أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي إِلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وهم مع ذلك { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم. وقال السدي { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي في الغنائم، { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } أي من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال، { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي فإِذا كان الأمن، تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما { سَلَقُوكُمْ } أي استقبلوكم. وقال قتادة أما عند الغنيمة، فأشح قوم، وأسوؤه مقاسمة أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس، فأجبن قوم، وأخذله للحق، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر
أَفِي السِّلْمِ أَعْياراً جَفاءً وغِلْظَةً وفي الحَرْبِ أمثالَ النساءِ العوارِكِ
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، والأعيار جمع عير، وهو الحمار، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض، ولهذا قال تعالى { أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي سهلاً هيناً عنده.
۞ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَيۡنَاۖ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا ٨١
قوله تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } أي المعترضين منكم لأن يصدّوا الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه. وعوّق، على التكثير { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } على لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقولون: «هَلُمُّوا» للجماعة، وهَلُمِّي للمرأة؛ لأن الأصل: «ها» التي للتنبيه ضُمت إليها «لَمَّ» ثم حذفت الألف استخفافاً وبُنيت على الفتح. ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف. ومعنى «هَلُم» أقبل؛ وهؤلاء طائفتان؛ أي منكم من يثّبط ويعوّق. والعوق المنع والصرف؛ يقال: عاقه يعوقه عوقاً، وعوّقه واعتاقه بمعنى واحد. قال مقاتل: هم عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه المنافقون. { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ } فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون؛ قالوا للمسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أَكَلة رأس، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا. الثاني: أنهم اليهود من بني قُريظة؛ قالوا لإخوانهم من المنافقين: هلم إلينا؛ أي تعالوا إلينا وفارقوا محمداً فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظَفِر لم يُبق منكم أحداً. والثالث: ما حكاه ابن زيد: أن رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؛ فقال أخوه ـ وكان من أمّه وأبيه ـ: هلم إليّ، قد تُبع بك وبصاحبك؛ أي قد أحيط بك وبصاحبك. فقال له: كذبت، والله لأخبرنه بأمرك؛ وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا }. ذكره الماوَرْدِي والثعلبي أيضاً. ولفظه: قال ابن زيد هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشِواء ونبيذ؛ فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هَلُمّ إلى هذا فقد تبع لك ولأصحابك، والذي تحلف به لا يستقلّ بها محمد أبداً. فقال: كذبت. فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية. { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } خوفاً من الموت. وقيل: لا يحضرون القتال إلا رِياءً وسُمْعة.
۞ قَدۡ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلۡمُعَوِّقِينَ مِنكُمۡ وَٱلۡقَآئِلِينَ لِإِخۡوَٰنِهِمۡ هَلُمَّ إِلَيۡنَاۖ وَلَا يَأۡتُونَ ٱلۡبَأۡسَ إِلَّا قَلِيلًا ٨١
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩١
يخبر تعالى عن إِحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب، والقائلين لإخوانهم، أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي إِلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار، وهم مع ذلك { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم. وقال السدي { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي في الغنائم، { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } أي من شدة خوفه وجزعه، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال، { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي فإِذا كان الأمن، تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما { سَلَقُوكُمْ } أي استقبلوكم. وقال قتادة أما عند الغنيمة، فأشح قوم، وأسوؤه مقاسمة أعطونا أعطونا، قد شهدنا معكم، وأما عند البأس، فأجبن قوم، وأخذله للحق، وهم مع ذلك أشحة على الخير، أي ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر
أَفِي السِّلْمِ أَعْياراً جَفاءً وغِلْظَةً وفي الحَرْبِ أمثالَ النساءِ العوارِكِ
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، والأعيار جمع عير، وهو الحمار، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض، ولهذا قال تعالى { أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي سهلاً هيناً عنده.
أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩١
قوله تعالى: { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء عليكم؛ أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله؛ قاله مجاهد وقتادة. وقيل: بالقتال معكم. وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم. وقيل: أشِحّةً بالغنائم إذا أصابوها؛ قاله السدي. وانتصب على الحال. قال الزجاج: ونصبه عند الفرّاء من أربع جهات: إحداها: أن يكون على الذم؛ ويجوز أن يكون عنده نصباً بمعنى يعوّقون أشحة. ويجوز أن يكون التقدير: والقائلين أشحة. ويجوز عنده «وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً» أشحة؛ أي أنّهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة. النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه «المعوقين» ولا «القائلين»؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول. ابن الأنباري: «إلاَّ قَلِيلاً» غير تام؛ لأن «أَشَّحِةً» متعلق بالأول، فهو ينتصب من أربعة أوجه: أحدها: أن تنصبه على القطع من «المعوّقين» كأنه قال: قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحِون عن الإنفاق على فقراء المسلمين. ويجوز أن يكون منصوباً على القطع من «القائلين» أي وهم أشحة. ويجوز أن تنصبه على القطع مما في «يأتون»؛ كأنه قال: ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء. ويجوز أن تنصب «أشحة» على الذمّ. فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً }. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } وقف حسن. ومثله «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» حال من المضمر في «سَلَقُوكُمْ» وهو العامل فيه. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } وصفهم بالجبن؛ وكذا سبيل الجبان ينظر يميناً وشمالاً محدّداً بصره، وربما غشي عليه. وفي «الْخَوْف» وجهان: أحدهما: من قتال العدوّ إذا أقبل؛ قاله السدّي. الثاني: الخوف من النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غلب؛ قاله ابن شجرة. { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } خوفاً من القتال على القول الأول. ومن النبي صلى الله عليه وسلم على الثاني. «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ» لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة. وقيل: لشدّة خوفهم حذراً أن يأتيهم القتل من كل جهة. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } وحكى الفراء «صلقوكم» بالصاد. وخطيبٌ مِسْلاق ومِصْلاق إذا كان بليغاً. وأصل الصلق الصوت؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الصالقة والحالقة والشاقّة " قال الأعشى :
فيهم المجد والمساحة والنّجْـ ـدَةُ فيهم والخاطب السَّلاق
قال قتادة: ومعناه بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطنا أعطنا، فإنا قد شهدنا معكم. فعند الغنيمة أشَحُّ قومٍ وأبسطهم لساناً، ووقت البأس أجبن قومٍ وأخوفهم. قال النحاس: هذا قول حسن؛ لأن بعده «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ». وقيل: المعنى بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم. وقال القتبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد. السّلق: الأذى. ومنه قول الشاعر :
ولقد سلقنا هوازنا بنواهلٍ حتى انحنينا
«أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر» أي على الغنيمة؛ قاله يحيـى بن سلام. وقيل: على المال أن ينفقوه في سبيل الله؛ قاله السدّي. «أولَئِكَ لَمْ يُوْمِنُوا» يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان؛ والمنافق كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكُفر. { فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } أي لم يثبهم عليها؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها. { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } يحتمل وجهين: أحدهما: وكان نفاقهم على الله هيناً. الثاني: وكان إحباط عملهم على الله هيّناً.
أَشِحَّةً عَلَيۡكُمۡۖ فَإِذَا جَآءَ ٱلۡخَوۡفُ رَأَيۡتَهُمۡ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ تَدُورُ أَعۡيُنُهُمۡ كَٱلَّذِي يُغۡشَىٰ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلۡخَوۡفُ سَلَقُوكُم بِأَلۡسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلۡخَيۡرِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يُؤۡمِنُواْ فَأَحۡبَطَ ٱللَّهُ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩١
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
يَحۡسَبُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ يَذۡهَبُواْۖ وَإِن يَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي ٱلۡأَعۡرَابِ يَسَۡٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَآئِكُمۡۖ وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
يَحۡسَبُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ يَذۡهَبُواْۖ وَإِن يَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي ٱلۡأَعۡرَابِ يَسَۡٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَآئِكُمۡۖ وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٢
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } بل هم قريب منهم، وأن لهم عودة إِليهم، { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي ويودون إِذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة، بل في البادية يسألون عن أخباركم، وما كان من أمركم مع عدوكم، { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ولو كانوا بين أظهركم، لما قاتلوا معكم إِلا قليلاً، لكثرة جبنهم وذلتهم، وضعف يقينهم، والله سبحانه وتعالى العالم بهم.
يَحۡسَبُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ يَذۡهَبُواْۖ وَإِن يَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي ٱلۡأَعۡرَابِ يَسَۡٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَآئِكُمۡۖ وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٢
قوله تعالى: { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي لجبنهم؛ يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا، ولكنهم لم يتباعدوا في السير. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال. { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ } تمنوْا أن يكونوا مع الأعراب حَذَراً من القتل وتربُّصاً للدوائر. وقرأ طلحة بن مُصَرِّف «لَو أنهم بُدًّى فِي الأعراب»؛ يقال: بادٍ وبُدًّى؛ مثل غازٍ وغُزًّى. ويُمَدّ مثل صائم وصوّام. بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية. وهي البِداوة والبَداوة؛ بالكسر والفتح. وأصل الكلمة من البَدْو وهو الظهور. { يَسْأَلُونَ } وقرأ يعقوب في رواية رُوَيس «يتساءلون عن أنبائكم» أي عن أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم. يتحدّثون: أمَا هلك محمد وأصحابه! أمَا غلب أبو سفيان وأحزابه! أي يودّوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم. وقيل: أي هم أبداً لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين، وهل أصيبوا. وقيل: كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق، جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين. { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي رمياً بالنّبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة؛ ولو كان ذلك للَّهِ لكان قليله كثيراً.
يَحۡسَبُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ لَمۡ يَذۡهَبُواْۖ وَإِن يَأۡتِ ٱلۡأَحۡزَابُ يَوَدُّواْ لَوۡ أَنَّهُم بَادُونَ فِي ٱلۡأَعۡرَابِ يَسَۡٔلُونَ عَنۡ أَنۢبَآئِكُمۡۖ وَلَوۡ كَانُواْ فِيكُم مَّا قَٰتَلُوٓاْ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ١٢
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إِلى يوم الدين، ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي هلا اقتديتم به، وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً }. ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاَۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
البقرة 214 أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ }. وقوله تعالى { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إِلى الناس وأحوالهم كما قال جمهور الأئمة إِنه يزيد وينقص، وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة، ومعنى قوله جلت عظمته { وَمَا زَادَهُمْ } أي ذلك الحال والضيق والشدة { إِلاَّ إِيمَاناً } بالله { وَتَسْلِيماً } أي انقياداً لآوامره، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم
لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ١٢
فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } هذا عتاب للمتخلفين عن القتال؛ أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق. والأسوة القدوة. وقرأ عاصم «أُسوة» بضم الهمزة. الباقون بالكسر؛ وهما لغتان. والجمع فيهما واحد عند الفرّاء. والعلة عنده في الضم على لغة من كسر في الواحدة: الفرقُ بين ذوات الواو وذوات الياء؛ فيقولون كِسْوة وكُساً، ولِحية ولحىً. الجوهريّ: والأُسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان. والجمع أُسًى وإسًى. وروى عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } قال: في جوع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال: تفرد به عقبة بن حسان عن مالك، ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد.
الثانية: قوله تعالى: { أُسْوَةٌ } الأسوة القدوة. والأسوة ما يتأسّى به؛ أي يُتعزَّى به. فيقتدَى به في جميع أفعاله ويتعزّى به في جميع أحواله؛ فلقد شُجّ وجهه، وكسرت رباعيته، وقُتل عمه حمزة» وجاع بطنه، ولم يُلْفَ إلا صابراً محتسِباً، وشاكراً راضياً. وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا (عن بطوننا) عن حَجَر حجر؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه: حديث غريب. وقال صلى الله عليه وسلم لما شُجّ: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " وقد تقدّم. { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } قال سعيد بن جبير: المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال. وقيل: أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر. ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب «يرجو» إلا بغير ألف إذا كان لواحد؛ لأن العلة التي في الجمع ليست في الواحد. { وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } خوفاً من عقابه، ورجاء لثوابه. وقيل: إن «لِمَنْ» بدل من قوله: «لَكُمْ» ولا يجيزه البصريون؛ لأن الغائب لا يبدل من المخاطب، وإنما اللام من «لِمن» متعلقة بـ«ـحسنة»، و«أُسْوة» اسم «كَانَ» و«لَكُمْ» الخبر. واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين: أحدهما: المنافقون؛ عطفاً على ما تقدّم من خطابهم. الثاني: المؤمنون؛ لقوله: { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ }.
واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام، هل هي على الإيجاب أو على الاستحباب؛ على قولين: أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب. الثاني: على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب. ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدينا.
لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ١٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ٢٢
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته، ومرابطته ومجاهدته، وانتظاره الفرج من ربه عز وجل، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إِلى يوم الدين، ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي هلا اقتديتم به، وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً }. ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاَۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
البقرة 214 أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، ولهذا قال تعالى { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ }. وقوله تعالى { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إِلى الناس وأحوالهم كما قال جمهور الأئمة إِنه يزيد وينقص، وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري، ولله الحمد والمنة، ومعنى قوله جلت عظمته { وَمَا زَادَهُمْ } أي ذلك الحال والضيق والشدة { إِلاَّ إِيمَاناً } بالله { وَتَسْلِيماً } أي انقياداً لآوامره، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم
وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ٢٢
قوله تعالى: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } ومن العرب من يقول: «راء» على القلب. { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ } يريد قوله تعالى في سورة البقرة :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم }
[البقرة: 214] الآية. فلما رأوا الأحزاب يوم الخندق قالوا: «هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ»؛ قاله قتادة. وقول ثانٍ رواه كُثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال: " «أخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها ـ يعني على قصور الحِيرة ومدائن كِسرى ـ فأبشروا بالنصر» فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعد صادق؛ إذ وُعدنا بالنصر بعد الحصر " فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون: { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } ذكره الماوردي. و«مَا وَعَدَنا» إن جعلت «ما» بمعنى الذي فالهاء محذوفة. وإن جعلتها مصدراً لم تحتج إلى عائد { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب. وقال علي بن سليمان: «رأى» يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيماناً بالرب وتسليماً للقضاء، قاله الحسن. ولو قال: ما زادوهم لجاز. ولما اشتدّ الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق، قام عليه السلام على التّل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي، وتوقع ما وعده الله من النصر وقال: " «من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة» فلم يجبه أحد. وقال ثانياً وثالثاً فلم يجبه أحد، فنظر إلى جانبه وقال: «من هذا؟» فقال حذيفة. فقال: «ألم تسمع كلامي منذ الليلة؟» قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، منعني أن أجيبك الضُّرّ والقُرّ. قال: «انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى تردّه إليّ، انطلق ولا تحدِث شيئاً حتى تأتيني». فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يقول: «يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف هَمي وغَمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي». فنزل جبريل وقال: «إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوّك» فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: «شكراً شكراً كما رحِمتني ورحِمت أصحابي». وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحاً؛ فبشّر أصحابه بذلك. قال حذيفة: فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد؛ فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم ناراً إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته، وجعلوا يتترسون من الحصباء. وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش: النجاءَ النجاء! وفعل كذلك عُيينة بن حِصن والحارث بن عوف والأقرع بن حابس. وتفرّقت الأحزاب، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المدينة وبه من الشَّعَث ما شاء الله؛ فجاءته فاطمة بغَسول فكانت تغسل رأسه، فأتاه جبريل فقال: «وضعتَ السلاح ولم تضعه أهل السماء، مازلت أتبعهم حتى جاوزت بهم الروحاء ـ ثم قال ـ: انهض إلى بني قريظة». وقال أبو سفيان: مازلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الرَّوْحاء ".
وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ٢٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٣٢
لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق { صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } قال بعضهم أجله. وقال البخاري عهده، وهو يرجع إِلى الأول، { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه. قال البخاري حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال لما نسخنا المصحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إِلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } تفرد به البخاري دون مسلم، وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال الترمذي حسن صحيح. وقال البخاري أيضاً حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } الآية، انفرد به البخاري من هذا الوجه، ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال قال أنس عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه يا أبا عمرو أين واهاً لريح الجنة، إِني أجده دون أحد، قال فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيّع بنة النضر فما عرفت أخي إِلا ببنانه، قال فنزلت هذه الآية { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه رضي الله عنهم. ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به.
ورواه النسائي أيضاً وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس، رضي الله عنه قال إِن عمه، يعني أنس بن النضر رضي الله عنه، غاب عن قتال بدر، قال غُيِّبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين، ليرين الله تعالى ما أصنع، قال فلما كان يوم أحد، انكشف المسلمون، فقال اللهم إِني أعتذر إِليك مما صنع هؤلاء ــــ يعني أصحابه ــــ وأبرأ إِليك مما جاء به هؤلاء ــــ يعني المشركين ــــ ثم تقدم، فلقيه سعد بن معاذ رضي الله عنه دون أحد، فقال أنا معك. قال سعد رضي الله عنه فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فلما قتل قال فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم، وكانوا يقولون فيه وفي أصحابه نزلت { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ }. وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، والنسائي فيه أيضاً عن إِسحاق بن إِبراهيم، كلاهما عن يزيد بن هارون به. وقال الترمذي حسن. وقد رواه البخاري في المغازي عن حسان بن حسان، عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به، ولم يذكر نزول الآية. ورواه ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني، حدثنا سليمان بن أيوب بن سلملن، بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال لما أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، صعد المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } الآية كلها، فقام إِليه رجل من المسلمين فقال يارسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت، وعلي ثوبان أخضران حضرميان، فقال " أيها السائل هذا منهم " وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضاً، وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به. وقال حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس. وقال أيضاً حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عامر ــــ يعني العقدي ــــ حدثني إسحاق ــــ يعني ابن طلحة بن عبيد الله ــــ عن موسى بن طلحة قال دخلت على معاوية رضي الله عنه، فلما خرجت، دعاني فقال ألا أضع عندك يابن أخي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" طلحة ممن قضى نحبه ". ورواه ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه " ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } يعني عهده { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } قال يوماً فيه القتال، فيصدق في اللقاء. وقال الحسن { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } يعني موته على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدل تبديلاً، وكذا قال قتادة وابن زيد. وقال بعضهم نحبه نذره. وقوله تعالى { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي وما غيروا عهدهم، وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا عليه، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَـٰرَ }. وقوله تعالى { لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه منهم كما قال تعالى :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ }
محمد 31 فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى
{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ }
آل عمران 179 ولهذا قال تعالى ههنا { لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ } وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه، وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان، والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان. ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة لغضبه قال { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٣٢
قوله تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } رفع بالابتداء، وصَلُح الابتداء بالنكرة لأن «صَدَقُوا» في موضع النعت. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ }. «مَن» في موضع رفع بالابتداء. وكذا «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» والخبر في المجرور. والنَّحْب: النذر والعهد؛ تقول منه: نَحَبت أَنْحُب؛ بالضم. قال الشاعر :
وإذا نحبت كَلْبٌ على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكرم
وقال آخر :
قـد نحـب المجـدُ علـيـنا نَحْـبَـا
وقال آخر :
أَنَحْـبٌ فيـقـضَـى أم ضـلالٌ وبـاطـلُ
وروى البخاريّ ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمّي أنس بن النَّضْر ـ سُمِّيت به ـ ولم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكَبُر عليه فقال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، أما واللَّهِ لئن أرانِي الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها؛ فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واهاً لريح الجنة! أجدها دون أُحُد؛ فقاتل حتى قُتل، فوجِد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورَمْية. فقالت عَمّتي الرُّبَيِّع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا بَبَنانه. ونزلت هذه الآية: { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } لفظ الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى :
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }
[الأحزاب: 23] الآية: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت يده؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أوجب طلحة الجنة " وفي الترمذيّ عنه: " أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقّرونه ويهابونه؛ فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه؛ ثم إني اطّلعت من باب المسجد وعليّ ثياب خضر، فلما رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أين السائل عمن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: «هذا ممن قضى نَحْبَه» " قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير. وروى البيهقي عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد، مرّ على مصعب بن عُمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودَعَا له، ثم تلا هذه الآية: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ـ إلى ـ تَبْدِيلاً } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأْتُوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه» "
وقيل: النحب الموت؛ أي مات على ما عاهد عليه؛ عن ابن عباس. والنحب أيضاً الوقت والمدّة. يقال: قضى فلان نحبه إذا مات. وقال ذو الرمّة :
عشِيّةَ فرّ الحارِثيّون بعد ما قَضَى نَحْبه في ملتَقَى الخيل هَوْبَرُ
والنَّحْب أيضاً الحاجة والهِمة؛ يقول قائلهم: مالي عندهم نحب؛ وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدّمنا أوّلاً؛ أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل؛ مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدّلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ «فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ومنهم من بدّل تَبْديلاً» قال أبو بكر الأنباريّ: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود؛ لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعناً على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء؛ فما يعرف فيهم مغيّر وما وجد من جماعتهم مبدّل؛ رضي الله عنهم. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } في الآخرة { إِن شَآءَ } أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة؛ وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا ٣٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٤٢
لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق { صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } قال بعضهم أجله. وقال البخاري عهده، وهو يرجع إِلى الأول، { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي وما غيروا عهد الله، ولا نقضوه ولا بدلوه. قال البخاري حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال لما نسخنا المصحف، فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إِلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } تفرد به البخاري دون مسلم، وأخرجه أحمد في مسنده، والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال الترمذي حسن صحيح. وقال البخاري أيضاً حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } الآية، انفرد به البخاري من هذا الوجه، ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال قال أنس عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشق عليه، وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه يا أبا عمرو أين واهاً لريح الجنة، إِني أجده دون أحد، قال فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه، قال فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيّع بنة النضر فما عرفت أخي إِلا ببنانه، قال فنزلت هذه الآية { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه رضي الله عنهم. ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به.
ورواه النسائي أيضاً وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس، رضي الله عنه قال إِن عمه، يعني أنس بن النضر رضي الله عنه، غاب عن قتال بدر، قال غُيِّبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين، ليرين الله تعالى ما أصنع، قال فلما كان يوم أحد، انكشف المسلمون، فقال اللهم إِني أعتذر إِليك مما صنع هؤلاء ــــ يعني أصحابه ــــ وأبرأ إِليك مما جاء به هؤلاء ــــ يعني المشركين ــــ ثم تقدم، فلقيه سعد بن معاذ رضي الله عنه دون أحد، فقال أنا معك. قال سعد رضي الله عنه فلم أستطع أن أصنع ما صنع، فلما قتل قال فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم، وكانوا يقولون فيه وفي أصحابه نزلت { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ }. وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، والنسائي فيه أيضاً عن إِسحاق بن إِبراهيم، كلاهما عن يزيد بن هارون به. وقال الترمذي حسن. وقد رواه البخاري في المغازي عن حسان بن حسان، عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به، ولم يذكر نزول الآية. ورواه ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني، حدثنا سليمان بن أيوب بن سلملن، بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال لما أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، صعد المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر، ثم قرأ هذه الآية { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } الآية كلها، فقام إِليه رجل من المسلمين فقال يارسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت، وعلي ثوبان أخضران حضرميان، فقال " أيها السائل هذا منهم " وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضاً، وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به. وقال حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس. وقال أيضاً حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عامر ــــ يعني العقدي ــــ حدثني إسحاق ــــ يعني ابن طلحة بن عبيد الله ــــ عن موسى بن طلحة قال دخلت على معاوية رضي الله عنه، فلما خرجت، دعاني فقال ألا أضع عندك يابن أخي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" طلحة ممن قضى نحبه ". ورواه ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه " ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } يعني عهده { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } قال يوماً فيه القتال، فيصدق في اللقاء. وقال الحسن { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } يعني موته على الصدق والوفاء، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك، ومنهم من لم يبدل تبديلاً، وكذا قال قتادة وابن زيد. وقال بعضهم نحبه نذره. وقوله تعالى { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي وما غيروا عهدهم، وبدلوا الوفاء بالغدر، بل استمروا على ما عاهدوا عليه، وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَـٰرَ }. وقوله تعالى { لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب، فيظهر أمر هذا بالفعل، وأمر هذا بالفعل، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم، حتى يعملوا بما يعلمه منهم كما قال تعالى :
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ }
محمد 31 فهذا علم بالشيء بعد كونه، وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده، وكذا قال الله تعالى
{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ }
آل عمران 179 ولهذا قال تعالى ههنا { لِّيَجْزِىَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه، وقيامهم به، ومحافظتهم عليه، { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ } وهم الناقضون لعهد الله، المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه، وعذابه، ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا، إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه، وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان، والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان. ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة لغضبه قال { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٤٢
قوله تعالى: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } رفع بالابتداء، وصَلُح الابتداء بالنكرة لأن «صَدَقُوا» في موضع النعت. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ }. «مَن» في موضع رفع بالابتداء. وكذا «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» والخبر في المجرور. والنَّحْب: النذر والعهد؛ تقول منه: نَحَبت أَنْحُب؛ بالضم. قال الشاعر :
وإذا نحبت كَلْبٌ على الناس إنهم أحق بتاج الماجد المتكرم
وقال آخر :
قـد نحـب المجـدُ علـيـنا نَحْـبَـا
وقال آخر :
أَنَحْـبٌ فيـقـضَـى أم ضـلالٌ وبـاطـلُ
وروى البخاريّ ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمّي أنس بن النَّضْر ـ سُمِّيت به ـ ولم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكَبُر عليه فقال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، أما واللَّهِ لئن أرانِي الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد لَيَرَيَنّ الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها؛ فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واهاً لريح الجنة! أجدها دون أُحُد؛ فقاتل حتى قُتل، فوجِد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورَمْية. فقالت عَمّتي الرُّبَيِّع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا بَبَنانه. ونزلت هذه الآية: { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } لفظ الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى :
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ }
[الأحزاب: 23] الآية: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت يده؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أوجب طلحة الجنة " وفي الترمذيّ عنه: " أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقّرونه ويهابونه؛ فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه؛ ثم إني اطّلعت من باب المسجد وعليّ ثياب خضر، فلما رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أين السائل عمن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: «هذا ممن قضى نَحْبَه» " قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير. وروى البيهقي عن أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد، مرّ على مصعب بن عُمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودَعَا له، ثم تلا هذه الآية: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ ـ إلى ـ تَبْدِيلاً } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأْتُوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه» "
وقيل: النحب الموت؛ أي مات على ما عاهد عليه؛ عن ابن عباس. والنحب أيضاً الوقت والمدّة. يقال: قضى فلان نحبه إذا مات. وقال ذو الرمّة :
عشِيّةَ فرّ الحارِثيّون بعد ما قَضَى نَحْبه في ملتَقَى الخيل هَوْبَرُ
والنَّحْب أيضاً الحاجة والهِمة؛ يقول قائلهم: مالي عندهم نحب؛ وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدّمنا أوّلاً؛ أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل؛ مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدّلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ «فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ومنهم من بدّل تَبْديلاً» قال أبو بكر الأنباريّ: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود؛ لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعناً على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء؛ فما يعرف فيهم مغيّر وما وجد من جماعتهم مبدّل؛ رضي الله عنهم. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } في الآخرة { إِن شَآءَ } أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة؛ وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }.
لِّيَجۡزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّٰدِقِينَ بِصِدۡقِهِمۡ وَيُعَذِّبَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ إِن شَآءَ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٤٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٥٢
يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية، ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين، لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد، ولكن قال تعالى
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }
الأنفال 33 فسلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى، وهم أخلاط من قبائل شتى أحزاب وآراء، فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعاتهم، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم، ولم ينالوا خيراً لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة، وهمهم بقتله، واستئصال جيشه، ومن هم بشيء وصدق همه بفعله، فهو في الحقيقة كفاعله. وقوله تبارك وتعالى { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } أي لم يحتاجوا إِلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم، بل كفى الله وحده، ونصر عبده، وأعز جنده، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده " أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم " وفي قوله عز وجل { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش، وهكذا وقع بعدها، لم يغزهم المشركون، بل غزاهم المسلمون في بلادهم. قال محمد بن إسحاق لما انصرف أهل الخندق عن الخندق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم " فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله تعالى مكة، وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح، كما قال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان، حدثني أبو إسحاق قال سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " الآن نغزوهم ولا يغزوننا " وهكذا رواه البخاري في " صحيحه " من حديث الثوري، وإسرائيل عن أبي إسحاق به، وقوله تعالى { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } أي بحوله وقوته ردهم خائبين، لم ينالوا خيراً، وأعز الله الإسلام وأهله، وصدق وعده، ونصر رسوله وعبده، فله الحمد والمنة.
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٥٢
قوله تعالى: { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة: قالت: «الَّذِينَ كَفَرُوا» هاهنا أبو سفيان وعُيينة بن بدر، رجع أبو سفيان إلى تِهامة، ورجع عُيينة إلى نجد. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بأن أرسل عليهم ريحاً وجنوداً حتى رجعوا ورجعت بنو قُريظة إلى صياصِيهم؛ فكفى أمَر قريظة بالرعب. { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً } أمره { عَزِيزاً } لا يُغلَب.
وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا ٥٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٦٢
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب، ونزلوا على المدينة، نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله، دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه، فقال له كعب بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك ياحيي إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له أسوتهم، فلما نقضت قريظة، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه، وشق عليه وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله تعالى ونصره، وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجراً بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال أوضعت السلاح يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم " قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، وفي رواية فقال له عذيرك من مقاتل، أوضعتم السلاح؟ قال " نعم " قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء، قال صلى الله عليه وسلم " أين؟ " قال بني قريظة فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحداً من الفريقين، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليه الحال، نزلوا على حكم سعد ين معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله ابن أبي ابن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك، ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله، وأنزله في قبة المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً، فأبقني لها، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل، وهو راكب على حمار قد وطَّؤوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون ياسعد إنهم مواليك، فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم " فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هؤلاء ــــ وأشار إليهم ــــ قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت " فقال رضي الله عنه وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم " قال وعلى من في هذه الخيمة؟ قال " نعم " قال وعلى من ههنا؟ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله، وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وإكراماً وإعظاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فقال رضي الله عنه إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة " ، وفي رواية " لقد حكمت بحكم الملك " ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وأموالهم، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب " السيرة " الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً، ولله الحمد والمنة.
ولهذا قال تعالى { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَـٰهَرُوهُم } أي عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل،
{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }
البقرة 89 فعليهم لعنة الله. وقوله تعالى { مِن صَيَاصِيهِمْ } يعني حصونهم، كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف، ومنه سمي صياصي البقر، وهي قرونها لأنها أعلى شيء فيها، { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } وهو الخوف، لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وليس من يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين، وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلبت إليهم القال، انشمر المشركون، ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز، ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين، فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة، ولهذا قال تعالى { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء. وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم بن بشير، أخبرنا عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فشكوا في، فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد؟ فنظروني، فلم يجدوني أنبت، فخلي عني، وألحقني بالسبي، وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه النسائي أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه. وقوله تعالى { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـٰرَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُمْ } أي جعلها لكم من قتلكم لهم، { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } قيل خيبر، وقيل مكة، رواه مالك عن زيد بن أسلم، وقيل فارس والروم، وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع مراداً، { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً }. قال الإمام أحمد حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة، قالت فجلست إلى الأرض، فمر سعد رضي الله عنه، وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول
لَبِّثْ قَليلاً يَشْهَدِ الهَيْجا حَمَلْ ما أَحْسَنَ المَوْتَ إذا حانَ الأَجَلْ
قالت فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم رجل عليه تسبغة له، تعني المغفر، فقال عمر رضي الله عنه ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز؟ قالت فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ، فدخلت فيها، فرفع الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال ياعمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى؟ قالت ورمى سعداً رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له، وقال له خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله، فقطعه، فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، قالت وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت فرقأ كَلْمه، وبعث الله تعالى الريح على المشركين { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } ، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد، قالت فجاءه جبريل عليه السلام، وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال أوقد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، قالت فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني تميم، وهم جيران المسجد، فقال
" من مر بكم؟ " قالوا مر بنا دحية الكلبي، وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما اشتد حصارهم، واشتد البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم إنه الذبح، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انزلوا على حكم سعد بن معاذ " فنزلوا، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه، فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه، فقالوا ياأبا عمرو حلفاؤك ومواليك، وأهل النكاية، ومن قد علمت، قالت فلا يرجع إليهم شيئاً، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم، التفت إلى قومه فقال قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال قال أبو سعيد فلما طلع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم فأنزلوه "
فقال عمر رضي الله عنه سيدنا الله، قال " أنزلوه " فأنزلوه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احكم فيهم " قال سعد رضي الله عنه فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله " ثم دعا سعد رضي الله عنه، فقال اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً، فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك. قال فانفجر كلمه، وكان قد برىء منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله، قالت عائشة رضي الله عنها فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قالت فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه، من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله تعالى
{ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }
الفتح 29 قال علقمة فقلت أي أمه فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت كانت عينه لاتدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد، فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحواً من هذا، ولكنه أخصر منه، وفيه دعا سعد رضي الله عنه.
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٦٢
قوله تعالى: { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشاً وغَطَفان؛ وهم بنو قُريظة. وقد مضى خبرهم. { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي حصونهم؛ واحدها صِيصَة. قال الشاعر :
فأصبحت الثِّيران صَرْعَى وأصبحتْ نساء تميم يبتدِرْن الصياصِيا
ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يُسوّى السَّداة واللُّحْمة: صِيصة. قال دريدُ بن الصِّمَّة :
فجئتُ إليه والرماحُ تَنُوشُه كوقع الصَّياصِي في النسيج الممدّد
ومنه: صيصَة الديك التي في رجله. وصَياصِي البقر قرونها؛ لأنها تمتنع بها. وربما كانت تركّب في الرماح مكان الأسنة؛ ويقال: جَذّ اللَّهُ صِئْصِئه؛ أي أصله. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال. { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } وهم النساء والذّرّية؛ على ما تقدّم. { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بعدُ. قال يزيد بن رُومان وابن زيد ومقاتل: يعني حُنَين؛ ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها. وقال قتادة: كنا نتحدّث أنها مكة. وقال الحسن: هي فارس والرّوم. وقال عِكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفوٍ قديرٌ؛ قاله محمد بن إسحاق. الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقُرَى قدير؛ قاله النقاش. وقيل: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } مما وَعَدَكُمُوه { قَدِيراً } لا تردّ قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال: تأسِرون وتأسُرون (بكسر السين وضمها) حكاه الفراء.
وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا ٦٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٧٢
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب، ونزلوا على المدينة، نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله، دخل حصنهم، ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد، وقال له فيما قال ويحك قد جئتك بعز الدهر، أتيتك بقريش وأحابيشها، وغطفان وأتباعها، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه، فقال له كعب بل والله أتيتني بذل الدهر، ويحك ياحيي إنك مشؤوم، فدعنا منك، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه، واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب، ولم يكن من أمرهم شيء، أن يدخل معهم في الحصن، فيكون له أسوتهم، فلما نقضت قريظة، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه، وشق عليه وعلى المسلمين جداً، فلما أيده الله تعالى ونصره، وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً، ووضع الناس السلاح، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجراً بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، فقال أوضعت السلاح يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم " قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم، ثم قال إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة، وفي رواية فقال له عذيرك من مقاتل، أوضعتم السلاح؟ قال " نعم " قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهض إلى هؤلاء، قال صلى الله عليه وسلم " أين؟ " قال بني قريظة فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة، وكانت على أميال من المدينة، وذلك بعد صلاة الظهر، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " فسار الناس، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير، وقال آخرون لا نصليها إلا في بني قريظة، فلم يعنف واحداً من الفريقين، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليه الحال، نزلوا على حكم سعد ين معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله ابن أبي ابن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك، ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله، وأنزله في قبة المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً، فأبقني لها، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم، فلما أقبل، وهو راكب على حمار قد وطَّؤوا له عليه، جعل الأوس يلوذون به ويقولون ياسعد إنهم مواليك، فأحسن فيهم، ويرققونه عليهم ويعطفونه، وهو ساكت لا يرد عليهم، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
فعرفوا أنه غير مستبقيهم، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم " فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم، فلما جلس، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هؤلاء ــــ وأشار إليهم ــــ قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت " فقال رضي الله عنه وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم " قال وعلى من في هذه الخيمة؟ قال " نعم " قال وعلى من ههنا؟ وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله، وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وإكراماً وإعظاماً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فقال رضي الله عنه إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة " ، وفي رواية " لقد حكمت بحكم الملك " ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض، وجيء بهم مكتفين، فضرب أعناقهم، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة، وسبى من لم ينبت منهم مع النساء، وأموالهم، وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب " السيرة " الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً، ولله الحمد والمنة.
ولهذا قال تعالى { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَـٰهَرُوهُم } أي عاونوا الأحزاب، وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ } يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل، كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل،
{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }
البقرة 89 فعليهم لعنة الله. وقوله تعالى { مِن صَيَاصِيهِمْ } يعني حصونهم، كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف، ومنه سمي صياصي البقر، وهي قرونها لأنها أعلى شيء فيها، { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } وهو الخوف، لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وليس من يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين، وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلبت إليهم القال، انشمر المشركون، ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز، ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين، فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة، ولهذا قال تعالى { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } فالذين قتلوا هم المقاتلة، والأسراء هم الأصاغر والنساء. وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم بن بشير، أخبرنا عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فشكوا في، فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد؟ فنظروني، فلم يجدوني أنبت، فخلي عني، وألحقني بالسبي، وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه النسائي أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه. وقوله تعالى { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـٰرَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُمْ } أي جعلها لكم من قتلكم لهم، { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } قيل خيبر، وقيل مكة، رواه مالك عن زيد بن أسلم، وقيل فارس والروم، وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع مراداً، { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً }. قال الإمام أحمد حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة، قالت فجلست إلى الأرض، فمر سعد رضي الله عنه، وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول
لَبِّثْ قَليلاً يَشْهَدِ الهَيْجا حَمَلْ ما أَحْسَنَ المَوْتَ إذا حانَ الأَجَلْ
قالت فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم رجل عليه تسبغة له، تعني المغفر، فقال عمر رضي الله عنه ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز؟ قالت فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ، فدخلت فيها، فرفع الرجل التسبغة عن وجهه، فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال ياعمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى؟ قالت ورمى سعداً رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له، وقال له خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله، فقطعه، فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، قالت وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، قالت فرقأ كَلْمه، وبعث الله تعالى الريح على المشركين { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } ، فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد، قالت فجاءه جبريل عليه السلام، وإن على ثناياه لنقع الغبار، فقال أوقد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، قالت فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا، فمر على بني تميم، وهم جيران المسجد، فقال
" من مر بكم؟ " قالوا مر بنا دحية الكلبي، وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما اشتد حصارهم، واشتد البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم إنه الذبح، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انزلوا على حكم سعد بن معاذ " فنزلوا، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه، فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه، فقالوا ياأبا عمرو حلفاؤك ومواليك، وأهل النكاية، ومن قد علمت، قالت فلا يرجع إليهم شيئاً، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم، التفت إلى قومه فقال قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال قال أبو سعيد فلما طلع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم فأنزلوه "
فقال عمر رضي الله عنه سيدنا الله، قال " أنزلوه " فأنزلوه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احكم فيهم " قال سعد رضي الله عنه فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله " ثم دعا سعد رضي الله عنه، فقال اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً، فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم، فاقبضني إليك. قال فانفجر كلمه، وكان قد برىء منه إلا مثل الخرص، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله، قالت عائشة رضي الله عنها فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قالت فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه، من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله تعالى
{ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }
الفتح 29 قال علقمة فقلت أي أمه فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت كانت عينه لاتدمع على أحد، ولكنه كان إذا وجد، فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحواً من هذا، ولكنه أخصر منه، وفيه دعا سعد رضي الله عنه.
وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٧٢
قوله تعالى: { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشاً وغَطَفان؛ وهم بنو قُريظة. وقد مضى خبرهم. { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي حصونهم؛ واحدها صِيصَة. قال الشاعر :
فأصبحت الثِّيران صَرْعَى وأصبحتْ نساء تميم يبتدِرْن الصياصِيا
ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يُسوّى السَّداة واللُّحْمة: صِيصة. قال دريدُ بن الصِّمَّة :
فجئتُ إليه والرماحُ تَنُوشُه كوقع الصَّياصِي في النسيج الممدّد
ومنه: صيصَة الديك التي في رجله. وصَياصِي البقر قرونها؛ لأنها تمتنع بها. وربما كانت تركّب في الرماح مكان الأسنة؛ ويقال: جَذّ اللَّهُ صِئْصِئه؛ أي أصله. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال. { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } وهم النساء والذّرّية؛ على ما تقدّم. { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بعدُ. قال يزيد بن رُومان وابن زيد ومقاتل: يعني حُنَين؛ ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها. وقال قتادة: كنا نتحدّث أنها مكة. وقال الحسن: هي فارس والرّوم. وقال عِكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفوٍ قديرٌ؛ قاله محمد بن إسحاق. الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقُرَى قدير؛ قاله النقاش. وقيل: { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } مما وَعَدَكُمُوه { قَدِيراً } لا تردّ قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال: تأسِرون وتأسُرون (بكسر السين وضمها) حكاه الفراء.
وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا ٧٢
{ قُل } لهم، لائماً على فرارهم، ومخبراً أنهم لا يفيدهم ذلك شيئاً { لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ } فلو كنتم في بيوتكم، لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. والأسباب تنفع، إذا لم يعارضها القضاء والقدر، فإذا جاء القضاء والقدر، تلاشى كل سبب، وبطلت كل وسيلة ظنها الإنسان تنجيه. { وَإِذاً } حين فررتم لتسلموا من الموت والقتل، ولتنعموا في الدنيا فإنكم { لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } متاعاً لا يسوى فراركم، وترككم أمر اللّه، وتفويتكم على أنفسكم التمتع الأبدي، في النعيم السرمدي. ثم بيَّن أن الأسباب كلها لا تغني عن العبد شيئاً إذا أراده اللّه بسوء، فقال: { قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ } أي: يمنعكم { مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً } أي: شراً، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } فإنه هو المعطي المانع، الضار النافع، الذي لا يأتي بالخير إلا هو، ولا يدفع السوء إلاّ هو. { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً } يتولاهم، فيجلب لهم النفع { وَلاَ نَصِيراً } أي: ينصرهم، فيدفع عنهم المضار. فَلْيَمْتَثِلُوا طاعة المنفرد بالأمور كلها، الذي نفذت مشيئته، ومضى قدره، ولم ينفع مع ترك ولايته ونصرته، وَلِيٌّ ولا ناصر. ثم توَّعد تعالى المخذلين المعوقين، وتهددهم فقال: { قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } عن الخروج لمن [لم] يخرجوا { وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ } الذين خرجوا: { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي: ارجعوا، كما تقدم من قولهم :
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ }
[الأحزاب: 13]. وهم مع تعويقهم وتخذيلهم { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ } القتال والجهاد بأنفسهم { إِلاَّ قَلِيلاً } فهم أشد الناس حرصاً على التخلف، لعدم الداعي لذلك من الإيمان والصبر، ووجود المقتضى للجبن، من النفاق وعدم الإيمان. { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال، وبأموالهم عند النفقة فيه، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم. { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ ٱلْمَوْتِ } من شدة الجبن، الذي خلع قلوبهم، والقلق الذي أذهلهم، وخوفاً من إجبارهم على ما يكرهون من القتال. { فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ } أي: خاطبوكم وتكلموا معكم، بكلام حديد، ودعاوى غير صحيحة. وحين تسمعهم، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام، { أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ } الذي يراد منهم، وهذا شر ما في الإنسان، أن يكون شحيحاً بما أمر به، شحيحاً بماله أن ينفقه في وجهه، شحيحاً في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه، أو يدعو إلى سبيل اللّه، شحيحاً بجاهه، شحيحاً بعلمه ونصيحته ورأيه. { أوْلَـٰئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بسبب عدم إيمانهم أحبط الله أعمالهم، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً }. وأما المؤمنون، فقد وقاهم اللّه شح أنفسهم، ووفقهم لبذل ما أمروا به، من بذلٍ لأبدانهم في القتال في سبيله، وإعلاء كلمته، وأموالهم للنفقة في طرق الخير، وجاههم وعلمهم.
{ يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي: يظنون أن هؤلاء الأحزاب، الذين تحزبوا على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه لم يذهبوا حتى يستأصلوهم، فخاب ظنهم، وبطل حسبانهم. { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } مرة أخرى { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي: لو أتى الأحزاب مرة ثانية مثل هذه المرة، ودَّ هؤلاء المنافقون، أنهم ليسوا في المدينة ولا في القرب منها، وأنهم مع الأعراب في البادية، يستخبرون عن أخباركم، ويسألون عن أنبائكم، ماذا حصل عليكم؟ فتباً لهم، وبعداً فليسوا ممن يبالى بحضورهم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } فلا تبالوهم، ولا تأسوا عليهم. { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة، وباشر موقف الحرب، وهو الشريف الكامل، والبطل الباسل، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنفسه فيه؟!! فَتأَسُّوْا به في هذا الأمر وغيره. واستدل الأصوليون في هذه الآية، على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأصل، أن أمته أسوته في الأحكام، إلاّ ما دلَّ الدليل الشرعي على الاختصاص به. فالأسوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة. فالأسوة الحسنة في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فإن المتأسِّي به، سالك الطريق الموصل إلى كرامة اللّه، وهو الصراط المستقيم. وأما الأسوة بغيره إذا خالفه، فهو الأسوة السيئة، كقول الكفار حين دعتهم الرسل للتأسِّي [بهم]: { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ }. وهذه الأسوة الحسنة، إنما يسلكها ويوفق لها، من كان يرجو اللّه واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي بالرسول صلى اللّه عليه وسلم. لما ذكر حالة المنافقين عند الخوف، ذكر حال المؤمنين، فقال: { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ } الذين تحزبوا، ونزلوا منازلهم، وانتهى الخوف، { قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } في قوله :
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ }
[البقرة: 214]. { وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فإنا رأينا، ما أخبرنا به { وَمَا زَادَهُمْ } ذلك الأمر { إِلاَّ إِيمَاناً } في قلوبهم { وَتَسْلِيماً } في جوارحهم، وانقياداً لأمر اللّه. ولما ذكر أن المنافقين عاهدوا اللّه، لا يولون الأدبار، ونقضوا ذلك العهد، ذكر وفاء المؤمنين به، فقال: { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } أي: وفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته. { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } أي: إرادته ومطلوبه وما عليه من الحق، فقُتل في سبيل اللّه، أو مات مؤدياً لحقه لم ينقصه شيئاً. { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } تكميل ما عليه، فهو شارع في قضاء ما عليه، ووفاء نحبه ولما يكمله، وهو في رجاء تكميله، ساع في ذلك مجد.
{ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } كما بدَّل غيرهم، بل لم يزالوا على العهد، لا يلوون ولا يتغيرون، فهؤلاء الرجال على الحقيقة، ومن عداهم فصورهم صور رجال، وأما الصفات فقد قصرت عن صفات الرجال. { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } أي: بسبب صدقهم، في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع اللّه، واستواء ظاهرهم وباطنهم، قال اللّه تعالى :
{ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }
الآية [المائدة: 119]. أي: قدرنا ما قدرنا من هذه الفتن والمحن والزلازل، ليتبين الصادق من الكاذب، فيجزي الصادقين بصدقهم { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ } الذين تغيرت قلوبهم وأعمالهم عند حلول الفتن، ولم يفوا بما عاهدوا اللّه عليه. { إِن شَآءَ } تعذيبهم، بأن لم يشأ هدايتهم، بل علم أنهم لا خير فيهم فلم يوفقهم. { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } بأن يوفقهم للتوبة والإنابة، وهذا هو الغالب على كرم الكريم، ولهذا ختم الآية باسمين دالين على المغفرة، والفضل والإحسان فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } غفوراً لذنوب المسرفين على أنفسهم، ولو أكثروا من العصيان إذا أتوا بالمتاب. { رَّحِيماً } بهم، حيث وفقهم للتوبة، ثم قبلها منهم وستر عليهم ما اجترحوه. { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } أي: ردهم خائبين، لم يحصل لهم الأمر الذي كانوا حنقين عليه، مغتاظين قادرين [عليه] جازمين، بأن لهم الدائرة، قد غرتهم جموعهم، وأعجبوا بتحزبهم، وفرحوا بِعَدَدِهمْ وعُدَدِهِمْ. فأرسل اللّه عليهم ريحاً عظيمة، وهي ريح الصبا، فزعزعت مراكزهم، وقوَّضت خيامهم، وكفأت قدورهم وأزعجتهم، وضربهم اللّه بالرعب، فانصرفوا بغيظهم، وهذا من نصر اللّه لعباده المؤمنين. { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } بما صنع لهم من الأسباب العادية والقدرية، { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } لا يغالبه أحد إلا غُلِبَ، ولا يستنصره أحد إلا غَلَبَ، ولا يعجزه أمر أراده، ولا ينفع أهل القوة والعزة قوتهم وعزتهم، إن لم يعنهم بقوته وعزته. { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } أي عاونوهم { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } أي: اليهود { مِن صَيَاصِيهِمْ } أي: أنزلهم من حصونهم، نزولا مظفوراً بهم، مجعولين تحت حكم الإسلام. { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } فلم يقووا على القتال، بل استسلموا وخضعوا وذلوا. { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } وهم الرجال المقاتلون { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } مَنْ عداهم من النساء والصبيان. { وَأَوْرَثَكُمْ } أي: غنَّمكم { أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } أي: أرضاً كانت من قبل، من شرفها وعزتها عند أهلها، لا تتمكنون من وطئها، فمكَّنكم اللّه وخذلهم، وغنمتم أموالهم، وقتلتموهم وأسرتموهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لا يعجزه شيء، ومن قدرته قدَّر لكم ما قدر. وكانت هذه الطائفة من أهل الكتاب، هم بنو قريظة من اليهود، في قرية خارج المدينة غير بعيدة، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم [حين] هاجر إلى المدينة وادعهم وهادنهم، فلم يقاتلهم ولم يقاتلوه، وهم باقون على دينهم، لم يغير عليهم شيئاً.
فلما رأوا يوم الخندق، الأحزاب الذين تحزبوا على رسول اللّه وكثرتهم، وقلة المسلمين، وظنوا أنهم سيستأصلون الرسول والمؤمنين، وساعد على ذلك، [تدجيل] بعض رؤسائهم عليهم، فنقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومالؤوا المشركين على قتاله. فلما خذل اللّه المشركين، تفرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقتالهم، فحاصرهم في حصنهم، فنزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي اللّه عنه، فحكم فيهم، أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم. فأتم اللّه لرسوله والمؤمنين، المنة، وأسبغ عليهم النعمة، وأَقَرَّ أعينهم بخذلان مَنْ انخذل من أعدائهم، وقتل مَنْ قتلوا، وأسر مَنْ أسروا، ولم يزل لطف اللّه بعباده المؤمنين مستمراً.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٨٢
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهنّ وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. قال البخاري حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه، قالت فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك " وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت ثم قال " إن الله تعالى قال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } " إلى تمام الآيتين، فقلت له ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وكذا رواه معلقاً عن الليث حدثني يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها، فذكره، وزاد قالت ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل مافعلت، وقد حكى البخاري أن معمراً اضطرب فيه، فتارة رواه عن الزهري عن أبي سلمة، وتارة رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال قالت عائشة رضي الله عنها لما نزل الخيار، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أريد أن أذكر لك أمراً، فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك " قالت قلت وما هو يارسول الله؟ قالت فرده عليها، فقالت وما هو يارسول الله؟ قالت فرده عليها، فقالت وما هو يارسول الله؟ قالت فقرأ صلى الله عليه وسلم عليها { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } إلى آخر الآية، قالت فقلت بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة، قالت ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا ابن وكيع، حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزلت آية التخيير، بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ياعائشة إني عارض عليك أمراً، فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما "
، فقالت يارسول الله وما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلأَخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } " قالت فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقرأ الحجر، فقال " إن عائشة، رضي الله عنها ــــ قالت كذا وكذا " ، فقلن ونحن نقول مثلما قالت عائشة. رضي الله عنهن كلهن. رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة عن محمد بن عمرو به. قال ابن جرير وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي حدثنا محمد بن إِسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ـــ إلى نسائه أمر أن يخيرهن، فدخل علي فقال " سأذكر لك أمراً، فلا تعجلي حتى تستشيري أباك " فقلت وما هو يارسول الله؟ قال " إِني أمرت أن أخيركن " وتلا عليها آية التخيير إِلى آخر الآيتين، قالت فقلت وما الذي تقول لاتعجلي حتى تستشيري أباك؟ فإِني أختار الله ورسوله. فسر صلى الله عليه وسلم بذلك، وعرض على نسائه، فتتابعن كلهن، فاخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عقيل عن الزهري، أخبرني عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قالت عائشة رضي الله عنها أنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فقال صلى الله عليه وسلم " إِني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك " قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت ثم قال " إِن الله تبارك وتعالى قال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } " الآيتين، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإِني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة رضي الله عنهن، وأخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن قتيبة عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم يعدها علينا شيئاً، أخرجاه من حديث الأعمش.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زكريا بن إِسحاق عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه، فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي الله عنه لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه يارسول الله لو رأيت ابنة زيد ــــ امرأة عمر ــــ سألتني النفقة آنفاً، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال " هن حولي يسألنني النفقة " فقام أبو بكر رضي الله عنه إِلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله عنه إِلى حفصة، كلاهما يقولان تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن والله لانسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال " إِني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت وما هو؟ قال فتلا عليها { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } الآية، قالت عائشة رضي الله عنها أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى الله عليه وسلم " إِن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إِلا أخبرتها " انفرد بإِخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي من حديث زكريا بن إِسحاق المكي به. وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا سريج بن يونس، حدثنا علي بن هشام بن البريد عن محمد بن عبيد الله ابن علي بن أبي رافع، عن عثمان بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه الدنيا والآخرة، ولم يخيرهن الطلاق، وهذا منقطع. وقد روي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك، وهو خلاف الظاهر من الآية، فإِنه قال { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي أعطيكن حقوقكن، وأطلق سراحكن، وقد اختلف العلماء في جواز تزوج غيره لهن، لو طلقهن، على قولين، أصحهما نعم، لو وقع ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم. قال عكرمة وكان تحته يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن جميعاً.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٨٢
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدّم من المنع من إيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنَه شيئاً من عرَض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: آذَيْنَه بغيْرة بعضهنّ على بعض. وقيل: أمِر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهنّ بين الدنيا والآخرة. وقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: إن مَنْ مَلَك زوجة فليس عليه تخييرها. أمِر صلى الله عليه وسلم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملِكاً وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيًّا مِسكيناً؛ فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها؛ فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخيّر زوجاته؛ فربما كان فيهنّ من يكره المقام معه على الشدّة تنزيهاً له. وقيل: إن السبب الذي أُوجِب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حَلْقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب ـ وقيل بالزعفران ـ فأبت إلا أن تكون من ذهب؛ فنزلت آية التخيير فخيَّرهنّ، فقلن اخترنا الله ورسوله. وقيل: إن واحدة منهنّ اختارت الفراق. فالله أعلم. روى البخاريّ ومسلم ـ واللفظ لمسلم ـ " عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: ـ فأذِن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذِن له، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ـ قال: ـ فقال والله لأقولنّ شيئاً أضحك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها فَوَجَأْتُ عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هنّ حولي كما ترى يسألنَني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يَجَأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده!! فقلن: واللَّهِ لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده. ثم اعتزلهنّ شهراً أو تسعاً وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ـ حتى بلغ ـ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }. قال: فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة، إني أريد أن أعرِض عليك أمراً أحِبُّ ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: «لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إنّ الله لم يبعثني مُعَنتاً ولا مُتَعنِّتاً ولكن بعثني معلماً مُيَسِّراً» "
وروى الترمذي " عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: «يا عائشة، إني ذاكر لكِ أمراً فلا عليكِ ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويْك» قالت: وقد عَلم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه؛ قالت ثم قال: «إنّ الله يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ـ حتى بلغ ـ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } » فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت " قال: هذا حديث حسن صحيح. قال العلماء: وأما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فِراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.
الثانية: قوله تعالى: { قُل لأَزْوَاجِكَ } كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم أزواج، منهن من دخل بها، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها.
فأوّلهنّ: خديجة بنت خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ بن كِلاب. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النبّاش الأسدي، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، وَلدت منه غلاماً اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسُمعت نادبته تقول حين مات: واهندُ ابن هنداه، واربِيبَ رسول الله. ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت. وكانت يوم تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوّة سبع سنين، وقيل: عشر. وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة. وهي أول امرأة آمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفنّاها بالحَجُون؛ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم تكن يومئذٍ سُنَّةُ الجنازة الصلاةَ عليها.
ومنهن: سَوْدة بنت زَمْعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديماً وبايعت، وكانت عند ابن عمّ لها يقال له السكران بن عمرو؛ وأسلم أيضاً، وهاجرا جميعاً إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها. وقيل: مات بالحبشة؛ فلما حلّت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوّجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة؛ فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألاّ يفعل وأن يدعها في نسائه، وجعلت ليلتها لعائشة ـ حسبما هو مذكور في الصحيح ـ فأمسكها، وتوفيت بالمدينة في شوّال سنة أربع وخمسين.
ومنهن: عائشة بنت أبي بكر الصدّيق، وكانت مسماة لجُبير بن مطعِم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو بكر: يا رسول الله، دَعْني أسُلّها من جُبير سَلاًّ رفِيقاً؛ فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنين؛ وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بِكراً غيرها، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين.
ومنهن: حفصة بنت عمر بن الخطاب القُرَشِية العدويّة، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها، فأتاه جبريل فقال: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة» فراجعها. قال الواقديّ: وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وهي ابنة ستين سنة. وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة.
ومنهن: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أميّة المخزومية ـ واسم أبي أمية سُهيل ـ تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوّال سنة أربع، زوّجها منه ابنها سلمة على الصحيح، وكان عُمَرُ ابنُها صغيراً، وتوفيت في سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ثنتين وستين؛ والأول أصح. وصلّى عليها سعيد بن زيد. وقيل أبو هريرة. وقُبِرت بالبقِيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة.
ومنهنّ: أم حبيبة، واسمها رَمْلة بنت أبي سفيان. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْريّ إلى النجاشيّ، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شُرحبيل بن حَسَنة، وتوفيت سنة أربع وأربعين. وقال الدَّارَقُطْنِيّ: كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة على النصرانية، فزوّجها النجاشيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شُرحبيل بن حسنة.
ومنهنّ: " زينب بنت جَحْش بن رِئاب الأسديّة؛ وكان اسمها بَرّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان اسم أبيها بُرّة؛ فقالت: يا رسول الله، بدّل اسم أبي فإن البُرّة حقيرة؛ فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو كان أبوك مؤمناً سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشاً والجحش من البُرّة» " ذكر هذا الحديث الدَّارَقُطْنِيّ. تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين.
ومنهنّ: زينب بنت خُذيمة بن الحارث (ابن عبد الله) بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صَعْصعة الهلالية، كانت تسمى في الجاهلية أمّ المساكين؛ لإطعامها إياهم.
تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهراً من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأوّل على رأس تسعة وثلاثين شهراً؛ ودفنت بالبقيع.
ومنهنّ: جُوَيرية بنت الحارث بن أبي ضِرار الخُزاعية المُصْطَلِقيّة، أصابها في غزوة بني المُصْطَلِق فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شَمّاس فكاتبها؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوّجها، وذلك في شعبان سنة ست، وكان اسمها بُرّة فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم جُوَيرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين. وقيل: سنة خمسين، وهي ابنة خمس وستين.
ومنهن: صفية بنت حُيَيّ بن أخْطَب الهارونية، سباها النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خَيْبر واصطفاها لنفسه، وأسلمت وأعتقها، وجعل عتقها صداقها. وفي الصحيح: أنها وقعت في سهم دِحْيَة الكَلْبيّ فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وماتت في سنة خمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع.
ومنهن: رَيحانة بنت زيد بن عمرو بن خُنافة من بني النَّضير، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوّجها في سنة ست، وماتت مرْجِعَه من حَجة الوَداع، فدفنها بالبقيع. وقال الواقديّ: ماتت سنة ست عشرة وصلّى عليها عمر. قال أبو الفرج الجَوْزِيّ: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بمِلْك اليمين ولم يعتقها.
قلت: ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبد الرحمن السُّهَيْلِي في عداد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومنهن: ميمونة بنت الحارث الهلالِية، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرِف على عشرة أميال من مكة، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عُمْرة القَضِيّة، وهي آخر امرأة تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدّر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ودفنت هنالك، وذلك في سنة إحدى وستين. وقيل: ثلاث وستين. وقيل ثمان وستين.
فهؤلاء المشهورات من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهنّ اللاتي دخل بهن؛ رضي الله عنهن.
فأما من تزوّجهن ولم يدخل بهن؛ فمنهن: الكلابِية. واختلفوا في اسمها؛ فقيل فاطمة. وقيل عَمْرة. وقيل العالية. قال الزهريّ: تزوّج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها، وكانت تقول: أنا الشقيّة. تزوّجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، وتوفيت سنة ستين.
ومنهن: أسماء بنت النعمان بن الجَوْن بن الحارث الكِنْدية، وهي الجونية. قال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت، فطلّقها. وقال غيره: هي التي استعاذت منه. وفي البخاريّ قال: " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شَراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين "
وفي لفظ آخر قال أبو أُسيد: " أتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجَوْنية، فلما دخل عليها قال: «هبِي لي نفسك» فقالت: وهل تهب الملِكة نفسها للسُّوقة! فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن؛ فقالت: أعوذ بالله منك! فقال: «قد عُذتِ بمعَاذ» ثم خرج علينا فقال: «يا أبا أسَيد، أكْسها رازِقِيين وألحقها بأهلها» ". ومنهنّ: قُتَيْلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوّجها إياه الأشعث، ثم انصرف إلى حَضْرمَوْت، فحملها إليه فبلغه وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم. فردّها إلى بلاده، فارتدّ وارتدت معه. ثم تزوّجها عِكرمة بن أبي جَهْل، فوجد من ذلك أبو بكر وَجْداً شديداً. فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيّرها ولا حجبها. ولقد برّأها الله منه بالارتداد. وكان عروة ينكر أن يكون تزوّجها.
ومنهنّ: أم شريك الأزدية، واسمها غُزَيَّة بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى، فطلقها النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. وهي التي وهبت نفسها. وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خَوْلة بنت حكيم.
ومنهنّ: خَوْلة بنت الهُذَيل ابن هُبَيرة، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلكت قبل أن تصل إليه.
ومنهنّ: شَرَافُ بنت خليفة، أخت دِحْية، تزوّجها ولم يدخل بها.
ومنهنّ: ليلى بنت الخَطِيم، أخت قيس، تزوّجها وكانت غيوراً فاستقالته فأقالها.
ومنهنّ: عمرة بنت معاوية الكِندية، تزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشعبيّ: تزوّج امرأة من كِنْدة فجيء بها بعد ما مات.
ومنهنّ: ابنة جندب بن ضمرة الجُنْدُعِية. قال بعضهم: تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنكر بعضهم وجود ذلك.
ومنهنّ: " الغِفارِيّة. قال بعضهم؛ تزوّج امرأة من غِفار، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضاً فقال: «الْحَقِي بأهلك» " ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. فهؤلاء اللاتي عقد عليهنّ ولم يدخل بهنّ؛ صلى الله عليه وسلم.
فأما من خطبهنّ فلم يتم نكاحه معهنّ؛ ومن وهبت له نفسها:
فمنهنّ: أم هانىء بنت أبي طالب، واسمها فاختة. خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة مُصْبِيَة واعتذرت إليه فعذرها.
ومنهنّ: ضُباعة بنت عامر.
ومنهنّ: " صفِية بنت بَشامة بن نضلة، خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سِباء، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن شئت أنا وإن شئت زوجك؟» قالت: زوجي. فأرسلها؛ فلعنتها بنو تميم " ؛ قاله ابن عباس.
ومنهنّ: أم شريك. وقد تقدّم ذكرها.
ومنهنّ: ليلى بنت الخَطِيم؛ وقد تقدّم ذكرها.
ومنهنّ: خولة بنت حكيم بن أمية؛ وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرجأها، فتزوّجها عثمان بن مظعون.
ومنهنّ: جَمْرة بنت الحارث بن عَوف المرّي؛ خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءاً ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برِصَت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
ومنهنّ: سودة القرشية؛ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبِية. فقالت: أخاف أن يَضْغُوَ صِبْيَتِي عند رأسك. فحمِدها ودعا لها.
ومنهنّ: امرأة لم يُذكر اسمها. قال مجاهد: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: أستأمر أبي. فلقِيت أباها فأذن لها، فلقِيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قد التحفنا لحافاً غيرك» ". فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان له من السَّراري سُرِّيتان: مارِية القبطية، ورَيْحانة؛ في قول قتادة. وقال غيره: كان له أربع: مارية، ورَيحانة، وأخرى جميلة أصابها في السَّبْي، وجاريةٌ وهبتها له زينب بنت جحش.
الثالثة: قوله تعالى: { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } «إِنْ» شرط، وجوابه «فَتَعَالَيْنَ»؛ فعلق التخيير على شرط. وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان؛ خلافاً للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته: أنتِ طالق إن دخلتِ الدار، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار؛ لأن الطلاق الشرعيّ هو المنجَّز في الحال لا غير.
الرابعة: قوله تعالى: { فَتَعَالَيْنَ } هو جواب الشرط، وهو فعل جماعة النساء، من قولك تعالى؛ وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال: تعالى بمعنى أقبل، وُضع لمن له جلالة ورفعة، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وأما في هذا الموضع فهو على أصله؛ فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. { أُمَتِّعْكُنَّ } قد تقدّم الكلام في المُتْعة في «البقرة». وقرىء «أُمَتِّعُكُنَّ» بضم العين. وكذا «وَأُسَرِّحُكُنّ» بضم الحاء على الاستئناف. والسراح الجميل؛ هو أن يكون طلاقاً للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها.
الخامسة: اختلف العلماء في كيفية تخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: الأوّل: أنه خيّرهنّ بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء؛ قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبِيّ وابن شهاب وربيعة. ومنهم من قال: إنما خيرهنّ بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهنّ؛ لتكون لهنّ المنزلة العليا كما كانت لزوجهنّ؛ ولم يخيرهنّ في الطلاق؛ ذكره الحسن وقتادة. ومن الصحابة عليّ فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.
قلت: القول الأوّل أصح؛ لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا! في رواية: فاخترناه فلم يعدّه طلاقاً.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق؛ لذلك قال: " يا عائشة إني ذاكر لكِ أمراً فلا عليك ألاّ تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " الحديث. ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة. فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة، أو النكاح. والله أعلم.
السادسة: اختلف العلماء في المخيَّرة إذا اختارت زوجها؛ فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر؛ هذا قول عمر بن الخطاب وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة. ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب. وروي عن عليّ وزيد أيضاً: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة؛ وهو قول الحسن البصريّ والليث، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. وتعلقوا بأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة؛ كقوله: أنتِ بائن. والصحيح الأوّل؛ لقول عائشة: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه علينا طلاقاً. أخرجه الصحيحان. قال ابن المنذر: وحديث عائشة يدل على أن المخيّرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقاً، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق، ويدل على معنى ثالث، وهو أن المخيَّرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها؛ إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله. وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وبه قال ابن أبي ليلى والثوريّ والشافعيّ. وروي عن عليّ أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. ورواه ابن خُوَيْزِمَنْدَاد عن مالك. وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وهو قول الحسن البصريّ، وبه قال مالك والليث؛ لأن المِلك إنما يكون بذلك. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء. وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
السابعة: ذهب جماعة من المدنيّين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما جميعاً؛ وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. قال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا، وهو قول جماعة من أهل المدينة. قال أبو عمر: وعلى هذا القول أكثر الفقهاء. والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما؛ وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملّكتك؛ أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً؛ فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القولُ قولَه مع يمينه إذا ناكرها. وقالت طائفة من أهل المدينة: له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها. والأوّل قول مالك في المشهور.
وروى ابن خُوَيْزِمَنْدَاد عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيَّرة في الثلاث، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة. وبه قال أبو الجَهْم. قال سُحْنون: وعليه أكثر أصحابنا.
وتحصيل مذهب مالك: أن المخيّرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له. وإن اختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات، إما أخذته وإما تركته؛ لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى في آية التخيير:
{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً }
[الأحزاب: 28] فمعنى التسريح البتات، قال الله تعالى:
{ ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
[البقرة: 229]. والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة؛ روي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم. ومن جهة المعنى أن قوله: اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألاّ يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها، ولا يملك منها شيئاً؛ إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ، وكانت بمنزل من خُيّر بين شيئين فاختار غيرهما. وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة؛ لأنها تبِين في الحال.
الثامنة: اختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار؛ فقال مرة: لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض. فإن لم تختر ولم تقض شيئاً حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها؛ وعلى هذا أكثر الفقهاء. وقال مرة: لها الخيار أبداً ما لم يعلم أنها تركت؛ وذلك يُعلم بأن تمكّنه من نفسها بوطء أو مباشرة؛ فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئاً كان له رفعهاإلى الحاكم لتوقع أو تسقط، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها. وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها. واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى :
{ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }
[النساء: 140]. وأيضاً فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها، فصار كالعقد بينهما، فإن قبلته وإلا سقط؛ كالذي يقول: قد وهبت لك أو بايعتك، فإن قبل وإلا كان الملك باقياً بحاله. هذا قول الثوريّ والكوفيين والأوزاعيّ والليث والشافعي وأبي ثور، وهو اختيار ابن القاسم. ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها وملَكَته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها.
قلت: وهذا هو الصحيح " لقوله عليه السلام لعائشة: «إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» " رواه الصحيح، وخرّجه البخاريّ، وصححه الترمذيّ. وقد تقدم في أول الباب. وهو حجة لمن قال: إنه إذا خيّر الرجل امرأته أو ملّكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما؛ روي هذا عن الحسن والزُّهريّ، وقاله مالك في إحدى روايتيه. قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا الباب، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجاً من الأمر. قال المَرْوزِيّ: هذا أصح الأقاويل عندي، وقاله ابن المنذر والطّحاويّ.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٨٢
لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة، وطلبن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمراً لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، فشَقَّ ذلك على الرسول، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهراً. فأراد اللّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي: ليس لكن في غيرها مطلب، وصرتن ترضين لوجودها، وتغضبن لفقدها، فليس لي فيكن أرب وحاجة، وأنتن بهذه الحال. { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } شيئاً مما عندي من الدنيا { وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي: أفارقكن { سَرَاحاً جَمِيلاً } من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي. { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي: هذه الأشياء مرادكن، وغاية مقصودكن، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله والجنة، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويسرها وعسرها، وقنعتن من رسول اللّه بما تيسر، ولم تطلبن منه ما يشق عليه، { فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول، فإن مجرد ذلك لا يكفي، بل لا يفيد شيئاً مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن. وفي هذا التخيير فوائد عديدة: منها: الاعتناء برسوله وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية. ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع
{ مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ }
[الأحزاب: 38]. ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله والدار الآخرة عنها، وعن مقارنتها. ومنها: سلامة زوجاته رضي اللّه عنهن عن الإثم والتعرض لسخط اللّه ورسوله. فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه. ومنها: إظهار رفعتهن وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار، للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة. ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيبات
{ ٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ }
[النور: 26]. ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه. ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سبباً لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ... }.
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٩٢
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن، فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل، فاخترن رضي الله عنهنّ وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة، فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. قال البخاري حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه، قالت فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك " وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت ثم قال " إن الله تعالى قال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } " إلى تمام الآيتين، فقلت له ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وكذا رواه معلقاً عن الليث حدثني يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها، فذكره، وزاد قالت ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل مافعلت، وقد حكى البخاري أن معمراً اضطرب فيه، فتارة رواه عن الزهري عن أبي سلمة، وتارة رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال قالت عائشة رضي الله عنها لما نزل الخيار، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أريد أن أذكر لك أمراً، فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك " قالت قلت وما هو يارسول الله؟ قالت فرده عليها، فقالت وما هو يارسول الله؟ قالت فرده عليها، فقالت وما هو يارسول الله؟ قالت فقرأ صلى الله عليه وسلم عليها { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } إلى آخر الآية، قالت فقلت بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة، قالت ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا ابن وكيع، حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزلت آية التخيير، بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ياعائشة إني عارض عليك أمراً، فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما "
، فقالت يارسول الله وما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلأَخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } " قالت فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقرأ الحجر، فقال " إن عائشة، رضي الله عنها ــــ قالت كذا وكذا " ، فقلن ونحن نقول مثلما قالت عائشة. رضي الله عنهن كلهن. رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة عن محمد بن عمرو به. قال ابن جرير وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي حدثنا محمد بن إِسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ـــ إلى نسائه أمر أن يخيرهن، فدخل علي فقال " سأذكر لك أمراً، فلا تعجلي حتى تستشيري أباك " فقلت وما هو يارسول الله؟ قال " إِني أمرت أن أخيركن " وتلا عليها آية التخيير إِلى آخر الآيتين، قالت فقلت وما الذي تقول لاتعجلي حتى تستشيري أباك؟ فإِني أختار الله ورسوله. فسر صلى الله عليه وسلم بذلك، وعرض على نسائه، فتتابعن كلهن، فاخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا يزيد بن سنان البصري، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني عقيل عن الزهري، أخبرني عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قالت عائشة رضي الله عنها أنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة من نسائه، فقال صلى الله عليه وسلم " إِني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك " قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت ثم قال " إِن الله تبارك وتعالى قال { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } " الآيتين، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإِني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كلهن، فقلن مثل ما قالت عائشة رضي الله عنهن، وأخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن قتيبة عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم يعدها علينا شيئاً، أخرجاه من حديث الأعمش.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زكريا بن إِسحاق عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه، فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر رضي الله عنه لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي الله عنه يارسول الله لو رأيت ابنة زيد ــــ امرأة عمر ــــ سألتني النفقة آنفاً، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال " هن حولي يسألنني النفقة " فقام أبو بكر رضي الله عنه إِلى عائشة ليضربها، وقام عمر رضي الله عنه إِلى حفصة، كلاهما يقولان تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن والله لانسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال " إِني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت وما هو؟ قال فتلا عليها { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لأَِزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } الآية، قالت عائشة رضي الله عنها أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى الله عليه وسلم " إِن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إِلا أخبرتها " انفرد بإِخراجه مسلم دون البخاري، فرواه هو والنسائي من حديث زكريا بن إِسحاق المكي به. وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا سريج بن يونس، حدثنا علي بن هشام بن البريد عن محمد بن عبيد الله ابن علي بن أبي رافع، عن عثمان بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه الدنيا والآخرة، ولم يخيرهن الطلاق، وهذا منقطع. وقد روي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك، وهو خلاف الظاهر من الآية، فإِنه قال { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي أعطيكن حقوقكن، وأطلق سراحكن، وقد اختلف العلماء في جواز تزوج غيره لهن، لو طلقهن، على قولين، أصحهما نعم، لو وقع ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم. قال عكرمة وكان تحته يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنهن وأرضاهن جميعاً.
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٩٢
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدّم من المنع من إيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنَه شيئاً من عرَض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: آذَيْنَه بغيْرة بعضهنّ على بعض. وقيل: أمِر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهنّ بين الدنيا والآخرة. وقال الشافعيّ رحمه الله تعالى: إن مَنْ مَلَك زوجة فليس عليه تخييرها. أمِر صلى الله عليه وسلم أن يخيّر نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيًّا ملِكاً وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيًّا مِسكيناً؛ فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها؛ فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخيّر زوجاته؛ فربما كان فيهنّ من يكره المقام معه على الشدّة تنزيهاً له. وقيل: إن السبب الذي أُوجِب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حَلْقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب ـ وقيل بالزعفران ـ فأبت إلا أن تكون من ذهب؛ فنزلت آية التخيير فخيَّرهنّ، فقلن اخترنا الله ورسوله. وقيل: إن واحدة منهنّ اختارت الفراق. فالله أعلم. روى البخاريّ ومسلم ـ واللفظ لمسلم ـ " عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: ـ فأذِن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر فاستأذن فأذِن له، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً ـ قال: ـ فقال والله لأقولنّ شيئاً أضحك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمتُ إليها فَوَجَأْتُ عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «هنّ حولي كما ترى يسألنَني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يَجَأ عنقها؛ كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده!! فقلن: واللَّهِ لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده. ثم اعتزلهنّ شهراً أو تسعاً وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ـ حتى بلغ ـ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }. قال: فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة، إني أريد أن أعرِض عليك أمراً أحِبُّ ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: «لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إنّ الله لم يبعثني مُعَنتاً ولا مُتَعنِّتاً ولكن بعثني معلماً مُيَسِّراً» "
وروى الترمذي " عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: «يا عائشة، إني ذاكر لكِ أمراً فلا عليكِ ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويْك» قالت: وقد عَلم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه؛ قالت ثم قال: «إنّ الله يقول: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ـ حتى بلغ ـ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } » فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت " قال: هذا حديث حسن صحيح. قال العلماء: وأما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فِراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.
الثانية: قوله تعالى: { قُل لأَزْوَاجِكَ } كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم أزواج، منهن من دخل بها، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها.
فأوّلهنّ: خديجة بنت خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ بن كِلاب. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النبّاش الأسدي، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، وَلدت منه غلاماً اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسُمعت نادبته تقول حين مات: واهندُ ابن هنداه، واربِيبَ رسول الله. ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت. وكانت يوم تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوّة سبع سنين، وقيل: عشر. وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة. وهي أول امرأة آمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفنّاها بالحَجُون؛ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم تكن يومئذٍ سُنَّةُ الجنازة الصلاةَ عليها.
ومنهن: سَوْدة بنت زَمْعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديماً وبايعت، وكانت عند ابن عمّ لها يقال له السكران بن عمرو؛ وأسلم أيضاً، وهاجرا جميعاً إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها. وقيل: مات بالحبشة؛ فلما حلّت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوّجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة؛ فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألاّ يفعل وأن يدعها في نسائه، وجعلت ليلتها لعائشة ـ حسبما هو مذكور في الصحيح ـ فأمسكها، وتوفيت بالمدينة في شوّال سنة أربع وخمسين.
ومنهن: عائشة بنت أبي بكر الصدّيق، وكانت مسماة لجُبير بن مطعِم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو بكر: يا رسول الله، دَعْني أسُلّها من جُبير سَلاًّ رفِيقاً؛ فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنين؛ وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بِكراً غيرها، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين.
ومنهن: حفصة بنت عمر بن الخطاب القُرَشِية العدويّة، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها، فأتاه جبريل فقال: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة» فراجعها. قال الواقديّ: وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وهي ابنة ستين سنة. وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة.
ومنهن: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أميّة المخزومية ـ واسم أبي أمية سُهيل ـ تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوّال سنة أربع، زوّجها منه ابنها سلمة على الصحيح، وكان عُمَرُ ابنُها صغيراً، وتوفيت في سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ثنتين وستين؛ والأول أصح. وصلّى عليها سعيد بن زيد. وقيل أبو هريرة. وقُبِرت بالبقِيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة.
ومنهنّ: أم حبيبة، واسمها رَمْلة بنت أبي سفيان. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْريّ إلى النجاشيّ، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شُرحبيل بن حَسَنة، وتوفيت سنة أربع وأربعين. وقال الدَّارَقُطْنِيّ: كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة على النصرانية، فزوّجها النجاشيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شُرحبيل بن حسنة.
ومنهنّ: " زينب بنت جَحْش بن رِئاب الأسديّة؛ وكان اسمها بَرّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، وكان اسم أبيها بُرّة؛ فقالت: يا رسول الله، بدّل اسم أبي فإن البُرّة حقيرة؛ فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو كان أبوك مؤمناً سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشاً والجحش من البُرّة» " ذكر هذا الحديث الدَّارَقُطْنِيّ. تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين.
ومنهنّ: زينب بنت خُذيمة بن الحارث (ابن عبد الله) بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صَعْصعة الهلالية، كانت تسمى في الجاهلية أمّ المساكين؛ لإطعامها إياهم.
تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهراً من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأوّل على رأس تسعة وثلاثين شهراً؛ ودفنت بالبقيع.
ومنهنّ: جُوَيرية بنت الحارث بن أبي ضِرار الخُزاعية المُصْطَلِقيّة، أصابها في غزوة بني المُصْطَلِق فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شَمّاس فكاتبها؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوّجها، وذلك في شعبان سنة ست، وكان اسمها بُرّة فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم جُوَيرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين. وقيل: سنة خمسين، وهي ابنة خمس وستين.
ومنهن: صفية بنت حُيَيّ بن أخْطَب الهارونية، سباها النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خَيْبر واصطفاها لنفسه، وأسلمت وأعتقها، وجعل عتقها صداقها. وفي الصحيح: أنها وقعت في سهم دِحْيَة الكَلْبيّ فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وماتت في سنة خمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع.
ومنهن: رَيحانة بنت زيد بن عمرو بن خُنافة من بني النَّضير، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوّجها في سنة ست، وماتت مرْجِعَه من حَجة الوَداع، فدفنها بالبقيع. وقال الواقديّ: ماتت سنة ست عشرة وصلّى عليها عمر. قال أبو الفرج الجَوْزِيّ: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بمِلْك اليمين ولم يعتقها.
قلت: ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبد الرحمن السُّهَيْلِي في عداد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومنهن: ميمونة بنت الحارث الهلالِية، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرِف على عشرة أميال من مكة، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عُمْرة القَضِيّة، وهي آخر امرأة تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدّر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ودفنت هنالك، وذلك في سنة إحدى وستين. وقيل: ثلاث وستين. وقيل ثمان وستين.
فهؤلاء المشهورات من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهنّ اللاتي دخل بهن؛ رضي الله عنهن.
فأما من تزوّجهن ولم يدخل بهن؛ فمنهن: الكلابِية. واختلفوا في اسمها؛ فقيل فاطمة. وقيل عَمْرة. وقيل العالية. قال الزهريّ: تزوّج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها، وكانت تقول: أنا الشقيّة. تزوّجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، وتوفيت سنة ستين.
ومنهن: أسماء بنت النعمان بن الجَوْن بن الحارث الكِنْدية، وهي الجونية. قال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت، فطلّقها. وقال غيره: هي التي استعاذت منه. وفي البخاريّ قال: " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شَراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين "
وفي لفظ آخر قال أبو أُسيد: " أتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجَوْنية، فلما دخل عليها قال: «هبِي لي نفسك» فقالت: وهل تهب الملِكة نفسها للسُّوقة! فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن؛ فقالت: أعوذ بالله منك! فقال: «قد عُذتِ بمعَاذ» ثم خرج علينا فقال: «يا أبا أسَيد، أكْسها رازِقِيين وألحقها بأهلها» ". ومنهنّ: قُتَيْلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوّجها إياه الأشعث، ثم انصرف إلى حَضْرمَوْت، فحملها إليه فبلغه وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم. فردّها إلى بلاده، فارتدّ وارتدت معه. ثم تزوّجها عِكرمة بن أبي جَهْل، فوجد من ذلك أبو بكر وَجْداً شديداً. فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيّرها ولا حجبها. ولقد برّأها الله منه بالارتداد. وكان عروة ينكر أن يكون تزوّجها.
ومنهنّ: أم شريك الأزدية، واسمها غُزَيَّة بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى، فطلقها النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. وهي التي وهبت نفسها. وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم خَوْلة بنت حكيم.
ومنهنّ: خَوْلة بنت الهُذَيل ابن هُبَيرة، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلكت قبل أن تصل إليه.
ومنهنّ: شَرَافُ بنت خليفة، أخت دِحْية، تزوّجها ولم يدخل بها.
ومنهنّ: ليلى بنت الخَطِيم، أخت قيس، تزوّجها وكانت غيوراً فاستقالته فأقالها.
ومنهنّ: عمرة بنت معاوية الكِندية، تزوّجها النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشعبيّ: تزوّج امرأة من كِنْدة فجيء بها بعد ما مات.
ومنهنّ: ابنة جندب بن ضمرة الجُنْدُعِية. قال بعضهم: تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنكر بعضهم وجود ذلك.
ومنهنّ: " الغِفارِيّة. قال بعضهم؛ تزوّج امرأة من غِفار، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضاً فقال: «الْحَقِي بأهلك» " ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. فهؤلاء اللاتي عقد عليهنّ ولم يدخل بهنّ؛ صلى الله عليه وسلم.
فأما من خطبهنّ فلم يتم نكاحه معهنّ؛ ومن وهبت له نفسها:
فمنهنّ: أم هانىء بنت أبي طالب، واسمها فاختة. خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة مُصْبِيَة واعتذرت إليه فعذرها.
ومنهنّ: ضُباعة بنت عامر.
ومنهنّ: " صفِية بنت بَشامة بن نضلة، خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سِباء، فخيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن شئت أنا وإن شئت زوجك؟» قالت: زوجي. فأرسلها؛ فلعنتها بنو تميم " ؛ قاله ابن عباس.
ومنهنّ: أم شريك. وقد تقدّم ذكرها.
ومنهنّ: ليلى بنت الخَطِيم؛ وقد تقدّم ذكرها.
ومنهنّ: خولة بنت حكيم بن أمية؛ وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرجأها، فتزوّجها عثمان بن مظعون.
ومنهنّ: جَمْرة بنت الحارث بن عَوف المرّي؛ خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءاً ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برِصَت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
ومنهنّ: سودة القرشية؛ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبِية. فقالت: أخاف أن يَضْغُوَ صِبْيَتِي عند رأسك. فحمِدها ودعا لها.
ومنهنّ: امرأة لم يُذكر اسمها. قال مجاهد: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: أستأمر أبي. فلقِيت أباها فأذن لها، فلقِيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قد التحفنا لحافاً غيرك» ". فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان له من السَّراري سُرِّيتان: مارِية القبطية، ورَيْحانة؛ في قول قتادة. وقال غيره: كان له أربع: مارية، ورَيحانة، وأخرى جميلة أصابها في السَّبْي، وجاريةٌ وهبتها له زينب بنت جحش.
الثالثة: قوله تعالى: { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } «إِنْ» شرط، وجوابه «فَتَعَالَيْنَ»؛ فعلق التخيير على شرط. وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان؛ خلافاً للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته: أنتِ طالق إن دخلتِ الدار، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار؛ لأن الطلاق الشرعيّ هو المنجَّز في الحال لا غير.
الرابعة: قوله تعالى: { فَتَعَالَيْنَ } هو جواب الشرط، وهو فعل جماعة النساء، من قولك تعالى؛ وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال: تعالى بمعنى أقبل، وُضع لمن له جلالة ورفعة، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وأما في هذا الموضع فهو على أصله؛ فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. { أُمَتِّعْكُنَّ } قد تقدّم الكلام في المُتْعة في «البقرة». وقرىء «أُمَتِّعُكُنَّ» بضم العين. وكذا «وَأُسَرِّحُكُنّ» بضم الحاء على الاستئناف. والسراح الجميل؛ هو أن يكون طلاقاً للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها.
الخامسة: اختلف العلماء في كيفية تخيير النبيّ صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: الأوّل: أنه خيّرهنّ بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء؛ قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبِيّ وابن شهاب وربيعة. ومنهم من قال: إنما خيرهنّ بين الدنيا فيفارقهنّ، وبين الآخرة فيمسكهنّ؛ لتكون لهنّ المنزلة العليا كما كانت لزوجهنّ؛ ولم يخيرهنّ في الطلاق؛ ذكره الحسن وقتادة. ومن الصحابة عليّ فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.
قلت: القول الأوّل أصح؛ لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا! في رواية: فاخترناه فلم يعدّه طلاقاً.
ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق؛ لذلك قال: " يا عائشة إني ذاكر لكِ أمراً فلا عليك ألاّ تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " الحديث. ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة. فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة، أو النكاح. والله أعلم.
السادسة: اختلف العلماء في المخيَّرة إذا اختارت زوجها؛ فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر؛ هذا قول عمر بن الخطاب وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة. ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب. وروي عن عليّ وزيد أيضاً: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة؛ وهو قول الحسن البصريّ والليث، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. وتعلقوا بأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة؛ كقوله: أنتِ بائن. والصحيح الأوّل؛ لقول عائشة: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه علينا طلاقاً. أخرجه الصحيحان. قال ابن المنذر: وحديث عائشة يدل على أن المخيّرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقاً، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق، ويدل على معنى ثالث، وهو أن المخيَّرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها؛ إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله. وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وبه قال ابن أبي ليلى والثوريّ والشافعيّ. وروي عن عليّ أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. ورواه ابن خُوَيْزِمَنْدَاد عن مالك. وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وهو قول الحسن البصريّ، وبه قال مالك والليث؛ لأن المِلك إنما يكون بذلك. وروي عن عليّ رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء. وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
السابعة: ذهب جماعة من المدنيّين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما جميعاً؛ وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. قال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا، وهو قول جماعة من أهل المدينة. قال أبو عمر: وعلى هذا القول أكثر الفقهاء. والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما؛ وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملّكتك؛ أي قد ملّكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً؛ فلما جاز أن يملّكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القولُ قولَه مع يمينه إذا ناكرها. وقالت طائفة من أهل المدينة: له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها. والأوّل قول مالك في المشهور.
وروى ابن خُوَيْزِمَنْدَاد عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيَّرة في الثلاث، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة. وبه قال أبو الجَهْم. قال سُحْنون: وعليه أكثر أصحابنا.
وتحصيل مذهب مالك: أن المخيّرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له. وإن اختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات، إما أخذته وإما تركته؛ لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى في آية التخيير:
{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً }
[الأحزاب: 28] فمعنى التسريح البتات، قال الله تعالى:
{ ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
[البقرة: 229]. والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة؛ روي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم. ومن جهة المعنى أن قوله: اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألاّ يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها، ولا يملك منها شيئاً؛ إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ، وكانت بمنزل من خُيّر بين شيئين فاختار غيرهما. وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة؛ لأنها تبِين في الحال.
الثامنة: اختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار؛ فقال مرة: لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض. فإن لم تختر ولم تقض شيئاً حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها؛ وعلى هذا أكثر الفقهاء. وقال مرة: لها الخيار أبداً ما لم يعلم أنها تركت؛ وذلك يُعلم بأن تمكّنه من نفسها بوطء أو مباشرة؛ فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئاً كان له رفعهاإلى الحاكم لتوقع أو تسقط، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها. وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها. واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى :
{ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }
[النساء: 140]. وأيضاً فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها، فصار كالعقد بينهما، فإن قبلته وإلا سقط؛ كالذي يقول: قد وهبت لك أو بايعتك، فإن قبل وإلا كان الملك باقياً بحاله. هذا قول الثوريّ والكوفيين والأوزاعيّ والليث والشافعي وأبي ثور، وهو اختيار ابن القاسم. ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها وملَكَته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها.
قلت: وهذا هو الصحيح " لقوله عليه السلام لعائشة: «إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» " رواه الصحيح، وخرّجه البخاريّ، وصححه الترمذيّ. وقد تقدم في أول الباب. وهو حجة لمن قال: إنه إذا خيّر الرجل امرأته أو ملّكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما؛ روي هذا عن الحسن والزُّهريّ، وقاله مالك في إحدى روايتيه. قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا الباب، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجاً من الأمر. قال المَرْوزِيّ: هذا أصح الأقاويل عندي، وقاله ابن المنذر والطّحاويّ.
وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٩٢
لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة، وطلبن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمراً لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، فشَقَّ ذلك على الرسول، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهراً. فأراد اللّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي: ليس لكن في غيرها مطلب، وصرتن ترضين لوجودها، وتغضبن لفقدها، فليس لي فيكن أرب وحاجة، وأنتن بهذه الحال. { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } شيئاً مما عندي من الدنيا { وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي: أفارقكن { سَرَاحاً جَمِيلاً } من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي. { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي: هذه الأشياء مرادكن، وغاية مقصودكن، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله والجنة، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويسرها وعسرها، وقنعتن من رسول اللّه بما تيسر، ولم تطلبن منه ما يشق عليه، { فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول، فإن مجرد ذلك لا يكفي، بل لا يفيد شيئاً مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن. وفي هذا التخيير فوائد عديدة: منها: الاعتناء برسوله وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية. ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع
{ مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ }
[الأحزاب: 38]. ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله والدار الآخرة عنها، وعن مقارنتها. ومنها: سلامة زوجاته رضي اللّه عنهن عن الإثم والتعرض لسخط اللّه ورسوله. فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه. ومنها: إظهار رفعتهن وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار، للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة. ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيبات
{ ٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ }
[النور: 26]. ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه. ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سبباً لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ... }.
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٠٣
يقول الله تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال ابن عباس رضي الله عنهما وهي النشوز وسوء الخلق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى
{ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }
الزمر 65 وكقوله عز وجل
{ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
الأنعام 88
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ }
الزخرف 81
{ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَـٰنَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ }
الزمر 4 فلما كانت محلتهن رفيعة، ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع، ولهذا قال تعالى { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } قال مالك عن زيد بن أسلم { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } قال في الدنيا والآخرة، وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي سهلاً هيناً، ثم ذكر عدله وفضله في قوله { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي يطع الله ورسوله ويستجب، { نُّؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } أي في الجنة فإِنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إِلى العرش.
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٠٣
قوله تعالى: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فيه ثلاث مسائل :
الأولى: قال العلماء: لما اختار نساءُ النبيّ صلى الله عليه وسلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شكرهنّ الله على ذلك فقال تكرمة لهن :
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ }
[الأحزاب: 52] الآية. وبين حكمهن عن غيرهن فقال:
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }
[الأحزاب: 53]. وجعل ثواب طاعتهنّ وعقاب معصيتهنّ أكثر مما لغيرهنّ فقال: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }. فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بفاحشة ـ والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك ـ «يضاعف لها العذاب ضعفين»؛ لشرف منزلتهنّ وفضل درجتهنّ، وتقدّمهنّ على سائر النساء أجمع. وكذلك بيّنت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدّم بيانه غير مرة ـ أنه كلما تضاعفت الحُرُمات فهتِكت تضاعفت العقوبات؛ ولذلك ضُوعف حدّ الحرّ على العبد والثّيب على البكر. وقيل: لما كان أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوِي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن؛ فضوعف لهنّ الأجر والعذاب. وقيل: إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ }
[الأحزاب: 57]. واختار هذا القول الكِيَا الطبري.
الثانية : قال قوم: لو قُدّر الزنى من واحدة منهن ـ وقد أعاذهنّ الله من ذلك ـ لكانت تُحدّ حدّين لعظم قدرها، كما يزاد حدّ الحرة على الأمَة. والعذاب بمعنى الحدّ، قال الله تعالى :
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }
[النور: 2]. وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المِثلين أو المرتين. وقال أبو عبيدة: ضِعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة. وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبريّ عنه؛ فيضاعف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة. وضعّفه الطبري. وكذلك هو غير صحيح وإن كان له باللفظ تعلّق الاحتمال. وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول؛ لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة؛ قاله ابن عطية. وقال النحاس: فرق أبو عمرو بين «يُضَاعف ويضعَّف» قال: «يُضَاعَف» للمرار الكثيرة. و«يضعّف» مرتين. وقرأ «يضعَّف» لهذا. وقال أبو عبيدة: «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ» يجعل ثلاثة أعذبة. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علِمته، والمعنى في «يضاعف ويضعَّف» واحد؛ أي يجعل ضعفين؛ كما تقول: إن دفعت إليّ درهماً دفعت إليك ضِعْفَيه أي مِثْلَيه؛ يعني درهمين.
ويدل على هذا { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ولا يكون العذاب أكثر من الأجر. وقال في موضع آخر
{ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ }
[الأحزاب: 68] أي مثلين. وروى معمر عن قتادة «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ» قال: عذابُ الدنيا وعذاب الآخرة. قال القشيري أبو نصر: الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين؛ لأنه قال: { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }. فأما في الوصايا، لو أوصى لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطَى مِثل نصيبه ثلاث مرات؛ فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس، وكلام الله يردُّ تفسيره إلى كَلام العرب، والضعف في كلام العرب المِثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين. يقال: هذا ضعف هذا؛ أي مثله. وهذا ضعفاه، أي مثلاه؛ فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة؛ قال الله تعالى:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ }
[سبأ: 37] ولم يردِ مِثلاً ولا مِثلين. كل هذا قول الأزهري. وقد تقدم في «النور» الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن؛ والحمد لله.
الثالثة : قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيراً ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ» رفع بها صوته؛ فقيل له في ذلك فقال: «أذكِّرهن العهد». قرأ الجمهور: «مَنْ يَأْتِ» بالياء. وكذلك «مَنْ يَقْنُتْ» حملاً على لفظ «مَن». والقنوت الطاعة؛ وقد تقدم. وقرأ يعقوب: «من تأت» و«تقنت» بالتاء من فوق، حملاً على المعنى. وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله: { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وردت. وقرأ ابن كثِير «مبيَّنةٍ» بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة: «يُضَاعِفْ» بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة «نضاعِف» بالنون المضمومة ونصب «العذاب» وهذه قراءة ابن مُحَيْصِن. وهذه مفاعلة من واحد؛ كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ «يضاعَف» بالياء وفتح العين، «العذابُ» رفعاً. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نُضَعِّف» بالنون وكسر العين المشددة؛ «العذابَ» نصباً. قال مقاتل: هذا التضعيف في العذاب إنما هو في الآخرة؛ لأن إيتاء الأجر مرتين أيضاً في الآخرة. وهذا حسن؛ لأن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدًّا. وقد قال ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبيّ قط، وإنما خانت في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي تُوُعِّدْن به «ضعفين» هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدودُ الدنيا عذابَ الآخرة، على ما هي حال الناس عليه؛ بحكم حديث عُبادة بن الصّامت. وهذا أمر لم يُرْوَ في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة؛ ذكره النحاس.
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأۡتِ مِنكُنَّ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ يُضَٰعَفۡ لَهَا ٱلۡعَذَابُ ضِعۡفَيۡنِۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٠٣
لما اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن اللّه تعالى، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة لها العذاب ضعفين. { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ } أي: تطيع { للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً } قليلاً أو كثيراً، { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين، { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } وهي الجنة، فقنتن للّه ورسوله، وعملن صالحاً، فعلم بذلك أجرهن.
۞ وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا ١٣
يقول الله تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال ابن عباس رضي الله عنهما وهي النشوز وسوء الخلق، وعلى كل تقدير فهو شرط، والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى
{ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }
الزمر 65 وكقوله عز وجل
{ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
الأنعام 88
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَـٰبِدِينَ }
الزخرف 81
{ لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَـٰنَهُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ }
الزمر 4 فلما كانت محلتهن رفيعة، ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع، ولهذا قال تعالى { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } قال مالك عن زيد بن أسلم { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } قال في الدنيا والآخرة، وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله، { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } أي سهلاً هيناً، ثم ذكر عدله وفضله في قوله { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي يطع الله ورسوله ويستجب، { نُّؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } أي في الجنة فإِنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إِلى العرش.
۞ وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا ١٣
قوله تعالى: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فيه ثلاث مسائل :
الأولى: قال العلماء: لما اختار نساءُ النبيّ صلى الله عليه وسلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شكرهنّ الله على ذلك فقال تكرمة لهن :
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ }
[الأحزاب: 52] الآية. وبين حكمهن عن غيرهن فقال:
{ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }
[الأحزاب: 53]. وجعل ثواب طاعتهنّ وعقاب معصيتهنّ أكثر مما لغيرهنّ فقال: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }. فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بفاحشة ـ والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الإفك ـ «يضاعف لها العذاب ضعفين»؛ لشرف منزلتهنّ وفضل درجتهنّ، وتقدّمهنّ على سائر النساء أجمع. وكذلك بيّنت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدّم بيانه غير مرة ـ أنه كلما تضاعفت الحُرُمات فهتِكت تضاعفت العقوبات؛ ولذلك ضُوعف حدّ الحرّ على العبد والثّيب على البكر. وقيل: لما كان أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوِي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن؛ فضوعف لهنّ الأجر والعذاب. وقيل: إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ }
[الأحزاب: 57]. واختار هذا القول الكِيَا الطبري.
الثانية : قال قوم: لو قُدّر الزنى من واحدة منهن ـ وقد أعاذهنّ الله من ذلك ـ لكانت تُحدّ حدّين لعظم قدرها، كما يزاد حدّ الحرة على الأمَة. والعذاب بمعنى الحدّ، قال الله تعالى :
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }
[النور: 2]. وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المِثلين أو المرتين. وقال أبو عبيدة: ضِعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة. وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبريّ عنه؛ فيضاعف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبة. وضعّفه الطبري. وكذلك هو غير صحيح وإن كان له باللفظ تعلّق الاحتمال. وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول؛ لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة؛ قاله ابن عطية. وقال النحاس: فرق أبو عمرو بين «يُضَاعف ويضعَّف» قال: «يُضَاعَف» للمرار الكثيرة. و«يضعّف» مرتين. وقرأ «يضعَّف» لهذا. وقال أبو عبيدة: «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ» يجعل ثلاثة أعذبة. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علِمته، والمعنى في «يضاعف ويضعَّف» واحد؛ أي يجعل ضعفين؛ كما تقول: إن دفعت إليّ درهماً دفعت إليك ضِعْفَيه أي مِثْلَيه؛ يعني درهمين.
ويدل على هذا { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ولا يكون العذاب أكثر من الأجر. وقال في موضع آخر
{ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ }
[الأحزاب: 68] أي مثلين. وروى معمر عن قتادة «يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ» قال: عذابُ الدنيا وعذاب الآخرة. قال القشيري أبو نصر: الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين؛ لأنه قال: { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }. فأما في الوصايا، لو أوصى لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطَى مِثل نصيبه ثلاث مرات؛ فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس، وكلام الله يردُّ تفسيره إلى كَلام العرب، والضعف في كلام العرب المِثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين. يقال: هذا ضعف هذا؛ أي مثله. وهذا ضعفاه، أي مثلاه؛ فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة؛ قال الله تعالى:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ }
[سبأ: 37] ولم يردِ مِثلاً ولا مِثلين. كل هذا قول الأزهري. وقد تقدم في «النور» الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن؛ والحمد لله.
الثالثة : قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيراً ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ» رفع بها صوته؛ فقيل له في ذلك فقال: «أذكِّرهن العهد». قرأ الجمهور: «مَنْ يَأْتِ» بالياء. وكذلك «مَنْ يَقْنُتْ» حملاً على لفظ «مَن». والقنوت الطاعة؛ وقد تقدم. وقرأ يعقوب: «من تأت» و«تقنت» بالتاء من فوق، حملاً على المعنى. وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله: { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وردت. وقرأ ابن كثِير «مبيَّنةٍ» بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة: «يُضَاعِفْ» بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة «نضاعِف» بالنون المضمومة ونصب «العذاب» وهذه قراءة ابن مُحَيْصِن. وهذه مفاعلة من واحد؛ كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ «يضاعَف» بالياء وفتح العين، «العذابُ» رفعاً. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نُضَعِّف» بالنون وكسر العين المشددة؛ «العذابَ» نصباً. قال مقاتل: هذا التضعيف في العذاب إنما هو في الآخرة؛ لأن إيتاء الأجر مرتين أيضاً في الآخرة. وهذا حسن؛ لأن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدًّا. وقد قال ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبيّ قط، وإنما خانت في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي تُوُعِّدْن به «ضعفين» هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدودُ الدنيا عذابَ الآخرة، على ما هي حال الناس عليه؛ بحكم حديث عُبادة بن الصّامت. وهذا أمر لم يُرْوَ في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة؛ ذكره النحاس.
۞ وَمَن يَقۡنُتۡ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا نُّؤۡتِهَآ أَجۡرَهَا مَرَّتَيۡنِ وَأَعۡتَدۡنَا لَهَا رِزۡقٗا كَرِيمٗا ١٣
لما اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، ذكر مضاعفة أجرهن، ومضاعفة وزرهن وإثمهن لو جرى منهن، ليزداد حذرهن، وشكرهن اللّه تعالى، فجعل من أتى منهن بفاحشة ظاهرة لها العذاب ضعفين. { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ } أي: تطيع { للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً } قليلاً أو كثيراً، { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي: مثل ما نعطي غيرها مرتين، { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } وهي الجنة، فقنتن للّه ورسوله، وعملن صالحاً، فعلم بذلك أجرهن.
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٢٣
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساءُ الأمة تبع لهن في ذلك، فقال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إِذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن، فإِنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال تعالى { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } قال السدي وغيره يعني بذلك ترقيق الكلام إِذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي دغل، { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن زيد قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي لاتخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها. وقوله تعالى { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } أي إلزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله، وليخرجن وهن تفلات " وفي رواية " وبيوتهن خير لهن " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة، حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال جئن النساء إِلى رسول الله، فقلن يارسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قعدت ــــ أو كلمة نحوها ــــ منكن في بيتها، فإِنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى " ثم قال لا نعلم رواه عن ثابت إِلا روح بن المسيب، وهو رجل من أهل البصرة مشهور. وقال البزار أيضاً حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة عن مورّق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إِن المرأة عورة، فإِذا خرجت، استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها، وهي في قعر بيتها " رواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإِسناده المتقدم، وأبو داوود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها " وهذا إِسناد جيد. وقوله تعالى { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال مجاهد كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } يقول إِذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن جرير حدثني ابن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود يعني بن أبي الفرات، حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تلا هذه الآية { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال كانت فيما بين نوح وإِدريس، وكانت ألف سنة، وإِن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً، وفي النساء دَمامة. وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دَمامة، وإِن إِبليس لعنه الله أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، فاتخذ إِبليس شيئاً من مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله، فانتابوهم يسمعون إِليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إِليه في السنة، فيتبرج النساء للرجال، قال ويتزين الرجال لهن، وإِن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه، فأخبرهم بذلك، فتحولوا إِليهن، فنزلوا معهن، وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله تعالى { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }. وقوله تعالى { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } نهاهن أولاً عن الشر، ثم أمرهن بالخير من إِقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإِيتاء الزكاة، وهي الإحسان إِلى المخلوقين، { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، إِما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وهكذا روى ابن أبي حاتم قال حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } قال نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإِن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح، وإِن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففيه نظر، فإِنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك الحديث الأول قال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إِذا خرج إِلى صلاة الفجر يقول
" الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به. وقال حسن غريب. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا يونس عن أبي إِسحاق، أخبرني أبو داود عن أبي الحمراء قال رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا طلع الفجر، جاء إِلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما، فقال " الصلاة الصلاة، إِنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب. حديث آخر وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا شداد أبو عمار قال دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وعنده قوم، فذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه، فشتمته معهم، فلما قاموا قال لي شتمت هذا الرجل؟ قلت قد شتموه فشتمته معهم، ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت بلى، قال أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه، فقالت توجه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم، آخذ كل واحدٍ منهما بيده حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة رضي الله عنهما، وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً رضي الله عنهما كل واحد منها على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه، أو قال كساءه، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق ". وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه، زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه فقلت وأنا يا رسول الله صلى الله عليك من أهلك؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت من أهلي " قال واثلة رضي الله عنه وإِنها من أرجى ما أرتجي. ثم رواه أيضاً عن عبد الأعلى بن واصل عن الفضل بن دكين، عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد أبي عمار قال إِني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، إِذ ذكروا علياً رضي الله عنه، فشتموه، فلما قاموا، قال اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إِني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له، ثم قال لهم
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قلت يارسول الله وأنا؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت " قال فوالله إِنها لأوثق عمل عندي. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه بها، فقال صلى الله عليه وسلم لها " ادعي زوجك وابنيك " قالت فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له، وكان تحته صلى الله عليه وسلم كساء خيبري، قالت وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت رضي الله عنها فأخذ صلى الله عليه وسلم فضل الكساء، فغطاهم به، ثم أخرج يده، فألوى بها إِلى السماء ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قالت فأدخلت رأسي البيت، فقلت وأنا معكم يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إِنك إِلى خير، إِنك إِلى خير " في إِسناده من لم يسم، وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقداد، حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت جاءت فاطمة رضي الله عنها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت رضي الله عنها في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم " ادعيهم " ، فجاءت إِلى علي رضي الله عنه فقالت أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وابناك، قالت أم سلمة رضي الله عنها فلما رآهم مقبلين، مد صلى الله عليه وسلم يده إِلى كساء كان على المنامة، فمده وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه فقال :
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها، فقالت في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بيتي، فقال " لاتأذني لأحد " فجاءت فاطمة رضي الله عنها، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن رضي الله عنه، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، ثم جاء الحسين، فلم أستطع أن أحجبه عن جده صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها، ثم جاء علي رضي الله عنه، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت فقلت يارسول الله وأنا؟ قالت فوالله ماأنعم، وقال " إِنك إِلى خير ". طريق أخرى قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال إِن أم سلمة رضي الله عنها حدثته قالت بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يوماً، إِذ قالت الخادم إِن فاطمة وعلياً رضي الله عنهما بالسدة، قالت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " قومي فتنحي عن أهل بيتي " قالت فقمت فتنحيت في البيت قريباً، فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما، واعتنق علياً رضي الله عنه بإِحدى يديه، وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى، وقبل فاطمة، وقبل علياً، وأغدق عليهم خميصة سوداء، وقال " اللهم إِليك لا إِلى النار أنا وأهل بيتي " قالت فقلت وأنا يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم " وأنت ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت إِن هذه الآية نزلت في بيتي { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت وأنا جالسة على باب البيت، فقلت يارسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إِنك إِلى خير، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " قالت وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
طريق أخرى رواها ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها بنحوه. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد، حدثني موسى بن يعقوب، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إِلى الله عز وجل ثم قال " هؤلاء أهل بيتي " قالت أم سلمة رضي الله عنها فقلت يارسول الله أدخلني معهم، فقال صلى الله عليه وسلم " أنت من أهلي ". طريق أخرى رواه ابن جرير أيضاً عن أحمد بن محمد الطوسي، عن عبد الرحمن بن صالح، عن محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء، عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها، بنحو ذلك. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مصعب بن المقداد، حدثنا سعيد بن زربي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن أم سلمة قالت جاءت فاطمة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه فقال " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت في البيت، فقال " ادعيهم " ، فجاءت إِلى علي فقالت أجبْ رسول الله أنت وابناك. قالت أم سلمة فلما رآهم مقبلين، مد يده إِلي كساء كان على المنامة، فَمده، وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه، فقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة، فقالت في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي بيتي، فقال " لا تأذني لأحد " فجاءت فاطمة، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن، فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، ثم جاء علي، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجَلّلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال :
" هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت فقلت يارسول الله، وأنا؟ قالت فوالله ما أنعم، وقال " إِنك إِلى خير ". حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع محمد بن بشير عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت قالت عائشة رضي الله عنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرطٌ مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن رضي الله عنه، فأدخله معه، ثم جاء الحسين، فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة، فأدخلها معه، ثم جاء علي رضي الله عنه، فأدخله معه، ثم قال صلى الله عليه وسلم " { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } " رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به. طريق أخرى قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث، حدثنا محمد بن يزيد عن العوام، يعني ابن حوشب رضي الله عنه، عن عم له قال دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن علي رضي الله عنه، فقالت رضي الله عنها تسألني عن رجل كان من أحب الناس إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحته ابنته، وأحب الناس إِليه؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم، فألقى عليهم ثوباً فقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً " قالت فدنوت منهم فقلت يارسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم " تنحي فإِنك على خير ". حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي، حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } " قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم. وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا بكير بن مسمار قال سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال قال سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي، فأخذ علياً وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم، فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال
" رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي ". حديث آخر وقال مسلم في " صحيحه " حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد جميعاً عن ابن علية، قال زهير حدثنا إِسماعيل بن إِبراهيم، حدثني أبو حيان، حدثني يزيد بن حبان قال انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إِلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إِليه، قال له حصين لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا، ومالا فلا تكلفونيه، ثم قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال " أما بعد، ألا أيها الناس فإِنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل، ورغب فيه، ثم قال " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " ثلاثاً، فقال له حصين ومن أهل بيته يازيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال ومن هم؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم، قال كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال نعم. ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان عن حسان بن إِبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وفيه فقلت له من أهل بيته، نساؤه؟ قال لا، وايم الله إِن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إِلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى، والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه، إِنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إِن صحت، فإِن في بعض أسانيدها نظراً، والله أعلم، ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } فإِن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغير واحد، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإِنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
قال بعض العلماء رحمه الله لأنه لم يتزوج بكراً سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العليا، ولكن إِذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " وهذا مايشبه ماثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال " هو مسجدي هذا " فهذا من هذا القبيل، فإِن الآية إِنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إِذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك، والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة قال إِن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما، قال فبينما هو يصلي، إِذ وثب عليه رجل، فطعنه بخنجره، وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد، وحسن رضي الله عنه ساجد. قال فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه، فمرض منها أشهراً، ثم برأ، فقعد على المنبر فقال يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإِنا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إِلا وهو يحن بكاءً. وقال السدي عن أبي الديلم قال قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من أهل الشام أما قرأت في الأحزاب { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }؟ فقال نعم، ولأنتم هم؟ قال نعم.
وقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك، وخصكن بذلك. قال ابن جرير رحمه الله واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي ذا لطف بكن، إِذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة، وهي السنة. خبيراً بكن، إِذ اختاركن لرسوله أزواجاً. وقال قتادة { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } قال يمتن عليهن بذلك، رواه ابن جرير. وقال عطية العوفي في قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } يعني لطيفاً باستخراجها، خبيراً بموضعها، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال وكذا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة.
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٢٣
قوله تعالى: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } يعني في الفضل والشرف. وقال: «كَأَحَدٍ» ولم يقل كواحدة؛ لأن أحداً نفي من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدميّ؛ يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. وإنما خصص النساء بالذكر لأن فيمن تقدم آسية ومريم. وقد أشار إلى هذا قتادة؛ وقد تقدّم في «آل عمران» الاختلاف في التفضيل بينهن، فتأمله هناك. ثم قال: { إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } أي خفتن الله. فبيّن أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى؛ لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن.
قوله تعالى: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } في موضع جزم بالنهي؛ إلا أنه مبنيّ كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه؛ أي لا تلنّ القول. أمرهن الله أن يكون قولهن جزلاً وكلامهن فصلاً، ولا يكون على وجه يُظهر في القلب علاقة بما يَظهر عليه من اللين؛ كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه؛ مثل كلام المريبات والمومسات. فنهاهن عن مثل هذا.
قوله تعالى: { فَيَطْمَعَ } بالنصب على جواب النهي. { ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي شك ونفاق؛ عن قتادة والسُّدِّي. وقيل: تشوف لفجور، وهو الفسق والغَزَل؛ قاله عكرمة. وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ «فَيَطْمِع» بفتح الياء وكسر الميم. النحاس: أحسب هذا غلطاً، وأن يكون قرأ «فيطمَعِ» بفتح الميم وكسر العين بعطفه على «تَخْضَعْنَ» فهذا وجه جيد حسن. ويجوز «فيُطْمِع» بمعنى فيطمع الخضوع أو القول.
قوله تعالى: { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرّمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول من غير رفع صوت؛ فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام. وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.
يَٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسۡتُنَّ كَأَحَدٖ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيۡتُنَّۚ فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ وَقُلۡنَ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٢٣
يقول تعالى: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } اللّه، فإنكن بذلك تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها. فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح، [فإن القلب الصحيح]، ليس فيه شهوة لما حرم اللّه، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه وسلامته من المرض. بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِين لهم القول. ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي: غير غليظ ولا جاف، كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع. وتأمل كيف قال: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } ولم يقل: " فلا تلِنَّ بالقول " وذلك لأن المنهي عنه القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلاماً ليناً ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم، فإن هذا لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين، فقال:
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ }
[آل عمران: 159] وقال لموسى وهارون:
{ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ }
[طه: 43-44]. ودلَّ قوله: { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام مَنْ يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض. فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به. { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي: اقررن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه. ولما أمرهن بالتقوى عموماً، وبجزئيات من التقوى، نص عليها [لحاجة] النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصاً الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة الإحسان إلى العبيد.
ثم أمرهن بالطاعة عموماً، فقال: { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله، كل أمر أمرا به أمر إيجاب أو استحباب. { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما نهاكُنَّ عنه، { لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ } أي: الأذى والشر والخبث، يا { أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } حتى تكونوا طاهرين مطهرين. أي: فاحمدوا ربكم واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها وأنها محض مصلحتكم، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجاً ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم. ولما أمرهن بالعمل الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبيَّن لهن طريقه، فقال: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } والمراد بآيات اللّه، القرآن. والحكمة، أسراره. أو سُنّة رسوله. وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر. فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة اللّه على تلك الأعمال. ومن معاني " اللطيف " الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر، بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق ما لا يدريه، ويريه من الأسباب التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقاً [له] إلى أعلى الدرجات، وأرفع المنازل.
وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساءُ الأمة تبع لهن في ذلك، فقال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إِذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن، فإِنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال تعالى { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } قال السدي وغيره يعني بذلك ترقيق الكلام إِذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي دغل، { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن زيد قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي لاتخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها. وقوله تعالى { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } أي إلزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله، وليخرجن وهن تفلات " وفي رواية " وبيوتهن خير لهن " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة، حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال جئن النساء إِلى رسول الله، فقلن يارسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قعدت ــــ أو كلمة نحوها ــــ منكن في بيتها، فإِنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى " ثم قال لا نعلم رواه عن ثابت إِلا روح بن المسيب، وهو رجل من أهل البصرة مشهور. وقال البزار أيضاً حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة عن مورّق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إِن المرأة عورة، فإِذا خرجت، استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها، وهي في قعر بيتها " رواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإِسناده المتقدم، وأبو داوود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها " وهذا إِسناد جيد. وقوله تعالى { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال مجاهد كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } يقول إِذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن جرير حدثني ابن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود يعني بن أبي الفرات، حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تلا هذه الآية { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال كانت فيما بين نوح وإِدريس، وكانت ألف سنة، وإِن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً، وفي النساء دَمامة. وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دَمامة، وإِن إِبليس لعنه الله أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، فاتخذ إِبليس شيئاً من مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله، فانتابوهم يسمعون إِليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إِليه في السنة، فيتبرج النساء للرجال، قال ويتزين الرجال لهن، وإِن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه، فأخبرهم بذلك، فتحولوا إِليهن، فنزلوا معهن، وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله تعالى { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }. وقوله تعالى { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } نهاهن أولاً عن الشر، ثم أمرهن بالخير من إِقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإِيتاء الزكاة، وهي الإحسان إِلى المخلوقين، { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، إِما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وهكذا روى ابن أبي حاتم قال حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } قال نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإِن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح، وإِن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففيه نظر، فإِنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك الحديث الأول قال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إِذا خرج إِلى صلاة الفجر يقول
" الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به. وقال حسن غريب. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا يونس عن أبي إِسحاق، أخبرني أبو داود عن أبي الحمراء قال رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا طلع الفجر، جاء إِلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما، فقال " الصلاة الصلاة، إِنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب. حديث آخر وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا شداد أبو عمار قال دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وعنده قوم، فذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه، فشتمته معهم، فلما قاموا قال لي شتمت هذا الرجل؟ قلت قد شتموه فشتمته معهم، ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت بلى، قال أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه، فقالت توجه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم، آخذ كل واحدٍ منهما بيده حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة رضي الله عنهما، وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً رضي الله عنهما كل واحد منها على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه، أو قال كساءه، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق ". وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه، زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه فقلت وأنا يا رسول الله صلى الله عليك من أهلك؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت من أهلي " قال واثلة رضي الله عنه وإِنها من أرجى ما أرتجي. ثم رواه أيضاً عن عبد الأعلى بن واصل عن الفضل بن دكين، عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد أبي عمار قال إِني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، إِذ ذكروا علياً رضي الله عنه، فشتموه، فلما قاموا، قال اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إِني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له، ثم قال لهم
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قلت يارسول الله وأنا؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت " قال فوالله إِنها لأوثق عمل عندي. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه بها، فقال صلى الله عليه وسلم لها " ادعي زوجك وابنيك " قالت فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له، وكان تحته صلى الله عليه وسلم كساء خيبري، قالت وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت رضي الله عنها فأخذ صلى الله عليه وسلم فضل الكساء، فغطاهم به، ثم أخرج يده، فألوى بها إِلى السماء ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قالت فأدخلت رأسي البيت، فقلت وأنا معكم يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إِنك إِلى خير، إِنك إِلى خير " في إِسناده من لم يسم، وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقداد، حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت جاءت فاطمة رضي الله عنها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت رضي الله عنها في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم " ادعيهم " ، فجاءت إِلى علي رضي الله عنه فقالت أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وابناك، قالت أم سلمة رضي الله عنها فلما رآهم مقبلين، مد صلى الله عليه وسلم يده إِلى كساء كان على المنامة، فمده وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه فقال :
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها، فقالت في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بيتي، فقال " لاتأذني لأحد " فجاءت فاطمة رضي الله عنها، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن رضي الله عنه، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، ثم جاء الحسين، فلم أستطع أن أحجبه عن جده صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها، ثم جاء علي رضي الله عنه، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت فقلت يارسول الله وأنا؟ قالت فوالله ماأنعم، وقال " إِنك إِلى خير ". طريق أخرى قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال إِن أم سلمة رضي الله عنها حدثته قالت بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يوماً، إِذ قالت الخادم إِن فاطمة وعلياً رضي الله عنهما بالسدة، قالت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " قومي فتنحي عن أهل بيتي " قالت فقمت فتنحيت في البيت قريباً، فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما، واعتنق علياً رضي الله عنه بإِحدى يديه، وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى، وقبل فاطمة، وقبل علياً، وأغدق عليهم خميصة سوداء، وقال " اللهم إِليك لا إِلى النار أنا وأهل بيتي " قالت فقلت وأنا يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم " وأنت ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت إِن هذه الآية نزلت في بيتي { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت وأنا جالسة على باب البيت، فقلت يارسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إِنك إِلى خير، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " قالت وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
طريق أخرى رواها ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها بنحوه. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد، حدثني موسى بن يعقوب، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إِلى الله عز وجل ثم قال " هؤلاء أهل بيتي " قالت أم سلمة رضي الله عنها فقلت يارسول الله أدخلني معهم، فقال صلى الله عليه وسلم " أنت من أهلي ". طريق أخرى رواه ابن جرير أيضاً عن أحمد بن محمد الطوسي، عن عبد الرحمن بن صالح، عن محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء، عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها، بنحو ذلك. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مصعب بن المقداد، حدثنا سعيد بن زربي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن أم سلمة قالت جاءت فاطمة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه فقال " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت في البيت، فقال " ادعيهم " ، فجاءت إِلى علي فقالت أجبْ رسول الله أنت وابناك. قالت أم سلمة فلما رآهم مقبلين، مد يده إِلي كساء كان على المنامة، فَمده، وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه، فقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة، فقالت في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي بيتي، فقال " لا تأذني لأحد " فجاءت فاطمة، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن، فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، ثم جاء علي، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجَلّلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال :
" هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت فقلت يارسول الله، وأنا؟ قالت فوالله ما أنعم، وقال " إِنك إِلى خير ". حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع محمد بن بشير عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت قالت عائشة رضي الله عنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرطٌ مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن رضي الله عنه، فأدخله معه، ثم جاء الحسين، فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة، فأدخلها معه، ثم جاء علي رضي الله عنه، فأدخله معه، ثم قال صلى الله عليه وسلم " { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } " رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به. طريق أخرى قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث، حدثنا محمد بن يزيد عن العوام، يعني ابن حوشب رضي الله عنه، عن عم له قال دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن علي رضي الله عنه، فقالت رضي الله عنها تسألني عن رجل كان من أحب الناس إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحته ابنته، وأحب الناس إِليه؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم، فألقى عليهم ثوباً فقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً " قالت فدنوت منهم فقلت يارسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم " تنحي فإِنك على خير ". حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي، حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } " قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم. وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا بكير بن مسمار قال سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال قال سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي، فأخذ علياً وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم، فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال
" رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي ". حديث آخر وقال مسلم في " صحيحه " حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد جميعاً عن ابن علية، قال زهير حدثنا إِسماعيل بن إِبراهيم، حدثني أبو حيان، حدثني يزيد بن حبان قال انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إِلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إِليه، قال له حصين لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا، ومالا فلا تكلفونيه، ثم قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال " أما بعد، ألا أيها الناس فإِنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل، ورغب فيه، ثم قال " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " ثلاثاً، فقال له حصين ومن أهل بيته يازيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال ومن هم؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم، قال كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال نعم. ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان عن حسان بن إِبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وفيه فقلت له من أهل بيته، نساؤه؟ قال لا، وايم الله إِن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إِلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى، والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه، إِنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إِن صحت، فإِن في بعض أسانيدها نظراً، والله أعلم، ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } فإِن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغير واحد، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإِنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
قال بعض العلماء رحمه الله لأنه لم يتزوج بكراً سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العليا، ولكن إِذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " وهذا مايشبه ماثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال " هو مسجدي هذا " فهذا من هذا القبيل، فإِن الآية إِنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إِذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك، والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة قال إِن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما، قال فبينما هو يصلي، إِذ وثب عليه رجل، فطعنه بخنجره، وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد، وحسن رضي الله عنه ساجد. قال فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه، فمرض منها أشهراً، ثم برأ، فقعد على المنبر فقال يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإِنا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إِلا وهو يحن بكاءً. وقال السدي عن أبي الديلم قال قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من أهل الشام أما قرأت في الأحزاب { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }؟ فقال نعم، ولأنتم هم؟ قال نعم.
وقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك، وخصكن بذلك. قال ابن جرير رحمه الله واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي ذا لطف بكن، إِذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة، وهي السنة. خبيراً بكن، إِذ اختاركن لرسوله أزواجاً. وقال قتادة { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } قال يمتن عليهن بذلك، رواه ابن جرير. وقال عطية العوفي في قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } يعني لطيفاً باستخراجها، خبيراً بموضعها، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال وكذا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة.
وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣
قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } فيه أربع مسائل :
الأولى: قوله تعالى: { وَقَرْنَ } قرأ الجمهور «وَقِرن» بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار؛ تقول؛ وقَرَ يَقِر وَقاراً أي سكن، والأمر قِرْ، وللنساء قِرْن، مثل عِدْن وزِنّ. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار؛ تقول: قَرَرَت بالمكان (بفتح الراء) أقِرّ، والأصل أقْرِرن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفاً؛ كما قالوا في ظَلَلت: ظِلت، ومَسَسْت: مِسْت، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو عليّ: بل على أن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف؛ كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه؛ فالتقدير: إقْيِرْن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير «قِرْن». وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قرِرت في المكان إذا أقمت فيه (بكسر الراء) أَقَرّ (بفتح القاف)؛ من باب حمِد يَحْمَد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في «الغريب المصنف» عن الكسائي، وهو من أجلّ مشايخه، وذكرها الزجاج وغيره، والأصل «إِقْرَرْن» حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف فتقول: قَرْن. قال الفراء: هو كما تقول: أَحَسْتَ صاحبك؛ أي هل أَحْسَسْت. وقال أبو عثمان المازني: قَرِرت به عيناً (بالكسر لا غير)، من قُرّة العين. ولا يجوز قَرِرت في المكان (بالكسر) وإنما هو قَرَرت (بفتح الراء)، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فيستدلّ بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة. وذهب أبو حاتم أيضاً أن «قَرْن» لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: وأمّا قول أبي حاتم: «لا مذهب له» فقد خولف فيه، وفيه مذهبان: أحدهما ما حكاه الكِسائي، والآخر ما سمعت عليّ بن سليمان يقول، قال: وهو من قَرِرْتُ به عَيْناً أَقَر، والمعنى: واقررن به عَيْناً في بيوتكن. وهو وجه حسن؛ إلا أن الحديث يدلّ على أنه من الأول. كما روي أن عماراً قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تَقَرِّي في منزلك؛ فقالت: يا أبا اليَقْظان، ما زلتَ قوّالاً بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وقرأ ابن أبي عَبْلة «واقْرِرن» بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة.
الثانية: معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء؛ كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة؛ على ما تقدم في غير موضع.
فأمر الله تعالى نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهنّ، وخاطبهنّ بذلك تشريفاً لهنّ، ونهاهنّ عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }. وقد تقدّم معنى التبرج في «النور». وحقيقته إظهار ما ستره أحسن؛ وهو مأخوذ من السَّعة، يقال: في أسنانه بَرَج إذا كانت متفرّقة؛ قاله المبرد. واختلف الناس في «الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى»؛ فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدّرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقال الحكم بن عُيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وحُكيت لهم سِير ذميمة. وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس. الكلبيّ: ما بين نوح وإبراهيم. قيل: إن المرأة كانت تلبس الدّرع من اللؤلؤ غير مَخِيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها. وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى. الشعبي: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. أبو العالية: هي زمان داود وسليمان؛ كان فيه للمرأة قميص من الدرّ غير مخيط الجانبين. وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يُظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخِلّها، فينفرد خِلّها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل. وقال مجاهد: كان النساء يتمشّين بين الرجال، فذلك التبرج. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحِقنها، فأمِرْن بالنّقلة عن سيرتهنّ فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غَيْرة عندهم؛ وكان أمر النساء دون حجاب، وجَعْلُهَا أولى بالنسبة إلى ما كنّ عليه؛ وليس المعنى أن ثَمّ جاهلية أخرى. وقد أوقِع اسم الجاهلية على تلك المدّة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهليّ في الشعراء. وقال ابن عباس في البخاريّ: سمعت أبي في الجاهلية يقول؛ إلى غير هذا.
قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قَشَف وضَنْك في الغالب، وأن التنعم وإظهارَ الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهنّ من المِشية على تَغْنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً. وذلك يشمل الأقوال كلّها ويعمّها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكنّ على تبذُّل وتستُّر تام. والله الموفق.
الثالثة: ذكر الثعلبيّ وغيره: أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تَبُلّ خمارها. وذكر أن سَوْدة قيل لها: لم لا تحجّين ولا تَعْتَمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقرّ في بيتي.
قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان لله عليها! قال ابن العربي: لقد دخلت نَيِّفاً على ألف قرية، فما رأيت نساء أصْون عيالاً ولا أعفّ نساء من نساء نابلس، التي رُمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم بالنار؛ فإن أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهاراً إلا يوم الجمعة فإنهنّ يخرجن إليها حتى يمتلىء المسجد منهنَّ، فإذا قُضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهنّ لم تقع عيني على واحدة منهنّ إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهنّ حتى استشهدن فيه.
الرابعة: قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذٍ قال لها عمّار: إن الله قد أمرك أن تَقرِّي في بيتك. قال ابن العربي: تعلق الرافضة ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا: إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش، وتباشر الحروب، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها. قالوا: ولقد حُصر عثمان، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقرّبت لتخرج إلى مكة؛ فقال لها مَرْوان: أقيمي هنا يا أمّ المؤمنين، وردّي هؤلاء الرّعاع؛ فإن الإصلاح بين الناس خير من حَجّك. قال ابن العربي قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن عائشة رضي الله عنها، نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها؛ ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صواباً لها. وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكَوْا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجَوْا بركتها، وطمِعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق، وظنّت هي ذلك فخرجت مقتدية بالله في قوله :
{ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ }
[النساء : 114]، وقوله :
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا }
[الحجرات: 9]. والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى؛ حُرّ أو عبد. فلم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان، فعمَد بعضهم إلى الجمل فعرقبه، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة رضي الله تعالى عنها، فاحتملها إلى البصرة، وخرجت في ثلاثين امرأة، قَرَنَهُنّ عليٌّ بها حتى أوصلوها إلى المدينة بَرَّةً تقيّة مجتهدة، مصيبة مثابة فيما تأوّلت، مأجورة فيما فعلت؛ إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب. وقد تقدّم في «النحل» اسم هذا الجمل، وبه يعرف ذلك اليوم.
قوله تعالى: { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي فيما أمر ونهى. { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته؛ على ما يأتي بيانه بعدُ. و«أَهْلَ الْبَيْتِ» نصب على المدح. قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب؛ لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } مصدر فيه معنى التوكيد.
وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا ٣٣
يقول تعالى: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } اللّه، فإنكن بذلك تفقن النساء، ولا يلحقكن أحد من النساء، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها. فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم، فقال: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي: في مخاطبة الرجال، أو بحيث يسمعون فتَلِنَّ في ذلك، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح، [فإن القلب الصحيح]، ليس فيه شهوة لما حرم اللّه، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه وسلامته من المرض. بخلاف مريض القلب، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح، ولا يصبر على ما يصبر عليه، فأدنى سبب يوجد، يدعوه إلى الحرام، يجيب دعوته، ولا يتعاصى عليه، فهذا دليل على أن الوسائل لها أحكام المقاصد. فإن الخضوع بالقول واللين فيه، في الأصل مباح، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم، منع منه، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال، أن لا تلِين لهم القول. ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي: غير غليظ ولا جاف، كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع. وتأمل كيف قال: { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } ولم يقل: " فلا تلِنَّ بالقول " وذلك لأن المنهي عنه القول اللين، الذي فيه خضوع المرأة للرجل، وانكسارها عنده، والخاضع هو الذي يطمع فيه، بخلاف من تكلم كلاماً ليناً ليس فيه خضوع، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم، فإن هذا لا يطمع فيه خصمه، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين، فقال:
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ }
[آل عمران: 159] وقال لموسى وهارون:
{ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ }
[طه: 43-44]. ودلَّ قوله: { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام مَنْ يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض. فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به. { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي: اقررن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لَكُنَّ، { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى، الذين لا علم عندهم ولا دين، فكل هذا دفع للشر وأسبابه. ولما أمرهن بالتقوى عموماً، وبجزئيات من التقوى، نص عليها [لحاجة] النساء إليها، كذلك أمرهن بالطاعة، خصوصاً الصلاة والزكاة، اللتان يحتاجهما ويضطر إليهما كل أحد، وهما أكبر العبادات، وأجل الطاعات، وفي الصلاة الإخلاص للمعبود، وفي الزكاة الإحسان إلى العبيد.
ثم أمرهن بالطاعة عموماً، فقال: { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يدخل في طاعة اللّه ورسوله، كل أمر أمرا به أمر إيجاب أو استحباب. { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ } بأمركن بما أَمَرَكُنَّ به، ونهيكن بما نهاكُنَّ عنه، { لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ } أي: الأذى والشر والخبث، يا { أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } حتى تكونوا طاهرين مطهرين. أي: فاحمدوا ربكم واشكروه على هذه الأوامر والنواهي، التي أخبركم بمصلحتها وأنها محض مصلحتكم، لم يرد اللّه أن يجعل عليكم بذلك حرجاً ولا مشقة، بل لتتزكى نفوسكم، ولتتطهر أخلاقكم، وتحسن أعمالكم، ويعظم بذلك أجركم. ولما أمرهن بالعمل الذي هو فعل وترك، أمرهن بالعلم، وبيَّن لهن طريقه، فقال: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } والمراد بآيات اللّه، القرآن. والحكمة، أسراره. أو سُنّة رسوله. وأمرهن بذكره، يشمل ذكر لفظه، بتلاوته، وذكر معناه، بتدبره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله. { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر. فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة اللّه على تلك الأعمال. ومن معاني " اللطيف " الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر، بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق ما لا يدريه، ويريه من الأسباب التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقاً [له] إلى أعلى الدرجات، وأرفع المنازل.
وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٤٣
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساءُ الأمة تبع لهن في ذلك، فقال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إِذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن، فإِنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال تعالى { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } قال السدي وغيره يعني بذلك ترقيق الكلام إِذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي دغل، { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن زيد قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي لاتخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها. وقوله تعالى { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } أي إلزمن بيوتكن، فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله، وليخرجن وهن تفلات " وفي رواية " وبيوتهن خير لهن " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة، حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال جئن النساء إِلى رسول الله، فقلن يارسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قعدت ــــ أو كلمة نحوها ــــ منكن في بيتها، فإِنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى " ثم قال لا نعلم رواه عن ثابت إِلا روح بن المسيب، وهو رجل من أهل البصرة مشهور. وقال البزار أيضاً حدثنا محمد بن المثنى، حدثني عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة عن مورّق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إِن المرأة عورة، فإِذا خرجت، استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها، وهي في قعر بيتها " رواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإِسناده المتقدم، وأبو داوود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها " وهذا إِسناد جيد. وقوله تعالى { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال مجاهد كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } يقول إِذا خرجتن من بيوتكن، وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك.
وقال مقاتل بن حيان { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن جرير حدثني ابن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود يعني بن أبي الفرات، حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال تلا هذه الآية { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال كانت فيما بين نوح وإِدريس، وكانت ألف سنة، وإِن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِباحاً، وفي النساء دَمامة. وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دَمامة، وإِن إِبليس لعنه الله أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، فاتخذ إِبليس شيئاً من مثل الذي يزمر فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله، فانتابوهم يسمعون إِليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إِليه في السنة، فيتبرج النساء للرجال، قال ويتزين الرجال لهن، وإِن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه، فأخبرهم بذلك، فتحولوا إِليهن، فنزلوا معهن، وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله تعالى { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ }. وقوله تعالى { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } نهاهن أولاً عن الشر، ثم أمرهن بالخير من إِقامة الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإِيتاء الزكاة، وهي الإحسان إِلى المخلوقين، { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً، إِما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وهكذا روى ابن أبي حاتم قال حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } قال نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإِن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن، فصحيح، وإِن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففيه نظر، فإِنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك الحديث الأول قال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إِذا خرج إِلى صلاة الفجر يقول
" الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به. وقال حسن غريب. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبو نعيم، حدثنا يونس عن أبي إِسحاق، أخبرني أبو داود عن أبي الحمراء قال رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا طلع الفجر، جاء إِلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما، فقال " الصلاة الصلاة، إِنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً " أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب. حديث آخر وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، حدثنا شداد أبو عمار قال دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وعنده قوم، فذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه، فشتمته معهم، فلما قاموا قال لي شتمت هذا الرجل؟ قلت قد شتموه فشتمته معهم، ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت بلى، قال أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه، فقالت توجه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم، آخذ كل واحدٍ منهما بيده حتى دخل، فأدنى علياً وفاطمة رضي الله عنهما، وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسناً وحسيناً رضي الله عنهما كل واحد منها على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه، أو قال كساءه، ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، وأهل بيتي أحق ". وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم، عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه، زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه فقلت وأنا يا رسول الله صلى الله عليك من أهلك؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت من أهلي " قال واثلة رضي الله عنه وإِنها من أرجى ما أرتجي. ثم رواه أيضاً عن عبد الأعلى بن واصل عن الفضل بن دكين، عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد أبي عمار قال إِني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، إِذ ذكروا علياً رضي الله عنه، فشتموه، فلما قاموا، قال اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إِني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له، ثم قال لهم
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قلت يارسول الله وأنا؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت " قال فوالله إِنها لأوثق عمل عندي. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه بها، فقال صلى الله عليه وسلم لها " ادعي زوجك وابنيك " قالت فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم، فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له، وكان تحته صلى الله عليه وسلم كساء خيبري، قالت وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت رضي الله عنها فأخذ صلى الله عليه وسلم فضل الكساء، فغطاهم به، ثم أخرج يده، فألوى بها إِلى السماء ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قالت فأدخلت رأسي البيت، فقلت وأنا معكم يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إِنك إِلى خير، إِنك إِلى خير " في إِسناده من لم يسم، وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا مصعب بن المقداد، حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت جاءت فاطمة رضي الله عنها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت رضي الله عنها في البيت، فقال صلى الله عليه وسلم " ادعيهم " ، فجاءت إِلى علي رضي الله عنه فقالت أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وابناك، قالت أم سلمة رضي الله عنها فلما رآهم مقبلين، مد صلى الله عليه وسلم يده إِلى كساء كان على المنامة، فمده وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه فقال :
" اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها، فقالت في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بيتي، فقال " لاتأذني لأحد " فجاءت فاطمة رضي الله عنها، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن رضي الله عنه، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، ثم جاء الحسين، فلم أستطع أن أحجبه عن جده صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها، ثم جاء علي رضي الله عنه، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت فقلت يارسول الله وأنا؟ قالت فوالله ماأنعم، وقال " إِنك إِلى خير ". طريق أخرى قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال إِن أم سلمة رضي الله عنها حدثته قالت بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يوماً، إِذ قالت الخادم إِن فاطمة وعلياً رضي الله عنهما بالسدة، قالت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " قومي فتنحي عن أهل بيتي " قالت فقمت فتنحيت في البيت قريباً، فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم، وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما، واعتنق علياً رضي الله عنه بإِحدى يديه، وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى، وقبل فاطمة، وقبل علياً، وأغدق عليهم خميصة سوداء، وقال " اللهم إِليك لا إِلى النار أنا وأهل بيتي " قالت فقلت وأنا يارسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم " وأنت ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب، حدثنا الحسن بن عطية، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت إِن هذه الآية نزلت في بيتي { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت وأنا جالسة على باب البيت، فقلت يارسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إِنك إِلى خير، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " قالت وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم.
طريق أخرى رواها ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها بنحوه. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد، حدثني موسى بن يعقوب، حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إِلى الله عز وجل ثم قال " هؤلاء أهل بيتي " قالت أم سلمة رضي الله عنها فقلت يارسول الله أدخلني معهم، فقال صلى الله عليه وسلم " أنت من أهلي ". طريق أخرى رواه ابن جرير أيضاً عن أحمد بن محمد الطوسي، عن عبد الرحمن بن صالح، عن محمد بن سليمان الأصبهاني، عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء، عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها، بنحو ذلك. طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا مصعب بن المقداد، حدثنا سعيد بن زربي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن أم سلمة قالت جاءت فاطمة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة، تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه فقال " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت في البيت، فقال " ادعيهم " ، فجاءت إِلى علي فقالت أجبْ رسول الله أنت وابناك. قالت أم سلمة فلما رآهم مقبلين، مد يده إِلي كساء كان على المنامة، فَمده، وبسطه، وأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله، فضمه فوق رؤوسهم، وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه، فقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ". طريق أخرى قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب عند أم سلمة، فقالت في بيتي نزلت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي بيتي، فقال " لا تأذني لأحد " فجاءت فاطمة، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن، فلم أستطع أن أحجبه عن أمه وجده، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، ثم جاء علي، فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجَلّلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال :
" هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت فقلت يارسول الله، وأنا؟ قالت فوالله ما أنعم، وقال " إِنك إِلى خير ". حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع محمد بن بشير عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت قالت عائشة رضي الله عنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرطٌ مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن رضي الله عنه، فأدخله معه، ثم جاء الحسين، فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة، فأدخلها معه، ثم جاء علي رضي الله عنه، فأدخله معه، ثم قال صلى الله عليه وسلم " { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } " رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به. طريق أخرى قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث، حدثنا محمد بن يزيد عن العوام، يعني ابن حوشب رضي الله عنه، عن عم له قال دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن علي رضي الله عنه، فقالت رضي الله عنها تسألني عن رجل كان من أحب الناس إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحته ابنته، وأحب الناس إِليه؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم، فألقى عليهم ثوباً فقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً " قالت فدنوت منهم فقلت يارسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم " تنحي فإِنك على خير ". حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي، حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } " قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم. وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو بكر الحنفي، حدثنا بكير بن مسمار قال سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال قال سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي، فأخذ علياً وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم، فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال
" رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي ". حديث آخر وقال مسلم في " صحيحه " حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد جميعاً عن ابن علية، قال زهير حدثنا إِسماعيل بن إِبراهيم، حدثني أبو حيان، حدثني يزيد بن حبان قال انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إِلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إِليه، قال له حصين لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا، ومالا فلا تكلفونيه، ثم قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال " أما بعد، ألا أيها الناس فإِنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله تعالى، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل، ورغب فيه، ثم قال " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " ثلاثاً، فقال له حصين ومن أهل بيته يازيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال ومن هم؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم، قال كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال نعم. ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان عن حسان بن إِبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، فذكر الحديث بنحو ما تقدم، وفيه فقلت له من أهل بيته، نساؤه؟ قال لا، وايم الله إِن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إِلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى، والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه، إِنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إِن صحت، فإِن في بعض أسانيدها نظراً، والله أعلم، ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } فإِن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة، قاله قتادة وغير واحد، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة، فإِنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
قال بعض العلماء رحمه الله لأنه لم يتزوج بكراً سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، فناسب أن تخصص بهذه المزية، وأن تفرد بهذه المرتبة العليا، ولكن إِذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " وهذا مايشبه ماثبت في " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال " هو مسجدي هذا " فهذا من هذا القبيل، فإِن الآية إِنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إِذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك، والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة قال إِن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما، قال فبينما هو يصلي، إِذ وثب عليه رجل، فطعنه بخنجره، وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد، وحسن رضي الله عنه ساجد. قال فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه، فمرض منها أشهراً، ثم برأ، فقعد على المنبر فقال يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإِنا أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إِلا وهو يحن بكاءً. وقال السدي عن أبي الديلم قال قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من أهل الشام أما قرأت في الأحزاب { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً }؟ فقال نعم، ولأنتم هم؟ قال نعم.
وقوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة، وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك، وخصكن بذلك. قال ابن جرير رحمه الله واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي ذا لطف بكن، إِذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة، وهي السنة. خبيراً بكن، إِذ اختاركن لرسوله أزواجاً. وقال قتادة { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ } قال يمتن عليهن بذلك، رواه ابن جرير. وقال عطية العوفي في قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } يعني لطيفاً باستخراجها، خبيراً بموضعها، رواه ابن أبي حاتم، ثم قال وكذا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة.
وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٤٣
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه. وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، من هم؟ فقال عطاء وعِكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصّةً، لا رجل معهن. وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ }. وقالت فرقة منهم الكَلْبِيّ: هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصة؛ وفي هذا أحاديث عن النبيّ عليه السلام، واحتجُّوا بقوله تعالى: { لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ } بالميم، ولو كان للنساء خاصة لكان «عنكنّ ويطهركنّ»؛ إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل؛ كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك؛ أي امرأتك ونساؤك؛ فيقول: هم بخير؛ قال الله تعالى :
{ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ رَحْمَةُ ٱللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ }
[هود: 73].
والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم. وإنما قال: { وَيُطَهِّرَكُمْ } لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَلِيًّا وحَسَناً وحُسَيْناً كان فيهم، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غُلّب المذكر؛ فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت، لأن الآية فيهنّ، والمخاطبة لهنّ، يدلّ عليه سياق الكلام. والله أعلم. أما أن " أمّ سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمة وحَسَناً وحُسَيْناً، فدخل معهم تحت كساءٍ خَيْبَرِيّ وقال: «هؤلاء أهل بيتي» ـ وقرأ الآية ـ وقال: «اللهم أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» فقالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنتِ على مكانك وأنتِ على خير» " أخرجه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث غريب. وقال القشيري: " وقالت أمّ سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: «نعم» " وقال الثعلبي: هم بنو هاشم، فهذا يدل على أن البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم. وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم أجمعين. وعلى قول الكَلْبي يكون قوله: { وَٱذْكُـرْنَ } ابتداء مخاطبة الله تعالى، أي مخاطبة أمر الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهنّ من آيات الله تعالى والحكمة. قال أهل العلم بالتأويل: «آيَاتِ اللَّهِ» القرآن. «وَالْحِكْمَة» السنة. والصحيح أن قوله: { وَٱذْكُـرْنَ } منسوق على ما قبله. وقال: «عنكم» لقوله: «أهل» فالأهل مذكر؛ فسماهنّ ـ وإن كنّ إناثاً ـ باسم التذكير فلذلك صار «عنكم». ولا اعتبار بقول الكلبي وأشباهه، فإنه توجد له أشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه.
فالآيات كلها من قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ـ إلى قوله ـ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } منسوق بعضها على بعض، فكيف صار في الوسط كلاماً منفصلاً لغيرهن! وإنما هذا شيء جرى في الأخبار " أن النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، فعمَد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفّها عليهم، ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: «اللَّهُم هؤلاء أهل بيتي اللَّهُمَّ أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» " فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية، أحبَّ أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيّرها لهم خاصّة، وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل.
الثانية: لفظ الذِّكْر يحتمل ثلاثة معان: أحدها: أي اذكرن موضع النعمة، إذ صيّركن الله في بيوت تُتلى فيها آيات الله والحكمة. الثاني: اذكرن آيات الله واقدرن قدرها، وفكِّرن فيها حتى تكون منكن على بالٍ لتتعِظن بمواعظ الله تعالى، ومن كان هذا حاله ينبغي أن تحسن أفعاله. الثالث: «اذكرن» بمعنى احفظن واقرأْن والزمنه الألسنة، فكأنه يقول: احفظن أوامر الله تعالى ونواهيه، وذلك هو الذي يُتلى في بيوتكن من آيات الله. فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس، فيعملوا ويقتدوا. وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدِّين.
الثالثة: قال ابن العربي: في هذه الآية مسألة بديعة، وهي أن الله تعالى أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن؛ وتعليم ما علِمه من الدين؛ فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من سمعه أن يبلغه إلى غيره، ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة، ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا ولا كان كذا؛ ولهذا قلنا: يجوز العمل بخبر بُسْرة في إيجاب الوضوء من مسّ الذكر؛ لأنها رَوَت ما سمعت وبلّغت ما وَعَت. ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال، كما قال أبو حنيفة، على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر.
وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ٤٣
وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً
إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٣
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عثمان بن حكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شيبة قال سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قلت للنبي صلى الله عليه وسلم مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت فلم يرعني منه ذات يوم إِلا ونداؤه على المنبر، وأنا أسرح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إِلى حجرتي حجرة بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإِذا هو يقول عند المنبر " يا أيها الناس إِن الله تعالى يقول { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } " إِلى آخر الآية، وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به مثله. طريق أخرى عنها قال النسائي أيضاً حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا سويد، أخبرنا عبد الله بن شريك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يانبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن، والنساء لا يذكرن؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي معاوية، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أيذكر الرجال في كل شيء ولا نذكر؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } الآية. طريق أخرى قال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قالت أم سلمة رضي الله عنها يارسول الله يذكر الرجال ولانذكر، فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } الآية. حديث آخر قال ابن جرير حدثنا أبو كريب قال حدثنا سيار بن مظاهر العنزي، حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ماله يذكر المؤمنين ولايذكر المؤمنات؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } الآية، وحدثنا بشر حدثنا يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن قد ذكركن الله تعالى في القرآن، ولم نذكر بشيء، أما فينا ما يذكر؟ فأنزل الله تعالى { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } الآية، فقوله تعالى { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَـٰتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخص منه لقوله تعالى
{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَـٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ }
الحجرات 14. وفي " الصحيحين " " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فيسلبه الإيمان، ولايلزم من ذلك كفره بإِجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه كما قررناه أولاً في شرح البخاري. وقوله تعالى { وَٱلْقَـٰنِتِينَ وَٱلْقَـٰنِتَـٰتِ } القنوت هو الطاعة في سكون
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ }
الزمر 9 وقال تعالى
{ وَلَهُ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـٰنِتُونَ }
الروم 26
{ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِى لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِى وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلرَٰكِعِينَ }
آل عمران 43
{ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ }
البقرة 238 فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إِليها، وهو الإيمان، ثم القنوت ناشىء عنهما، { وَٱلصَّـٰدِقِينَ وَٱلصَّـٰدِقَـٰتِ } هذا في الأقوال، فإِن الصدق خصلة محمودة، ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرب عليهم كذبة، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب أمارة على النفاق، ومن صدق نجا، " عليكم بالصدق فإِن الصدق يهدي إِلى البر، وإِن البر يهدي إِلى الجنة، وإِياكم والكذب، فإِن الكذب يهدي إِلى الفجور، وإِن الفجور يهدي إِلى النار، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ". والأحاديث فيه كثيرة جداً، { وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَٱلصَّـٰبِرَٰتِ } هذه سجية الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة، وتلقي ذلك بالصبر والثبات وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أصعبه في أول وهلة، ثم مابعده أسهل منه، وهو صدق السجية وثباتها، { وَٱلْخَـٰشِعِينَ وَٱلْخَـٰشِعَـٰتِ } الخشوع السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار، والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث " اعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه، فإِنه يراك " ، { وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ وَٱلْمُتَصَدِّقَـٰتِ } الصدقة هي الإحسان إِلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم، ولا كاسب، يعطون من فضول الأموال طاعة لله، وإِحساناً إِلى خلقه. وقد ثبت في " الصحيحين " " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله ــــ فذكر منهم ــــ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وفي الحديث الآخر " والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار " والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً له موضع بذاته، { وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ } وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه " والصوم زكاة البدن " أي يزكيه ويطهره، وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً كما قال سعيد بن جبير من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، دخل في قوله تعالى { وٱلصَّـٰئِمِينَ وٱلصَّـٰئِمَـٰتِ } ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإِنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم فإِنه له وجاء " ناسب أن يذكر بعده { وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ } أي عن المحارم والمآثم، إِلا عن المباح كما قال عز وجل
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَٰجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ }
المؤمنون 5 ــــ 7. وقوله تعالى { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ } قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عبيد الله، حدثنا محمد بن جابر عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إِذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا ركعتين، كُتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات " وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال قلت يارسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم " الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " قال قلت يارسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى؟ قال " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دماً، لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه ". وقال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا عبد الرحمن بن إِبراهيم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة، فأتى على جمدان، فقال " هذا جمدان، سيروا، فقد سبق المفردون " قالوا وما المفردون؟ قال صلى الله عليه وسلم " الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " ثم قال صلى الله عليه وسلم " اللهم اغفر للمحلقين " قالوا والمقصرين؟ قال صلى الله عليه وسلم " اللهم اغفر للمحلقين " قالوا والمقصرين؟ قال " والمقصرين " تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم دون آخره. وقال الإمام أحمد حدثنا حجين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال إِنه بلغني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ماعمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عز وجل " وقال معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا بلى يارسول الله، قال صلى الله عليه وسلم " ذكر الله عز وجل ". وقال الإمام أحمد حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إِن رجلاً سأله فقال أي المجاهدين أعظم أجراً يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " أكثرهم لله تعالى ذكراً " قال فأي الصائمين أكثر أجراً؟ قال صلى الله عليه وسلم " أكثرهم لله عزّ وجل ذكراً " ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة، كل ذلك يقول رسول الله " أكثرهم لله ذكراً " فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أجل " وسنذكر إِن شاء الله تعالى بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }
الأحزاب 41 ــــ 42 الآية، إِن شاء الله تعالى. وقوله تعالى { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم، أي إن الله تعالى قد أعد لهم، أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم، وأجراً عظيماً، وهو الجنة.
إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٣
فيه مسألتان:
الأولى: روى الترمذي عن أمّ عُمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء! فنزلت هذه الآية: { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } الآية. هذا حديث حسن غريب. و«الْمُسْلِمِينَ» اسم «إنّ». «وَالْمُسْلِمَاتِ» عطف عليه. ويجوز رفعهن عند البصريين، فأما الفرّاء فلا يجوز عنده إلا فيما لا يتبين فيه الإعراب.
الثانية: بدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإسلام الذي يعمّ الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصاً له وتنبيهاً على أنه عُظْم الإسلام ودِعامته. والقانت: العابد المطيع. والصادق: معناه فيما عُوهِدَ عليه أن يفي به. والصابر عن الشهوات وعلى الطاعات في المَكْره والمَنْشَط. والخاشع: الخائف لله. والمتصدّق بالفرض والنفل. وقيل: بالفرض خاصّة؛ والأوّل أمدح. والصائم كذلك. { وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَٱلْحَافِـظَاتِ } أي عما لا يحلّ من الزنى وغيره. وفي قوله: { وَٱلْحَافِـظَاتِ } حذف يدل عليه المتقدّم، تقديره: والحافظاتها، فاكتفى بما تقدّم. وفي { وَٱلذَّاكِرَاتِ } أيضاً مثله، ونظيره قول الشاعر:
وكُمْتاً مُدَمّاة كأن متونها جرى فوقها واستشعرتْ لَوْنُ مُذْهَبِ
وروى سيبويه: «لَوْنَ مُذْهَبِ» بالنصب. وإنما يجوز الرفع على حذف الهاء، كأنه قال: واستشعرته؛ فيمن رفع لوناً. والذاكر قيل في أدبار الصلوات وغُدُوًّا وعَشِيًّا، وفي المضاجع وعند الانتباه من النوم. وقد تقدّم هذا كله مفصلاً في مواضعه، وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام، فأغنى عن الإعادة. والحمد للَّهِ رب العالمين. قال مجاهد: لا يكون ذاكراً للَّهِ تعالى كثيراً حتى يذكره قائماً وجالساً ومضطجعاً. وقال أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه: من أيقظ أهله بالليل وصلّيَا أربع ركعات كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٣
لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى اللّه عليه وسلم وعقابهن [لو قدر عدم الامتثال] وأنه ليس مثلهن أحد من النساء، ذكر بقية النساء غيرهن. ولما كان حكمهن والرجال واحداً، جعل الحكم مشتركاً، فقال: { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } وهذا في الشرائع الظاهرة، إذا كانوا قائمين بها. { وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } وهذا في الأمور الباطنة، من عقائد القلب وأعماله. { وَٱلْقَانِتِينَ } أي: المطيعين للّه ولرسوله { وَٱلْقَانِتَاتِ وَٱلصَّادِقِينَ } في مقالهم وفعالهم { وَٱلصَّادِقَاتِ } { وَٱلصَّابِرِينَ } على الشدائد والمصائب { وَٱلصَّابِرَاتِ وَٱلْخَاشِعِينَ } في جميع أحوالهم، خصوصاً في عباداتهم، خصوصاً في صلواتهم، { وَٱلْخَاشِعَاتِ } { وَٱلْمُتَصَدِّقِينَ } فرضاً ونفلاً { وَٱلْمُتَصَدِّقَاتِ وٱلصَّائِمِينَ وٱلصَّائِمَاتِ } شمل ذلك الفرض والنفل. { وَٱلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ } عن الزنا ومقدماته { وَٱلْحَافِـظَاتِ } { وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ [كَثِيراً } أي:] في أكثر الأوقات، خصوصاً أوقات الأوراد المقيدة، كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات { وَٱلذَّاكِرَاتِ }. { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم } أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجازاهم على عملهم بالمغفرة لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات. { وَأَجْراً عَظِيماً } لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل اللّه أن يجعلنا منهم.
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٦٣
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، فخطبها، فقالت لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلى فانكحيه " قالت يارسول الله أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان، أنزل الله هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } الآية، قالت قد رضيته لي يارسول الله منكحاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " قالت إِذاً لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي. وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فاستنكفت منه وقالت أنا خير منه حسباً، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } الآية كلها، وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان إنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فامتنعت ثم أجابت. وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، وكانت أول من هاجر من النساء، يعني بعد صلح الحديبية، فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد قبلت، فزوجها زيد ابن حارثة رضي الله عنه، بعد فراقه زينب، فسخطت هي وأخوها، وقالا إِنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده، قال فنزل القرآن { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } إِلى آخر الآية، قال وجاء أمر أجمع من هذا
{ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
الأحزاب 6 قال فذاك خاص، وهذا أجمع. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه، قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إِلى أبيها، فقال حتى أستأمر أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فنعم إِذاً " قال فانطلق الرجل إِلى امرأته، فذكر ذلك لها، قالت لاها الله إذن، ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا جليبيباً، وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال والجارية في سترها تسمع، قال فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، إِن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه، قال فكأنها جلت عن أبويها، وقالا صدقت، فذهب أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إِن كنت رضيته، فقد رضيناه، قال صلى الله عليه وسلم
" فإِني قد رضيته " قال فزوجها، ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس رضي الله عنه فلقد رأيتها وإِنها لمن أنفق بيت بالمدينة. وقال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا حماد، يعني ابن سلمة، عن ثابت عن كنانة بن نعيم العدوي، عن أبي برزة الأسلمي قال إِن جليبيباً كان امرأ يدخل على النساء، يمر بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي لا تدخلن اليوم عليكن جليبيباً، فإِنه إِن دخل عليكن، لأفعلن ولأفعلن، قالت وكانت الأنصار إِذا كان لأحدهم أيم، لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار " زوجني ابنتك " قال نعم وكرامة يارسول الله ونعمة عين، فقال صلى الله عليه وسلم " إِني لست أريدها لنفسي " قال فلمن يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " لجليبيب " فقال يارسول الله أشاور أمها، فأتى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك؟ فقالت نعم ونعمة عين، فقال إِنه ليس يخطبها لنفسه، إِنما يخطبها لجليبيب، قالت أجليبيب إنيه؟ أجليبيب إنيه؟! لا لعمر الله لا نزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها، قالت الجارية من خطبني إِليكم؟ فأخبرتها أمها، قالت أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ ادفعوني إِليه، فإِنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال شأنك بها، فزوجها جليبيباً، قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له، فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه رضي الله عنهم " هل تفقدون من أحد؟ " قالوا نفقد فلاناً، ونفقد فلاناً، قال صلى الله عليه وسلم " انظروا هل تفقدون من أحد " قالوا لا. قال صلى الله عليه وسلم " لكنني أفقد جليبيباً " قال صلى الله عليه وسلم " فاطلبوه في القتلى " فطلبوه، فوجدوه إِلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فقالوا يارسول الله هاهوذا إِلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال " قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه "
مرتين أو ثلاثاً، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه، وحفر له، ما له سرير إِلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه، قال ثابت رضي الله عنه فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحديث إِسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قال " اللهم صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً " وكذا كان، فما كان في الأنصار أيم أنفق منها، هكذا أورده الإمام أحمد بطوله، وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب " أن الجارية لما قالت في خدرها أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ نزلت هذه الآية { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }. وقال ابن جريج أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال إِنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر، فنهاه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إِذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا، ولا رأي ولا قول كما قال تبارك وتعالى
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }
النساء 65 وفي الحديث " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناًَ } كقوله تعالى
{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
النور 63.
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٦٣
فيه أربع مسائل:
الأولى: روى قتادة وابن عباس ومجاهد في سبب نزول هذه الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب زينب بنت جحش، وكانت بنت عمته، فظنّت أن الخطبة لنفسه، فلما تبيّن أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت؛ فنزلت الآية. فأذعنت زينب حينئذٍ وتزوّجته. في رواية: فامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها من قريش، وأن زيداً كان بالأمس عبداً، إلى أن نزلت هذه الآية، فقال له أخوها: مُرْني بما شئت، فزوّجها من زيد. وقيل: إنها نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط، وكانت وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فزوّجها من زيد بن حارثة؛ فكرهت ذلك هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجَنا غيره؛ فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد؛ قاله ابن زيد. وقال الحسن: ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا أمر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر أن يعصياه.
الثانية: لفظ «ما كان، وما ينبغي» ونحوهما، معناها الحظر والمنع. فتجيء لحظر الشيء والحكم بأنه لا يكون؛ كما في هذه الآية. وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلاً كقوله تعالى:
{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا }
[النمل: 60]. وربما كان العلم بامتناعه شرعاً كقوله تعالى:
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ }
[آل عمران : 79]، وقوله تعالى :
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ }
[الشورى: 51]. وربما كان في المندوبات؛ كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تترك النوافل، ونحو هذا.
الثالثة: في هذه الآية دليل بل نص في أن الكفاءة لا تعتبر في الأحساب وإنما تعتبر في الأديان؛ خلافاً لمالك والشافعيّ والمغيرة وسُحْنون. وذلك أن الموالي تزوّجت في قريش؛ تزوّج زيد زينب بنت جحش. وتزوّج المِقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير. وزوّج أبو حذيفة سالماً من فاطمة بنت الوليد بن عُتبة. وتزوّج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف. وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع.
الرابعة: قوله تعالى: { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } قرأ الكوفيون: «أَنْ يَكُونَ» بالياء. وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنه قد فرق بين المؤنث وبين فعله. الباقون بالتاء؛ لأن اللفظ مؤنث (فتأنيث) فعله حسن. والتذكير على أن الخِيرة بمعنى التخيير؛ فالخِيرة مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السَّمَيْقعَ «الخِيْرة» بإسكان الياء. وهذه الآية في ضمن قوله تعالى:
{ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
[الأحزاب: 6]. ثم توعد تعالى وأخبر أن من يعص الله ورسوله فقد ضل. وهذا أدل دليل على ما ذهب إليه الجمهور من فقهائنا، وفقهاء أصحاب الإمام الشافعي وبعض الأصوليين، من أن صيغة «أفعل» للوجوب في أصل وضعها؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى خيرة المكلّف عند سماع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم أطلق على من بقيت له خيرة عند صدور الأمر اسم المعصية، ثم علّق على المعصية بذلك الضلالَ، فلزم حمل الأمر على الوجوب. والله أعلم.
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٦٣
أي: لا ينبغي ولا يليق ممن اتصف بالإيمان، إلاّ الإسراع في مرضاة اللّه ورسوله، والهرب من سخط اللّه ورسوله، وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } من الأمور، وحتَّما به وألزما به { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة، أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجاباً بينه وبين أمر اللّه ورسوله. { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } أي: بَيِّناً، لأنه ترك الصراط المستقيم الموصلة إلى كرامة اللّه، إلى غيرها من الطرق الموصلة للعذاب الأليم، فذكر أولاً السبب الموجب لعدم معارضته أمر اللّه ورسوله، وهو الإيمان، ثم ذكر المانع من ذلك، وهو التخويف بالضلال، الدال على العقوبة والنكال.
وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا ٧٣
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهو الذي أنعم الله عليه، أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي بالعتق من الرق، وكان سيداً كبير الشأن، جليل القدر، حبيباً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب، ويقال لابنه أسامة الحب بن الحب، قالت عائشة رضي الله عنها ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إِلا أمره عليهم، ولو عاش بعده لاستخلفه، رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد ابن عبيد عن وائل بن داود عن عبد الله البهي عنها. وقال البزار حدثنا خالد بن يوسف، حدثنا أبو عوانة، " ح " وحدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو داود، حدثنا أبو عوانة، أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال كنت في المسجد، فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقالا ياأسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت علي والعباس يستأذنان، فقال صلى الله عليه وسلم " أتدري ما حاجتهما؟ " قلت لا يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم " لكني أدري " قال فأذن لهما، قالا يارسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إِليك؟ قال صلى الله عليه وسلم " أحب أهلي إِلي فاطمة بنت محمد " قالا يا رسول الله ما نسألك عن فاطمة، قال صلى الله عليه وسلم " فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه، وأنعمت عليه " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها، وأمها أميمة بنت عبد المطلب، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهماً، وخماراً وملحفة ودرعاً، وخمسين مداً من طعام، وعشرة أمداد من تمر، قاله مقاتل بن حيان، فمكثتُ عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما، فجاء زيد يشكوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له " أمسك عليك زوجك، واتق الله " قال الله تعالى { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم، أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها، فلا نوردها. وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً.
وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إِن هذه الآية { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في زيد، حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن هذه الآية { وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا } نزلت في شأن زينب بنت حجش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق، حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } فذكرت له، فقال لا، ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إِليه، قال " اتق الله وأمسك عليك زوجك " فقال قد أخبرتك أني مزوجكها، وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثنا إِسحاق بن شاهين، حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إِليه من كتاب الله تعالى، لكتم { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } وقوله تعالى { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر هو الحاجة والأرب، أي لما فرغ منها وفارقها، زوجناكها، وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل، بمعنى أنه أوحى إِليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولامهر ولا شهود من البشر. قال الإمام أحمد حدثنا هاشم، يعني ابن القاسم، أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة " اذهب فاذكرها علي " فانطلق حتى أتاها، وهي تخمر عجينها، قال فلما رأيتها، عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إِليها وأقول إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت يازينب أبشري، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إِلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن، ويقلن يارسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا، أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، ووعظ القوم بما وعظوا به
{ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ }
الأحزاب 53 الآية كلها، ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به. وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إِن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي، فتقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سمٰوات، وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما، فقالت زينب رضي الله عنها أنا الذي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها أنا التي نزل عذري من السماء، فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إِني لأدل عليك بثلاث، وما من نسائك امرأة تدل بهن إِن جدي وجدك واحد، وإِني أنكحنيك الله عز وجل من السماء، وإِن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي إِنما أبحنا لك تزويجها، وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه، فكان يقال له زيد بن محمد، فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمَْ } ــــ إِلى قوله تعالى ــــ { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها، لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولهذا قال تعالى في آية التحريم
{ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ }
النساء 23 ليحترز من الابن الدعي، فإِن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه، وهو كائن لامحالة، كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا ٧٣
فيه تسع مسائل :
الأولى : روى الترمذيّ قال: حدّثنا عليّ بن حجر قال: حدثنا داود بن الزِّبْرقان عن داود بن أبي هند عن الشعبيّ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } يعني بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالعتق فأعتقته. { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ـ إلى قوله ـ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوّجها قالوا: تزوّج حلِيلة ابنه، فأنزل الله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ }. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبنَّاه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب قد روي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها. قالت: لو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } هذا الحرف لم يُرْوَ بطوله.
قلت: هذا القدر الذي أخرجه مسلم في صحيحه، وهو الذي صححه الترمذي في جامعه. وفي البخاريّ عن أنس بن مالك: أن هذه الآية: { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة وقال عمر وابن مسعود وعائشة والحسن: ما أنزل الله على رسوله آية أشدّ عليه من هذه الآية. وقال الحسن وعائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدّتها عليه. وروي في الخبر أنه: أمسى زيد فأوى إلى فراشه، قالت زينب: ولم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما منعه الله مني، فلا يقدر عليّ. هذه رواية أبي عِصْمة نوح بن أبي مريم، رفع الحديث إلى زينب أنها قالت ذلك. وفي بعض الروايات: " أن زيداً تورّم ذلك منه حين أراد أن يقربها؛ فهذا قريب من ذلك. وجاء زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن زينب تؤذيني بلسانها وتفعل وتفعل! وإني أريد أن أطلقها، فقال له: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } الآية. فطلّقها زيد فنزلت: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } الآية ".
واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره ـ إلى " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عِصْمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلّقها زيد فيتزوّجها هو؛ ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غِلظةَ قولٍ وعصيان أمرٍ، وأذًى باللسان وتعظُّماً بالشرف، قال له: «اتق الله ـ أي فيما تقول عنها ـ وأمسك عليك زوجك» " وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إيّاها. وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. وقال مقاتل: " زوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد فمكثت عنده حيناً، ثم إنه عليه السلام أتى زيداً يوماً يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتمّ نساء قريش، فهوِيَها وقال: «سبحان الله مقلّبِ القلوب»! فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطِن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبراً، تعظُم عليّ وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: «أمسك عليك زوجك واتقِ الله». وقيل: إن الله بعث ريحاً فرفعت الستر وزينب مُتَفَضِّلة في منزلها، فرأى زينب فوقعت في نفسه، ووقع في نفس زينب أنها وقعت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء يطلب زيداً، فجاء زيد فأخبرته بذلك، فوقع في نفس زيد أن يطلقها " وقال ابن عباس: { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ } الحبَّ لها. { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } أي تستحييهم. وقيل: تخاف وتكره لائمة المسلمين لو قلتَ طلِّقها، ويقولون أمر رجلاً بطلاق امرأته ثم نكحها حين طلقها. { وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } في كل الأحوال. وقيل: والله أحق أن تستحيي منه، ولا تأمر زيداً بإمساك زوجته بعد أن أعلمك الله أنها ستكون زوجتك، فعاتبه الله على جميع هذا. وروي عن عليّ بن الحسين: " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوّجها بتزويج الله إياها، فلما تشكّى زيد للنبيّ صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: «اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك» " وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوّجها، وهذا هو الذي أخفى في نفسه، ولم يرد أن يأمره بالطلاق لِما علم أنه سيتزوّجها؛ وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوّج زينب بعد زيد، وهو مولاه، وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشِي الناس في شيء قد أباحه الله له؛ بأن قال: " أَمْسِكْ " مع علمه بأنه يطلّق.
وأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي في كل حال. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين؛ كالزهريّ والقاضي بكر بن العلاء القشيريّ، والقاضي أبي بكر بن العربيّ وغيرهم. والمراد بقوله تعالى: { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } إنما هو إرجاف المنافقين بأنه نَهَى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج بزوجة ابنه. فأما ما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هَوِي زينب امرأة زيد ـ وربما أطلق بعض المُجّان لفظ عَشِق ـ فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخِفّ بحرمته. قال الترمذيّ الحكيم في نوادر الأصول، وأسند إلى عليّ ابن الحسين قولَه: فعليّ بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهراً من الجواهر، ودُرًّا من الدّرَر، أنه إنما عَتَبَ الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد: " أمسك عليك زوجك " وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوّج امرأة ابنه؛ والله أحق أن تخشاه. وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم خطيئة؛ ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه. وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن الناس.
الثانية : قال ابن العربيّ: فإن قيل لأيّ معنى قال له: " أمسِك عليك زوجك " وقد أخبره الله أنها زوجه. قلنا: أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله من رغبته فيها أو رغبته عنها؛ فأبدى له زيد من النُّفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها. فإن قيل: كيف يأمره بالتمسك بها وقد علم أن الفراق لا بدّ منه؟ وهذا تناقض. قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة؛ لإقامة الحجة ومعرفة العاقبة؛ ألا ترى أن الله تعالى يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلَّق الأمر لمتعلّق العلم ما يمنع من الأمر به عقلاً وحكماً. وهذا من نفيس العلم فتيقنوه وتقبلوه وقوله: " وَاتَّقِ اللَّهَ " أي في طلاقها، فلا تطلّقها. وأراد نهي تنزيه لا نهي تحريم، لأن الأولى ألا يطلق. وقيل: " اتَّقِ اللَّهَ " فلا تذمّها بالنسبة إلى الكِبْر وأذى الزوج. { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ } قيل تعلّق قلبه. وقيل: مفارقة زيد إياها. وقيل: علمه بأن زيداً سيطلقها؛ لأن الله قد أعلمه بذلك.
الثالثة : روي " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لزيد: «ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ» قال: فذهبت وولّيتها ظهري توقيراً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وخطبتها ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامِرَ ربيّ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، فتزوّجها النبيّ صلى الله عليه وسلم ودخل بها ".
قلت: معنى هذا الحديث ثابت في الصحيح. وترجم له النسائي (صلاة المرأة إذا خُطبت واستخارتها ربّها) روى الأئمة ـ واللفظ لمسلم ـ عن أنس قال: " لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «فاذكرها عليّ» قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تُخَمّر عجينها. قال: فلما رأيتها عَظُمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فولّيتها ظهري، ونَكَصْتُ على عقبي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك؛ قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامِر ربّي؛ فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. قال: فقال ولقد رأيتُنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتدّ النهار... " الحديث. في رواية «حتى تركوه». وفي رواية " عن أنس أيضاً قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلَم على امرأة من نسائه ما أوْلَمَ على زينب؛ فإنه ذبح شاة " قال علماؤنا: فقوله عليه السلام لزيد: " فاذكرها عليّ " أي اخطبها؛ كما بيَّنه الحديث الأول. وهذا امتحان لزيد واختبار له، حتى يظهر صبره وانقياده وطوعه.
قلت: وقد يستنبط من هذا أن يقول الإنسان لصاحبه: اخطب عليّ فلانة، لزوجه المطلقة منه، ولا حرج في ذلك. والله أعلم.
الرابعة : لمّا وكَلَت أمرها إلى الله وصحّ تفويضها إليه تولّى الله إنكاحها؛ ولذلك قال: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا }. وروى الإمام جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم " وَطَراً زَوَّجْتُكَها " ولما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن، ولا تجديد عقد ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطاً في حقوقنا ومشروعاً لنا. وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، التي لا يشاركه فيها أحد بإجماع من المسلمين. ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكنّ آباؤكنّ وزوّجني الله تعالى. أخرجه النسائي عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تَفْخَر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول: إن الله عز وجل أنكحني من السماء. وفيها نزلت آية الحجاب؛ وسيأتي.
الخامسة : المُنْعَم عليه في هذه الآية هو زيد بن حارثة، كما بيناه؛ وقد تقدّم خبره في أوّل السورة. " وروي أن عمّه لقيَه يوماً وكان قد ورد مكة في شغل له، فقال: ما اسمك يا غلام؟ قال: زيد؛ قال: ابن من؟ قال: ابن حارثة. قال ابن من؟ قال: ابن شراحيل الكلبي. قال: فما اسم أمّك؟ قال: سُعْدَى، وكنت في أخوالي طيّ؛ فضمّه إلى صدره. وأرسل إلى أخيه وقومه فحضروا، وأرادوا منه أن يقيم معهم؛ فقالوا: لمن أنت؟ قال: لمحمد بن عبد الله؛ فأتَوْه وقالوا: هذا ابننا فردّه علينا. فقال: «أعْرِضُ عليه فإن اختاركم فخذوا بيده» فبعث إلى زيد وقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم! هذا أبي، وهذا أخي، وهذا عمي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فأيّ صاحب كنتُ لك؟» فبكى وقال: لِمَ سألتني عن ذلك؟ قال: «أخيّرك فإن أحببت أن تلحق بهم فالحق وإن أردت أن تقيم فأنَا من قد عرفتَ» فقال: ما أختار عليك أحداً. فجذَبه عمّه وقال: يا زيد، اخترت العبوديّة على أبيك وعمك! فقال: أيْ واللَّهِ العبودية عند محمد أحبّ إليّ من أن أكون عندكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا أني وارث وموروث» "
فلم يزل يقال: زيد بن محمد إلى أن نزل قوله تعالى: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } ونزل { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ }.
السادسة : قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السُّهَيْلي رضي الله عنه: كان يقال زيد بن محمد حتى نزل: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } فقال: أنا زيد بن حارثة. وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد. فلما نُزِع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلِم الله وحشته من ذلك شّرفه بخِصِّيصة لم يكن يَخُصّ بها أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه سماه في القرآن؛ فقال تعالى: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } يعني من زينب. ومَن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآناً يُتْلَى في المحاريب، نوّه به غاية التنويه؛ فكان في هذا تأنيس له وعِوض من الفخر بأبوّة محمد صلى الله عليه وسلم له. ألا ترى إلى قول أُبَيّ بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا " فبكى وقال: أوَذُكِرتُ هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره؛ فكيف بمن صار اسمه قرآناً يُتلى مخلَّداً لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة كذلك أبداً، لا يزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكوراً على الخصوص عند رب العالمين؛ إذ القرآن كلام الله القديم، وهو باق لا يبيد؛ فاسم زَيْد هذا في الصحف المكرّمة المرفوعة المطهرة، تذكره في التلاوة السّفَرةُ الكرام البَرَرَة. وليس ذلك لاسم من أسماء المؤمنين إلا لنبيّ من الأنبياء، ولزيد بن حارثة تعويضاً من الله تعالى له مما نُزع عنه. وزاد في الآية أن قال: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي بالإيمان؛ فدلّ على أنه من أهل الجنة، علِم ذلك قبل أن يموت، وهذه فضيلة أخرى.
السابعة : قوله تعالى: { وَطَراً } الوَطَر كل حاجة للمرء له فيها همّة؛ والجمع الأوطار. قال ابن عباس: أي بلغ ما أراد من حاجته؛ يعني الجماع. وفيه إضمار؛ أي لما قضى وطره منها وطلّقها «زَوّجْناكَها» وقراءة أهل البيت «زوّجْتُكها». وقيل: الوطر عبارة عن الطلاق؛ قاله قتادة.
الثامنة : ذهب بعض الناس من هذه الآية، ومن قول شعيب :
{ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ }
[القصص: 27] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون: «أنكحه إياها» فتقدّم ضمير الزوج كما في الآيتين. وكذلك " قوله عليه السلام لصاحب الرداء: «اذهب فقد أَنْكَحتُكها بما معك من القرآن» " قال ابن عطية: وهذا غير لازم؛ لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه، وفي المهور الزوجان (سواء)، فقدّم من شئت، ولم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال، وأنهم القوّامون.
التاسعة: قوله تعالى: { زَوَّجْنَاكَهَا } دليل على ثبوت الوليّ في النكاح؛ وقد تقدّم الخلاف في ذلك. روي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت عائشة: أنا التي جاء بي المَلَك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سَرَقة من حرير فيقول: «هذه امرأتك» خرّجه الصحيح. وقالت زينب: أنا التي زوّجني الله من فوق سبع سموات. وقال الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأَدِلّ عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تَدِلّ بهنّ ـ إن جَدّي وجدَّك واحد، وإن الله أنكحك إيّاي من السماء، وإن السّفير في ذلك جبريل. وروي عن زينب أنها قالت: لما وقعت في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد، وما أمتنع منه غير ما يمنعه الله تعالى منّي فلا يقدر عليّ.
وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا ٧٣
وكان سبب نزول هذه الآيات، أن اللّه تعالى أراد أن يشرع شرعاً عاماً للمؤمنين، أن الأدعياء ليسوا في حكم الأبناء حقيقة، من جميع الوجوه وأن أزواجهم لا جناح على مَنْ تبناهم، في نكاحهن. وكان هذا من الأمور المعتادة، التي لا تكاد تزول إلا بحادث كبير، فأراد أن يكون هذا الشرع قولاً من رسوله وفعلاً، وإذا أراد اللّه أمراً جعل له سبباً، وكان زيد بن حارثة يدعى " زيد بن محمد " قد تبناه النبي صلى اللّه عليه وسلم، فصار يدعى إليه حتى نزل:
{ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ }
[الأحزاب: 5] فقيل له: " زيد بن حارثة ". وكانت تحته زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان قد وقع في قلب الرسول، لو طلقها زيد، لتزوَّجها، فقدر اللّه أن يكون بينها وبين زيد ما اقتضى أن جاء زيد بن حارثة يستأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في فراقها. قال اللّه: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي: بالإسلام { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بالعتق، حين جاءك مشاوراً في فراقها: فقلت له ناصحاً له ومخبراً بمصلحته، مع وقوعها في قلبك: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } أي: لا تفارقها، واصبر على ما جاءك منها، { وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } تعالى في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى تحث على الصبر، وتأمر به. { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } والذي أخفاه، أنه لو طلقها زيد لتزوجها صلى اللّه عليه وسلم. { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } في عدم إبداء ما في نفسك { وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } وأن لا تباليهم شيئاً، { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } أي: طابت نفسه، ورغب عنها، وفارقها. { زَوَّجْنَاكَهَا } وإنما فعلنا ذلك لفائدة عظيمة، وهي: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } حيث رأوك تزوجت زوج زيد بن حارثة، الذي كان من قبل ينتسب إليك. ولما كان قوله: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } عاماً في جميع الأحوال وكان من الأحوال، ما لا يجوز ذلك، وهي قبل انقضاء وطره منها، قيد ذلك بقوله: { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي: لا بد من فعله، ولا عائق له ولا مانع. وفي هذه الآيات المشتملات على هذه القصة فوائد، منها: الثناء على زيد بن حارثة، وذلك من وجهين: أحدهما: أن اللّه سماه في القرآن، ولم يسم من الصحابة باسمه غيره. والثاني: أن اللّه أخبر أنه أنعم عليه، أي: بنعمة الإسلام والإيمان. وهذه شهادة من اللّه له أنه مسلم مؤمن، ظاهراً وباطناً، وإلا فلا وجه لتخصيصه بالنعمة، لولا أن المراد بها النعمة الخاصة. ومنها: أن المُعْتق في نعمة الْمُعْتِق.
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا ٨٣
يقول تعالى { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } أي فيما أحل له، وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله، لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج، وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه، { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة، وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا ٨٣
قوله تعالى: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة. أعلمهم أن هذا ونحوه هو السَّنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحلّه لهم؛ أي سَنّ لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سُنّة الأنبياء الماضية؛ كداود وسليمان. فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سُرِّية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرِّية. وذكر الثعلبيّ عن مقاتل وابن الكلبيّ أن الإشارة إلى داود عليه السلام؛ حيث جمع الله بينه وبين من فُتن بها. و«سُنَّةَ» نصب على المصدر؛ أي سَنّ الله له سُنة واسعة. و«الَّذِينَ خَلَوْا» هم الأنبياء؛ بدليل وصفهم بعدُ بقوله: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ }.
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَجٖ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا ٨٣
هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، في كثرة أزواجه، وأنه طعن بما لا مطعن فيه، فقال: { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ } أي: إثم وذنب. { فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } أي: قدر له من الزوجات، فإن هذا قد أباحه اللّه للأنبياء قبله، ولهذا قال: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي: لا بد من وقوعه. ثم ذكر مَنْ هم الذين من قبل قد خلوا، وهذه سنتهم وعادتهم، وأنهم { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } فيتلون على العباد آيات اللّه وحججه وبراهينه، ويدعونهم إلى اللّه { وَيَخْشَوْنَهُ } وحده لا شريك له { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً } إلا اللّه. فإذا كان هذا سُنّة في الأنبياء المعصومين، الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها أتم القيام، وهو دعوة الخلق إلى اللّه، والخشية منه وحده، التي تقتضي فعل كل مأمور، وترك كل محظور، دلّ ذلك على أنه لا نقص فيه بوجه. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } محاسباً عباده، مراقباً أعمالهم. وعلم من هذا، أن النكاح من سنن المرسلين.
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٩٣
يمدح تبارك وتعالى { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالـٰتِ } أي إلى خلقه، ويؤدونها بأماناتها، { وَيَخْشَوْنَهُ } أي يخافونه، ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إِبلاغ رسالات الله تعالى، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً، وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه قام بأداء الرسالة، وإِبلاغها إِلى أهل المشارق والمغارب، إِلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإِنه قد كان النبي قبله إِنما يبعث إِلى قومه خاصة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فإِنه بعث إِلى جميع الخلق عربهم وعجمهم
{ قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }
الأعراف 151 ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إِلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم. قال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير، أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال، ثم لا يقول، فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه؟ فيقول رب خشيت الناس، فيقول فأنا أحق أن يخشى " ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش به. وقوله تعالى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ } نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد، أي لم يكن أباه، وإِن كان قد تبناه، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإِنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، فماتوا صغاراً، وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضاً رضيعاً، وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر. وقوله تعالى { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } كقوله عز وجل
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
الأنعام 124 فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإِذا كان لانبي بعده، فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإِن كل رسول نبي، ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه ويقولون لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة " ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به، وقال حسن صحيح. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا المختار بن فلفل، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعد، ولا نبي " قال فشق ذلك على الناس، فقال " ولكن المبشرات " قالوا يارسول الله وما المبشرات؟ قال " رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة " وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به، وقال صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل. حديث آخر قال أبو داود الطيالسي حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً، فأكملها وأحسنها، إِلا موضع لبنة، فكان من دخلها، فنظر إِليها قال ما أحسنها إِلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام " ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به، وقال الترمذي صحيح غريب من هذا الوجه. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً، فأتمها إِلا لبنة واحدة، فجئت أنا، فأتممت تلك اللبنة " انفرد به مسلم من رواية الأعمش به. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا نبوة بعدي إِلا المبشرات " قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال " الرؤيا الحسنة " ــــ أو قال ــــ " الرؤيا الصالحة ". حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً، فأكملها وأحسنها وأجملها، إِلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك؟ ــــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــ فكنت أنا اللبنة " أخرجاه من حديث عبد الرزاق. حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً. قال الإمام مسلم حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إِسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إِلى الخلق كافة، وختم بي النبيون " ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إِسماعيل بن جعفر، وقال الترمذي حسن صحيح. حديث آخر وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها، إِلا موضع لبنة واحدة، فجئت أنا، فأتممت تلك اللبنة " ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية به. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " إِني عند الله لخاتم النبيين، وإِن آدم لمنجدل في طينته ". حديث آخر قال الزهري أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إِن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي " أخرجاه في " الصحيحين ". وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إِسحاق، حدثنا ابن لهيعة عن عبدالله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودّع، فقال
" أنا محمد النبي الأمي ــــ ثلاثاً ــــ ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش، وتجوز بي، وعوفيت وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإِذا ذهب بي، فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله، وحرموا حرامه " تفرد به الإمام أحمد. ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إِسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فذكر مثله سواء، والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإِكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل، لو تحرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرجيات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان، لعنهما الله، وكذلك كل مدع لذلك إِلى يوم القيامة، حتى يختموا بالمسيح الدجال، فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها، وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه، فإِنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف، ولاينهون عن منكر، إِلا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إِلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى
{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }
الشعراء 221 ــــ 222 الآية، وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإِنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه، ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات، والأدلة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات.
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٩٣
قوله تعالى: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } هذه مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة. أعلمهم أن هذا ونحوه هو السَّنن الأقدم في الأنبياء أن ينالوا ما أحلّه لهم؛ أي سَنّ لمحمد صلى الله عليه وسلم التوسعة عليه في النكاح سُنّة الأنبياء الماضية؛ كداود وسليمان. فكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سُرِّية، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سُرِّية. وذكر الثعلبيّ عن مقاتل وابن الكلبيّ أن الإشارة إلى داود عليه السلام؛ حيث جمع الله بينه وبين من فُتن بها. و«سُنَّةَ» نصب على المصدر؛ أي سَنّ الله له سُنة واسعة. و«الَّذِينَ خَلَوْا» هم الأنبياء؛ بدليل وصفهم بعدُ بقوله: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ }.
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٩٣
هذا دفع لطعن من طعن في الرسول صلى اللّه عليه وسلم، في كثرة أزواجه، وأنه طعن بما لا مطعن فيه، فقال: { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ } أي: إثم وذنب. { فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } أي: قدر له من الزوجات، فإن هذا قد أباحه اللّه للأنبياء قبله، ولهذا قال: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } أي: لا بد من وقوعه. ثم ذكر مَنْ هم الذين من قبل قد خلوا، وهذه سنتهم وعادتهم، وأنهم { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } فيتلون على العباد آيات اللّه وحججه وبراهينه، ويدعونهم إلى اللّه { وَيَخْشَوْنَهُ } وحده لا شريك له { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً } إلا اللّه. فإذا كان هذا سُنّة في الأنبياء المعصومين، الذين وظيفتهم قد أدوها وقاموا بها أتم القيام، وهو دعوة الخلق إلى اللّه، والخشية منه وحده، التي تقتضي فعل كل مأمور، وترك كل محظور، دلّ ذلك على أنه لا نقص فيه بوجه. { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } محاسباً عباده، مراقباً أعمالهم. وعلم من هذا، أن النكاح من سنن المرسلين.
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٠٤
يمدح تبارك وتعالى { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالـٰتِ } أي إلى خلقه، ويؤدونها بأماناتها، { وَيَخْشَوْنَهُ } أي يخافونه، ولا يخافون أحداً سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إِبلاغ رسالات الله تعالى، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً، وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه قام بأداء الرسالة، وإِبلاغها إِلى أهل المشارق والمغارب، إِلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع، فإِنه قد كان النبي قبله إِنما يبعث إِلى قومه خاصة، وأما هو صلى الله عليه وسلم فإِنه بعث إِلى جميع الخلق عربهم وعجمهم
{ قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }
الأعراف 151 ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، في ليله ونهاره، وحضره وسفره، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إِلى زماننا هذا، فبنورهم يقتدي المهتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم. قال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير، أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال، ثم لا يقول، فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه؟ فيقول رب خشيت الناس، فيقول فأنا أحق أن يخشى " ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية، كلاهما عن الأعمش به. وقوله تعالى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ } نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد، أي لم يكن أباه، وإِن كان قد تبناه، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإِنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، فماتوا صغاراً، وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضاً رضيعاً، وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر. وقوله تعالى { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } كقوله عز وجل
{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
الأنعام 124 فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإِذا كان لانبي بعده، فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإِن كل رسول نبي، ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه ويقولون لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة " ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به، وقال حسن صحيح. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا المختار بن فلفل، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعد، ولا نبي " قال فشق ذلك على الناس، فقال " ولكن المبشرات " قالوا يارسول الله وما المبشرات؟ قال " رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة " وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به، وقال صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل. حديث آخر قال أبو داود الطيالسي حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً، فأكملها وأحسنها، إِلا موضع لبنة، فكان من دخلها، فنظر إِليها قال ما أحسنها إِلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام " ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به، وقال الترمذي صحيح غريب من هذا الوجه. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً، فأتمها إِلا لبنة واحدة، فجئت أنا، فأتممت تلك اللبنة " انفرد به مسلم من رواية الأعمش به. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا نبوة بعدي إِلا المبشرات " قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال " الرؤيا الحسنة " ــــ أو قال ــــ " الرؤيا الصالحة ". حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً، فأكملها وأحسنها وأجملها، إِلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك؟ ــــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ــــ فكنت أنا اللبنة " أخرجاه من حديث عبد الرزاق. حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً. قال الإمام مسلم حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إِسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إِلى الخلق كافة، وختم بي النبيون " ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إِسماعيل بن جعفر، وقال الترمذي حسن صحيح. حديث آخر وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها، إِلا موضع لبنة واحدة، فجئت أنا، فأتممت تلك اللبنة " ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية به. حديث آخر قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " إِني عند الله لخاتم النبيين، وإِن آدم لمنجدل في طينته ". حديث آخر قال الزهري أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إِن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي " أخرجاه في " الصحيحين ". وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إِسحاق، حدثنا ابن لهيعة عن عبدالله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودّع، فقال
" أنا محمد النبي الأمي ــــ ثلاثاً ــــ ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش، وتجوز بي، وعوفيت وعوفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإِذا ذهب بي، فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله، وحرموا حرامه " تفرد به الإمام أحمد. ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إِسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فذكر مثله سواء، والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإِكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل، لو تحرق وشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرجيات، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان، لعنهما الله، وكذلك كل مدع لذلك إِلى يوم القيامة، حتى يختموا بالمسيح الدجال، فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها، وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه، فإِنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف، ولاينهون عن منكر، إِلا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إِلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى
{ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ }
الشعراء 221 ــــ 222 الآية، وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإِنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه، ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات، والأدلة الواضحات، والبراهين الباهرات، فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات.
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٠٤
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: لما تزوج زينب قال الناس: تزوّج امرأة ابنه؛ فنزلت الآية؛ أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمّته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمداً لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور: إبراهيم، والقاسم، والطيّب، والمطهّر؛ ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً. وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرَيْنِ له.
الثانية: قوله تعالى: { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } قال الأخفش والفرّاء: أي ولكن كان رسول الله. وأجازا «ولكنْ رسولُ الله وخاتَمُ» بالرفع. وكذلك قرأ ابن أبي عَبْلة وبعض الناس «ولكِنْ رسولُ اللَّهِ» بالرفع؛ على معنى هو رسول الله وخاتم النبيين. وقرأت فرقة «ولكنّ» بتشديد النون، ونصب «رسول الله» على أنه اسم «لكنّ» والخبر محذوف. «وَخَاتَمَ» قرأ عاصم وحده بفتح التاء، بمعنى أنهم به خُتموا؛ فهو كالخاتَم والطابَع لهم. وقرأ الجمهور بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم؛ أي جاء آخرهم. وقيل: الخاتم والخاتِم لغتان؛ مثل طابَع وطابِع، ودانَق ودانِق، وطابَق من اللحم وطابِق.
الثالثة: قال ابن عطية: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمّة خَلَفاً وسلَفاً متلقّاةً على العموم التام مقتضية نصًّا أنه لا نبيّ بعده صلى الله عليه وسلم. وما ذكره القاضي أبو الطيِّب في كتابه المسمّى بالهداية: من تجويز الاحتمال في ألفاظ هذه الآية ضعيف. وما ذكره الغزالي في هذه الآية، وهذا المعنى في كتابه الذي سمّاه بالاقتصاد، إلحاد عندي، وتطرّق خبيث إلى تشويش عقيدة المسلمين في ختم محمد صلى الله عليه وسلم النبوّة؛ فالحذرَ الحذَر منه! والله الهادي برحمته.
قلت: وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا نبوّة بعدي إلا ما شاء الله " قال أبو عمر: يعني الرؤيا ـ والله أعلم ـ التي هي جزء منها؛ كما قال عليه السلام: " ليس يبقى بعدي من النبوّة إلا الرؤيا الصالحة " وقرأ ابن مسعود «من رجالكم ولكن نبيًّا ختم النبيين». قال الرُّمّاني: ختم به عليه الصلاة والسلام الاستصلاح، فمن لم يصلح به فميؤوس من صلاحه.
قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه السلام: " بعثت لأتمِّم مَكارم الأخلاق " وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَثَلي ومَثَلُ الأنبياء كمَثَل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلا موضع لَبِنة فجعل الناس يدخلونها ويتعجبّون منها ويقولون لولا موضِعُ اللَّبِنة! ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فأنا موضع اللّبِنة جئت فختمتُ الأنبياء " ونحوه عن أبي هريرة، " غير أنه قال: فأنا اللّبِنة وأنا خاتَم النبيين ".
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّۧنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٠٤
أي: لم يكن الرسول { مُحَمَّدٌ } صلى اللّه عليه وسلم { أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه، من هذا الباب. ولما كان هذا النفي عاماً في جميع الأحوال، إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره، أي: لا أبوة نسب، ولا أبوة ادعاء، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم أب للمؤمنين كلهم، وأزواجه أمهاتهم، فاحترز أن يدخل في هذا النوع بعموم النهي المذكور، فقال: { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } أي: هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع، المهتدى به، المؤمن له، الذي يجب تقديم محبته، على محبة كل أحد، الناصح الذي لهم، أي: للمؤمنين، من بره [ونصحه]، كأنه أبٌ لهم. { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي: قد أحاط علمه بجميع الأشياء، ويعلم حيث يجعل رسالاته، ومَنْ يصلح لفضله ومَنْ لا يصلح.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ١٤
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ١٤
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم، وصنوف المنن لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب. قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد، حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " ذكر الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي الدرداء رضي الله عنه به، قال الترمذي رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى
{ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ }
الأحزاب 35 في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، فالله أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع، حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه " اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأتبع نصيحتك، وأكثر ذكرك، وأحفظ وصيتك " ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكر مثله، وقال غريب، وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال سمعت عبد الله بن بسر يقول جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يارسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم " من طال عمره، وحسن عمله " وقال الآخر يا رسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به، قال صلى الله عليه وسلم " لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى " وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي حديث حسن غريب.
وقال الإمام أحمد حدثنا سريج، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون " وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم العمي، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيت الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون ". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه، إلا مغلوباً على تركه، فقال
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ }
النساء103 بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عز وجل { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } فإذا فعلتم ذلك، صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب " الأذكار " للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله. وقوله تعالى { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي عند الصباح والمساء كقوله عز وجل
{ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ }
الروم 17 ــــ 18 وقوله تعالى { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } هذا تهييج إلى الذكر، أي إنه سبحانه يذكركم، فاذكروه أنتم كقوله عز وجل
{ فَٱذْكُرُونِىۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
البقرة152 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه " والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه، وقال غيره الصلاة من الله عز وجل الرحمة.
وقد يقال لا منافاة بين القولين، والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار كقوله تبارك وتعالى
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّـٰتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَـٰتِ }
غافر 7 ــــ 9 الآية. وقوله تعالى { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي بسبب رحمته بكم، وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه مَنْ سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأتباعهم من الطغاة، وأما رحمته بهم في الآخرة، فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم، ورأفته بهم. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم، خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى، وتقول ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " لا، واللّهُ لايلقي حبيبه في النار " إسناده على شرط " الصحيحين " ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن في " صحيح " الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أترون هذه تلقي ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ " قالوا لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوالله للّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها " وقوله تعالى { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ } الظاهر أن المراد ــــ والله أعلم ــــ تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام، أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل
{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }
يس 58 وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت وقد يستدل له بقوله تعالى
{ دَعْوَٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
يونس 10. وقوله تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ١٤
أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه، ويكثروا من ذلك على ما أنعم به عليهم. وجعل تعالى ذلك دون حدّ لسهولته على العبد. ولعظم الأجر فيه قال ابن عباس: لم يُعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غُلب على عقله. وروى أبو سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون " وقيل: الذكر الكثير ما جرى على الإخلاص من القلب، والقليل ما يقع على حكم النفاق كالذكر باللسان.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ١٤
يأمر تعالى المؤمنين بذكره ذكراً كثيراً، من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى اللّه، وأقل ذلك، أن يلازم الإنسان أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب. وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح. { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي: أول النهار وآخره، لفضلها وشرفها، وسهولة العمل فيها. أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمة أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه أفضل الملائكة، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون:
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }
[غافر: 7-9]. فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا. وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم، وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا مَنْ أعطاهم إياه، ولهذا قال: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً }.
وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٢٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٢٤
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم، وصنوف المنن لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب. قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد، حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " ذكر الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي الدرداء رضي الله عنه به، قال الترمذي رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى
{ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ }
الأحزاب 35 في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، فالله أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع، حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه " اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأتبع نصيحتك، وأكثر ذكرك، وأحفظ وصيتك " ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكر مثله، وقال غريب، وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال سمعت عبد الله بن بسر يقول جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يارسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم " من طال عمره، وحسن عمله " وقال الآخر يا رسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به، قال صلى الله عليه وسلم " لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى " وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي حديث حسن غريب.
وقال الإمام أحمد حدثنا سريج، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون " وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم العمي، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيت الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون ". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه، إلا مغلوباً على تركه، فقال
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ }
النساء103 بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عز وجل { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } فإذا فعلتم ذلك، صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب " الأذكار " للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله. وقوله تعالى { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي عند الصباح والمساء كقوله عز وجل
{ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ }
الروم 17 ــــ 18 وقوله تعالى { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } هذا تهييج إلى الذكر، أي إنه سبحانه يذكركم، فاذكروه أنتم كقوله عز وجل
{ فَٱذْكُرُونِىۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
البقرة152 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه " والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه، وقال غيره الصلاة من الله عز وجل الرحمة.
وقد يقال لا منافاة بين القولين، والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار كقوله تبارك وتعالى
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّـٰتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَـٰتِ }
غافر 7 ــــ 9 الآية. وقوله تعالى { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي بسبب رحمته بكم، وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه مَنْ سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأتباعهم من الطغاة، وأما رحمته بهم في الآخرة، فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم، ورأفته بهم. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم، خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى، وتقول ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " لا، واللّهُ لايلقي حبيبه في النار " إسناده على شرط " الصحيحين " ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن في " صحيح " الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أترون هذه تلقي ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ " قالوا لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوالله للّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها " وقوله تعالى { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ } الظاهر أن المراد ــــ والله أعلم ــــ تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام، أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل
{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }
يس 58 وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت وقد يستدل له بقوله تعالى
{ دَعْوَٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
يونس 10. وقوله تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٢٤
أي اشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. قال مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدِث والجنب. وقيل: ادعوه. قال جرير :
فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يوسفاً دَعَا ربّه فاختاره حين سبَّحا
وقيل: المراد صلوا لله بكرة وأصِيلاً؛ والصلاة تسمّى تسبيحاً. وخص الفجر والمغرب والعشاء بالذكر لأنها أحق بالتحريض عليها، لاتصالها بأطراف الليل. وقال قتادة والطبري: الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر. والأصِيل: العشيّ وجمعه أصائل. والأصُل بمعنى الأصيل، وجمعه آصال؛ قاله المبرد. وقال غيره: أُصُل جمع أصيل؛ كرغيف ورغف. وقد تقدم.
مسألة: هذه الآية مدنيّة، فلا تعلّق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أوّلاً صلاتين في طرفي النهار. والرواية بذلك ضعيفة فلا التفات إليها ولا معوّل عليها. وقد مضى الكلام في كيفية فرض الصلاة وما للعلماء في ذلك في «سبحان» والحمد لله.
قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ } قال ابن عباس: لما نزل { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصّةً، وليس لنا فيه شيء؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قلت: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم؛ ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
[آل عمران: 110]. والصلاة من الله على العبد هي رحمته له وبركته لديه. وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم؛ كما قال:
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ }
[غافر: 7] وسيأتي. وفي الحديث: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام؛ أيُصلّي ربك جل وعز؟ فأعظم ذلك؛ فأوحى الله جل وعز: " إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي " ذكره النحاس. وقال ابن عطية: " وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، كيف صلاة الله على عباده. قال: «سُبُّوح قُدّوس ـ رحمتي سبقت غضبي» " واختلف في تأويل هذا القول؛ فقيل: إنه كلمة من كلام الله تعالى وهي صلاته على عباده. وقيل: سُبُّوح قُدّوس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وقدّمه بين يدي نطقه باللفظ الذي هو صلاة الله وهو " رحمتي سبقت غضبي " من حيث فهم من السائل أنه توهّم في صلاة الله على عباده وجهاً لا يليق بالله عز وجل؛ فقدّم التنزيه والتعظيم بين يدي إخباره.
قوله تعالى: { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي من الضلالة إلى الهدى. ومعنى هذا التثبيت على الهداية؛ لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لهم فقال: { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }.
وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٢٤
يأمر تعالى المؤمنين بذكره ذكراً كثيراً، من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى اللّه، وأقل ذلك، أن يلازم الإنسان أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب. وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح. { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي: أول النهار وآخره، لفضلها وشرفها، وسهولة العمل فيها. أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمة أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه أفضل الملائكة، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون:
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }
[غافر: 7-9]. فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا. وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم، وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا مَنْ أعطاهم إياه، ولهذا قال: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً }.
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٣٤
نسخ
مشاركة
التفسير
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٣٤
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم، وصنوف المنن لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب. قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد، حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " ذكر الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي الدرداء رضي الله عنه به، قال الترمذي رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى
{ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ }
الأحزاب 35 في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، فالله أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع، حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه " اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأتبع نصيحتك، وأكثر ذكرك، وأحفظ وصيتك " ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكر مثله، وقال غريب، وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال سمعت عبد الله بن بسر يقول جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يارسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم " من طال عمره، وحسن عمله " وقال الآخر يا رسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به، قال صلى الله عليه وسلم " لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى " وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي حديث حسن غريب.
وقال الإمام أحمد حدثنا سريج، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون " وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم العمي، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيت الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون ". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه، إلا مغلوباً على تركه، فقال
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ }
النساء103 بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عز وجل { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } فإذا فعلتم ذلك، صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب " الأذكار " للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله. وقوله تعالى { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي عند الصباح والمساء كقوله عز وجل
{ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ }
الروم 17 ــــ 18 وقوله تعالى { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } هذا تهييج إلى الذكر، أي إنه سبحانه يذكركم، فاذكروه أنتم كقوله عز وجل
{ فَٱذْكُرُونِىۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
البقرة152 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه " والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه، وقال غيره الصلاة من الله عز وجل الرحمة.
وقد يقال لا منافاة بين القولين، والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار كقوله تبارك وتعالى
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّـٰتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَـٰتِ }
غافر 7 ــــ 9 الآية. وقوله تعالى { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي بسبب رحمته بكم، وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه مَنْ سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأتباعهم من الطغاة، وأما رحمته بهم في الآخرة، فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم، ورأفته بهم. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم، خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى، وتقول ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " لا، واللّهُ لايلقي حبيبه في النار " إسناده على شرط " الصحيحين " ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن في " صحيح " الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أترون هذه تلقي ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ " قالوا لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوالله للّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها " وقوله تعالى { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ } الظاهر أن المراد ــــ والله أعلم ــــ تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام، أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل
{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }
يس 58 وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت وقد يستدل له بقوله تعالى
{ دَعْوَٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
يونس 10. وقوله تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٣٤
أي اشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. قال مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدِث والجنب. وقيل: ادعوه. قال جرير :
فلا تنس تسبيح الضُّحى إن يوسفاً دَعَا ربّه فاختاره حين سبَّحا
وقيل: المراد صلوا لله بكرة وأصِيلاً؛ والصلاة تسمّى تسبيحاً. وخص الفجر والمغرب والعشاء بالذكر لأنها أحق بالتحريض عليها، لاتصالها بأطراف الليل. وقال قتادة والطبري: الإشارة إلى صلاة الغداة وصلاة العصر. والأصِيل: العشيّ وجمعه أصائل. والأصُل بمعنى الأصيل، وجمعه آصال؛ قاله المبرد. وقال غيره: أُصُل جمع أصيل؛ كرغيف ورغف. وقد تقدم.
مسألة: هذه الآية مدنيّة، فلا تعلّق بها لمن زعم أن الصلاة إنما فرضت أوّلاً صلاتين في طرفي النهار. والرواية بذلك ضعيفة فلا التفات إليها ولا معوّل عليها. وقد مضى الكلام في كيفية فرض الصلاة وما للعلماء في ذلك في «سبحان» والحمد لله.
قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ } قال ابن عباس: لما نزل { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ } قال المهاجرون والأنصار: هذا لك يا رسول الله خاصّةً، وليس لنا فيه شيء؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قلت: وهذه نعمة من الله تعالى على هذه الأمة من أكبر النعم؛ ودليل على فضلها على سائر الأمم. وقد قال:
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
[آل عمران: 110]. والصلاة من الله على العبد هي رحمته له وبركته لديه. وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين واستغفارهم لهم؛ كما قال:
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ }
[غافر: 7] وسيأتي. وفي الحديث: أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام؛ أيُصلّي ربك جل وعز؟ فأعظم ذلك؛ فأوحى الله جل وعز: " إن صلاتي بأن رحمتي سبقت غضبي " ذكره النحاس. وقال ابن عطية: " وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: يا رسول الله، كيف صلاة الله على عباده. قال: «سُبُّوح قُدّوس ـ رحمتي سبقت غضبي» " واختلف في تأويل هذا القول؛ فقيل: إنه كلمة من كلام الله تعالى وهي صلاته على عباده. وقيل: سُبُّوح قُدّوس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وقدّمه بين يدي نطقه باللفظ الذي هو صلاة الله وهو " رحمتي سبقت غضبي " من حيث فهم من السائل أنه توهّم في صلاة الله على عباده وجهاً لا يليق بالله عز وجل؛ فقدّم التنزيه والتعظيم بين يدي إخباره.
قوله تعالى: { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي من الضلالة إلى الهدى. ومعنى هذا التثبيت على الهداية؛ لأنهم كانوا في وقت الخطاب على الهداية. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لهم فقال: { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً }.
هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٣٤
يأمر تعالى المؤمنين بذكره ذكراً كثيراً، من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى اللّه، وأقل ذلك، أن يلازم الإنسان أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب. وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح. { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي: أول النهار وآخره، لفضلها وشرفها، وسهولة العمل فيها. أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمة أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه أفضل الملائكة، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون:
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }
[غافر: 7-9]. فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا. وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم، وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا مَنْ أعطاهم إياه، ولهذا قال: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً }.
تَحِيَّتُهُمۡ يَوۡمَ يَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَٰمٞۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَرِيمٗا ٤٤
نسخ
مشاركة
التفسير
تَحِيَّتُهُمۡ يَوۡمَ يَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَٰمٞۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَرِيمٗا ٤٤
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم، وصنوف المنن لما لهم في ذلك من جزيل الثواب، وجميل المآب. قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد، حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ " قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " ذكر الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية - واسمه عبد الله بن قيس التراغمي - عن أبي الدرداء رضي الله عنه به، قال الترمذي رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى
{ وَٱلذَّاكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذَّاكِرَاتِ }
الأحزاب 35 في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، فالله أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع، حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه " اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأتبع نصيحتك، وأكثر ذكرك، وأحفظ وصيتك " ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكر مثله، وقال غريب، وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه، فذكره. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال سمعت عبد الله بن بسر يقول جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يارسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم " من طال عمره، وحسن عمله " وقال الآخر يا رسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فمرني بأمر أتشبث به، قال صلى الله عليه وسلم " لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى " وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به، وقال الترمذي حديث حسن غريب.
وقال الإمام أحمد حدثنا سريج، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون " وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثنا عقبة بن مكرم العمي، حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيت الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون ". وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي، سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه، إلا رأوه حسرة يوم القيامة " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه، إلا مغلوباً على تركه، فقال
{ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ }
النساء103 بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال عز وجل { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } فإذا فعلتم ذلك، صلى عليكم هو وملائكته، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً، وفي هذه الآية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب " الأذكار " للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله. وقوله تعالى { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي عند الصباح والمساء كقوله عز وجل
{ فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ }
الروم 17 ــــ 18 وقوله تعالى { هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } هذا تهييج إلى الذكر، أي إنه سبحانه يذكركم، فاذكروه أنتم كقوله عز وجل
{ فَٱذْكُرُونِىۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }
البقرة152 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه " والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة، حكاه البخاري عن أبي العالية، ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه، وقال غيره الصلاة من الله عز وجل الرحمة.
وقد يقال لا منافاة بين القولين، والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة، فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار كقوله تبارك وتعالى
{ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ ٱلَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَٰجِهِمْ وَذُرِّيَّـٰتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَـٰتِ }
غافر 7 ــــ 9 الآية. وقوله تعالى { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } أي بسبب رحمته بكم، وثنائه عليكم، ودعاء ملائكته لكم، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم، وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه مَنْ سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة، وأتباعهم من الطغاة، وأما رحمته بهم في الآخرة، فآمنهم من الفزع الأكبر، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة، والنجاة من النار، وما ذاك إلا لمحبته لهم، ورأفته بهم. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم، وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم، خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى، وتقول ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " لا، واللّهُ لايلقي حبيبه في النار " إسناده على شرط " الصحيحين " ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن في " صحيح " الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبياً لها، فألصقته إلى صدرها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أترون هذه تلقي ولدها في النار، وهي تقدر على ذلك؟ " قالوا لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوالله للّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها " وقوله تعالى { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ } الظاهر أن المراد ــــ والله أعلم ــــ تحيتهم، أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام، أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل
{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }
يس 58 وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة، واختاره ابن جرير. قلت وقد يستدل له بقوله تعالى
{ دَعْوَٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }
يونس 10. وقوله تعالى { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمناكح والملاذ والمناظر، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
تَحِيَّتُهُمۡ يَوۡمَ يَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَٰمٞۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَرِيمٗا ٤٤
اختلف في الضمير الذي في «يَلْقَوْنَهُ» على من يعود؛ فقيل على الله تعالى، أي كان بالمؤمنين رحيماً، فهو يؤمنهم من عذاب الله يوم القيامة. وفي ذلك اليوم يلقونه. و { تَحِيَّتُهُمْ } أي تحية بعضهم لبعض. { سَلاَمٌ } أي سلامة لنا ولكم من عذاب الله. وقيل: هذه التحية من الله تعالى؛ المعنى: فيسلّمهم من الآفات، أو يبشرهم بالأمن من المخافات { يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ } أي يوم القيامة بعد دخول الجنة. قال معناه الزجاج؛ واستشهد بقوله جل وعز :
{ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ }
[يونس: 10]. وقيل: «يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ» أي يومَ يلقَوْن مَلَك الموت؛ وقد ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلّم عليه. روي عن البَراء بن عازِب قال: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ» فيسلّم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، لا يقبض روحه حتى يسلّم عليه.
تَحِيَّتُهُمۡ يَوۡمَ يَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَٰمٞۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَرِيمٗا ٤٤
يأمر تعالى المؤمنين بذكره ذكراً كثيراً، من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى اللّه، وأقل ذلك، أن يلازم الإنسان أوراد الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب. وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة اللّه ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح. { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي: أول النهار وآخره، لفضلها وشرفها، وسهولة العمل فيها. أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمة أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها، والإكثار من ذكر اللّه، الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه أفضل الملائكة، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون:
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }
[غافر: 7-9]. فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا. وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة، وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم، وتحيته، واستماع كلامه الجليل، ورؤية وجهه الجميل، وحصول الأجر الكبير، الذي لا يدري ولا يعرف كنهه، إلا مَنْ أعطاهم إياه، ولهذا قال: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً }.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٥٤
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٥٤
قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله ــــ قيل ابن رجاء، وقيل ابن صالح ــــ عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به. وقال البخاري في البيوع وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال وهب بن منبه إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه مبشراً ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ونذيراً، لا يقول الخنا، أفتح به أعيناً كمهاً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداً، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق، وبه يعدلون، وأعز من نصرهم، وأؤيد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على من خالفهم، أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله. ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال " انطلقا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنزل علي { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } " ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله، وقال في آخره " فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن " فقوله تعالى { شَاهِداً } أي لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
البقرة 143. وقوله عز وجل { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم، عن أمره لك بذلك، { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه، { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم، وكل أمرهم إلى الله تعالى، فإن فيه كفاية لهم، ولهذا قال جل جلاله { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٥٤
هذه الآية فيها تأنيس للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية تضمنت من أسمائه صلى الله عليه وسلم ستة أسماء ولنبيّنا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدّمة. وقد سماه الله في كتابه محمداً وأحمد. وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول: " لِي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " وفي صحيح مسلم من حديث جُبير بن مُطْعِم: وقد سماه الله «رَأُوفاً رَحِيماً». وفيه أيضاً عن أبي موسى الأشعريّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمِّي لنا نفسه أسماء، فيقول: " أنا محمد وأحمد والمُقَفِّي والحاشر ونبيّ التوبة ونبيّ الرحمة " وقد تتبع القاضي أبو الفضل عِياض في كتابه المسمّى (بالشِّفا) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما نقل في الكتب المتقدّمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفاتٍ عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مُسَمَّياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربيّ في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسماً. وذكر صاحب (وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين) عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين اسماً، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ومعاذاً، فبعثهما إلى اليمن، وقال: «اذهبا فبشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويَسِّرَا ولا تُعَسِّرا فإنه قد أنزل عليّ...» وقرأ هذه الآية ". قوله تعالى: { شَاهِداً } قال سعيد عن قتادة: «شاهداً» على أمّته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم؛ ونحو ذلك. { وَمُبَشِّراً } معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة. { وَنَذِيراً } معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ } الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. و { بِإِذْنِهِ } هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: «وَسِرَاجاً» أي هادياً من ظلم الضلالة؛ وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السُّرُج ما لا يضيء، إذا قَلّ سلِيطه ودَقّت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تُضْنِي: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشَيْن فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدّثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن شَيبان النحوي قال حدّثنا قتادة عن عكرمة
" عن ابن عباس قال: لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ومعاذاً فقال: «انطلقا فبشِّرا ولا تُعَسِّرَا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ـ من النار ـ وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ ـ قال ـ شهادة أن لا إلٰه إلا الله ـ بِإِذْنِهِ ـ بأمره ـ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ـ قال ـ بالقرآن» " وقال الزجاج: «وسِرَاجاً» أي وذا سراج مُنير؛ أي كتاب نَيّر. وأجاز أيضاً أن يكون بمعنى: وتالياً كتاب الله.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٥٤
هذه الأشياء التي وصف الله بها رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم، هي المقصود من رسالته وزبدتها وأصولها التي اختص بها، وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه { شَٰهِداً } أي: شاهداً على أمته بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى :
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }
[ البقرة: 143 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً }
[النساء: 41] فهو صلى اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول. الثاني، والثالث: كونه { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك. فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم. وذلك كله يستلزم ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب. والمنْذَر هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل. وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب والسُنّة، المشتمل على ذلك. الرابع: كونه { دَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ } أي: أرسله اللّه يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عمّا لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره. الخامس: كونه { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها، حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلالاً إلى الصراط المستقيم. فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة. وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } ذكر في هذه الجملة المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة. وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النِعَم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عوناً على الكف عمّا حرّم اللّه. ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهراً وباطناً، نهى اللّه رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك، فقال: { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي: في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم { وَدَعْ أَذَاهُمْ } ] فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له ولأهله. { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده.
وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٦٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٦٤
قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله ــــ قيل ابن رجاء، وقيل ابن صالح ــــ عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به. وقال البخاري في البيوع وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال وهب بن منبه إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه مبشراً ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ونذيراً، لا يقول الخنا، أفتح به أعيناً كمهاً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداً، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق، وبه يعدلون، وأعز من نصرهم، وأؤيد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على من خالفهم، أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله. ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال " انطلقا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنزل علي { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } " ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله، وقال في آخره " فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن " فقوله تعالى { شَاهِداً } أي لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
البقرة 143. وقوله عز وجل { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم، عن أمره لك بذلك، { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه، { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم، وكل أمرهم إلى الله تعالى، فإن فيه كفاية لهم، ولهذا قال جل جلاله { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }.
وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٦٤
هذه الآية فيها تأنيس للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم. وهذه الآية تضمنت من أسمائه صلى الله عليه وسلم ستة أسماء ولنبيّنا صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة وسمات جليلة، ورد ذكرها في الكتاب والسنة والكتب المتقدّمة. وقد سماه الله في كتابه محمداً وأحمد. وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه الثقات العدول: " لِي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " وفي صحيح مسلم من حديث جُبير بن مُطْعِم: وقد سماه الله «رَأُوفاً رَحِيماً». وفيه أيضاً عن أبي موسى الأشعريّ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمِّي لنا نفسه أسماء، فيقول: " أنا محمد وأحمد والمُقَفِّي والحاشر ونبيّ التوبة ونبيّ الرحمة " وقد تتبع القاضي أبو الفضل عِياض في كتابه المسمّى (بالشِّفا) ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما نقل في الكتب المتقدّمة، وإطلاق الأمة أسماء كثيرة وصفاتٍ عديدة، قد صدقت عليه صلى الله عليه وسلم مُسَمَّياتها، ووجدت فيه معانيها. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربيّ في أحكامه في هذه الآية من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسماً. وذكر صاحب (وسيلة المتعبدين إلى متابعة سيد المرسلين) عن ابن عباس أن لمحمد صلى الله عليه وسلم مائة وثمانين اسماً، من أرادها وجدها هناك. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ومعاذاً، فبعثهما إلى اليمن، وقال: «اذهبا فبشِّرا ولا تُنَفِّرا، ويَسِّرَا ولا تُعَسِّرا فإنه قد أنزل عليّ...» وقرأ هذه الآية ". قوله تعالى: { شَاهِداً } قال سعيد عن قتادة: «شاهداً» على أمّته بالتبليغ إليهم، وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم؛ ونحو ذلك. { وَمُبَشِّراً } معناه للمؤمنين برحمة الله وبالجنة. { وَنَذِيراً } معناه للعصاة والمكذبين من النار وعذاب الخلد. { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ } الدعاء إلى الله هو تبليغ التوحيد والأخذ به، ومكافحة الكفرة. و { بِإِذْنِهِ } هنا معناه: بأمره إياك، وتقديره ذلك في وقته وأوانه. { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } هنا استعارة للنور الذي يتضمنه شرعه. وقيل: «وَسِرَاجاً» أي هادياً من ظلم الضلالة؛ وأنت كالمصباح المضيء. ووصفه بالإنارة لأن من السُّرُج ما لا يضيء، إذا قَلّ سلِيطه ودَقّت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تُضْنِي: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشَيْن فقال: ظلام ساتر وسراج فاتر، وأسند النحاس قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الرازي قال حدّثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن شَيبان النحوي قال حدّثنا قتادة عن عكرمة
" عن ابن عباس قال: لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا ومعاذاً فقال: «انطلقا فبشِّرا ولا تُعَسِّرَا فإنه قد نزل عليّ الليلة آية { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ـ من النار ـ وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ ـ قال ـ شهادة أن لا إلٰه إلا الله ـ بِإِذْنِهِ ـ بأمره ـ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ـ قال ـ بالقرآن» " وقال الزجاج: «وسِرَاجاً» أي وذا سراج مُنير؛ أي كتاب نَيّر. وأجاز أيضاً أن يكون بمعنى: وتالياً كتاب الله.
وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ٦٤
هذه الأشياء التي وصف الله بها رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم، هي المقصود من رسالته وزبدتها وأصولها التي اختص بها، وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه { شَٰهِداً } أي: شاهداً على أمته بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى :
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }
[ البقرة: 143 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً }
[النساء: 41] فهو صلى اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول. الثاني، والثالث: كونه { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك. فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم. وذلك كله يستلزم ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب. والمنْذَر هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل. وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب والسُنّة، المشتمل على ذلك. الرابع: كونه { دَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ } أي: أرسله اللّه يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عمّا لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره. الخامس: كونه { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها، حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلالاً إلى الصراط المستقيم. فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة. وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } ذكر في هذه الجملة المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة. وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النِعَم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عوناً على الكف عمّا حرّم اللّه. ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهراً وباطناً، نهى اللّه رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك، فقال: { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي: في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم { وَدَعْ أَذَاهُمْ } ] فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له ولأهله. { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده.
وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلٗا كَبِيرٗا ٧٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلٗا كَبِيرٗا ٧٤
قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله ــــ قيل ابن رجاء، وقيل ابن صالح ــــ عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به. وقال البخاري في البيوع وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال وهب بن منبه إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه مبشراً ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ونذيراً، لا يقول الخنا، أفتح به أعيناً كمهاً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداً، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق، وبه يعدلون، وأعز من نصرهم، وأؤيد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على من خالفهم، أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله. ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال " انطلقا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنزل علي { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } " ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله، وقال في آخره " فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن " فقوله تعالى { شَاهِداً } أي لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
البقرة 143. وقوله عز وجل { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم، عن أمره لك بذلك، { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه، { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم، وكل أمرهم إلى الله تعالى، فإن فيه كفاية لهم، ولهذا قال جل جلاله { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }.
قوله تعالى: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الواو عاطفة جملة على جملة؛ والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتالياً سراجاً منيراً، يكون معطوفاً على الكاف لا في «أَرْسَلْنَاكَ». قال ابن عطية: قال لنا أُبَيّ رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى؛ لأن الله عز وجل قد أمر نبيّه أن يبشّر المؤمنين بأن لهم عنده فضلاً كبيراً؛ وقد بيّن تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى :
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }
[الشورى: 22]. فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في «حۤم. عۤسۤقۤ» تفسير لها. { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. «الْكَافِرِينَ»: أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعْوَر السُّلَمِيّ؛ قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. «وَالْمُنَافِقِينَ»: عبد الله بن أُبَيّ وعبد الله بن سعد وطُعْمة بن أُبَيْرِق، حَثُّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعِلّة المصلحة. { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي دع أن تؤذيهم مجازاةً على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونُسخ من الآية على هذا التأويل ما يخصّ الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثانٍ: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به؛ فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } وفي قوّة الكلام وعدٌ بنصر. والوكيل: الحافظ القائم على الأمر.
وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَضۡلٗا كَبِيرٗا ٧٤
هذه الأشياء التي وصف الله بها رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم، هي المقصود من رسالته وزبدتها وأصولها التي اختص بها، وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه { شَٰهِداً } أي: شاهداً على أمته بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى :
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }
[ البقرة: 143 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً }
[النساء: 41] فهو صلى اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول. الثاني، والثالث: كونه { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك. فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم. وذلك كله يستلزم ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب. والمنْذَر هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل. وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب والسُنّة، المشتمل على ذلك. الرابع: كونه { دَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ } أي: أرسله اللّه يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عمّا لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره. الخامس: كونه { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها، حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلالاً إلى الصراط المستقيم. فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة. وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } ذكر في هذه الجملة المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة. وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النِعَم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عوناً على الكف عمّا حرّم اللّه. ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهراً وباطناً، نهى اللّه رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك، فقال: { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي: في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم { وَدَعْ أَذَاهُمْ } ] فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له ولأهله. { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده.
وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٨٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٨٤
قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود، حدثنا فليح بن سليمان، حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله ــــ قيل ابن رجاء، وقيل ابن صالح ــــ عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به. وقال البخاري في البيوع وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال وهب بن منبه إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في قومك بني إسرائيل، فإني منطق لسانك بوحي، وأبعث أمياً من الأميين، أبعثه مبشراً ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشراً ونذيراً، لا يقول الخنا، أفتح به أعيناً كمهاً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلال، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلون لي قياماً وقعوداً، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق، وبه يعدلون، وأعز من نصرهم، وأؤيد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على من خالفهم، أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والداعية إلى ربهم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويوفون بعهدهم، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله. ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال " انطلقا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، إنه قد أنزل علي { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } " ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله، وقال في آخره " فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك، ومبشراً بالجنة، ونذيراً من النار، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن " فقوله تعالى { شَاهِداً } أي لله بالوحدانية، وأنه لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
البقرة 143. وقوله عز وجل { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم، عن أمره لك بذلك، { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه، { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم، وكل أمرهم إلى الله تعالى، فإن فيه كفاية لهم، ولهذا قال جل جلاله { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً }.
وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٨٤
قوله تعالى: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الواو عاطفة جملة على جملة؛ والمعنى منقطع من الذي قبله. أمره تعالى أن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير من الله تعالى. وعلى قول الزجاج: ذا سراج منير، أو وتالياً سراجاً منيراً، يكون معطوفاً على الكاف لا في «أَرْسَلْنَاكَ». قال ابن عطية: قال لنا أُبَيّ رضي الله عنه: هذه من أرجى آية عندي في كتاب الله تعالى؛ لأن الله عز وجل قد أمر نبيّه أن يبشّر المؤمنين بأن لهم عنده فضلاً كبيراً؛ وقد بيّن تعالى الفضل الكبير في قوله تعالى :
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }
[الشورى: 22]. فالآية التي في هذه السورة خبر، والتي في «حۤم. عۤسۤقۤ» تفسير لها. { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك من المداهنة في الدين ولا تمالئهم. «الْكَافِرِينَ»: أبي سفيان وعكرمة وأبي الأعْوَر السُّلَمِيّ؛ قالوا: يا محمد، لا تذكر آلهتنا بسوء نتبعك. «وَالْمُنَافِقِينَ»: عبد الله بن أُبَيّ وعبد الله بن سعد وطُعْمة بن أُبَيْرِق، حَثُّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على إجابتهم بتعِلّة المصلحة. { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي دع أن تؤذيهم مجازاةً على إذايتهم إياك. فأمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم؛ فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ونُسخ من الآية على هذا التأويل ما يخصّ الكافرين، وناسخه آية السيف. وفيه معنى ثانٍ: أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به؛ فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل. وهذا تأويل مجاهد، والآية منسوخة بآية السيف. { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } أمره بالتوكل عليه وآنسه بقوله: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } وفي قوّة الكلام وعدٌ بنصر. والوكيل: الحافظ القائم على الأمر.
وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَدَعۡ أَذَىٰهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ٨٤
هذه الأشياء التي وصف الله بها رسوله محمداً صلى اللّه عليه وسلم، هي المقصود من رسالته وزبدتها وأصولها التي اختص بها، وهي خمسة أشياء: أحدها: كونه { شَٰهِداً } أي: شاهداً على أمته بما عملوه من خير وشر، كما قال تعالى :
{ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }
[ البقرة: 143 ]
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً }
[النساء: 41] فهو صلى اللّه عليه وسلم شاهد عدل مقبول. الثاني، والثالث: كونه { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وهذا يستلزم ذكر المبشر والمنذر، وما يبشر به وينذر، والأعمال الموجبة لذلك. فالمبشَّر هم: المؤمنون المتقون، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، وترك المعاصي، لهم البشرى في الحياة الدنيا، بكل ثواب دنيوي وديني، رتب على الإيمان والتقوى، وفي الأخرى بالنعيم المقيم. وذلك كله يستلزم ذكر تفصيل المذكور، من تفاصيل الأعمال، وخصال التقوى، وأنواع الثواب. والمنْذَر هم: المجرمون الظالمون، أهل الظلم والجهل، لهم النذارة في الدنيا، من العقوبات الدنيوية والدينية المترتبة على الجهل والظلم، وفي الأخرى، بالعقاب الوبيل، والعذاب الطويل. وهذه الجملة تفصيلها، ما جاء به صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب والسُنّة، المشتمل على ذلك. الرابع: كونه { دَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ } أي: أرسله اللّه يدعو الخلق إلى ربهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمرهم بعبادته التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامته على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم لربهم بصفاته المقدسة، وتنزيهه عمّا لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يعرض ذلك لكثير من النفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله تعالى له في الدعوة وأمره وإرادته وقدره. الخامس: كونه { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } وذلك يقتضي أن الخلق في ظلمة عظيمة، لا نور، يهتدى به في ظلماتها، ولا علم يستدل به في جهالاتها، حتى جاء اللّه بهذا النبي الكريم، فأضاء اللّه به تلك الظلمات، وعلم به من الجهالات، وهدى به ضُلالاً إلى الصراط المستقيم. فأصبح أهل الاستقامة قد وضح لهم الطريق، فمشوا خلف هذا الإمام وعرفوا به الخير والشر، وأهل السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة. وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } ذكر في هذه الجملة المبشَّر، وهم المؤمنون، وعند ذكر الإيمان بمفرده، تدخل فيه الأعمال الصالحة. وذكر المبشَّر به، وهو الفضل الكبير، أي: العظيم الجليل، الذي لا يقادر قدره، من النصر في الدنيا، وهداية القلوب، وغفران الذنوب، وكشف الكروب، وكثرة الأرزاق الدَّارَّة، وحصول النِعَم السارة، والفوز برضا ربهم وثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه.
وهذا مما ينشط العاملين، أن يذكر لهم من ثواب اللّه على أعمالهم، ما به يستعينون على سلوك الصراط المستقيم، وهذا من جملة حكم الشرع، كما أن من حكمه، أن يذكر في مقام الترهيب، العقوبات المترتبة على ما يرهب منه، ليكون عوناً على الكف عمّا حرّم اللّه. ولما كان ثَمَّ طائفة من الناس، مستعدة للقيام بصد الداعين إلى اللّه من الرسل وأتباعهم، وهم المنافقون، الذين أظهروا الموافقة في الإيمان، وهم كفرة فجرة في الباطن، والكفار ظاهراً وباطناً، نهى اللّه رسوله عن طاعتهم، وحذره ذلك، فقال: { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي: في كل أمر يصد عن سبيل اللّه، ولكن لا يقتضي هذا أذاهم، [بل لا تطعهم { وَدَعْ أَذَاهُمْ } ] فإن ذلك، جالب لهم، وداع إلى قبول الإسلام، وإلى كف كثير من أذيتهم له ولأهله. { وَتَوَكَّـلْ عَلَى ٱللَّهِ } في إتمام أمرك، وخذلان عدوك، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِـيلاً } تُوكَلُ إليه الأمور المهمة، فيقوم بها، ويسهلها على عبده.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٩٤
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٩٤
هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها، وقد اختلفوا في النكاح هل هو حقيقة في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده، إلا في هذه الآية، فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها. وقوله تعالى { ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } خرج مخرج الغالب، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق، وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح لأن الله تعالى قال { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فعقب النكاح بالطلاق، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق، فعندهما متى تزوجها، طلقت منه، واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، فقال مالك لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة رحمه الله كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه، فأما الجمهور، فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية. قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا يونس، يعني ابن أبي إسحاق، قال سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إذا قال كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، قال ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية. وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنما قال الله عز وجل { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح، وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال الله تعالى { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فلا طلاق قبل النكاح. وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقال الترمذي هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب، وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا طلاق قبل نكاحٍ ". وقوله عز وجل { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } هذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها، لا عدة عليها، فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً، وإن لم يكن دخل بها، بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }
البقرة 237 وقال عز وجل
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَـٰعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ }
البقرة 236 وفي " صحيح البخاري " عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل، فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما إن كان سمى لها صداقاً، فليس لها إلا النصف، وإن لم يكن سمى لها صداقاً، أمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٩٤
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } لما جرت قصة زيد وتطليقه زينب، وكانت مدخولاً بها، وخطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدّتها ـ كما بيّناه ـ خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبيّن ذلك الحكم للأمة؛ فالمطلّقة إذا لم تكن ممسوسةً لا عدّة عليها بنص الكتاب وإجماع الأمّة على ذلك. فإن دخل بها فعليها العدّة إجماعاً.
الثانية: النكاح حقيقة في الوطء، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث إنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثماً لأنه سبب في اقتراف الإثم. ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن، الكناية عنه بلفظ: الملامسة والمماسّة والقُربان والتغشّي والإتيان.
الثالثة: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } وبمهلة «ثُمَّ» على أن الطلاق لا يكون إلا بعد نكاح، وأن من طلّق المرأة قبل نكاحها وإن عَيّنها، فإن ذلك لا يلزمه. وقال هذا نَيِّفٌ على ثلاثين مِن صاحبٍ وتابِع وإمامٍ. سَمّى البخاريّ منهم اثنين وعشرين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا طلاق قبل نكاح " ومعناه: أن الطلاق لا يقع حتى يحصل النكاح. قال حبيب بن أبي ثابت: سئل علي بن الحسين رضي الله عنهما عن رجل قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق؟ فقال: ليس بشيء؛ ذكر الله عز وجل النكاح قبل الطلاق. وقالت طائفة من أهل العلم: إن طلاق المعيّنة الشخص أو القبيلة أو البلد لازم قبل النكاح؛ منهم مالك وجميع أصحابه، وجمع عظيم من علماء الأمة. وقد مضى في «براءة» الكلام فيها ودليل الفريقين. والحمد لله. فإذا قال: كل امرأة أتزوّجها (طالق) وكل عبد أشتريه حرّ؛ لم يلزمه شيء. وإن قال: كلّ امرأة أتزوّجها إلى عشرين سنة، أو إن تزوّجت من بلد فلان أو من بني فلان فهي طالق، لزمه الطلاق ما لم يخف العَنَت على نفسه في طول السنين، أو يكون عمره في الغالب لا يبلغ ذلك، فله أن يتزوّج. وإنما لم يلزمه الطلاق إذا عمّم لأنه ضّيق على نفسه المناكح، فلو منعناه ألاّ يتزوّج لحرِج وخيف عليه العنت. وقد قال بعض أصحابنا: إنه إن وجد ما يتسرر به لم ينكِح؛ وليس بشيء، وذلك أن الضرورات والأعذار ترفع الأحكام، فيصير هذا من حيث الضرورة كمن لم يحلف، قاله ابن خُوَيْزِمَنْدَاد.
الرابعة: استدلّ داود ـ ومن قال بقوله ـ إن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدّتها ثم فارقها قبل أن يَمَسها، أنه ليس عليها أن تتم عدّتها ولا عدّةً مستقبلة؛ لأنها مطلقة قبل الدخول بها.
وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضي في عدّتها من طلاقها الأوّل ـ وهو أحد قولي الشافعي ـ؛ لأن طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدّتها قبل أن يراجعها. ومن طلّق امرأته في كل طُهر مرّة بنت ولم تستأنف. وقال مالك: إذا فارقها قبل أن يمسها إنها لا تبني على ما مضى من عدّتها، وإنها تنشىء من يوم طلقها عدّة مستقبلة. وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها. وعلى هذا أكثر أهل العلم؛ لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة والسكنى وغير ذلك؛ ولذلك تستأنف العدّة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام. وقال الثوريّ: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
الخامسة: فلو كانت بائنة غير مبتوتة فتزوّجها في العدّة ثم طلّقها قبل الدخول فقد اختلفوا في ذلك أيضاً، فقال مالك والشافعيّ وزفر وعثمان البَتِّي: لها نصف الصداق وتتم بقية العدّة الأولى. وهو قول الحسن وعطاء وعكرمة وابن شهاب. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثَّوريّ والأوزاعيّ: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدّة مستقبلة. جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائه. وقال داود: لها نصف الصداق، وليس عليها بقية العدّة الأولى ولا عدّة مستقبلة. والأولى ما قاله مالك والشافعيّ، والله أعلم.
السادسة: هذه الآية مخصصة لقوله تعالى:
{ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ }
[البقرة: 228]، ولقوله:
{ وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ }
[الطلاق: 4]. وقد مضى في «البقرة»، ومضى فيها الكلام في المُتعة، فأغنى عن الإعادة هنا. { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } فيه وجهان: أحدهما: أنه دفع المتعة بحسب المَيْسرة والعُسْرة، قاله ابن عباس. الثاني: أنه طلاقها طاهراً من غير جماع؛ قاله قتادة. وقيل: فسرحوهنّ بعد الطلاق إلى أهلهنّ، فلا يجتمع الرجل والمطلّقة في موضع واحد.
السابعة: قوله تعالى: { فَمَتِّعُوهُنَّ } قال سعيد: هي منسوخة بالآية التي في البقرة، وهي قوله:
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }
[البقرة: 237] أي فلم يذكر المتعة. وقد مضى الكلام في هذا في «البقرة» مسوفى. وقوله: { وَسَرِّحُوهُنَّ } طلّقوهنّ. والتسريح كناية عن الطلاق عند أبي حنيفة، لأنه يستعمل في غيره فيحتاج إلى النية. وعند الشافعي صريح. وقد مضى في «البقرة» القول فيه فلا معنى للإعادة. { جَمِيلاً } سُنّة، غير بِدْعة.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٩٤
يخبر تعالى المؤمنين، أنهم إذا نكحوا المؤمنات، ثم طلقوهن من قبل أن يمسوهن، فليس عليهن في ذلك عدة يعتدها أزواجهن عليهن، وأمرهم بتمتيعهن بهذه الحالة، بشيء من متاع الدنيا، الذي يكون فيه جبر لخواطرهن، لأجل فراقهن، وأن يفارقوهن فراقًاً جميلاً من غير مخاصمة ولا مشاتمة ولا مطالبة، ولا غير ذلك. ويستدل بهذه الآية، على أن الطلاق لا يكون إلاّ بعد النكاح. فلو طلقها قبل أن ينكحها، أو علق طلاقها على نكاحها، لم يقع، لقوله: { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فجعل الطلاق بعد النكاح، فدلّ على أنه قبل ذلك، لا محل له. وإذا كان الطلاق الذي هو فرقة تامة وتحريم تام، لا يقع قبل النكاح، فالتحريم الناقص، لظهار أو إيلاء ونحوه، من باب أولى وأحرى، أن لا يقع قبل النكاح، كما هو أصح قَوْلي العلماء. ويدل على جواز الطلاق، لأن اللّه أخبر به عن المؤمنين، على وجه لم يلمهم عليه، ولم يؤنبهم، مع تصدير الآية بخطاب المؤمنين. وعلى جوازه قبل المسيس، كما قال في الآية الأخرى:
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ }
[البقرة: 236] وعلى أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، بل بمجرد طلاقها يجوز لها التزوج، حيث لا مانع، وعلى أن عليها العدة بعد الدخول. وهل المراد بالدخول والمسيس الوطء، كما هو مُجمَع عليه؟ أو وكذلك الخلوة، ولو لم يحصل معها وطء، كما أفتى بذلك الخلفاء الراشدون، وهو الصحيح. فمن دخل عليها، وطئها أم لا، إذا خلا بها، وجب عليها العدة. وعلى أن المطلقة قبل المسيس تمتع على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، ولكن هذا، إذا لم يفرض لها مهر، فإن كان لها مهر مفروض، فإنه إذا طلق قبل الدخول تَنَصَّف المهر، وكفى عن المتعة، وعلى أنه ينبغي لمن فارق زوجته قبل الدخول أو بعده، أن يكون الفراق جميلاً، يحمد فيه كل منهما الآخر. ولا يكون غير جميل، فإن في ذلك من الشر المرتب عليه، من قدح كل منهما بالآخر، شيء كثير. وعلى أن العدة حق للزوج، لقوله: { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } دل مفهومه، أنه لو طلقها بعد المسيس، كان له عليها عدة [وعلى أن المفارقة بالوفاة، تعتد مطلقاً، لقوله: { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية]. وعلى أن من عدا غير المدخول بها، من المفارقات من الزوجات، بموت أو حياة، عليهن العدة.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٥
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٥
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن، وهي الأجور ههنا، كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً وهو نصف أوقية، فالجميع خمسمائة درهم، إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار، وإلا صفية بنت حيــــي فإنه اصطفاها من سبي خيبر، ثم أعتقها، وجعل عتقها صداقها، كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية، أدى عنها كتابتها إلى ثابت ابن قيس بن شماس، وتزوجها ــــ رضي الله عنهن أجمعين ــــ. وقوله تعالى { آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم، وقد ملك صفية وجويرية، فأعتقهما وتزوجهما، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام، وكانتا من السراري رضي الله عنهما. وقوله تعالى { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } الآية، هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط، فإن النصارى لا يتزوجون المرأة، إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى، فأباح بنت العم والعمة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا شنيع فظيع، وإنما قال { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } فوحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الإناث لنقصهن كقوله
{ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ }
النحل 48
{ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ }
البقرة 297
{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ }
الأنعام 1 وله نظائر كثيرة. وقوله تعالى { ٱللاَّتِى هَـٰجَرْنَ مَعَكَ } قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه، فعذرني، ثم أنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به، ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه، ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة { ٱللاَّتِى هَـٰجَرْنَ مَعَكَ } أي أسلمن، وقال الضحاك قرأ ابن مسعود { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ } الآية، أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر، إن شئت ذلك.
وهذه الآية توالى فيها شرطان كقوله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِىۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ }
هود 34 وكقول موسى عليه السلام
{ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ }
يونس 84 وقال ههنا { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } الآية. وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق، أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ " فقال ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أعطيتها إزارك، جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً " فقال لا أجد شيئاً، فقال " التمس، ولو خاتماً من حديد " فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " هل معك من القرآن شيء؟ " قال نعم سورة كذا، وسورة كذا ــــ لسور يسميها ــــ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " زوجتكها بما معك من القرآن " أخرجاه من حديث مالك. وقال الإمام أحمد حدثنا عفان، حدثنا مرحوم، سمعت ثابتاً يقول كنت مع أنس جالساً، وعنده ابنة له، فقال أنس جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله هل لك فِيَّ حاجة؟ فقالت ابنته ما كان أقل حياءها فقال " هي خير منك، رغبت في النبي، فعرضت عليه نفسها " انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به. وقال أحمد أيضاً حدثنا عبد الله بن بكر، حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا ــــ فذكرت من حسنها وجمالها ــــ فآثرتك بها، فقال " قد قبلتها " فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع، ولم تشك شيئاً قط، فقال " لا حاجة لي في ابتنك " لم يخرجوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا ابن أبي الوضاح، يعني محمد بن مسلم، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم.
وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم، أو هي امرأة أخرى. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وكيع، حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمربن الحكم وعبد الله بن عبيدة، قالوا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة، ستاً من قريش خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة، وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة، وامرأتين من بني هلال بن عامر ميمونة بنت الحارث، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين، وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات، وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون، وهي التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } قال هي ميمونة بنت الحارث، فيه انقطاع، هذا مرسل، والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية، وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما قال البخاري حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا أبو أسامة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِىۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن منصور الجعفي، حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ووراه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير، أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به لأنه مردود إلى مشيئته كما قال الله تعالى { إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي إن اختار ذلك.
وقوله تعالى { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك، ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل، لم تحل له حتى يعطيها شيئاً، وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما، أي إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل، فإنه متى دخل بها، وجب عليه لها مهر مثلها، كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، لما فوضت، فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها، والموت والدخول سواء في تقرير المهر، وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء، ولو دخل بها، لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي، ولا شهود، كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها، ولهذا قال قتادة في قوله { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يقول ليس لا مرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِىۤ أَزْوَٰجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ } قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِىۤ أَزْوَٰجِهِـمْ } أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر، وما شاؤوا من الإماء، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم، وهم الأمة، وقد رخصنا لك في ذلك، فلم نوجب عليك شيئاً منه { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٥
فيه تسع عشرة مسألة:
الأولى: روى السّدّي عن أبي صالح عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني؛ ثم أنزل الله تعالى: { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت: فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر، كنت من الطُّلقاء. خرّجه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. قال ابن العربيّ: وهو ضعيف جداً، ولم يأتِ هذا الحديث من طريق صحيح يُحتجّ بها.
الثانية: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حَرُم عليه التزوّج بغيرهن والاستبدال بهنّ، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل على ذلك قوله تعالى: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } الآية. وهل كان يحلّ له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك جزاءً لهن على اختيارهن له. وقيل: كان يَحِلّ له ذلك كغيره من الناس ولكن لا يتزوّج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوّج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قوله تعالى: { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } والإحلال يقتضي تقدّم حَظْر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكنّ محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } الآية. ومعلوم أنه لم يكن تحته أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته ولا من بنات خاله ولا من بنات خالاته، فثبت أنه أحلّ له التزويج بهذا ابتداء. وهذه الآية وإن كانت مقدمة في التلاوة فهي متأخرة النزول على الآية المنسوخة بها، كآيتي الوفاة في «البقرة».
وقد اختلف الناس في تأويل قوله تعالى: { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } فقيل: المراد بها أن الله تعالى أحلّ له أن يتزوّج كل امرأة يؤتيها مهرها، قاله ابن زيد والضحاك. فعلى هذا تكون الآية مبيحة جميع النساء حاشا ذوات المحارم. وقيل: المراد أحلَلْنا لك أزواجك، أي الكائنات عندك، لأنهن قد اخترنك على الدنيا والآخرة، قاله الجمهور من العلماء. وهو الظاهر، لأن قوله: { آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } ماضٍ، ولا يكون الفعل الماضي بمعنى الاستقبال إلا بشروط. ويجيء الأمر على هذا التأويل ضيّقاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج في أيّ الناس شاء، وكان يشقّ ذلك على نسائه، فلما نزلت هذه الآية وحرم عليه بها النساء إلا مَن سُمِّيَ، سُرّ نساؤه بذلك.
قلت: والقول الأوّل أصح لما ذكرناه.
ويدلّ أيضاً على صحته ما خرّجه الترمذيّ عن عطاء قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله تعالى له النساء. قال: هذا حديث حسن صحيح.
الثالثة: قوله تعالى: { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أحلّ الله تعالى السراري لنبيّه صلى الله عليه وسلم ولأمّته مطلقاً، وأحل الأزواج لنبيّه عليه الصلاة والسلام مطلقاً، وأحلّه للخلق بعدَدٍ. وقوله: { مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } أي ردّه عليك من الكفار. والغنيمة قد تسمى فيئاً؛ أي مما أفاء الله عليك من النساء بالمأخوذ على وجه القهر والغلبة.
الرابعة: قوله تعالى: { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } أي أحللنا لك ذلك زائداً من الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، على قول الجمهور؛ لأنه لو أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتَ وآتيت أجرها، لما قال بعد ذلك: «وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ» لأن ذلك داخل فيما تقدّم.
قلت: وهذا لا يلزم، وإنما خصّ هؤلاء بالذكر تشريفاً؛ كما قال تعالى:
{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ }
[الرحمن: 68]. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: { ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فيه قولان: الأوّل: لا يحلّ لك من قرابتك كبنات عمك العباس وغيره من أولاد عبد المطلب، وبنات أولاد بنات عبد المطلب، وبنات الخال من ولد بنات عبد مناف بن زُهْرة إلا من أسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجِر من هجر ما نهى الله تعالى عنه " الثاني: لا يحلّ لك منهن إلا من هاجر إلى المدينة؛ لقوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ }
[الأنفال: 72] ومن لم يهاجر لم يَكْمُل، ومَن لم يكمل لم يصلح للنبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كَمُل وشَرُف وعَظُم، صلى الله عليه وسلم.
السادسة: قوله تعالى: { مَعَكَ } المَعِيّة هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها؛ فمن هاجر حلّ له، كان في صحبته إذ هاجر أو لم يكن. يقال: دخل فلان معي وخرج معي؛ أي كان عمله كعملي وإن لم يقترن فيه عَمَلُكما. ولو قلت: خرجنا معاً لاقتضى ذلك المعنيين جميعاً: الاشتراك في الفعل، والاقتران (فيه).
السابعة: ذكر الله تبارك وتعالى العمّ فَرْداً والعمّات جمعاً. وكذلك قال: «خَالِكَ»، «وَخَالاَتِكَ» والحكمة في ذلك: أن العمّ والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز؛ وليس كذلك العمة والخالة. وهذا عُرْف لغويّ، فجاء الكلام عليه بغاية البيان لرفع الإشكال، وهذا دقيق فتأملوه؛ قاله ابن العربي.
الثامنة: قوله تعالى: { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً } عطف على «أَحْلَلْنَا». المعنى وأحللنا لك امرأة تَهَب نفسها من غير صداق. وقد اختلف في هذا المعنى؛ فروي عن ابن عباس أنه قال؛ لم تكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو مِلك يمين.
فأما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقال قوم: كانت عنده موهوبة.
قلت: والذي في الصحيحين يقوّي هذا القول ويَعْضُدُه؛ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وَهَبْنَ أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أما تستحيي امرأة تَهَب نفسها لرجل! حتى أنزل الله تعالى: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } فقلت: والله ما أرى رَبَّكَ إلا يسارع في هواك. وروى البخاريّ عن عائشة أنها قالت: كانت خَوْلة بنت حكيم من اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فدلّ هذا على أنهن كنّ غير واحدة. والله تعالى أعلم. الزَّمَخْشَرِيّ: وقيل الموهبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك بنت جابر، وخَوْلة بنت حكيم.
قلت: وفي بعض هذا اختلاف. قال قتادة: هي ميمونة بنت الحارث. وقال الشعبيّ: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. وقال عليّ بن الحسين والضحاك ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة ابن الزبير: أم حكيم بنت الأوقص السلمية.
التاسعة: وقد اختلف في اسم الواهبة نفسها؛ فقيل هي أم شريك الأنصارية، اسمها غُزِيّة. وقيل غُزَيلة. وقيل ليلى بنت حكيم. وقيل: هي ميمونة بنت الحارث حين خطبها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءها الخاطب وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي أم شريك العامرية، وكانت عند أبي العكر الأزدي. وقيل: عند الطُّفيل بن الحارث فولدت له شريكاً. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجها؛ ولم يثبت ذلك. والله تعالى أعلم؛ ذكره أبو عمر بن عبد البر. وقال الشعبيّ وعروة: هي زينب بنت خزيمة أم المساكين. والله تعالى أعلم.
العاشرة: قرأ جمهور الناس «إِنْ وَهَبَتْ» بكسر الألف، وهذا يقتضي استئناف الأمر؛ أي إن وقع فهو حلال له. وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة؛ وقد دللنا على خلافه. وروى الأئمة من طريق سهل وغيره في الصحاح: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت أهب لك نفسي، فسكت حتى قام رجل فقال: زوجْنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فلو كانت هذه الهبة غير جائزة لما سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقرّ على الباطل إذا سمعه؛ غير أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظراً بياناً؛ فنزلت الآية بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوّجها من غيره. ويحتمل أن يكون سكت ناظراً في ذلك حتى قام الرجل لها طالباً. وقرأ الحسن البصريّ وأُبَيّ بن كعب والشعبيّ «أنْ» بفتح الألف. وقرأ الأعمش «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وَهَبَتْ».
قال النحاس: وكسر «إنْ» أجمع للمعاني؛ لأنه قيل إنهن نساء. وإذا فتح كان المعنى على واحدة بعينها؛ لأن الفتح على البدل من امرأة، أو بمعنى لأن.
الحادية عشرة: قوله تعالى: { مُّؤْمِنَةً } يدلّ على أن الكافرة لا تحلّ له. قال إمام الحرمين: وقد اختلف في تحريم الحرّة الكافرة عليه. قال ابن العربيّ: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا؛ فإنه ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحظه فيه أكثر، وما كان من جانب النقائص فجانبه عنها أطهر؛ فجوّز لنا نكاح الحرائر الكتابيات، وقصر هو صلى الله عليه وسلم لجلالته على المؤمنات. وإذا كان لا يحلّ له من لم تهاجر لنقصان فضل الهجرة فأحْرَى ألاّ تحل له الكافرة الكتابية لنقصان الكفر.
الثانية عشرة: قوله تعالى: { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا } دليل على أن النكاح عقد معاوضة على صفات مخصوصة، قد تقدمت في «النساء» وغيرها. وقال الزجاج: معنى: «إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيّ» حلّت. وقرأ الحسن: «أن وهبت» بفتح الهمزة. و«أن» في موضع نصب. قال الزجاج: أي لأن. وقال غيره: «أن وهبت» بدل اشتمال من «امرأة».
الثالثة عشرة: قوله تعالى: { إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي إذا وهبت المرأة نفسها وقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم حلت له، وإن لم يقبلها لم يلزم ذلك. كما إذا وهبت لرجل شيئاً فلا يجب عليه القبول؛ بَيْد أن من مكارم أخلاق نبيّنا أن يقبل من الواهب هبته. ويرى الأكارم أن ردّها هُجْنة في العادة، ووصمة على الواهب وأَذِيّة لقلبه؛ فبيّن الله ذلك في حق رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله قرآنا يتلى؛ ليرفع عنه الحرج، ويبطل بُطْل الناس في عادتهم وقولهم.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: { خَالِصَةً لَّكَ } أي هبة النساء أنفسهن خالصة ومزية لا تجوز؛ فلا يجوز أن تَهَب المرأة نفسها لرجل. ووجه الخاصيّة أنها لو طلبت فرض المهر قبل الدخول لم يكن لها ذلك. فأما فيما بيننا فللمفوّضة طلب المهر قبل الدخول، ومهر المثل بعد الدخول.
الخامسة عشرة: أجمع العلماء على أن هبة المرأة نفسها غير جائز، وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة وصاحبيه فإنهم قالوا: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز. قال ابن عطية: فليس في قولهم إلا تجويز العبارة ولفظة الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، وقد تقدمت هذه المسألة في «القصص» مستوفاة. والحمد لله.
السادسة عشرة: خصّ الله تعالى رسوله في أحكام الشريعة بمعان لم يشاركه فيها أحد ـ في باب الفرض والتحريم والتحليل ـ مزيّةً على الأمة وهبت له، ومرتبة خصّ بها؛ ففرِضت عليه أشياء ما فرضت على غيره، وحَرُمت عليه أفعال لم تحرم عليهم، وحللت له أشياء لم تحلل لهم؛ منها متفَق عليه ومختلف فيه.
فأما ما فُرض عليه فتسعة: الأوّل: التهجد بالليل؛ يقال: إن قيام الليل كان واجِباً عليه إلى أن مات؛ لقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلْلَّيْلَ }
[المزمل: 1 ـ 2] الآية. والمنصوص أنه كان واجباً عليه ثم نسخ بقوله تعالى:
{ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ }
[الإسراء: 79] وسيأتي. الثاني: الضُّحَا. الثالث: الأَضْحى. الرابع: الوتر؛ وهو يدخل في قسم التهجُّد. الخامس: السواك. السادس: قضاء دين من مات معسِرا. السابع: مشاورة ذوي الأحلام في غير الشرائع. الثامن: تخيير النساء. التاسع: إذا عمل عملاً أثبته. زاد غيره: وكان يجب عليه إذا رأى منكراً أنكره وأظهره، لأن إقراره لغيره على ذلك يدلّ على جوازه، ذكره صاحب البيان.
وأما ما حرم عليه فجملته عشرة: الأوّل: تحريم الزكاة عليه وعلى آله. الثاني: صدقة التطوّع عليه، وفي آله تفصيل باختلاف. الثالث: خائنة الأعين، وهو أن يظهر خلاف ما يضمر، أو ينخدع عما يجب. وقد ذمّ بعضَ الكفار عند إذنه ثم ألان له القول عند دخوله. الرابع: حَرّم الله عليه إذا لبس لأْمته أن يخلعها عنه أو يحكم الله بينه وبين محاربه. الخامس: الأكل متّكئاً. السادس: أكل الأطعمة الكريهة الرائحة. السابع: التبدّل بأزواجه؛ وسيأتي. الثامن: نكاح امرأة تكره صحبته. التاسع: نكاح الحرّة الكتابية. العاشر: نكاح الأمة.
وحرّم الله عليه أشياء لم يحرمها على غيره تنزيهاً له وتطهيراً. فحرّم الله عليه الكتابة وقول الشعر وتعليمه؛ تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته؛ قال الله تعالى:
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ }
[العنكبوت: 48]. وذكر النقاش أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب؛ والأوّل هو المشهور. وحرم عليه أن يمدّ عينيه إلى ما متّع به الناس؛ قال الله تعالى:
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ }
[الحجر: 88] الآية.
وأما ما أحِلّ له صلى الله عليه وسلم فجملته ستة عشر: الأوّل: صَفِيّ المغنم. الثاني: الاستبداد بخمس الخمس أو الخمس. الثالث: الوصال. الرابع: الزيادة على أربع نسوة. الخامس: النكاح بلفظ الهبة. السادس: النكاح بغير ولِيّ. السابع: النكاح بغير صداق. الثامن: نكاحه في حالة الإحرام. التاسع: سقوط القَسْم بين الأزواج عنه؛ وسيأتي. العاشر: إذا وقع بصره على امرأة وجب على زوجها طلاقها؛ وحلّ له نكاحها. قال ابن العربي: هكذا قال إمام الحرمين، وقد مضى ما للعلماء في قصة زيد من هذا المعنى. الحادي عشر: أنه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها. الثاني عشر: دخوله مكة بغير إحرام، وفي حقنا فيه اختلاف. الثالث عشر: القتال بمكة. الرابع عشر: أنه لا يورث. وإنما ذكر هذا في قسم التحليل لأن الرجل إذا قارب الموت بالمرض زال عنه أكثر ملكه، ولم يبق له إلا الثلث خالصاً، وبقي ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما تقرّر بيانه في آية المواريث، وسورة «مريم» بيانه أيضاً.
الخامس عشر: بقاء زوجيّته من بعد الموت. السادس عشر: إذا طلّق امرأة تبقى حرمته عليها فلا تُنكح. وهذه الأقسام الثلاثة تقدّم معظمها مفصلاً في مواضعها. وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وأبيح له عليه الصلاة والسلام أخذ الطعام والشراب من الجائع والعطشان، وإن كان من هو معه يخاف على نفسه الهلاك، لقوله تعالى: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }. وعلى كل أحد من المسلمين أن يَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. وأبيح له أن يحمي لِنفسه. وأكرمه الله بتحليل الغنائم. وجعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً. وكان من الأنبياء (مَن) لا تصح صلاتهم إلا في المساجد. ونُصِر بالرُّعْب؛ فكان يخافه العدوّ من مسيرة شهر. وبُعث إلى كافة الخلق، وقد كان مَن قبله من الأنبياء يُبعث الواحد إلى بعض الناس دون بعض. وجُعلت معجزاته كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة. وكانت معجزة موسى عليه السلام العصا وانفجارَ الماء من الصخرة. وقد انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وخرج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وكانت معجزة عيسى صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى وإبراء الأكْمَه والأبرص. وقد سبّح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وحنّ الجِذع إليه؛ وهذا أبلغ. وفضّله الله عليهم بأن جعل القرآن معجزة له، وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا جُعلت نبوَّته مؤبّدة لا تُنسخ إلى يوم القيامة.
السابعة عشرة: قوله تعالى: { أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي ينكحها، يقال: نَكَح واستنكح؛ مثل عَجِب واستعجب، وعجِل واستعجل. ويجوز أن يَردِ الاستنكاح بمعنى طلب النكاح، أو طلب الوطء. و«خَالِصَةً» نصب على الحال، قاله الزجاج. وقيل: حال من ضمير متصل بفعل مضمر دلّ عليه المضمر، تقديره: أحللنا لك أزواجك، وأحللنا لك امرأة مؤمنة أحللناها خالصة، بلفظ الهبة وبغير صداق وبغير ولِيّ.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: { مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } فائدته أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة عندنا فليس لهم في ذلك دخول، لأن تصريف الأحكام إنما يكون فيهم على تقدير الإسلام.
قوله تعالى: { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ } أي ما أوجبنا على المؤمنين، وهو ألا يتزوّجوا إلا أربع نسوة بمهر وبيّنة ووَلِيّ. قال معناه أُبَيّ بن كعب وقتادة وغيرهما.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } أي ضيق في أمر أنت فيه محتاج إلى السّعة، أي بيّنا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح «لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ» فـ«ـلكيلا» متعلق بقوله: { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } أي فلا يضيق قلبك حتى يظهر منك أنك قد أثمت عند ربّك في شيء. ثم آنس تعالى جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته فقال تعالى: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحۡلَلۡنَا لَكَ أَزۡوَٰجَكَ ٱلَّٰتِيٓ ءَاتَيۡتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّٰتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَٰلَٰتِكَ ٱلَّٰتِي هَاجَرۡنَ مَعَكَ وَٱمۡرَأَةٗ مُّؤۡمِنَةً إِن وَهَبَتۡ نَفۡسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنۡ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسۡتَنكِحَهَا خَالِصَةٗ لَّكَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۗ قَدۡ عَلِمۡنَا مَا فَرَضۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيٓ أَزۡوَٰجِهِمۡ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ لِكَيۡلَا يَكُونَ عَلَيۡكَ حَرَجٞۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٥
يقول تعالى، ممتناً على رسوله بإحلاله له ما أحل مما يشترك، هو والمؤمنون، وما ينفرد به ويختص: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي: أعطيتهن مهورهن، من الزوجات، وهذا من الأمور المشتركة بينه وبين المؤمنين [فإن المؤمنين]، كذلك يباح لهم ما آتوهن أجورهن من الأزواج. { وَ } كذلك أحللنا لك { مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي: الإماء التي ملكت { مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } من غنيمة الكفار من عبيدهم، والأحرار من لهن زوج منهم، ومَنْ لا زوج لهن، وهذا أيضاً مشترك. وكذلك من المشترك، قوله { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } شمل العم والعمة، والخال والخالة، القريبين والبعيدين، وهذا حصر المحللات. يؤخذ من مفهومه أن ما عداهن من الأقارب غير محلل، كما تقدم في سورة النساء، فإنه لا يباح من الأقارب من النساء، غير هؤلاء الأربع، وما عداهن من الفروع مطلقاً، والأصول مطلقاً، وفروع الأب والأم، وإن نزلوا، وفروع مَنْ فوقهم لصلبه، فإنه لا يباح. وقوله { ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قيد لحل هؤلاء للرسول، كما هو الصواب من القولين في تفسير هذه الآية، وأما غيره عليه الصلاة والسلام، فقد علم أن هذا قيد لغير الصحة. { وَ } أحللنا لك { ٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } بمجرد هبتها نفسها. { إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي: هذا تحت الإرادة والرغبة، { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يعني: إباحة المُوَهِبَةِ. وأما المؤمنون، فلا يحل لهم أن يتزوجوا امرأة بمجرد هبتها نفسها لهم. { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: قد علمنا ما على المؤمنين، وما يحل لهم، وما لا يحل من الزوجات وملك اليمين. وقد علمناهم بذلك، وبينا فرائضه. فما في هذه الآية، مما يخالف ذلك، فإنه خاص لك، لكون اللّه جعله خطاباً للرسول وحده بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ } إلى آخر الآية. وقوله: { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وأبحنا لك يا أيها النبي ما لم نبح لهم، ووسعنا لك ما لم نوسع على غيرك، { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } وهذا من زيادة اعتناء اللّه تعالى برسوله صلى اللّه عليه وسلم. { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: لم يزل متصفاً بالمغفرة والرحمة، وينزل على عباده من مغفرته ورحمته وجوده وإحسانه، ما اقتضته حكمته، ووجدت منهم أسبابه.
۞ تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا ١٥
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا ١٥
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن بشر، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنزل الله عز وجل { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِىۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } الآية، قالت إني أرى ربك يسارع لك في هواك. وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة، فدل هذا على أن المراد بقوله { تُرْجِى } أي تؤخر { مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } أي من الواهبات { وَتُؤْوِىۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } أي من شئت قبلتها، ومن شئت رددتها، ومن رددتها، فأنت فيها أيضاً بالخيار بعد ذلك، إن شئت عدت فيها فآويتها، ولهذا قال { وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ }. قال عامر الشعبي في قوله تعالى { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } الآية، كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن، وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده، منهن أم شريك. وقال آخرون بل المراد بقوله { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } الآية، أي من أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القسم لهن، فتقدم من شئت، وتؤخر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت، هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لهن، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم واحتجوا بهذه الآية الكريمة. وقال البخاري حدثنا حبان بن موسى، حدثنا عبد الله، هو ابن المبارك، وأخبرنا عاصم الأحول عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِىۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فقلت لها ما كنت تقولين؟ فقالت كنت أقول إن كان ذلك إلي، فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً، فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم، وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات، ومن ههنا اختار ابن جرير أن الآية عامة في الواهبات، وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم، وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي، وفيه جمع بين الأحاديث، ولهذا قال تعالى { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت، ثم مع هذا إن تقسم لهن اختياراً منك، لا أنه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك، واستبشرن به، وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن، وتسويتك بينهن، وإنصافك لهن، وعدلك فيهن.
وقوله تعالى { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه كما قال الإمام أحمد حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول " اللهم هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة، وزاد أبو داود بعد قوله " فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني القلب. وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً } أي بضمائر السرائر { حَلِيماً } أي يحلم ويغفر.
۞ تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا ١٥
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } قرىء مهموزاً وغير مهموز، وهما لغتان، يقال: أرجيت الأمر وأرجأته إذا أخرته. { وَتُؤْوِيۤ } تَضُمّ، يقال: آوى إليه (ممدودة الألف) ضمّ إليه. وأوى (مقصورة الألف) انضمّ إليه.
الثانية: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها. التوسعة على النبيّ صلى الله عليه وسلم في ترك القَسْم، فكان لا يجب عليه القَسْم بين زوجاته. وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفُسَهُن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أوتهب المرأة نفسها لرجل؟ فلما أنزل الله عز وجل: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } قالت: قلت والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. قال ابن العربيّ: هذا الذي ثبت في الصحيح هو الذي ينبغي أن يعوّل عليه. والمعنى المراد: هو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مخيَّراً في أزواجه، إن شاء أن يَقْسِم قَسَم، وإن شاء أن يترك القَسم ترك. فخص النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن جعل الأمر إليه فيه؛ لكنه كان يقسم من قِبل نفسه دون أن فرض ذلك عليه، تطييباً لنفوسهنّ، وصوناً لهنّ عن أقوال الغَيْرة التي تؤدي إلى ما لا ينبغي. وقيل: كان القَسْم واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الوجوب عنه بهذا الآية. قال أبو رَزين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد همّ بطلاق بعض نسائه فقلن له: اقسم لنا ما شئت. فكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكان قسمتهنّ من نفسه وماله سواء بينهنّ. وكان ممن أرجى سودة وجُوَيْرِية وأم حبيبة وميمونة وصفية؛ فكان يقسم لهنّ ما شاء. وقيل: المراد الواهبات. روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله: «تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ» قالت: هذا في الواهبات أنفسهنّ. قال الشعبيّ: هنّ الواهبات أنفسهنّ؛ تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ وترك منهنّ. وقال الزُّهْري: ما علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجأ أحداً من أزواجه، بل آواهن كلهن. وقال ابن عباس وغيره: المعنى في طلاق من شاء ممن حصل في عصمته، وإمساك من شاء. وقيل غير هذا. وعلى كلّ معنًى فالآية معناها التوسعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والإباحة. وما اخترناه أصح والله أعلم.
الثالثة: ذهب هبة الله في الناسخ والمنسوخ إلى أن قوله: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ } الآية، ناسخ لقوله:
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ }
[الأحزاب: 52] الآية.
وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدّم المنسوخَ سوى هذا. وكلامه يضعف من جهات. وفي «البقرة» عدّة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر، وهو ناسخ للحول وقد تقدّم عليه.
الرابعة: قوله تعالى: { وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ } «ابْتَغَيْت» طلبت؛ والابتغاء الطلب. و«عَزَلْت» أزلت؛ والعزلة الإزالة، أي إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمّها إليك فلا بأس عليك في ذلك. وكذلك حكم الإرجاء، فدلّ أحد الطرفين على الثاني.
الخامسة: قوله تعالى: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } أي لا ميل، يقال: جنحت السفينة أي مالت إلى الأرض. أي لا ميل عليك باللوم والتوبيخ.
السادسة: قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } قال قتادة وغيره: أي ذلك التخيير الذي خيّرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا؛ لأنهن إذا علمن أن الفعل من الله قرّت أعينهن بذلك ورضين؛ لأن المرء إذا علم أنه لا حق له في شيء كان راضياً بما أوتي منه وإن قلّ. وإن علم أن له حقًّا لم يقنعه ما أوتي منه، واشتدت غَيْرته عليه وعَظُمَ حرصه فيه. فكان ما فعل الله لرسوله من تفويض الأمر إليه في أحوال أزواجه أقرب إلى رضاهن معه، وإلى استقرار أعينهن بما يسمح به لهن، دون أن تتعلق قلوبهن بأكثر منه. وقرىء: «تُقِرّ أعينَهن» بضم التاء ونصب الأعين. «وتُقَرّ أعينُهن» على البناء للمفعول. وكان عليه السلام مع هذا يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييباً لقلوبهن ـ كما قدّمناه ـ ويقول: " اللهم هذه قدرتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني قلبه؛ لإيثاره عائشة رضي الله عنها دون أن يكون يظهر ذلك في شيء من فعله. وكان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به محمولاً على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهن أن يقيم في بيت عائشة. قالت عائشة: " أوّل ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن أزواجه أن يمرّض في بيتها ـ يعني بيت عائشة ـ فأذِنّ له... " الحديث، خرجه الصحيح. وفي الصحيح أيضاً " عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد، يقول: «أين أنا اليوم أين أنا غداً» استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها. قالت: فلما كان يومي قبضه الله تعالى بين سَحْري ونَحْري؛ صلى الله عليه وسلم ".
السابعة: على الرجل أن يعدِل بين نسائه لكل واحدة منهن يوماً وليلة؛ هذا قول عامة العلماء. وذهب بعضهم إلى وجوب ذلك في الليل دون النهار. ولا يُسقِط حقّ الزوجة مرضُها ولا حَيضُها، ويلزمه المقام عندها في يومها وليلتها. وعليه أن يعدل بينهن في مرضه كما يفعل في صحته؛ إلا أن يَعْجِز عن الحركة فيقيم حيث غلب عليه المرض، فإذا صحَّ استأنف القَسم.
والإماء والحرائر والكتابيات والمسلمات في ذلك سواء. قال عبد الملك: للحُرّة ليلتان وللأمة ليلة. وأما السراري فلا قَسْم بينهن وبين الحرائر، ولا حظّ لهن فيه.
الثامنة: ولا يجمع بينهن في منزل واحد إلا برضاهن، ولا يدخل لإحداهن في يوم الأخرى وليلتها لغير حاجة. واختلف في دخوله لحاجة وضرورة؛ فالأكثرون على جوازه؛ مالك وغيره. وفي كتاب ابن حبيب منعه. وروى ابن بكير عن مالك عن يحيـى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان، فإذا كان يوم هذه لم يشرب من بيت الأخرى الماء. قال ابن بكير: وحدّثنا مالك عن يحيـى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان ماتتا في الطاعون. فأسهم بينهما أيهما تدلى أوّل.
التاسعة: قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال، ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب. وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة على غير وجه الميل. فأما الحُبّ والبغض فخارجان عن الكسب فلا يتأتّى العدل فيهما، وهو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم في قَسْمه: " اللهم هذا فِعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " أخرجه النسائي وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها. وفي كتاب أبي داود «يعني القلب»، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ }
[النساء: 129]، وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ }. وهذا هو وجه تخصيصه بالذكر هنا، تنبيهاً منه لنا على أنه يعلم ما في قلوبنا من ميل بعضنا إلى بعض مَن عندنا من النساء دون بعض، وهو العالِم بكل شيء
{ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ }
[آل عمران: 5]
{ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى }
[طه: 7] لكنه سَمَح في ذلك، إذ لا يستطيع العبد أن يصرف قلبه عن ذلك الميل، وإلى ذلك يعود قوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }. وقد قيل في قوله: { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } وهي:
العاشرة: أي ذلك أقرب ألاّ يحزنّ إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى ويعاين الأثَرَة والميل. وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقه مائل " { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } توكيد للضمير، أي ويرضين كلهن. وأجاز أبو حاتم والزجاج «وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ» على التوكيد للمضمر الذي في «آتيتهن». والفراء لا يجيزه، لأن المعنى ليس عليه، إذ كان المعنى وترضى كل واحدة منهن، وليس المعنى بما أعطيتهن كلهن. النحاس: والذي قاله حسن.
الحادية عشرة: قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } خبر عام، والإشارة إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص.
وكذلك يدخل في المعنى أيضاً المؤمن. وفي البخاريّ " عن عمرو بن العاص: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أيّ الناس أحبّ إليك؟ فقال: «عائشة» فقلت: من الرجال؟ قال: «أبوها» قلت: ثم مَن؟ قال: «عمر بن الخطاب...» فعدّ رجالاً " وقد تقدّم القول في القلب بما فيه كفاية في أوّل «البقرة»، وفي أول هذه السورة. يروى أن لقمان الحكيم كان عبداً نجاراً قال له سيّده: اذبح شاة وائتني بأطيبها بَضْعتين، فأتاه باللسان والقلب. ثم أمره بذبح شاة أخرى فقال له: ألق أخبثها بَضْعتين، فألقى اللسان والقلب. فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها بَضْعتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تُلقي بأخبثها بَضْعتين فألقيت اللسان والقلب!؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خَبُثا.
۞ تُرۡجِي مَن تَشَآءُ مِنۡهُنَّ وَتُٔۡوِيٓ إِلَيۡكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ ٱبۡتَغَيۡتَ مِمَّنۡ عَزَلۡتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكَۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا ١٥
وهذا أيضاً من توسعة اللّه على رسوله ورحمته به، أن أباح له ترك القسم بين زوجاته على وجه الوجوب، وأنه إن فعل ذلك فهو تبرع منه، ومع ذلك، فقد كان صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في القسم بينهن في كل شيء، ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك ". فقال هنا: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } [أي: تؤخر من أردت من زوجاتك فلا تؤويها إليك، ولا تبيت عندها] { وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } أي: تضمها وتبيت عندها. { وَ } مع ذلك لا يتعين هذا الأمر { مَنِ ٱبْتَغَيْتَ } أي: تؤويها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } والمعنى أن الخيرة بيدك في ذلك كله [وقال كثير من المفسرين إن هذا خاص بالواهبات له أن يرجي من يشاء ويؤوي من يشاء، أي: إن شاء قبل من وهبت نفسها له وإن شاء لم يقبلها واللّه أعلم]. ثم بيّن الحكمة في ذلك فقال: { ذَلِكَ } أي: التوسعة عليك، وكون الأمر راجعاً إليك وبيدك، وكون ما جاء منك إليهن تبرعاً منك { أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } لعلمهن أنك لم تترك واجباً، ولم تفرط في حق لازم. { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } أي: ما يعرض لها عند أداء الحقوق الواجبة والمستحبة، وعند المزاحمة في الحقوق، فلذلك شرع لك التوسعة يا رسول اللّه، لتطمئن قلوب زوجاتك. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً } أي: واسع العلم، كثير الحلم. ومن علمه، أن شرع لكم ما هو أصلح لأموركم، وأكثر لأجوركم. ومن حلمه، أن لم يعاقبكم بما صدر منكم، وما أصرت عليه قلوبكم من الشر.
لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا ٢٥
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا ٢٥
ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم، أن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضاً عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية، فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن، وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن، أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن، ولو أعجبه حسنهن، إلا الإماء والسراري، فلا حرج عليه فيهن، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن. قال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء، ورواه أيضاً من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة، ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، حدثني عمر بن أبي بكر، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة أنها قالت لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء، إلا ذات محرم، وذلك قول الله تعالى { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } الآية، فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة، الأولى ناسخة للتي بعدها، والله أعلم. وقال آخرون بل معنى الآية { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن، وما ملكت يمينك، وبنات العم والعمات، والخال والخالات، والواهبة، وما سوى ذلك من أصناف النساء، فلا يحل لك، وهذا ما روي عن أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه، وعكرمة والضحاك في رواية، وأبي رزين في رواية عنه، وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية، والسدي وغيرهم، قال ابن جرير حدثنا يعقوب، حدثنا ابن علية عن داود بن أبي هند، حدثني محمد بن أبي موسى عن زياد عن رجل من الأنصار قال قلت لأبي بن كعب أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال وما يمنعه من ذلك؟ قال قلت قول الله تعالى { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } فقال إنما أحل الله له ضرباً من النساء، فقال تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ } ــــ إلى قوله تعالى ــــ { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ } ثم قيل له { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } ورواه عبد الله بن أحمد من طرق عن داود به.
وروى الترمذي عن ابن عباس قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } فأحل الله فتياتكم المؤمنات، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وحرم كل ذات دين غير الإسلام، ثم قال
{ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ }
المائدة 5 الآية. وقال تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَٰجَكَ ٱللاَّتِىۤ ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } ــــ إلى قوله تعالى ــــ { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء، وقال مجاهد { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي من بعد ما سمي لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة. وقال أبو صالح { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية، ويتزوج بعد من نساء تهامة، وما شاء من بنات العم والعمة، والخال والخالة، إن شاء ثلاثمائة. وقال عكرمة { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي التي سمى الله. واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء، وفي النساء اللواتي في عصمته، وكن تسعاً، وهذا الذي قاله جيد، ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف، فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا، ولا منافاة، والله أعلم. ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، ثم راجعها وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة، ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } الآية، وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الآية صحيح، ولكن لا يحتاج إلى ذلك، فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته، وأنه لا يستبدل بهن غيرهن، ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال، فالله أعلم، فأما قضية سودة، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وهي سبب نزول قوله تعالى
{ وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً }
النساء 128 الآية. وأما قضية حفصة، فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في " صحيحه " من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن صالح بن صالح بن حيي عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، ثم راجعها، وهذا إسناد قوي.
وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو كريب، حدثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عمر قال دخل عمر على حفصة وهي تبكي، فقال ما يبكيك؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك، إنه قد كان طلقك مرة، ثم راجعك من أجلي، والله لئن كان طلقك مرة أخرى، لا أكلمك أبداً، ورجاله على شرط " الصحيحين ". وقوله تعالى { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } فنهاه عن الزيادة عليهن إن طلق واحدة منهن، واستبدال غيرها بها، إلا ما ملكت يمينه، وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً مناسباً ذكره ههنا، فقال حدثنا إبراهيم بن نصر، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله القرشي، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل بادلني امرأتك، وأبادلك بامرأتي، أي تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأين الاستئذان؟ " فقال يارسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثم قال من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه عائشة أم المؤمنين " قال أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ قال " يا عيينة إن الله قد حرم ذلك " فلما أن خرج، قالت عائشة من هذا؟ قال " هذا أحمق مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه " ثم قال البزار إسحاق بن عبد الله لين الحديث جداً، وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه، وبينا العلة فيه.
لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا ٢٥
فيه سبع مسائل:
الأولى: اختلف العلماء في تأويل قوله: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } على أقوال سبعة:
الأولى: أنها منسوخة بالسُّنة، والناسخ لها حديث عائشة، قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء. وقد تقدّم.
الثاني: أنها منسوخة بآية أخرى، روى الطحاويّ عن أم سلمة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ الله له أن يتزوج من النساء من شاء؛ إلا ذات مَحْرم، وذلك قوله عز وجل: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ }. قال النحاس: وهذا والله أعلم أولى ما قيل في الآية؛ وهو قول عائشة واحد في النسخ. وقد يجوز أن تكون عائشة أرادت أحلّ له ذلك بالقرآن. وهو مع هذا قول عليّ بن أبي طالب وابن عباس وعليّ بن الحسين والضحاك. وقد عارض بعض فقهاء الكوفيين فقال؛ محال أن تنسخ هذه الآية يعني: { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } وهي قبلها في المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. ورجح قول من قال نسخت بالسُّنّة. قال النحاس: وهذه المعارضة لا تلزم وقائلها غالط؛ لأن القرآن بمنزلة سورة واحدة، كما صحّ عن ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في شهر رمضان. ويبين لك أن اعتراض هذا (المعترض) لا يلزم (أن) قوله عز وجل:
{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ }
[البقرة: 240] منسوخة على قول أهل التأويل ـ لا نعلم بينهم خلافاً ـ بالآية التي قبلها
{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }
[البقرة: 234]
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم حظر عليه أن يتزوّج على نسائه؛ لأنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ هذا قول الحسن وابن سيرين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. قال النحاس: وهذا القول يجوز أن يكون هكذا ثم نسخ.
الرابع: أنه لما حرم عليهن أن يتزوّجن بعده حُرم عليه أن يتزوج غيرهن؛ قاله أبو أمامة بن سهل بن حُنَيف.
الخامس: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي من بعد الأصناف التي سُميّت؛ قاله أُبَيّ بن كعب وعكرمة وأبو رَزين، وهو اختيار محمد بن جرير. ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا: «لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ» معناه لا تحل لك اليهوديات ولا النصرانيات. وهذا تأويل فيه بُعْدٌ. وروي عن مجاهد وسعيد بن جُبير وعكرمة أيضاً. وهو القول السادس. قال مجاهد: لئلا تكون كافرة أمَّا للمؤمنين. وهذا القول يبعد؛ لأنه يقدّره: من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وكذلك قدّر «وَلاَ أَنْ تبَدَّلَ بِهِنَّ» أي ولا أن تطلق مسلمة لتستبدل بها كتابية.
السابع: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له حلال أن يتزوّج من شاء ثم نسخ ذلك. قال: وكذلك كانت الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم؛ قاله محمد بن كعب القُرَظِي.
الثانية: قوله تعالى: { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله، يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك، روى الدَّارَقُطْنِيّ عن أبي هريرة قال: " كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك؛ فأنزل الله عز وجل: { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } قال:فدخل عُيينة بن حِصْن الفَزَارِيّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عُيينة فأين الاستئذان؟» فقال: يا رسول الله، ما استأذنت على رجل من مُضَرَ منذ أدركت. قال: مَن هذه الحميراء إلى جنبك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أم المؤمنين» قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال: «يا عُيينة، إن الله قد حرّم ذلك». قال فلما خرج قالت عائشة: «يا رسول الله، مَن هذا؟ قال: «أحمق مطاعٌ وإنه على ما ترين لَسَيّدُ قومه» " وقد أنكر الطبريّ والنحاس وغيرهما ما حكاه ابن زيد عن العرب، من أنها كانت تبادل بأزواجها. قال الطبريّ: وما فعلت العرب قط هذا، وما روي من حديث عيينة بن حِصن من أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة... الحديث؛ فليس بتبديل، ولا أراد ذلك، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول.
قلت: وما ذكرناه من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة من أن البدل كان في الجاهلية يدلّ على خلاف ما أنكر من ذلك، والله أعلم. قال المبرد: وقرىء «لاَ يَحِل» بالياء والتاء. فمن قرأ بالتاء فعلى معنى جماعة النساء، وبالياء من تحت على معنى جميع النساء. وزعم الفراء قال: اجتمعت القراء على القراءة بالياء؛ وهذا غلط، وكيف يقال: اجتمعت القراء وقد قرأ أبو عمرو بالتاء بلا اختلاف عنه!
الثالثة: قوله تعالى: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } قال ابن عباس: نزل ذلك بسبب أسماء بنت عُمَيس؛ أعجب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب حُسنها، فأراد أن يتزوّجها، فنزلت الآية؛ وهذا حديث ضعيف قاله ابن العربيّ.
الرابعة: في هذه الآية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها. " وقد أراد المغيرة بن شُعبة زواج امرأة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإنه أجدر أن يُؤْدم بينكما». وقال عليه السلام لآخر: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً» "
أخرجه الصحيح. قال الحميديّ وأبو الفرج الجوزيّ. يعني صفراء أو زرقاء. وقيل رمصاء.
الخامسة: الأمر بالنظر إلى المخطوبة إنما هو على جهة الإرشاد إلى المصلحة؛ فإنه إذا نظر إليها فلعله يرى منها ما يرغبّه في نكاحها. ومما يدلّ على أن الأمر على جهة الإرشاد ما ذكره أبو داود من حديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل " فقوله: " فإن استطاع فليفعل " لا يقال مثله في الواجب. وبهذا قال جمهور الفقهاء مالك والشافعيّ والكوفيون وغيرهم وأهل الظاهر. وقد كره ذلك قوم لا مبالاة بقولهم؛ للأحاديث الصحيحة، وقوله تعالى: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ }. وقال سهل بن أبي حثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد ثُبَيْتَة بنت الضحاك على إجَّار من أجاجير المدينة فقلت له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم! قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " إذا ألقى الله في قلب أحدكم خِطْبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها " الإجّار: السطح، بلغة أهل الشام والحجاز. قال أبو عبيد: وجمع الإجار أجاجير وأجاجرة.
السادسة: اختلف فيما يجوز أن ينظر منها؛ فقال مالك: ينظر إلى وجهها وكفيّها، ولا ينظر إلا بإذنها. وقال الشافعيّ وأحمد: بإذنها وبغير إذنها إذا كانت مستترة. وقال الأوزاعيّ: ينظر إليها ويجتهد وينظر مواضع اللحم منها. قال داود: ينظر إلى سائر جسدها؛ تمسكاً بظاهر اللفظ. وأصولُ الشريعة تردّ عليه في تحريم الاطلاع على العورة. والله أعلم.
السابعة: قوله تعالى: { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } اختلف العلماء في إحلال الأَمَة الكافرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم على قولين: تحلّ لعموم قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ }؛ قاله مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. قالوا: قوله تعالى: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } أي لا تحلّ لك النساء من غير المسلمات، فأما اليهوديات والنّصرانيات والمشركات فحرام عليك؛ أي لا يحلّ لك أن تتزوّج كافرة فتكون أُمًّا للمؤمنين ولو أعجبك حسنها؛ إلا ما ملكت يمينك، فإن له أن يتسرّى بها. القول الثاني: لا تحلّ؛ تنزيهاً لقدره عن مباشرة الكافرة، وقد قال الله تعالى:
{ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ }
[الممتحنة: 10] فكيف به صلى الله عليه وسلم. و«ما» في قوله: { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } في موضع رفع بدل من «النساء». ويجوز أن يكون في موضع نصب على استثناء، وفيه ضعف. ويجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: إلا ملك يمينك، ومِلك بمعنى مملوك، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول.
لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا ٢٥
وهذا شكر من اللّه، الذي لم يزل شكوراً لزوجات رسوله، رضي اللّه عنهن، حيث اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، أن رحمهن، وقصر رسوله عليهن، فقال: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } زوجاتك الموجودات { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } أي: ولا تطلق بعضهن، فتأخذ بدلها. فحصل بهذا أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة. { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } أي: حسن غيرهن، فلا يحللن لك { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أي: السراري، فذلك جائز لك، لأن المملوكات في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات في الإضرار للزوجات. { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } أي: مراقباً للأمور، وعالماً بما إليه تؤول، وقائماً بتدبيرها على أكمل نظام وأحسن إحكام.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسَۡٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا ٣٥
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسَۡٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا ٣٥
هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى
{ وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِيمَ مُصَلًّى }
البقرة 125 وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة
{ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجاً خَيْراً مِّنكُنَّ }
التحريم 5 فنزلت كذلك، وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر، وهي قضية رابعة. وقد قال البخاري حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال قال عمر بن الخطاب يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث، فالله أعلم. قال البخاري حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك، قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } الآية، وقد رواه أيضا في موضع آخر، ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به. ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه، ثم قال حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال بنى النبي صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقلت يا رسول الله ما أجد أحداً أدعوه، قال
" ارفعوا طعامكم " ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " قالت وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله، والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزل آية الحجاب. انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث، ثم رواه عن إسحاق، هو ابن منصور، عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك، وقال رجلان انفرد به من هذا الوجه، وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيساً، ثم جعلته في تور، فقالت اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام، وأخبره أن هذا منا له قليل، قال أنس والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال " ضعه " فوضعته في ناحية البيت، ثم قال " اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً " فسمى رجالاً كثيراً، وقال " ومن لقيت من المسلمين " فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " جىء به " فجئت به إليه، فوضع يده عليه، ودعا وقال " ما شاء الله " ثم قال " ليتحلق عشرة عشرة، وليسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه " فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارفعه " قال فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه، فما أدري أهو حين وضعت أكثر، أم حين أخذت؟ قال وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا، كان ذلك عليهم عزيزاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء، ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت، وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً، وأنزل الله عليه القرآن، فخرج وهو يتلو هذا الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ } الآيات، قال أنس فقرأهن علي قبل الناس، فأنا أحدث الناس بهن عهداً، وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به، وقال الترمذي حسن صحيح، وعلقه البخاري في كتاب النكاح، فقال وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس، فذكر نحوه.
ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد به، وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه، ورواه البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك، ولم يخرجوه، ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك. وقال الإمام أحمد حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد " اذهب فاذكرها علي " قال فانطلق زيد حتى أتاها ــــ قال ــــ وهي تخمر عجينها، فلما رأيتها، عظمت في صدري، وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى { أَن تَخْشَـٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } وزاد في آخره بعد قوله ووعظ القوم بما وعظوا به قال هاشم في حديثه { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية. وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة، به. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، حدثني عمي عبد الله بن وهب، حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ــــ وهو صعيد أفيح ــــ وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت فأنزل الله الحجاب، هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب.
كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها، فرأها عمر بن الخطاب، فقال ياسودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن " لفظ البخاري، فقوله تعالى { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ } حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة، فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والدخول على النساء " الحديث، ثم استثنى من ذلك، فقال تعالى { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ } قال مجاهد وقتادة وغيرهما أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء، تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه، وهذا دليل على تحريم التطفيل، وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. ثم قال تعالى { وَلَـٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دعا أحدكم أخاه، فليجب، عرساً كان أو غيره " وأصله في " الصحيحين " ، وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلى كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه، فخففوا عن أهل المنزل، وانتشروا في الأرض " ولهذا قال تعالى { طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، ونسوا أنفسهم، حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ٱلنَّبِىِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ } وقيل المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه، ويتأذى به، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه عليه السلام، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى { وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي ولهذا نهاكم عن ذلك، وزجركم عنه.
ثم قال تعالى { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْـأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن، فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب، فمر عمر، فدعاه فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال حَسِّ، أو أوه، لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين، فنزل الحجاب. { ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي هذا الذي أمرتكم به، وشرعته لكم من الحجاب، أطهر وأطيب. وقوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي حماد، حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } قال نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، قال رجل لسفيان أهي عائشة؟ قال قد ذكروا ذلك، وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين كما تقدم، واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين، مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله { مِن بَعْدِهِ } أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعاً، والله أعلم. وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنة الأشعث ــــ يعني ابن قيس ــــ فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر ياخليفة رسول الله إنها ليست من نسائه، إنها لم يخيرها رسول الله، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها قال فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه، وسكن، وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك، وشدد فيه، وتوعد عليه بقوله { إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } ثم قوله تعالى { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } أي مهما تكنه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، فإن الله يعلمه، فإنه لا تخفى عليه خافية
{ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ }
غافر 19.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسَۡٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا ٣٥
فيه ست عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } «أنْ» في موضع نصب على معنى: إلا بأن يؤذن لكم، ويكون الاستثناء ليس من الأول. { إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } نصب على الحال، أي لا تدخلوا في هذه الحال. ولا يجوز في «غَيْر» الخفض على النعت للطعام، لأنه لو كان نعتاً لم يكن بدّ من إظهار الفاعلين، وكان يقول: غير ناظرين إناه أنتم. ونظير هذا من النحو: هذا رجلٌ مع رجل ملازمٌ له، وإن شئت قلت: هذا رجلٌ مع رجلٍ ملازمٍ له هو.
وهذه الآية تضمّنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس. والثانية: أمر الحجاب. وقال حماد بن زيد: هذه الآية نزلت في الثقلاء. فأما القصة الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوّج زينب بنت جحش امرأة زيد أوْلَم عليها، فدعا الناس، فلما طعموا جلس طوائف منهم يتحدّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته موَلّية وجهها إلى الحائط، فثَقُلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: فما أدري أأنا أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن القوم قد خرجوا أو أخبرني. قال: فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب. قال: ووعظ القومَ بما وُعظوا به، وأنزل الله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ ـ إلى قوله ـ إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } أخرجه الصحيح. وقال قتادة ومقاتل في كتاب الثعلبيّ: إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة. والأوّل الصحيح، كما رواه الصحيح. وقال ابن عباس: نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبيّ صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرِك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرِك، ثم يأكلون ولا يخرجون. وقال إسماعيل بن أبي حكيم: وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبيّ: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم. وأما قصة الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة: سببها أمر القعود في بيت زينب، القصة المذكورة آنفاً. وقالت عائشة رضي الله عنها وجماعة: سببها أن عمر قال قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهنّ البَرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن؛ فنزلت الآية. وروى الصحيح عن ابن عمر قال: قال عمر وافقت ربّي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. هذا أصح ما قيل في أمر الحجاب، وما عدا هذين القولين من الأقوال والروايات فواهية، لا يقوم شيء منها على ساق، وأضعفها ما روي عن ابن مسعود: أن عمر أمر نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجاب، فقالت زينب بنت جحش: يا ابن الخطاب، إنك تَغَار علينا والوحي ينزل في بيوتنا! فأنزل الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ } وهذا باطل، لأن الحجاب نزل يوم البناء بزينب، كما بيّناه.
أخرجه البخاريّ ومسلم والترمذي وغيرهم. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَطْعَم ومعه بعض أصحابه، فأصاب يَدُ رجل منهم يدَ عائشة، فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الحجاب. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونُضْجَه. وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل، لا قبله لانتظار نُضْج الطعام.
الثانية: قوله تعالى: { بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ } دليل على أن البيت للرجل، ويحكم له به، فإن الله تعالى أضافه إليه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } قلنا: إضافة البيوت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إضافة مِلك، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة محل، بدليل أنه جعل فيها الإذن للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والإذن إنما يكون للمالك.
الثالثة: واختلف العلماء في بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ كان يسكن فيها أهله بعد موته، هل هي ملك لهنّ أم لا على قولين: فقالت طائفة: كانت ملكاً لهنّ، بدليل أنهنّ سكنّ فيها بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى وفاتهنّ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهب ذلك لهنَّ في حياته. الثاني: أن ذلك كان إسكاناً كما يسكن الرجل أهله ولم يكن هبة، وتمادى سكناهنّ بها إلى الموت. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر وابن العربيّ وغيرهم، فإن ذلك من مئونتهنّ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناها لهنّ، كما استثنى لهنّ نفقاتهنّ حين قال: " لا تَقْتَسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة أهلي ومئونة عاملي فهو صدقة " هكذا قال أهل العلم، قالوا: ويدلّ على ذلك أن مساكنهنّ لم يرثها عنهنّ ورثتهنّ. قالوا: ولو كان ذلك ملكاً لهنّ كان لا شك قد ورثه عنهنّ ورثتهنّ. قالوا: وفي ترك ورثتهنّ ذلك دليل على أنها لم تكن لهنّ ملكاً، وإنما كان لهنّ سكنى حياتهنّ، فلما تَوفَّين جعل ذلك زيادة في المسجد الذي يعم المسلمين نفعه، كما جعل ذلك الذي كان لهنّ من النفقات في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مضين لسبيلهنّ، فزيد إلى أصل المال فصرف في منافع المسلمين مما يعمّ جميعَهم نفعُه.
والله الموفق.
قوله تعالى: { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي غير منتظرين وقت نُضْجه. و«إنَاهُ» مقصور، وفيه لغات: «إنَى» بكسر الهمزة. قال الشيباني:
وكِسْرَى إذ تقسّمه بَنُوه بأسياف كما اقْتُسِم اللِّحام
تمخّضت المَنون له بيوم أنَى ولكل حاملة تمام
وقرأ ابن أبي عبلة: «غَيِر نَاظِرِينَ إِنَاه» مجروراً صفة لـ«ـطعام». الزمخشريّ: وليس بالوجه، لأنه جرى على غير ما هو له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ، فيقال: غيرِ ناظرين إناه أنتم، كقولك: هندٌ زيدٌ ضاربته هي. وأنى (بفتحها)، وأناء (بفتح الهمزة والمد) قال الحطيئة:
وأخّرت العَشاء إلى سُهَيْل أو الشِّعْرَى فطال بِيَ الأناءُ
يعني إلى طلوع سهيل. وإناه مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان وأدرك.
الرابعة: قوله تعالى: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } فأكّد المنع، وخصّ وقت الدخول بأن يكون عند الإذن على جهة الأدب، وحفظ الحضرة الكريمة من المباسطة المكروهة. قال ابن العربيّ: وتقدير الكلام: ولكن إذا دعيتم وأذن لكم في الدخول فادخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذناً كافياً في الدخول. والفاء في جواب «إذا» لازمة لما فيها من معنى المجازاة.
الخامسة: قوله تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } أَمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرّق جميعهم وينتشروا. والمراد إلزام الخروج من المنزل عند انقضاء المقصود من الأكل. والدليل على ذلك أن الدخول حرام، وإنما جاز لأجل الأكل، فإذا انقضى الأكل زال السبب المبيح وعاد التحريم إلى أصله.
السادسة: في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف لا على ملك نفسه؛ لأنه قال: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
السابعة: قوله تعالى: { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } عطف على قوله: { غَيْرَ نَاظِرِينَ } و«غَيْرَ» منصوبة على الحال من الكاف والميم في «لكم» أي غير ناظرين ولا مستأنسين؛ والمعنى المقصود: لا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زينب. { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي لا يمتنع من بيانه وإظهاره. ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفى عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر. وفي الصحيح عن أم سلَمة قالت: " جاءت أم سُليم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأت الماء» ".
الثامنة: قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً } الآية.
روى أبو داود الطيالسي عن أنس بن مالك قال: قال عمر: وافقت ربي في أربع...؛ الحديث. وفيه: قلت يا رسول الله، لو ضربتَ على نسائك الحجاب، فإنه يدخل عليهنّ البرّ والفاجر؛ فأنزل الله عز وجل { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ }.
واختلف في المتاع؛ فقيل: ما يتمتع به من العواريّ. وقيل فَتْوَى. وقيل صحف القرآن. والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا.
التاسعة: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهنّ من وراء حجاب في حاجة تَعْرِض، أو مسألة يُستفتين فيها؛ ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، بدنها وصوتها؛ كما تقدّم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعيَّن عندها.
العاشرة: استدلّ بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى، وبأن الأعمى يطأ زوجته بمعرفته بكلامها. وعلى إجازة شهادته أكثر العلماء، ولم يجزها أبو حنيفة والشافعيّ وغيرهما. قال أبو حنيفة: تجوز في الأنساب. وقال الشافعيّ: لا تجوز إلا فيما رآه قبل ذهاب بصره.
الحادية عشرة: قوله تعالى: { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال؛ أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية. وهذا يدلّ على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له؛ فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
الثانية عشرة: قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الآية. هذا تكرار للعلة وتأكيد لحكمها؛ وتأكيد العلل أقوى في الأحكام.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } روى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة أن رجلاً قال: لو قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجتُ عائشة؛ فأنزل الله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } الآية. ونزلت: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }. وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن: قال ابن عباس قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حِراء ـ في نفسه ـ لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوَّجت عائشة، وهي بنت عمي. قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله. قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدّث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقاً فكفّر الله عنه. وقال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوَّجت عائشة؛ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذّى به؛ هكذا كنَّى عنه ابن عباس ببعض الصحابة.
وحكى مكيّ عن معمر أنه قال: هو طلحة بن عبيد الله.
قلت: وكذا حكى النحاس عن معمر أنه طلحة؛ ولا يصح. قال ابن عطية: لله درّ ابن عباس! وهذا عندي لا يصح على طلحة بن عبيد الله. قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله! والكذب في نقله؛ وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. يروى أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة بعد أبي سلمة، وحفصة بعد خُنيس بن حُذافة: ما بال محمد يتزوّج نساءنا! والله لو قد مات لأجَلْنا السهام على نسائه؛ فنزلت الآية في هذا؛ فحرم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات. وهذا من خصائصه تمييزاً لشرفه وتنبيهاً على مرتبته صلى الله عليه وسلم. قال الشافعيّ رحمه الله: وأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي مات عنهن لا يحلّ لأحد نكاحهن، ومن استحلّ ذلك كان كافراً؛ لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }. وقد قيل: إنما منع من التزوّج بزوجاته؛ لأنهن أزواجه في الجنة، وأن المرأة في الجنة لآخر أزواجها. قال حذيفة لامرأته: إن سرّك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها فلا تزوّجي من بعدي؛ فإن المرأة لآخر أزواجها. وقد ذكرنا ما للعلماء في هذا في (كتاب التذكرة) من أبواب الجنة.
الرابعة عشرة: اختلف العلماء في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد موته؛ هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟ فقيل: عليهن العدة؛ لأنه تُوُفّي عنهن، والعدة عبادة. وقيل: لا عدة عليهن؛ لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة. وهو الصحيح؛ لقوله عليه السلام: " ما تركت بعد نفقة عيالي " وروي " أهلي " وهذا اسم خاص بالزوجية؛ فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره؛ وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام لهن بمنزلة المغيب في حق غيره؛ لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً بخلاف سائر الناس؛ لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة والآخر في النار؛ فبهذا انقطع السبب في حق الخلق وبقي في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال عليه السلام: " زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة "
وقال عليه السلام: " كل سبب ونسب ينقطع إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة ". فرع: فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبية وغيرها؛ فهل كان يحلّ لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف. والصحيح جواز ذلك؛ لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل على ما تقدّم. وقيل: إن الذي تزوّجها الأشعث بن قيس الكندي. قال القاضي أبو الطيّب: الذي تزوّجها مهاجر بن أبي أميّة، ولم ينكر ذلك أحد؛ فدلّ على أنه إجماع.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } يعني أَذِيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نكاح أزواجه؛ فجعل ذلك من جملة الكبائر ولا ذنب أعظم منه.
السادسة عشرة: قد بيّنا سبب نزول الحجاب من حديث أنس وقول عمر، وكان يقول لسَوْدة إذا خرجت وكانت امرأة طويلة: قد رأيناك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. ولا بُعْد في نزول الآية عند هذه الأسباب كلها ـ والله أعلم ـ بَيْدَ أنه لما ماتت زينب بنت جحش قال: لا يشهد جنازتها إلا ذو محرم منها؛ مراعاةً للحجاب الذي نزل بسببها. فدلته أسماء بنت عُميس على سترها في النعش في القُبّة، وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر. وروي أن ذلك صُنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسَۡٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا ٣٥
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دخول بيوته، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ } أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها لأجل الطعام. وأيضاً لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين: الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي: قبل الطعام وبعده. ثم بيَّن حكمة النهي وفائدته فقال: { إِنَّ ذَٰلِكُمْ } أي: انتظاركم الزائد على الحاجة، { كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ } أي: يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شؤون بيته، واشتغاله فيه { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أن يقول لكم: " اخرجوا " كما هو جاري العادة، أن الناس - وخصوصاً أهل الكرم منهم - يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم، { وَ } لكن { ٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ }. فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدباً وحياءً، فإن الحزم كل الحزم، اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه ليس من الأدب في شيء. واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله كائناً ما كان. فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يُسألن متاعاً، أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يُسألن { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي: يكون بينكم وبينهن ستر يستر عن النظر، لعدم الحاجة إليه. فصار النظر إليهن ممنوعاً بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل الذي ذكره اللّه، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر لقلبه. فلهذا، من الأمور الشرعية التي بيَّن اللّه كثيراً من تفاصيلها، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته، ممنوعة، وأنه مشروع البعد عنها بكل طريق. ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة: { وَمَا كَانَ لَكُمْ } يا معشر المؤمنين، أي: غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو أقبح شيء { أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } أي: أذية قولية أو فعلية، بجميع ما يتعلق به، { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته [بعده] مخل بهذا المقام. وأيضاً، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته. { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه، وللّه الحمد والشكر. ثم قال تعالى: { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } أي: تظهروه { أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } يعلم ما في قلوبكم وما أظهرتموه، فيجازيكم عليه.
إِن تُبۡدُواْ شَيًۡٔا أَوۡ تُخۡفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٥
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن تُبۡدُواْ شَيًۡٔا أَوۡ تُخۡفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٥
هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى
{ وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَٰهِيمَ مُصَلًّى }
البقرة 125 وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة
{ عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَٰجاً خَيْراً مِّنكُنَّ }
التحريم 5 فنزلت كذلك، وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر، وهي قضية رابعة. وقد قال البخاري حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال قال عمر بن الخطاب يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما، وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث، فالله أعلم. قال البخاري حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي، حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك، قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } الآية، وقد رواه أيضا في موضع آخر، ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به. ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه، ثم قال حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال بنى النبي صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقلت يا رسول الله ما أجد أحداً أدعوه، قال
" ارفعوا طعامكم " ، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال " السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " قالت وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله؟ بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله، والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزل آية الحجاب. انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث، ثم رواه عن إسحاق، هو ابن منصور، عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك، وقال رجلان انفرد به من هذا الوجه، وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أم سليم حيساً، ثم جعلته في تور، فقالت اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام، وأخبره أن هذا منا له قليل، قال أنس والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك، وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قال " ضعه " فوضعته في ناحية البيت، ثم قال " اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً " فسمى رجالاً كثيراً، وقال " ومن لقيت من المسلمين " فدعوت من قال لي، ومن لقيت من المسلمين، فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس، فقلت يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " جىء به " فجئت به إليه، فوضع يده عليه، ودعا وقال " ما شاء الله " ثم قال " ليتحلق عشرة عشرة، وليسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه " فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارفعه " قال فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه، فما أدري أهو حين وضعت أكثر، أم حين أخذت؟ قال وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا، كان ذلك عليهم عزيزاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء، ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت، وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً، وأنزل الله عليه القرآن، فخرج وهو يتلو هذا الآية { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ } الآيات، قال أنس فقرأهن علي قبل الناس، فأنا أحدث الناس بهن عهداً، وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به، وقال الترمذي حسن صحيح، وعلقه البخاري في كتاب النكاح، فقال وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس، فذكر نحوه.
ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد به، وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه، ورواه البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه، ورواه ابن أبي حاتم أيضاً من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك، ولم يخرجوه، ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد، ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك. وقال الإمام أحمد حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال لما انقضت عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد " اذهب فاذكرها علي " قال فانطلق زيد حتى أتاها ــــ قال ــــ وهي تخمر عجينها، فلما رأيتها، عظمت في صدري، وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى { أَن تَخْشَـٰهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } وزاد في آخره بعد قوله ووعظ القوم بما وعظوا به قال هاشم في حديثه { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية. وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة، به. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، حدثني عمي عبد الله بن وهب، حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ــــ وهو صعيد أفيح ــــ وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت فأنزل الله الحجاب، هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب.
كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها، فرأها عمر بن الخطاب، فقال ياسودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال " إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن " لفظ البخاري، فقوله تعالى { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ } حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة، فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والدخول على النساء " الحديث، ثم استثنى من ذلك، فقال تعالى { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَـٰظِرِينَ إِنَـٰهُ } قال مجاهد وقتادة وغيرهما أي غير متحينين نضجه واستواءه، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء، تعرضتم للدخول، فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه، وهذا دليل على تحريم التطفيل، وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. ثم قال تعالى { وَلَـٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } وفي " صحيح مسلم " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دعا أحدكم أخاه، فليجب، عرساً كان أو غيره " وأصله في " الصحيحين " ، وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إلى كراع لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه، فخففوا عن أهل المنزل، وانتشروا في الأرض " ولهذا قال تعالى { طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث، ونسوا أنفسهم، حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى ٱلنَّبِىِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ } وقيل المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه، ويتأذى به، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه عليه السلام، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك، ولهذا قال تعالى { وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ ٱلْحَقِّ } أي ولهذا نهاكم عن ذلك، وزجركم عنه.
ثم قال تعالى { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـٰعاً فَٱسْـأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن، فلا ينظر إليهن، ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب، فمر عمر، فدعاه فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال حَسِّ، أو أوه، لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين، فنزل الحجاب. { ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي هذا الذي أمرتكم به، وشرعته لكم من الحجاب، أطهر وأطيب. وقوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي حماد، حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } قال نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، قال رجل لسفيان أهي عائشة؟ قال قد ذكروا ذلك، وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وذكر بسنده عن السدي أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين كما تقدم، واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين، مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله { مِن بَعْدِهِ } أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعاً، والله أعلم. وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة بنة الأشعث ــــ يعني ابن قيس ــــ فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة، فقال له عمر ياخليفة رسول الله إنها ليست من نسائه، إنها لم يخيرها رسول الله، ولم يحجبها، وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها قال فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه، وسكن، وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك، وشدد فيه، وتوعد عليه بقوله { إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } ثم قوله تعالى { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } أي مهما تكنه ضمائركم، وتنطوي عليه سرائركم، فإن الله يعلمه، فإنه لا تخفى عليه خافية
{ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ }
غافر 19.
إِن تُبۡدُواْ شَيًۡٔا أَوۡ تُخۡفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٥
البارىء سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماضٍ تَقَضَّى، ولا مستقبَلٌ يأتي. وهذا على العموم تمدّح به، وهو أهل المدح والحمد. والمراد به هاهنا التوبيخ والوعيد لمن تقدّم التعريض به في الآية قبلها، ممن أشير إليه بقوله: { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } ، ومن أشير إليه في قوله: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } فقيل لهم في هذه الآية: إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها. فصارت هذه الآية منعطفة على ما قبلها مبينة لها. والله أعلم.
إِن تُبۡدُواْ شَيًۡٔا أَوۡ تُخۡفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٤٥
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دخول بيوته، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ } أي: لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها لأجل الطعام. وأيضاً لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي: منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه، أو سعة صدر بعد الفراغ منه. والمعنى: أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين: الإذن لكم بالدخول، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة، ولهذا قال: { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي: قبل الطعام وبعده. ثم بيَّن حكمة النهي وفائدته فقال: { إِنَّ ذَٰلِكُمْ } أي: انتظاركم الزائد على الحاجة، { كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ } أي: يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شؤون بيته، واشتغاله فيه { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أن يقول لكم: " اخرجوا " كما هو جاري العادة، أن الناس - وخصوصاً أهل الكرم منهم - يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم، { وَ } لكن { ٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ }. فالأمر الشرعي، ولو كان يتوهم أن في تركه أدباً وحياءً، فإن الحزم كل الحزم، اتباع الأمر الشرعي، وأن يجزم أن ما خالفه ليس من الأدب في شيء. واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم بما فيه الخير لكم، والرفق لرسوله كائناً ما كان. فهذا أدبهم في الدخول في بيوته، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته، فإنه إما أن يحتاج إلى ذلك، أو لا يحتاج إليه، فإن لم يحتج إليه فلا حاجة إليه، والأدب تركه، وإن احتيج إليه، كأن يُسألن متاعاً، أو غيره من أواني البيت أو نحوها، فإنهن يُسألن { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي: يكون بينكم وبينهن ستر يستر عن النظر، لعدم الحاجة إليه. فصار النظر إليهن ممنوعاً بكل حال، وكلامهن فيه التفصيل الذي ذكره اللّه، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله: { ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } لأنه أبعد عن الريبة، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر، فإنه أسلم له، وأطهر لقلبه. فلهذا، من الأمور الشرعية التي بيَّن اللّه كثيراً من تفاصيلها، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته، ممنوعة، وأنه مشروع البعد عنها بكل طريق. ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة: { وَمَا كَانَ لَكُمْ } يا معشر المؤمنين، أي: غير لائق ولا مستحسن منكم، بل هو أقبح شيء { أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ } أي: أذية قولية أو فعلية، بجميع ما يتعلق به، { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } هذا من جملة ما يؤذيه، فإنه صلى اللّه عليه وسلم له مقام التعظيم والرفعة والإكرام، وتزوج زوجاته [بعده] مخل بهذا المقام. وأيضاً، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، والزوجية باقية بعد موته، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده لأحد من أمته. { إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً } وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه، وللّه الحمد والشكر. ثم قال تعالى: { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } أي: تظهروه { أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } يعلم ما في قلوبكم وما أظهرتموه، فيجازيكم عليه.
لَّا جُنَاحَ عَلَيۡهِنَّ فِيٓ ءَابَآئِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآئِهِنَّ وَلَآ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ أَخَوَٰتِهِنَّ وَلَا نِسَآئِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّۗ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٥٥
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا جُنَاحَ عَلَيۡهِنَّ فِيٓ ءَابَآئِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآئِهِنَّ وَلَآ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ أَخَوَٰتِهِنَّ وَلَا نِسَآئِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّۗ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٥٥
لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب، بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم، كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى
{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَٰتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَٰتِ ٱلنِّسَآءِ }
النور 31 وفيها زيادات على هذه، وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته ههنا. وقد سأل بعض السلف فقال لِمَ لْم يذكر العم والخال في هاتين الآيتين؟ فأجاب عكرمة والشعبي بأنهما لم يذكرا لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما. قال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد، حدثنا داود عن الشعبي وعكرمة في قوله تعالى { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىۤ ءَابَآئِهِنَّ } الآية، قلت ما شأن العم والخال لم يذكرا؟ قال لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها. وقوله تعالى { وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } يعنى بذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات. وقوله تعالى { مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يعني به أرقاءهن من الذكور والإناث كما تقدم التنبيه عليه، وإيراد الحديث فيه، قال سعيد بن المسيب إنما يعني به الإماء فقط، رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى { وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ شَهِيداً } أي واخشينه في الخلوة والعلانية، فإنه شهيد على كل شيء، لا تخفى عليه خافية، فراقبن الرقيب.
لَّا جُنَاحَ عَلَيۡهِنَّ فِيٓ ءَابَآئِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآئِهِنَّ وَلَآ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ أَخَوَٰتِهِنَّ وَلَا نِسَآئِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّۗ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٥٥
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية.
الثانية: ذكر الله تعالى في هذه الآية من يحلّ للمرأة البروزُ له، ولم يذكر العمّ والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين. وقد يسمى العم أباً، قال الله تعالى:
{ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ }
[البقرة: 133] وإسماعيل كان العمّ. قال الزجاج؛ العمّ والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحلّ لابن العمّ وابن الخال فكره لهما الرؤية. وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها. وقد ذكر في هذه الآية بعض المحارم وذكر الجميع في سورة «النور»، فهذه الآية بعض تلك، وقد مضى الكلام هناك مستوفى، والحمد لله.
الثالثة: قوله تعالى: { وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ } لما ذكر الله تعالى الرخصة في هذه الأصناف وانجزمت الإباحة، عطف بأمرهن بالتقوى عطف جملة. وهذا في غاية البلاغة والإيجاز، كأنه قال؛ اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدَّينه إلى غيره. وخص النساء بالذكر وعيَّنهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. والله أعلم. ثم توعّد تعالى بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }.
لَّا جُنَاحَ عَلَيۡهِنَّ فِيٓ ءَابَآئِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآئِهِنَّ وَلَآ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ إِخۡوَٰنِهِنَّ وَلَآ أَبۡنَآءِ أَخَوَٰتِهِنَّ وَلَا نِسَآئِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّۗ وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٥٥
لما ذكر أنهن لا يسألن متاعاً إلاّ من وراء حجاب، وكان اللفظ عاماً [لكل أحد]، احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون من المحارم، وأنه { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ } في عدم الاحتجاب عنهم. ولم يذكر فيها الأعمام والأخوال، لأنهن إذا لم يحتجبن عمّن هن عماته ولا خالاته، من أبناء الإخوة والأخوات، مع رفعتهن عليهم، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن، من باب أولى، ولأن منطوق الآية الأخرى، المصرحة بذكر العم والخال مقدمة، على ما يفهم من هذه الآية. وقوله { وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } أي: لا جناح عليهن ألا يحتجبن عن نسائهن، أي: اللاتي من جنسهن في الدين، فيكون ذلك مخرجاً لنساء الكفار، ويحتمل أن المراد جنس النساء، فإن المرأة لا تحتجب عن المرأة. { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ما دام العبد في ملكها جميعه. ولما رفع الجناح عن هؤلاء، شرط فيه وفي غيره لزوم تقوى اللّه، وأن لا يكون في محذور شرعي، فقال: { وَٱتَّقِينَ ٱللَّهَ } أي: استعملن تقواه في جميع الأحوال { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } يشهد أعمال العباد، ظاهرها وباطنها، ويسمع أقوالهم، ويرى حركاتهم، ثم يجازيهم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٦٥
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٦٥
قال البخاري : قال أبو العالية : صلاة الله : ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة : الدعاء . وقال ابن عباس : يصلون : يبركون . هكذا علقه البخاري عنهما .
وقد رواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية كذلك . وروي مثله عن الربيع أيضا . وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس كما قاله سواء ، رواهما ابن أبي حاتم .
وقال أبو عيسى الترمذي : وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا : صلاة الرب : الرحمة ، وصلاة الملائكة : الاستغفار .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو الأودي ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، قال الأعمش عن عطاء بن أبي رباح ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) قال : صلاته تبارك وتعالى : سبوح قدوس ، سبقت رحمتي غضبي .
والمقصود من هذه الآية : أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى ، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة تصلي عليه . ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر - يعني : ابن المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك ؟ فناداه ربه : يا موسى ، سألوك : " هل يصلي ربك ؟ " فقل : نعم ، إنما أصلي أنا وملائكتي على أنبيائي ورسلي . فأنزل الله عز وجل ، على نبيه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) .
وقد أخبر أنه سبحانه وتعالى ، يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ) [ الأحزاب : 41 - 43 ] . وقال تعالى : ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) [ البقرة : 155 - 157 ] . وفي الحديث : " إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف " . وفي الحديث الآخر : " اللهم ، صل على آل أبي أوفى " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر - وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها - " صلى الله عليك ، وعلى زوجك .
وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه ، وكيفية الصلاة عليه ، ونحن نذكر منها إن شاء الله تعالى ما تيسر ، والله المستعان .
قال البخاري - عند تفسير هذه الآية - : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : قيل : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة ؟ فقال : " قولوا : اللهم ، صل على محمد ، وعلى آل محمد ، [ كما صليت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم ، بارك على محمد وعلى آل محمد ] كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم قال : سمعت ابن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية ؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله ، قد علمنا - أو : عرفنا - كيف السلام عليك ، فكيف الصلاة ؟ قال : " قولوا : اللهم ، صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على [ آل ] إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من طرق متعددة ، عن الحكم - وهو ابن عتبة زاد البخاري : وعبد الله بن عيسى ، كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فذكره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا هشيم بن بشير ، عن يزيد بن أبي زياد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) . قال : قلنا : يا رسول الله ، قد علمنا السلام فكيف الصلاة عليك ؟ قال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم . إنك حميد مجيد " . وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول : وعلينا معهم .
ورواه الترمذي بهذه الزيادة .
ومعنى قولهم : " أما السلام عليك فقد عرفناه " : هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه ، كما كان يعلمهم السورة من القرآن ، وفيه : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " .
حديث آخر : قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قلنا : يا رسول الله ، هذا السلام فكيف نصلي عليك : قال : " قولوا : اللهم صل على محمد عبدك ورسولك ، كما صليت على آل إبراهيم . وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم " . [ وفي رواية ] : قال أبو صالح ، عن الليث : " على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم " .
حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا ابن أبي حازم والدراوردي ، عن يزيد - يعني ابن الهاد - قال : " كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وآل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم " .
وأخرجه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن الهاد ، به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : قرأت على عبد الرحمن : مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عمرو بن سليم أنه قال : أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله ، كيف نصلي عليك ؟ قال : " قولوا : اللهم " صل على محمد وأزواجه وذريته ، كما صليت على [ آل ] إبراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
وقد أخرجه بقية الجماعة ، سوى الترمذي ، من حديث مالك ، به .
حديث آخر : قال مسلم : حدثنا يحيى التميمي قال : قرأت على مالك ، عن نعيم بن عبد الله المجمر ، أخبرني محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري - قال : وعبد الله بن زيد هو الذي كان أري النداء بالصلاة - أخبره عن أبي مسعود الأنصاري - قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك [ يا رسول الله ] ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا : اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم " .
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث مالك ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا : يا رسول الله ، أما السلام فقد عرفناه ، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال : " قولوا : اللهم ، صل على محمد وعلى آل محمد . . . " وذكره .
ورواه الشافعي رحمه الله في مسنده ، عن أبي هريرة ، بمثله . ومن هاهنا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ، فإن تركه لم تصح صلاته . وقد شرع بعض المتأخرين من المالكية وغيرهم يشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة ، ويزعم أنه قد تفرد بذلك ، وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم ، فيما نقله القاضي عياض . وقد تعسف القائل في رده على الشافعي ، وتكلف في دعواه الإجماع في ذلك ، [ وقال ما لم يحط به علما ] ، فإنه قد روينا وجوب ذلك والأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية ، ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود ، وأبو مسعود البدري ، وجابر بن عبد الله ، ومن التابعين : الشعبي ، وأبو جعفر الباقر ، ومقاتل بن حيان . وإليه ذهب الشافعي ، لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضا ، وإليه ذهب [ الإمام ] أحمد أخيرا فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي ، به . وبه قال إسحاق ابن راهويه ، والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي ، رحمهم الله ، حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه ، وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على الآل ممن حكاه البندنيجي ، وسليم الرازي ، وصاحبه نصر بن إبراهيم المقدسي ، ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولا عن الشافعي . والصحيح أنه وجه ، على أن الجمهور على خلافه ، وحكوا الإجماع على خلافه ، وللقول بوجوبه ظواهر الحديث ، والله أعلم .
والغرض أن الشافعي رحمه الله لقوله بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة - سلف وخلف كما تقدم ، لله الحمد والمنة ، فلا إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديما ولا حديثا ، والله أعلم .
ومما يؤيد ذلك : الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وصححه - والنسائي وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، من رواية حيوة بن شريح المصري ، عن أبي هانئ حميد بن هانئ ، عن عمرو بن مالك أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد ، رضي الله عنه ، قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته ، لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجل هذا " . ثم دعاه فقال له ولغيره : " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله ، عز وجل ، والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ثم ليدع [ بعد ] بما شاء " .
وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجه ، من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ، ولا صلاة لمن لم يصل على النبي ، ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار .
ولكن عبد المهيمن هذا متروك . وقد رواه الطبراني من رواية أخيه " أبي بن عباس " ، ولكن في ذلك نظر . وإنما يعرف من رواية " عبد المهيمن " ، والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا إسماعيل ، عن أبي داود الأعمى ، عن بريدة قال : قلنا : يا رسول الله ، قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : " قولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد ، كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد " .
أبو داود الأعمى اسمه : نفيع بن الحارث ، متروك .
حديث آخر موقوف : رويناه من طريق سعيد بن منصور وزيد بن الحباب ويزيد بن هارون ، ثلاثتهم عن نوح بن قيس : حدثنا سلامة الكندي : أن عليا ، رضي الله عنه ، كان يعلم الناس هذا الدعاء : اللهم داحي المدحوات ، وبارئ المسموكات ، وجبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها . اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي بركاتك ، ورأفة تحننك ، على محمد عبدك ورسولك ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما أغلق ، والمعلن الحق بالحق ، والدامغ جيشات الأباطيل ، كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك ، مستوفزا في مرضاتك ، غير نكل في قدم ، ولا وهن في عزم ، واعيا لوحيك ، حافظا لعهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك ، حتى أورى قبسا لقابس ، آلاء الله تصل بأهله أسبابه ، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم ، [ وأقام ] موضحات الأعلام ، ومنيرات الإسلام ونائرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدين ، وبعيثك نعمة ، ورسولك بالحق رحمة . اللهم افسح له مفسحات في عدلك ، واجزه مضاعفات الخير من فضلك . مهنآت له غير مكدرات ، من فوز ثوابك المعلول ، وجزيل عطائك المجمول . اللهم أعل على بناء البانين بنيانه وأكرم مثواه لديك ونزله . وأتمم له نوره ، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ، مرضي المقالة ، ذا منطق عدل ، وخطة فصل ، وحجة وبرهان عظيم .
هذا مشهور من كلام علي ، رضي الله عنه ، وقد تكلم عليه ابن قتيبة في مشكل الحديث ، وكذا أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي في جزء جمعه في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن في إسناده نظرا .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : سلامة الكندي هذا ليس بمعروف ، ولم يدرك عليا . كذا قال . وقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني هذا الأثر عن محمد بن علي الصائغ ، عن سعيد بن منصور ، حدثنا نوح بن قيس ، عن سلامة الكندي قال : كان علي ، رضي الله عنه ، يعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : " اللهم ، داحي المدحوات " وذكره .
حديث آخر موقوف : قال ابن ماجه : [ حدثنا الحسين بن بيان ] ، حدثنا زياد بن عبد الله ، حدثنا المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، عن أبي فاختة ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه ; فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه . قال : فقالوا له : فعلمنا . قال : قولوا : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، وخاتم النبيين ، محمد عبدك ورسولك ، إمام الخير وقائد الخير ، ورسول الرحمة . اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون ، اللهم صل على محمد [ وعلى آل محمد ] ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
وهذا موقوف ، وقد روى إسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو - أو : عمر - على الشك من الراوي قريبا من هذا .
حديث آخر : قال قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا أبو إسرائيل ، عن يونس بن خباب قال : خطبنا بفارس فقال : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ، فقال : أنبأني من سمع ابن عباس يقول : هكذا أنزل . فقلنا - أو : قالوا - يا رسول الله ، علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : " اللهم ، صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وارحم محمدا وآل محمد ، كما رحمت آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، [ وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم ، إنك حميد مجيد ] .
فيستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم ، كما هو قول الجمهور : ويعضده حديث الأعرابي الذي قال : اللهم ، ارحمني ومحمدا ، ولا ترحم معنا أحدا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حجرت واسعا " .
وحكى القاضي عياض عن جمهور المالكية منعه ، قال : وأجازه أبو محمد بن أبي زيد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا شعبة ، عن عاصم بن عبيد الله قال : سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي ، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر " .
ورواه ابن ماجه ، من حديث شعبة ، به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، ويونس - هو ابن محمد - قالا حدثنا ليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته حتى دخل نخلا فسجد فأطال السجود ، حتى خفت - أو : خشيت - أن يكون الله قد توفاه أو قبضه . قال : فجئت أنظر ، فرفع رأسه فقال : " ما لك يا عبد الرحمن ؟ " قال : فذكرت ذلك له فقال : " إن جبريل ، عليه السلام ، قال لي : ألا أبشرك ؟ إن الله ، عز وجل ، يقول : من صلى عليك صليت عليه ، ومن سلم عليك سلمت عليه " .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثنا عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته ، فدخل فاستقبل القبلة ، فخر ساجدا ، فأطال السجود ، حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها ، فدنوت منه ثم جلست ، فرفع رأسه فقال : " من هذا ؟ " فقلت : عبد الرحمن . قال : " ما شأنك ؟ " قلت : يا رسول الله ، سجدت سجدة خشيت أن [ يكون ] الله ، عز وجل ، قبض نفسك فيها . فقال : " إن جبريل أتاني فبشرني أن الله ، عز وجل ، يقول لك : من صلى عليك صليت عليه ، ومن سلم عليك سلمت عليه - فسجدت لله عز وجل ، شكرا " .
حديث آخر : قال [ الحافظ ] أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الرحيم بن بحير بن عبد الله بن معاوية بن بحير بن ريسان ، [ حدثنا عمرو بن الربيع بن طارقة ] ، حدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا عبد الله بن عمر ، عن الحكم بن عتيبة ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسود بن يزيد ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحدا يتبعه ، ففزع عمر ، فأتاه بمطهرة من خلفه ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا في مشربة ، فتنحى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ، فقال : " أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني ، إن جبريل أتاني فقال : من صلى عليك من أمتك واحدة ، صلى الله عليه عشر صلوات ، ورفعه عشر درجات " .
وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسي في كتابه " المستخرج على الصحيحين " .
وقد رواه إسماعيل القاضي ، عن القعنبي ، عن سلمة بن وردان ، عن أنس ، عن عمر بنحوه .
ورواه أيضا عن يعقوب بن حميد ، عن أنس بن عياض ، عن سلمة بن وردان ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا بندار ، حدثنا محمد بن خالد بن عثمة ، حدثني موسى بن يعقوب الزمعي ، حدثني عبد الله بن كيسان ; أن عبد الله بن شداد أخبره ، عن عبد الله بن مسعود ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " .
تفرد بروايته الترمذي رحمه الله ثم قال : هذا حديث حسن غريب .
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني آت من ربي فقال لي : ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرا " . فقام رجل فقال : يا رسول الله ، ألا أجعل نصف دعائي لك ؟ قال : " إن شئت " . قال : ألا أجعل ثلثي دعائي لك ؟ قال : " إن شئت " . قال : ألا أجعل دعائي لك كله ؟ قال : " إذن يكفيك الله هم الدينا وهم الآخرة " . فقال شيخ - كان بمكة ، يقال له : منيع - لسفيان : عمن أسنده ؟ قال : لا أدري .
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل فيقول : " جاءت الراجفة ، تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه " . قال أبي : يا رسول الله ، إني أصلي من الليل ، أفأجعل لك ثلث صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشطر " . قال : أفأجعل لك شطر صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الثلثان " . قال أفأجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : " إذن يغفر الله ذنبك كله " .
وقد رواه الترمذي بنحوه فقال : حدثنا هناد ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : " يا أيها الناس ، اذكروا الله ، اذكروا الله ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه ، جاء الموت بما فيه " . قال أبي : قلت : يا رسول الله ، إني أكثر الصلاة عليك ، فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال : " ما شئت " . قلت : الربع ؟ قال : " ما شئت ، فإن زدت فهو خير لك " . قلت : فالنصف ؟ قال : " ما شئت ، فإن زدت فهو خير لك " . قلت : فالثلثين ؟ قال : " ما شئت ، فإن زدت فهو خير لك " . قلت : أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال : " إذن تكفى همك ، ويغفر لك ذنبك " .
ثم قال : هذا حديث حسن .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي ، عن أبيه قال : قال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : " إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن سليمان مولى الحسن بن علي ، عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم ، والسرور يرى في وجهه ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لنرى السرور في وجهك . فقال : " إنه أتاني الملك فقال : يا محمد ، أما يرضيك أن ربك ، عز وجل ، يقول : إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا ؟ قال : بلى " .
ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة ، به . وقد رواه إسماعيل القاضي ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن عبيد الله بن عمر ، عن ثابت ، عن أبي طلحة ، بنحوه .
طريق أخرى : قال [ الإمام ] أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا أبو معشر ، عن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبي طلحة الأنصاري قال : أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس ، يرى في وجهه البشر ، قالوا : يا رسول الله ، أصبحت اليوم طيب النفس ، يرى في وجهك البشر ؟ قال : " أجل ، أتاني آت من ربي ، عز وجل ، فقال : من صلى عليك من أمتك صلاة ، كتب الله له بها عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، ورد عليه مثلها " .
وهذا أيضا إسناد جيد ، ولم يخرجوه .
حديث آخر : روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه; عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى علي واحدة ، صلى الله عليه بها عشرا " .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف ، وعامر بن ربيعة ، وعمار ، وأبي طلحة ، وأنس ، وأبي بن كعب .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا شريك ، عن ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صلوا علي; فإنها زكاة لكم . وسلوا الله لي الوسيلة; فإنها درجة في أعلى الجنة ، لا ينالها إلا رجل ، وأرجو أن أكون أنا هو " . تفرد به أحمد ، وقد رواه البزار من طريق مجاهد ، عن أبي هريرة ، بنحوه فقال : حدثنا محمد بن إسحاق البكالي ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا داود بن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلوا علي; فإنها زكاة لكم ، وسلوا الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة " فسألناه - أو : أخبرنا - فقال : " هي درجة في أعلى الجنة ، وهي لرجل ، وأنا أرجو أن أكون ذلك الرجل " .
في إسناده بعض من تكلم فيه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، [ عن عبد الله بن هبيرة ] ، عن عبد الرحمن بن مريج الخولاني ، سمعت أبا قيس - مولى عمرو بن العاص - سمعت عبد الله بن عمرو يقول : من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ، صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة ، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر . وسمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال : " أنا محمد النبي الأمي - قاله ثلاث مرات - ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه ، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش ، وتجوز بي ، عوفيت وعوفيت أمتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله ، أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه " .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو سلمة الخراساني ، حدثنا أبو إسحاق ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ذكرت عنده فليصل علي ، ومن صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشرا " .
ورواه النسائي في " اليوم والليلة " ، من حديث أبي داود الطيالسي ، عن أبي سلمة - وهو المغيرة بن مسلم الخراساني - عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن أنس ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا يونس بن عمرو - يعني يونس بن أبي إسحاق - عن بريد بن أبي مريم ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى علي صلاة واحدة ، صلى الله عليه عشر صلوات ، وحط عنه عشر خطيئات " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو وأبو سعيد [ قالا ] : حدثنا سليمان بن بلال ، عن عمارة بن غزية ، عن عبد الله بن الحسين ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البخيل من ذكرت عنده ، ثم لم يصل علي " . وقال أبو سعيد : " فلم يصل علي " .
ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب صحيح .
ومن الرواة من جعله من مسند " الحسين بن علي " ، ومنهم من جعله من مسند " علي " نفسه . حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن معبد بن هلال العنزي ، حدثنا رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي " .
حديث آخر مرسل : قال إسماعيل : وحدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا جرير بن حازم ، سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بحسب امرئ من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي " ، صلوات الله عليه .
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا ربعي بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي . [ ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، ثم انسلخ قبل أن يغفر له ] ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة " . ثم قال : حسن غريب .
قلت : وقد رواه البخاري في الأدب ، عن محمد بن عبيد الله ، حدثنا ابن أبي حازم ، عن كثير بن زيد ، عن الوليد بن رباح ، عن أبي هريرة مرفوعا ، بنحوه . ورويناه من حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، به . قال الترمذي : وفي الباب عن جابر وأنس .
قلت : وابن عباس ، وكعب بن عجرة ، وقد ذكرت طرق هذا الحديث في أول كتاب الصيام وعند قوله تعالى : ( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) [ الإسراء : 23 ] .
وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر ، وهو مذهب طائفة من العلماء [ منهم الطحاوي والحليمي ] ، ويتقوى بالحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه :
حدثنا جبارة بن المغلس ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة " .
جبارة ضعيف . ولكن رواه إسماعيل القاضي من غير وجه ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة " . وهذا مرسل يتقوى بالذي قبله [ والله أعلم ] .
وذهب آخرون إلى أنه تجب الصلاة في المجلس مرة واحدة ، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس ، بل تستحب . نقله الترمذي عن بعضهم ، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن صالح - مولى التوأمة - عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم " .
تفرد به الترمذي من هذا الوجه . ورواه الإمام أحمد عن حجاج ويزيد بن هارون ، كلاهما عن ابن أبي ذئب ، عن صالح - مولى التوأمة - عن أبي هريرة ، مرفوعا مثله . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن .
وقد روي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من غير وجه ، وقد رواه إسماعيل القاضي من حديث شعبة ، عن سليمان ، عن ذكوان ، عن أبي سعيد قال : " ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا كان عليهم حسرة ، وإن دخلوا الجنة لما يرون [ من ] الثواب " .
وحكي عن بعضهم أنه إنما تجب الصلاة عليه ، عليه السلام ، في العمر مرة واحدة ، امتثالا لأمر الآية ، ثم هي مستحبة في كل حال ، وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة . قال : وقد حكى الطبراني أن محمل الآية على الندب ، وادعى فيه الإجماع . قال : ولعله فيما زاد على المرة ، والواجب منه مرة كالشهادة له بالنبوة ، وما زاد على ذلك فمندوب مرغب فيه من سنن الإسلام ، وشعار أهله .
قلت : وهذا قول غريب ، فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة ، فمنها واجب ، ومنها مستحب على ما نبينه .
فمنه : بعد النداء للصلاة ; للحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، حدثنا كعب بن علقمة ، أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يقول : إنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي; فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة " .
وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ، من حديث كعب بن علقمة
طريق أخرى : قال إسماعيل القاضي : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا عمرو بن علي ، عن أبي بكر الجشمي ، عن صفوان بن سليم ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل الله لي الوسيلة ، حقت عليه شفاعتي يوم القيامة " .
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا سعيد بن زيد ، عن ليث ، عن كعب - هو كعب الأحبار - عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلوا علي ، فإن صلاتكم علي زكاة لكم ، وسلوا الله لي الوسيلة " . قال : فإما حدثنا وإما سألناه ، فقال : " الوسيلة أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل ، وأرجو أن أكون ذلك الرجل " .
ثم رواه عن محمد بن أبي بكر ، عن معتمر ، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - به . وكذا الحديث الآخر :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا بكر بن سوادة ، عن زياد بن نعيم ، عن وفاء الحضرمي ، عن رويفع بن ثابت الأنصاري ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى على محمد وقال : اللهم ، أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة ، وجبت له شفاعتي " .
وهذا إسناد لا بأس به ، ولم يخرجوه .
أثر آخر قال إسماعيل القاضي : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثني معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، سمعت ابن عباس يقول : اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى ، وارفع درجته العليا ، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى ، كما آتيت إبراهيم وموسى ، عليهما السلام . إسناد جيد قوي صحيح .
ومن ذلك : عند دخول المسجد والخروج منه : للحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن عبد الله بن الحسن ، عن أمه فاطمة بنت الحسين ، عن جدته [ فاطمة ] بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال : " اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك " . وإذا خرج صلى على محمد وسلم ، ثم قال : " اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك " .
وقال إسماعيل القاضي : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا سفيان بن عمر التميمي ، عن سليمان الضبي ، عن علي بن الحسين قال : قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم . وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فقد قدمنا الكلام عليها في التشهد الأخير ، ومن ذهب إلى ذلك من العلماء مع الشافعي ، رحمه الله . وأما التشهد الأول فلا تجب فيه قولا واحدا ، وهل تستحب ؟ على قولين للشافعي .
ومن ذلك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة : فإن السنة أن يقرأ في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب ، وفي الثانية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الثالثة يدعو للميت ، وفي الرابعة يقول : اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده .
قال الشافعي ، رحمه الله : حدثنا مطرف بن مازن ، عن معمر ، عن الزهري : أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويخلص الدعاء للجنازة ، وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها ، ثم يسلم سرا في نفسه
ورواه النسائي ، عن أبي أمامة نفسه أنه قال : من السنة ، فذكره .
وهذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح .
ورواه إسماعيل القاضي ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : السنة في الصلاة على الجنازة . . . فذكره .
وهكذا روي عن أبي هريرة ، وابن عمر ، والشعبي .
ومن ذلك : في صلاة العيد : قال إسماعيل القاضي : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدستوائي ، حدثنا حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة يوما قبل العيد ، فقال لهم : إن هذا العيد قد دنا ، فكيف التكبير فيه ؟ قال عبد الله : تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة ، وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو ، وتكبر وتفعل مثل ذلك ، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ، ثم تقرأ ، ثم تكبر وتركع ، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر ، وتفعل مثل ذلك ، ثم تركع . فقال حذيفة وأبو موسى : صدق أبو عبد الرحمن . إسناد صحيح
ومن ذلك : أنه يستحب ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي :
حدثنا أبو داود ، أخبرنا النضر بن شميل ، عن أبي قرة الأسدي ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب قال : الدعاء موقوف بين السماء والأرض ، لا يصعد حتى تصلي على نبيك .
وهكذا رواه أيوب بن موسى ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب ، قوله . ورواه معاذ بن الحارث ، عن أبي قرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر مرفوعا . وكذا رواه رزين بن معاوية في كتابه مرفوعا ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء موقوف بين السماء والأرض ، لا يصعد حتى يصلى علي ، فلا تجعلوني كغمر الراكب ، صلوا علي أول الدعاء وأوسطه وآخره " .
وهذه الزيادة إنما تروى من رواية جابر بن عبد الله في مسند الإمام عبد بن حميد الكشي [ حيث ] قال : حدثنا جعفر بن عون ، أخبرنا موسى بن عبيدة ، عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه قال : قال جابر : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجعلوني كقدح الراكب ، إذا علق تعاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء ، فإن كان له حاجة في الوضوء توضأ ، وإن كان له حاجة في الشرب شرب وإلا أهراق ما فيه ، اجعلوني في أول الدعاء ، وفي ، وسط الدعاء ، وفي آخر الدعاء " . فهذا حديث غريب ، وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث .
ومن [ آكد ] ذلك : دعاء القنوت : لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، من حديث أبي الحوراء ، عن الحسن بن علي ، رضي الله عنهما ، قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت تباركت [ ربنا ] وتعاليت " .
وزاد النسائي في سننه بعد هذا : وصلى الله على النبي محمد .
ومن ذلك : أنه يستحب الإكثار من الصلاة عليه [ في ] يوم الجمعة وليلة الجمعة : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن علي الجعفي ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ - يعني : وقد بليت - قال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " .
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، من حديث حسين بن علي الجعفي . وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني ، والنووي في الأذكار .
حديث آخر : قال أبو عبد الله بن ماجه : حدثنا عمرو بن سواد المصري ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نسي ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة; فإنه مشهود تشهده الملائكة . وإن أحدا لا يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها " . قال : قلت : وبعد الموت ؟ قال : " [ وبعد الموت ] ، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " [ فنبي الله حي يرزق ] .
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفيه انقطاع بين عبادة بن نسي وأبي الدرداء ، فإنه لم يدركه ، والله أعلم .
وقد روى البيهقي من حديث أبي أمامة وأبي مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة ، ولكن في إسنادهما ضعف ، والله أعلم . وروي مرسلا عن الحسن البصري ، فقال إسماعيل القاضي :
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا جرير بن حازم ، سمعت الحسن - هو البصري - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تأكل الأرض جسد من كلمه روح القدس " . مرسل حسن .
وقال الشافعي : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، أخبرنا صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فأكثروا الصلاة علي " . هذا مرسل .
وهكذا يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين ، ولا تصح الخطبتان إلا بذلك; لأنها عبادة ، وذكر الله فيها شرط ، فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة . هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله .
ومن ذلك : أنه يستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره ، صلوات الله وسلامه عليه : قال أبو داود :
حدثنا ابن عوف - هو محمد - حدثنا المقري ، حدثنا حيوة ، عن أبي صخر حميد بن زياد ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، حتى أرد عليه السلام " .
تفرد به أبو داود ، وصححه النووي في الأذكار . ثم قال أبو داود :
حدثنا أحمد بن صالح قال : قرأت على عبد الله بن نافع ، أخبرني ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، ولا تجعلوا قبري عيدا ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم " .
تفرد به أبو داود أيضا . وقد رواه الإمام أحمد عن سريج ، عن عبد الله بن نافع - وهو الصائغ - به . وصححه النووي أيضا . وقد روي من وجه آخر عن علي ، رضي الله عنه . قال القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه " فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " :
حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب [ عمن أخبره ] من أهل بيته ، عن علي بن الحسين بن علي : أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ، ويصنع من ذلك ما اشتهر عليه علي بن الحسين ، فقال له علي بن الحسين : ما يحملك على هذا ؟ قال : أحب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له علي بن الحسين : هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي ؟ قال : نعم . فقال له علي بن الحسين : أخبرني أبي ، عن جدي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا قبري عيدا ، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فتبلغني صلاتكم وسلامكم " .
في إسناده رجل مبهم لم يسم وقد روي من وجه آخر مرسلا قال عبد الرزاق في مصنفه ، عن الثوري ، عن ابن عجلان ، عن رجل - يقال له : سهيل - عن الحسن بن الحسن بن علي ; أنه رأى قوما عند القبر فنهاهم ، وقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي حيثما كنتم; فإن صلاتكم تبلغني " . فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم [ فوق الحاجة ] ، فنهاهم .
وقد روي أنه رأى رجلا ينتاب القبر فقال : يا هذا ، ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء ، أي : الجميع يبلغه ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .
وقال الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أحمد بن رشدين المصري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرني حميد بن أبي زينب ، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، عن أبيه; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلوا علي حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني " .
ثم قال الطبراني : حدثنا العباس بن حمدان الأصبهاني ، حدثنا شعيب بن عبد الحميد الطحان ، أخبرنا يزيد بن هارون عن شيبان ، عن الحكم بن عبد الله بن خطاف ، عن أم أنيس بنت الحسن بن علي ، عن أبيها قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت قول الله ، عز وجل : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ) ؟ " فقال : " إن هذا هو المكتوم ، ولولا أنكم سألتموني عنه لما أخبرتكم ، إن الله وكل بي ملكين لا أذكر عند عبد مسلم فيصلي علي إلا قال ذانك الملكان : " غفر الله لك " . وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين : " آمين " . ولا يصلي أحد إلا قال ذانك الملكان : " غفر الله لك " . ويقول الله وملائكته جوابا لذينك الملكين : " آمين " .
غريب جدا ، وإسناده فيه ضعف شديد
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله ملائكة سياحين في الأرض ، يبلغوني من أمتي السلام " .
وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري وسليمان بن مهران الأعمش ، كلاهما عن عبد الله بن السائب ، به
فأما الحديث الآخر : " من صلى علي عند قبري سمعته ، ومن صلى علي من بعيد بلغته " - ففي إسناده نظر ، تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير ، وهو متروك ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا .
قال أصحابنا : ويستحب للمحرم إذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم : لما روي عن الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : كان يؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال .
وقال إسماعيل القاضي : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا زكريا ، عن الشعبي ، عن وهب بن الأجدع قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا ، وصلوا عند المقام ركعتين ، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت ، فكبروا سبع تكبيرات ، تكبيرا بين حمد لله وثناء عليه ، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسألة لنفسك ، وعلى المروة مثل ذلك .
إسناد جيد حسن قوي .
وقالوا : ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح : واستأنسوا بقوله تعالى : ( ورفعنا لك ذكرك ) [ الشرح : 4 ] ، قال بعض المفسرين : يقول الله تعالى : " لا أذكر إلا ذكرت معي " . وخالفهم في ذلك الجمهور ، وقالوا : هذا موطن يفرد فيه ذكر الرب تعالى ، كما عند الأكل ، والدخول ، والوقاع وغير ذلك ، مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
حديث آخر : قال إسماعيل القاضي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عمر بن هارون ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صلوا على أنبياء الله ورسله; فإن الله بعثهم كما بعثني " .
في إسناده ضعيفان ، وهما عمر بن هارون وشيخه ، والله أعلم . وقد رواه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن موسى بن عبيدة الربذي به .
ومن ذلك : أنه يستحب الصلاة عليه عند طنين الأذن ، إن صح الخبر في ذلك ، على أن الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قد رواه في صحيحه فقال : حدثنا زياد بن يحيى ، حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله ، عن أبيه محمد ، عن أبيه أبي رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي ، وليقل : ذكر الله من ذكرني بخير " . إسناده غريب ، وفي ثبوته نظر والله أعلم .
[ وهاهنا مسألة ] :
وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه ، وقد ورد في الحديث من طريق كادح بن رحمة ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صلى علي في كتاب ، لم تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب " .
وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة ، وقد روي من حديث أبي هريرة ، ولا يصح أيضا ، قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخنا : أحسبه موضوعا . وقد روي نحوه عن أبي بكر ، وابن عباس . ولا يصح من ذلك شيء ، والله أعلم . وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه : " الجامع لآداب الراوي والسامع ، قال : رأيت بخط الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : كثيرا ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة ، قال : وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظا .
إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٦٥
قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما .
هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته ، وذكر منزلته منه ، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء ، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك . والصلاة من الله رحمته ورضوانه ، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار ، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره .
مسألة : واختلف العلماء في الضمير في قوله : يصلون فقالت فرقة : الضمير فيه لله والملائكة ، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته ، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس الخطيب أنت ، قل ومن يعص الله ورسوله أخرجه الصحيح . قالوا : لأنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله تعالى مع غيره في ضمير ، ولله أن يفعل في ذلك ما يشاء . وقالت فرقة : في الكلام حذف ، تقديره إن الله يصلي وملائكته يصلون ، وليس في الآية اجتماع في ضمير ، وذلك جائز للبشر فعله . ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب أنت لهذا المعنى ، وإنما قاله لأن الخطيب وقف على ومن يعصهما ، وسكت سكتة . واستدلوا بما رواه أبو داود عن عدي بن حاتم أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يطع الله ورسوله ومن يعصهما . فقال : قم - أو اذهب - بئس الخطيب أنت . إلا أنه يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال له : بئس الخطيب ، أصلح له بعد ذلك جميع كلامه ، فقال : قل ومن يعص الله ورسوله كما في كتاب مسلم . وهو يؤيد القول الأول بأنه لم يقف على ( ومن يعصهما ) . وقرأ ابن عباس : ( وملائكته ) بالرفع على موضع اسم الله قبل دخول ( إن ) . والجمهور بالنصب عطفا على المكتوبة .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما فيه خمسة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له ، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة ، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه . الزمخشري : فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها ؟ قلت : بل واجبة . وقد اختلفوا في حال وجوبها ، فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره . وفي الحديث : ( من ذكرت عنده فلم يصل علي فدخل النار فأبعده الله ) . ويروى أنه قيل له : يا رسول الله ، أرأيت قول الله عز وجل : إن الله وملائكته يصلون على النبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به ، إن الله تعالى وكل بي ملكين فلا أذكر عند مسلم فيصلي علي إلا قال ذلك الملكان غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين . ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي علي إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين آمين ) .
ومنهم من قال : تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره ، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس . وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره ، ومنهم من أوجبها في العمر . وكذلك قال في إظهار الشهادتين . والذي يقتضيه الاحتياط : الصلاة عند كل ذكر ، لما ورد من الأخبار في ذلك .
الثانية : واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فروى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلي عليك ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم . ورواه النسائي عن طلحة مثله ، بإسقاط قوله : ( في العالمين ) وقوله : ( والسلام كما قد علمتم ) . وفي الباب عن كعب بن عجرة وأبي حميد الساعدي وأبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وبريدة الخزاعي وزيد بن خارجة ، ويقال ابن حارثة أخرجها أئمة أهل الحديث في كتبهم . وصحح الترمذي حديث كعب بن عجرة . خرجه مسلم في صحيحه مع حديث أبي حميد الساعدي . قال أبو عمر : روى شعبة والثوري عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال : لما نزل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة ؟ فقال : قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وهذا لفظ حديث الثوري لا حديث شعبة وهو يدخل في التفسير المسند إليه لقول الله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما فبين كيف الصلاة عليه وعلمهم في التحيات كيف السلام عليه ، وهو قوله : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .
وروى المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن الأسود عن عبد الله أنه قال : إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه . قالوا فعلمنا ، قال : قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ونبيك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة . اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وروينا بالإسناد المتصل في كتاب ( الشفا ) للقاضي عياض عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : عدهن في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : عدهن في يدي جبريل وقال هكذا أنزلت من عند رب العزة اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . اللهم وتحنن على محمد وعلى آل محمد كما تحننت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . قال ابن العربي : من هذه الروايات صحيح ومنها سقيم ، وأصحها ما رواه مالك فاعتمدوه . ورواية غير مالك من زيادة الرحمة مع الصلاة وغيرها لا يقوى ، وإنما على الناس أن ينظروا في أديانهم نظرهم في أموالهم ، وهم لا يأخذون في البيع دينارا معيبا ، وإنما يختارون السالم الطيب ، كذلك لا يؤخذ من الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم سنده ، لئلا يدخل في حيز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يطلب الفضل إذا به قد أصاب النقص ، بل ربما أصاب الخسران المبين .
الثالثة : في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا . وقال سهل بن عبد الله : الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات ؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته ، ثم أمر بها المؤمنين ، وسائر العبادات ليس كذلك . قال أبو سليمان الداراني : من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يسأل الله حاجته ، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يرد ما بينهما . وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : الدعاء يحجب دون السماء حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من صلى علي وسلم علي في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب .
الرابعة : واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير : أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباتها . قال ابن المنذر : يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم . وهو قول جل أهل العلم . وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة ، وأن تاركها في التشهد مسيء . وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة . وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان . وقال أبو عمر : قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة . قال : وإن صلى عليه قبل ذلك لم تجزه . وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى ، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من رواية حرملة عنه ، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه . وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه ، وهو عندهم تحصيل مذهبه . وزعم الطحاوي أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره . وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي : وليست بواجبة في الصلاة ، وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ، ولا أعلم له فيها قدوة . والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه ، وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا . وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روى التشهد عنه صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عمر : كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب . وعلمه أيضا على المنبر عمر ، وليس فيه ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت : قد قال بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة محمد بن المواز من أصحابنا فيما ذكر ابن القصار وعبد الوهاب ، واختاره ابن العربي للحديث الصحيح : إن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك ؟ فعلم الصلاة ووقتها فتعينت كيفية ووقتا . وذكر الدارقطني عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أنه قال : لو صليت صلاة لم أصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أهل بيته لرأيت أنها لا تتم . وروي مرفوعا عنه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم . والصواب أنه قول أبي جعفر ، قاله الدارقطني .
الخامسة : قوله تعالى : عليه وسلموا ، قال القاضي أبو بكر بن بكير : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه . وكذلك من بعدهم أمروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره . وروى النسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه ، فقلت : إنا لنرى البشرى في وجهك ! فقال : إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا . وعن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يسلم علي إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته وروى النسائي عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام . قال القشيري والتسليم قولك : سلام عليك .
إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٦٥
وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ورفعة درجته، وعلو منزلته عند اللّه وعند خلقه، ورفع ذكره. و { إِنَّ اللَّهَ } تعالى { وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ } عليه، أي: يثني اللّه عليه بين الملائكة، وفي الملأ الأعلى، لمحبته تعالى له، وتثني عليه الملائكة المقربون، ويدعون له ويتضرعون.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اقتداء باللّه وملائكته، وجزاء له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلاً لإيمانكم، وتعظيمًا له صلى اللّه عليه وسلم، ومحبة وإكرامًا، وزيادة في حسناتكم، وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، ما علم به أصحابه: "اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٥
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٥
قول تعالى : متهددا ومتوعدا من آذاه ، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك ، وأذى رسوله بعيب أو تنقص ، عياذا بالله من ذلك .
قال عكرمة في قوله : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) : نزلت في المصورين .
وفي الصحيحين ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله ، عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر ، أقلب ليله ونهاره " .
ومعنى هذا : أن الجاهلية كانوا يقولون : يا خيبة الدهر ، فعل بنا كذا وكذا . فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ، ويسبونه ، وإنما الفاعل لذلك هو الله ، عز وجل ، فنهى عن ذلك . هكذا قرره الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من العلماء ، رحمهم الله .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( يؤذون الله ورسوله ) : نزلت في الذين طعنوا [ على النبي صلى الله عليه وسلم ] في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب .
والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء ، ومن آذاه فقد آذى الله ، ومن أطاعه فقد أطاع الله ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن عبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي ، عن عبد الرحمن [ بن زياد ] ، عن عبد الله بن المغفل المزني قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه " .
وقد رواه الترمذي من حديث عبيدة بن أبي رائطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن المغفل ، به . ثم قال : وهذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٥
قوله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا .
فيه خمس مسائل :
الأولى : اختلف العلماء في أذية الله بماذا تكون ؟ فقال الجمهور من العلماء : معناه بالكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه ، ووصفه بما لا يليق به ، كقول اليهود لعنهم الله : وقالت اليهود : يد الله مغلولة . والنصارى : المسيح ابن الله . والمشركون : الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه . وفي صحيح البخاري قال الله تعالى : ( كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك . . ) الحديث . وقد تقدم في سورة ( مريم ) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال الله تبارك وتعالى : ( يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما ) . هكذا جاء هذا الحديث موقوفا على أبي هريرة في هذه الرواية . وقد جاء مرفوعا عنه ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار ) أخرجه أيضا مسلم . وقال عكرمة : معناه بالتصوير والتعرض لفعل ما لا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله المصورين .
قلت : وهذا مما يقوي قول مجاهد في المنع من تصوير الشجر وغيرها ; إذ كل ذلك صفة اختراع وتشبه بفعل الله الذي انفرد به سبحانه وتعالى . وقد تقدم هذا في سورة ( النمل ) والحمد لله . وقالت فرقة : ذلك على حذف مضاف ، تقديره : يؤذون أولياء الله . وأما أذية رسوله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال في غير معنى واحد ، ومن الأفعال أيضا . أما قولهم : ( فساحر . شاعر . كاهن . مجنون ) . وأما فعلهم : ( فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد ، وبمكة إلقاء السلى على ظهره وهو ساجد ) إلى غير ذلك . وقال ابن عباس : نزلت في الذين طعنوا عليه حين اتخذ صفية بنت أبي حيي . وأطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات ؛ لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبدا . وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه ، ومنه :
الثانية : قال علماؤنا : والطعن في تأمير أسامة بن زيد أذية له عليه السلام . روى الصحيح عن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمرته ; فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده . وهذا البعث - والله أعلم - هو الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة وأمره عليهم وأمره أن يغزو ( أبنى ) وهي القرية التي عند مؤتة ، الموضع الذي قتل فيه زيد أبوه مع جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة . فأمره أن يأخذ بثأر أبيه فطعن من في قلبه ريب في إمرته ; من حيث إنه كان من الموالي ، ومن حيث إنه كان صغير السن ; لأنه كان إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة ; فمات النبي صلى الله عليه وسلم وقد برز هذا البعث عن المدينة ولم ينفصل بعد عنها ; فنفذه أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالثة : في هذا الحديث أوضح دليل على جواز إمامة المولى والمفضول على غيرهما ما عدا الإمامة الكبرى . وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سالما مولى أبي حذيفة على الصلاة بقباء ، فكان يؤمهم وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهم من كبراء قريش . وروى الصحيح عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان ، وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملت على هذا الوادي ؟ قال : ابن أبزى . قال : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا . قال :
فاستخلفت عليهم مولى ! قال : إنه لقارئ لكتاب الله وإنه لعالم بالفرائض - قال - أما إن نبيكم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين .
الرابعة : كان أسامة رضي الله عنه الحب ابن الحب وبذلك كان يدعى ، وكان أسود شديد السواد ، وكان زيد أبوه أبيض من القطن . هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح . وقال غير أحمد : كان زيد أزهر اللون وكان أسامة شديد الأدمة . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن أسامة وهو صغير ويمسح مخاطه ، وينقي أنفه ويقول : ( لو كان أسامة جارية لزيناه وجهزناه وحببناه إلى الأزواج ) . وقد ذكر أن سبب ارتداد العرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه لما كان عليه السلام في حجة الوداع بجبل عرفة عشية عرفة عند النفر ، احتبس النبي صلى الله عليه وسلم قليلا بسبب أسامة إلى أن أتاه ; فقالوا : ما احتبس إلا لأجل هذا ! تحقيرا له . فكان قولهم هذا سبب ارتدادهم . ذكره البخاري في التاريخ بمعناه . والله أعلم .
الخامسة : كان عمر رضي الله عنه يفرض لأسامة في العطاء خمسة آلاف ، ولابنه عبد الله ألفين ; فقال له عبد الله : فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد ! فقال : إن أسامة كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، وأباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ، ففضل رضي الله عنه محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه . وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغض من أبغض . وقد قابل مروان هذا الحب بنقيضه ; وذلك أنه مر بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مروان : إنما أردنا أن نرى مكانك ، فقد رأينا مكانك ، فعل الله بك ! وقال قولا قبيحا . فقال له أسامة : إنك آذيتني ، وإنك فاحش متفحش ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله تعالى يبغض الفاحش المتفحش . فانظر ما بين الفعلين وقس ما بين الرجلين ، فقد آذى بنو أمية النبي صلى الله عليه وسلم في أحبابه ، وناقضوه في محابه .
قوله تعالى : ( لعنهم الله ) معناه أبعدوا من كل خير . واللعن في اللغة : الإبعاد ، ومنه اللعان . وأعد لهم عذابا مهينا تقدم معناه في غير موضع . والحمد لله رب العالمين .
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٥
لما أمر تعالى بتعظيم رسوله صلى اللّه عليه وسلم، والصلاة والسلام عليه، نهى عن أذيته، وتوعد عليها فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذا يشمل كل أذية، قولية أو فعلية، من سب وشتم، أو تنقص له، أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى. { لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا } أي: أبعدهم وطردهم، ومن لعنهم [في الدنيا] أنه يحتم قتل من شتم الرسول، وآذاه.
{ وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } جزاء له على أذاه، أن يؤذى بالعذاب الأليم، فأذية الرسول، ليست كأذية غيره، لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يؤمن العبد باللّه، حتى يؤمن برسوله صلى اللّه عليه وسلم. وله من التعظيم، الذي هو من لوازم الإيمان، ما يقتضي ذلك، أن لا يكون مثل غيره.
وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٨٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٨٥
وقوله : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ) أي : ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ، ( فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه ، على سبيل العيب والتنقص لهم ، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم; فإن الله ، عز وجل ، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم ، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا ، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب يذمون الممدوحين ، ويمدحون المذمومين .
وقال أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أنه قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به . قال : حسن صحيح .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن عمار بن أنس ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أي الربا أربى عند الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : "أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم " ، ثم قرأ : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) .
وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٨٥
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا .
أذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة ، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق . وهذه الآية نظير الآية التي في النساء : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا كما قال هنا . وقد قيل : إن من الأذية تعييره بحسب مذموم ، أو حرفة مذمومة ، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه ؛ لأن أذاه في الجملة حرام . وقد ميز الله تعالى بين أذاه وأذى الرسول وأذى المؤمنين فجعل الأول كفرا والثاني كبيرة ، فقال في أذى المؤمنين : فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا وقد بيناه . وروي أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب : قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا الآية ، والله إني لأضربهم وأنهرهم . فقال له أبي : يا أمير المؤمنين ، لست منهم ، إنما أنت معلم ومقوم . وقد قيل : إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها ، فخرج أهلها فآذوا عمر باللسان ; فأنزل الله هذه الآية . وقيل : نزلت في علي ، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه . رضي الله عنه .
وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٨٥
وإن كانت أذية المؤمنين عظيمة، وإثمها عظيمًا، ولهذا قال فيها: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي: بغير جناية منهم موجبة للأذى { فَقَدِ احْتَمَلُوا } على ظهورهم { بُهْتَانًا } حيث آذوهم بغير سبب { وَإِثْمًا مُبِينًا } حيث تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها.
ولهذا كان سب آحاد المؤمنين، موجبًا للتعزير، بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ، وتعزير من سب العلماء، وأهل الدين، أعظم من غيرهم.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٥
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٥
يقول تعالى آمرا رسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليما ، أن يأمر النساء المؤمنات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء . والجلباب هو : الرداء فوق الخمار . قاله ابن مسعود ، وعبيدة ، وقتادة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء الخراساني ، وغير واحد . وهو بمنزلة الإزار اليوم .
قاله الجوهري : الجلباب : الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها :
تمشي النسور إليه وهي لاهية مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ، ويبدين عينا واحدة .
وقال محمد بن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) ، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى .
وقال عكرمة : تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن خثيم ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية : ( يدنين عليهن من جلابيبهن ) ، خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها .
وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثنا يونس بن يزيد قال : وسألناه يعني : الزهري - : هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر إلا محصنات . وقد قال الله تعالى : ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ) .
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة ، إنما ينهى عن ذلك لخوف الفتنة; لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : ( ونساء المؤمنين ) .
وقوله : ( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) أي : إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ، قال السدي في قوله تعالى : ( [ يا أيها النبي ] قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين ) قال : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة ، يتعرضون للنساء ، وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن ، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة ، كفوا عنها . وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب ، قالوا : هذه أمة . فوثبوا إليها .
وقال مجاهد : يتجلببن فيعلم أنهن حرائر ، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة .
وقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) أي : لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٥
قوله تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما .
فيه ست مسائل :
الأولى : قل لأزواجك وبناتك قد مضى الكلام في تفصيل أزواجه واحدة واحدة . قال قتادة : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع . خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة . وثلاث من سائر العرب : ميمونة ، وزينب بنت جحش ، وجويرية . وواحدة من بني هارون : صفية . وأما أولاده فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد ذكور وإناث ; فالذكور من أولاده : القاسم ، أمه خديجة ، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم ، وهو أول من مات من أولاده ، وعاش سنتين . وقال عروة : ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم القاسم والطاهر وعبد الله
والطيب . وقال أبو بكر البرقي : ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبد الله . وإبراهيم أمه مارية القبطية ، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة ، وتوفي ابن ستة عشر شهرا . وقيل ثمانية عشر ; ذكره الدارقطني . ودفن بالبقيع . وقال صلى الله عليه وسلم : إن له مرضعا تتم رضاعه في الجنة . وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة سوى إبراهيم . وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة .
وأما الإناث من أولاده فمنهن : فاطمة الزهراء بنت خديجة ، ولدتها وقريش تبني البيت قبل النبوة بخمس سنين ، وهي أصغر بناته ، وتزوجها علي رضي الله عنهما في السنة الثانية من الهجرة في رمضان ، وبنى بها في ذي الحجة . وقيل : تزوجها في رجب ، وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير ، وهي أول من لحقه من أهل بيته . رضي الله عنها .
ومنهن : زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاصي بن الربيع ، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة . واسم أبي العاصي لقيط . وقيل هاشم . وقيل هشيم . وقيل مقسم . وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوفيت سنة ثمان من الهجرة ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها .
ومنهن : رقية - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه : تبت يدا أبي لهب قال أبو لهب لابنه : رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته ; ففارقها ولم يكن بنى بها . وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة ، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء ، وتزوجها عثمان بن عفان ، وكانت نساء قريش يقلن حين تزوجها عثمان :
أحسن شخصين رأى إنسان رقية وبعلها عثمان
وهاجرت معه إلى أرض الحبشة الهجرتين ، وكانت قد أسقطت من عثمان سقطا ، ثم ولدت بعد ذلك عبد الله ، وكان عثمان يكنى به في الإسلام ، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فمات ، ولم تلد له شيئا بعد ذلك . وهاجرت إلى المدينة ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى بدر فخلف عثمان عليها ، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة . وقدم زيد بن حارثة بشيرا من بدر ، فدخل المدينة حين سوي التراب على رقية . ولم يشهد دفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنهن : أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة ، وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية ، ولم يكن دخل بها ، فلم تزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت حين أسلمت أمها ، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء ، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما توفيت رقية تزوجها عثمان ، وبذلك سمي ذا النورين . وتوفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة . وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرها ، ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة . وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم : القاسم ، ثم زينب ، ثم عبد الله ، وكان يقال له الطيب والطاهر ، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية . فمات القاسم بمكة ثم مات عبد الله .
لما كانت عادة العربيات التبذل ، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء ، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن ، وتشعب الفكرة فيهن ، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن ، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف - فيقع الفرق بينهن وبين الإماء ، فتعرف الحرائر بسترهن ، فيكف عن معارضتهن من كان عزبا أو شابا . وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة ، فتصيح به فيذهب ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك . قال معناه الحسن وغيره .
الثالثة : من جلابيبهن الجلابيب جمع جلباب ، وهو ثوب أكبر من الخمار . وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء . وقد قيل : إنه القناع . والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن . وفي صحيح مسلم عن أم عطية : قلت : يا رسول الله . إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ قال : لتلبسها أختها من جلبابها .
الرابعة : واختلف الناس في صورة إرخائه ; فقال ابن عباس وعبيدة السلماني : ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها . وقال ابن عباس أيضا وقتادة : ذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه . وقال الحسن : تغطي نصف وجهها .
الخامسة : أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر ، وإن ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها ، إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت ; لأن له أن يستمتع بها كيف شاء . ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن من يوقظ صواحب الحجر رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة . وروي أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبطية ; فقال : اجعل صديعا لك قميصا وأعط صاحبتك صديعا تختمر به . والصديع النصف . ثم قال له : مرها تجعل تحتها شيئا لئلا يصف . وذكر أبو هريرة رقة الثياب للنساء فقال : الكاسيات العاريات الناعمات الشقيات . ودخل نسوة من بني تميم على عائشة رضي الله عنها عليهن ثياب رقاق ، فقالت عائشة : إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات ، وإن كنتن غير مؤمنات فتمتعنه . وأدخلت امرأة عروس على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار قبطي معصفر ، فلما رأتها قالت : لم تؤمن بسورة ( النور ) امرأة تلبس هذا . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها . وقال عمر رضي الله عنه : ما يمنع المرأة المسلمة إذ كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها أو أطمار جارتها مستخفية ، لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها .
السادسة : قوله تعالى : ذلك أدنى أن يعرفن أي الحرائر ، حتى لا يختلطن بالإماء ; فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية ، فتنقطع الأطماع عنهن . وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي . وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة ، محافظة على زي الحرائر . وقد قيل : إنه يجب الستر والتقنع الآن في حق الجميع من الحرائر والإماء . وهذا كما أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا النساء المساجد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوله : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله حتى قالت عائشة رضي الله عنها : لو عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا لمنعهن من الخروج إلى المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل . وكان الله غفورا رحيما تأنيس للنساء في ترك الجلابيب قبل هذا الأمر المشروع .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٥
هذه الآية، التي تسمى آية الحجاب، فأمر اللّه نبيه، أن يأمر النساء عمومًا، ويبدأ بزوجاته وبناته، لأنهن آكد من غيرهن، ولأن الآمر [لغيره] ينبغي أن يبدأ بأهله، قبل غيرهم كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا }
أن { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أي: يغطين بها، وجوههن وصدورهن.
ثم ذكر حكمة ذلك، فقال: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } دل على وجود أذية، إن لم يحتجبن، وذلك، لأنهن إذا لم يحتجبن، ربما ظن أنهن غير عفيفات، فيتعرض لهن من في قلبه مرض، فيؤذيهن، وربما استهين بهن، وظن أنهن إماء، فتهاون بهن من يريد الشر. فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } حيث غفر لكم ما سلف، ورحمكم، بأن بين لكم الأحكام، وأوضح الحلال والحرام، فهذا سد للباب من جهتهن.
۞ لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٦
نسخ
مشاركة
التفسير
۞ لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٦
ثم قال تعالى متوعدا للمنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر : ( والذين في قلوبهم مرض ) قال عكرمة وغيره : هم الزناة هاهنا ( والمرجفون في المدينة ) يعني : الذين يقولون : " جاء الأعداء " و " جاءت الحروب " ، وهو كذب وافتراء ، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق ( لنغرينك بهم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : لنسلطنك عليهم . وقال قتادة ، رحمه الله : لنحرشنك بهم . وقال السدي : لنعلمنك بهم .
( ثم لا يجاورونك فيها ) أي : في المدينة ) إلا قليلا
۞ لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٦
قوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ; كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال : المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة قال : هم شيء واحد ، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء . والواو مقحمة ، كما قال :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ، وقد مضى في ( البقرة ) . وقيل : كان منهم قوم يرجفون ، وقوم يتبعون النساء للريبة ، وقوم يشككون المسلمين . قال عكرمة وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض يعني الذين في قلوبهم الزنى . وقال طاوس : نزلت هذه الآية في أمر النساء . وقال سلمة بن كهيل : نزلت في أصحاب الفواحش ، والمعنى متقارب . وقيل : المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد ، عبر عنهم بلفظين ; دليله آية المنافقين في أول سورة ( البقرة ) . والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم ، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم قد قتلوا أو هزموا ، وإن العدو قد أتاكم ، قال قتادة وغيره . وقيل كانوا يقولون : أصحاب الصفة قوم عزاب ، فهم الذين يتعرضون للنساء . وقيل : هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة . وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة . وقال ابن عباس : الإرجاف التماس الفتنة ، والإرجاف : إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به . وقيل : تحريك القلوب ، يقال : رجفت الأرض - أي تحركت وتزلزلت - ترجف رجفا . والرجفان : الاضطراب الشديد . والرجاف : البحر ، سمي به لاضطرابه . قال الشاعر :
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف : واحد أراجيف ، الأخبار . وقد أرجفوا في الشيء ، أي خاضوا فيه . قال الشاعر :
فإنا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقال آخر :
أبالأراجيف يا بن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور
فالإرجاف حرام ؛ لأن فيه إذاية . فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف .
الثانية : قوله تعالى : لنغرينك بهم أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل ، وقال ابن عباس : لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم . ثم إنه قال عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره وإنه أمره بلعنهم ، وهذا هو الإغراء ; وقال محمد بن يزيد : قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها ، وهو قوله عز وجل : أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم ; أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : خمس يقتلن في الحل والحرم . فهذا فيه معنى الأمر كالآية سواء . النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وقيل : إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم . ولام لنغرينك لام القسم ، واليمين واقعة عليها ، وأدخلت اللام في ( إن ) توطئة لها .
الثالثة : قوله تعالى : ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة . إلا قليلا نصب على الحال من الضمير في يجاورونك ; فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى ; لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء . فهذا أحد جوابي الفراء ، وهو الأولى عنده ، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم . والجواب الآخر : أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا ، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة ، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف . ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار . وقد مضى في ( النساء ) .
۞ لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا ٠٦
وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي: مرض شك أو شهوة { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي: المخوفون المرهبون الأعداء، المحدثون بكثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين.
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه، ليعم ذلك، كل ما توحي به أنفسهم إليهم، وتوسوس به، وتدعو إليه من الشر، من التعريض بسب الإسلام وأهله، والإرجاف بالمسلمين، وتوهين قواهم، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة، وغير ذلك من المعاصي الصادرة، من أمثال هؤلاء.
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي: نأمرك بعقوبتهم وقتالهم، ونسلطك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوة ولا امتناع، ولهذا قال: { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } أي: لا يجاورونك في المدينة إلا قليلاً، بأن تقتلهم أو تنفيهم.
وهذا فيه دليل، لنفي أهل الشر، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين، فإن ذلك أحسم للشر، وأبعد منه، ويكونون
مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا ١٦
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا ١٦
( ملعونين ) حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين ، ( أين ما ثقفوا ) أي : وجدوا ، ( أخذوا ) لذلتهم وقلتهم ، ( وقتلوا تقتيلا ) .
مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا ١٦
قوله تعالى : ملعونين هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد ، وهو منصوب على الحال . وقال ابن الأنباري : قليلا ملعونين وقف حسن . النحاس : ويجوز أن يكون التمام إلا قليلا وتنصب ملعونين على الشتم . كما قرأ عيسى بن عمر : وامرأته حمالة الحطب . وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال : يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين . وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله . وقيل : معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون ملعونون . وقد فعل بهم هذا ، فإنه لما نزلت سورة ( براءة ) جمعوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد .
مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا ١٦
{ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا }
أي: مبعدين، أين وجدوا، لا يحصل لهم أمن، ولا يقر لهم قرار، يخشون أن يقتلوا، أو يحبسوا، أو يعاقبوا.
سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا ٢٦
نسخ
مشاركة
التفسير
سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا ٢٦
ثم قال : ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ) أي : هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه ، أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم ، ( ولن تجد لسنة الله تبديلا ) أي : وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير .
سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا ٢٦
الخامسة : قوله تعالى : سنة الله نصب على المصدر ; أي سن الله جل وعز فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل . ولن تجد لسنة الله تبديلا أي تحويلا وتغييرا ، حكاه النقاش . وقال السدي : يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله . المهدوي : وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد ، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات . والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم ، وقد مضى هذا في ( آل عمران ) وغيرها .
سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا ٢٦
{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أن من تمادى في العصيان، وتجرأ على ال أذى، ولم ينته منه، فإنه يعاقب عقوبة بليغة. { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } أي تغييرًا، بل سنته تعالى وعادته، جارية مع الأسباب المقتضية لأسبابها
يَسَۡٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ٣٦
نسخ
مشاركة
التفسير
يَسَۡٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ٣٦
يقول تعالى مخبرا لرسوله صلى الله عليه وسلم : أنه لا علم له بالساعة ، وإن سأله الناس عن ذلك . وأرشده أن يرد علمها إلى الله ، عز وجل ، كما قال له في سورة " الأعراف " ، وهي مكية وهذه مدنية ، فاستمر الحال في رد علمها إلى الذي يقيمها ، لكن أخبره أنها قريبة بقوله : ( وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ) ، كما قال : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) [ القمر : 1 ] ، وقال ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ) [ الأنبياء : 1 ] ، وقال ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) [ النحل : 1 ] .
يَسَۡٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ٣٦
قوله تعالى : يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا .
قوله تعالى : يسألك الناس عن الساعة هؤلاء المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة ، استبعادا وتكذيبا ، موهمين أنها لا تكون . قل إنما علمها عند الله أي أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله ، وليس في إخفاء الله وقتها عني ما يبطل نبوتي ، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله جل وعز . وما يدريك أي ما يعلمك . لعل الساعة تكون قريبا أي في زمان قريب . وقال صلى الله عليه وسلم : بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى ، خرجه أهل الصحيح . وقيل : أي ليت الساعة تكون قريبا ، فحذف هاء التأنيث ذهابا بالساعة إلى اليوم ; كقوله : إن رحمة الله قريب من المحسنين ولم يقل قريبة ذهابا بالرحمة إلى العفو ، إذ ليس تأنيثها أصليا . وقد مضى هذا مستوفى . وقيل : إنما أخفى وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها في كل وقت .
يَسَۡٔلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِۚ وَمَا يُدۡرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ٣٦
أي: يستخبرك الناس عن الساعة، استعجالاً لها، وبعضهم، تكذيبًا لوقوعها، وتعجيزًا للذي أخبر بها. { قُلْ } لهم: { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } أي: لا يعلمها إلا اللّه، فليس لي، ولا لغيرى بها علم، ومع هذا، فلا تستبطؤوها.
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا } ومجرد مجيء الساعة، قرباً وبعدًا، ليس تحته نتيجة ولا فائدة، وإنما النتيجة والخسار، والربح، والشقا والسعادة، هل يستحق العبد العذاب، أو يستحق الثواب؟ فهذه سأخبركم بها، وأصف لكم مستحقها.
فوصف مستحق العذاب، ووصف العذاب، لأن الوصف المذكور، منطبق على هؤلاء المكذبين بالساعة .
إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٤٦
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٤٦
ثم قال : ( إن الله لعن الكافرين ) أي : أبعدهم عن رحمته ( وأعد لهم سعيرا ) أي : في الدار الآخرة .
إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٤٦
قوله تعالى : إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا
قوله تعالى : إن الله لعن الكافرين أي طردهم وأبعدهم . واللعن : الطرد والإبعاد عن الرحمة . وقد مضى في ( البقرة ) بيانه . وأعد لهم سعيرا
إِنَّ ٱللَّهَ لَعَنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمۡ سَعِيرًا ٤٦
{ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ } [أي:] الذين صار الكفر دأبهم وطريقتهم الكفر باللّه وبرسله، وبما جاءوا به من عند اللّه، فأبعدهم في الدنيا والآخرة من رحمته، وكفى بذلك عقابًا، { وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا } أي: نارًا موقدة، تسعر في أجسامهم، ويبلغ العذاب إلى أفئدتهم.
خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٥٦
نسخ
مشاركة
التفسير
خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٥٦
( خالدين فيها أبدا ) أي : ماكثين مستمرين ، فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها ، ( لا يجدون وليا ولا نصير ا ) أي : وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه .
خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٥٦
خالدين فيها أبدا فأنث السعير لأنها بمعنى النار . لا يجدون وليا ولا نصيرا ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه .
خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّا يَجِدُونَ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٥٦
ويخلدون في ذلك العذاب الشديد، فلا يخرجون منه، ولا يُفَتَّر عنهم ساعة.
ولَا يَجِدُونَ وَلِيًّا فيعطيهم ما طلبوه { وَلَا نَصِيرًا } يدفع عنهم العذاب، بل قد تخلى عنهم الولي النصير، وأحاط بهم عذاب السعير، وبلغ منهم مبلغًا عظيمًا.
يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠ ٦٦
نسخ
مشاركة
التفسير
يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠ ٦٦
ثم قال : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) أي : يسحبون في النار على وجوههم ، وتلوى وجوههم على جهنم ، يقولون وهم كذلك ، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول ، كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله : ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ) [ الفرقان : 27 - 29 ] ، وقال تعالى : ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) [ الحجر : 2 ] ، وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله ، وأطاعوا الرسول في الدنيا .
يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠ ٦٦
قوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا
قوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار قراءة العامة بضم التاء وفتح اللام ، على الفعل المجهول . وقرأ عيسى الهمداني وابن إسحاق : ( نقلب ) بنون وكسر اللام . ( وجوههم ) نصبا . وقرأ عيسى أيضا : ( تقلب ) بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم . وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار ، فتسود مرة وتخضر أخرى . وإذا بدلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا يقولون يا ليتنا ويجوز أن يكون المعنى : يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا . أطعنا الله وأطعنا الرسولا أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون . وهذه الألف تقع في الفواصل فيوقف عليها ولا يوصل بها . وكذا السبيلا وقد مضى في أول السورة .
يَوۡمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمۡ فِي ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يَٰلَيۡتَنَآ أَطَعۡنَا ٱللَّهَ وَأَطَعۡنَا ٱلرَّسُولَا۠ ٦٦
{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } فيذوقون حرها، ويشتد عليهم أمرها، ويتحسرون على ما أسلفوا.
{ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ } فسلمنا من هذا العذاب، واستحققنا، كالمطيعين، جزيل الثواب. ولكن أمنية فات وقتها، فلم تفدهم إلا حسرة وندمًا، وهمًا، وغمًا، وألمًا.
وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٧٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٧٦
( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ) . وقال طاوس : سادتنا : يعني الأشراف ، وكبراءنا : يعني العلماء . رواه ابن أبي حاتم .
أي : اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة ، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا ، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء .
وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٧٦
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا قرأ الحسن : ( ساداتنا ) بكسر التاء ، جمع سادة . وكان في هذا زجر عن التقليد . والسادة جمع السيد ، وهو فعلة ، مثل كتبة وفجرة . وساداتنا جمع الجمع . والسادة والكبراء بمعنى . وقال قتادة : هم المطعمون في غزوة بدر . والأظهر العموم في القادة والرؤساء في الشرك والضلالة ، أي أطعناهم في معصيتك وما دعونا إليه فأضلونا السبيلا أي عن السبيل وهو التوحيد ، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب . والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر ، كقوله : لقد أضلني عن الذكر .
وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٧٦
{ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا } وقلدناهم على ضلالهم، { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ }
كقوله تعالى { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بعد إذ جاءني } الآية.
رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٨٦
نسخ
مشاركة
التفسير
رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٨٦
( ربنا آتهم ضعفين من العذاب ) أي : بكفرهم وإغوائهم إيانا ، ( والعنهم لعنا كبيرا ) . قرأ بعض القراء بالباء الموحدة . وقرأ آخرون بالثاء المثلثة ، وهما قريبا المعنى ، كما في حديث عبد الله بن عمرو : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال : " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " . أخرجاه في الصحيحين ، يروى " كبيرا " و " كثيرا " ، وكلاهما بمعنى صحيح .
واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه ، وفي ذلك نظر ، بل الأولى أن يقول هذا تارة ، وهذا تارة ، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ فحسن ، وليس له الجمع بينهما ، والله أعلم .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا ضرار بن صرد ، حدثنا علي بن هاشم ، عن [ محمد بن ] عبيد الله بن أبي رافع ، عن أبيه ، في تسمية من شهد مع علي ، رضي الله عنه : الحجاج بن عمرو بن غزية ، وهو الذي كان يقول عند اللقاء : يا معشر الأنصار ، أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه : ( ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ) ؟ .
رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٨٦
قوله تعالى : ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا .
قوله تعالى : ربنا آتهم ضعفين من العذاب قال قتادة : عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . وقيل : عذاب الكفر وعذاب الإضلال ; أي عذبهم مثلي ما تعذبنا فإنهم ضلوا وأضلوا . والعنهم لعنا كبيرا قرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى وعاصم بالباء . الباقون بالثاء ، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس ، لقوله تعالى : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وهذا المعنى كثير . وقال محمد بن أبي السري : رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان وكأن رجلا يناظرني فيمن يبغض أصحاب محمد فقال : والعنهم لعنا كثيرا ، ثم كررها حتى غاب عني ، لا يقولها إلا بالثاء . وقراءة الباء ترجع في المعنى إلى الثاء ; لأن ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار .
رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٨٦
ولما علموا أنهم هم وكبراءهم مستحقون للعقاب، أرادوا أن يشتفوا ممن أضلوهم، فقالوا: { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } فيقول اللّه لكل ضعف، فكلكم اشتركتم في الكفر والمعاصي، فتشتركون في العقاب، وإن تفاوت عذاب بعضكم على بعض بحسب تفاوت الجرم.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا ٩٦
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا ٩٦
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا عوف ، عن الحسن [ ومحمد ] وخلاس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى كان رجلا حييا ، وذلك قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) .
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرا جدا ، وقد رواه في أحاديث " الأنبياء " بهذا السند بعينه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن موسى ، عليه السلام ، كان رجلا حييا ستيرا ، لا يرى من جلده شيء استحياء منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده ، إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وإن الله ، عز وجل ، أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام ، فخلا يوما وحده ، فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله ، عز وجل ، وأبرأه مما يقولون ، وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضربا بعصاه ، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا - قال : فذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) .
وهذا سياق حسن مطول ، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وخلاس ، ومحمد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية : ( ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ) قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا ، لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه " .
ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه في تفسيره . عن روح ، عن عوف ، به . ورواه ابن جرير من حديث الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن عامر الشعبي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا . وهكذا رواه من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، وعبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس في قوله : ( لا تكونوا كالذين آذوا موسى ) قال : قال قومه له : إنك آدر . فخرج ذات يوم يغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل ، قال : فرأوه ليس بآدر ، فذلك قوله : ( فبرأه الله مما قالوا ) .
وهكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس سواء .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدمي قالا حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان موسى ، عليه السلام ، رجلا حييا ، وإنه أتى - أحسبه قال الماء - ليغتسل ، فوضع ثيابه على صخرة ، وكان لا يكاد تبدو عورته ، فقال بنو إسرائيل : إن موسى آدر - أو : به آفة ، يعنون : أنه لا يضع ثيابه فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل ، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال ، أو كما قال ، فذلك قوله : ( فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) .
وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، حدثنا الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، في قوله : ( فبرأه الله مما قالوا ) قال : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون ، عليه السلام ، فقال بنو إسرائيل لموسى ، عليه السلام : أنت قتلته ، كان ألين لنا منك وأشد حياء . فآذوه من ذلك ، فأمر الله الملائكة فحملته ، فمروا به على مجالس بني إسرائيل ، فتكلمت بموته ، فما عرف موضع قبره إلا الرخم ، وإن الله جعله أصم أبكم .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن موسى الطوسي ، عن عباد بن العوام ، به .
ثم قال : وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى ، وجائز أن يكون الأول هو المراد ، فلا قول أولى من قول الله ، عز وجل .
قلت : يحتمل أن يكون الكل مرادا ، وأن يكون معه غيره ، والله أعلم .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق ، عن عبد الله قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسما ، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله . قال : فقلت : يا عدو الله ، أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت . قال : فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه ، ثم قال : " رحمة الله على موسى ، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش به .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هاشم - مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا [ سليم الصدر ] " . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه ، قال : فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه : والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة . قال : فتثبتت حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إنك قلت لنا : " لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا " ، وإني مررت بفلان وفلان ، وهما يقولان كذا وكذا . فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ، ثم قال : " دعنا منك ، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا ، فصبر " .
وقد رواه أبو داود في الأدب ، عن محمد [ بن يحيى الذهلي ، عن محمد بن يوسف الفريابي ، عن إسرائيل عن الوليد ] بن أبي هاشم به مختصرا : " لا يبلغني أحد [ من أصحابي ] عن أحد شيئا; إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر "
وكذا رواه الترمذي في " المناقب " ، عن الذهلي سواء ، إلا أنه قال : " زيد بن زائدة " . ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن محمد ، عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل ، عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به مختصرا أيضا ، فزاد في إسناده السدي ، ثم قال : غريب من هذا الوجه .
وقوله : ( وكان عند الله وجيها ) أي : له وجاهة وجاه عند ربه ، عز وجل .
قال الحسن البصري : كان مستجاب الدعوة عند الله . وقال غيره من السلف : لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه . ولكن منع الرؤية لما يشاء الله ، عز وجل .
وقال بعضهم : من وجاهته العظيمة [ عند الله ] : أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه ، فأجاب الله سؤاله ، وقال : ( ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) [ مريم : 53 ] .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا ٩٦
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .
لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء ، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى . واختلف الناس فيما أوذي به محمد صلى الله عليه وسلم وموسى ، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم : زيد بن محمد . وقال أبو وائل : أذيته أنه صلى الله عليه وسلم قسم قسما فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر وأما أذية موسى صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس وجماعة : هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه قال : كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفي بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة ، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك وتعالى فبرأه الله مما قالوا أخرجه البخاري ومسلم بمعناه . ولفظ مسلم : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا قال أبو هريرة : والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر . فهذا قول .
وروي عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : آذوا موسى بأن قالوا : قتل هارون ; وذلك أن موسى وهارون خرجا من فحص التيه إلى جبل فمات هارون فيه ، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا . فآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل ، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى ، ولم يكن فيه أثر القتل . وقد قيل : إن الملائكة تكلمت بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخم ، وإنه تعالى جعله أصم أبكم . ومات هارون قبل موسى في التيه ، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين . وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله ، ثم مات . وقد قيل : إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون . والصحيح الأول . ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك .
مسألة : في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخوله في الماء عريانا دليل على جواز ذلك ، وهو مذهب الجمهور . ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح ; وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرا . قال القاضي عياض : وهو ضعيف عند أهل العلم .
قلت : أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبد الأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به ، فلما خرج قيل له ، قال : إنما تسترت ممن يراني ولا أراه ; يعني من ربي والملائكة . فإن قيل : كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل ؟ قيل : لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل . و ( حجر ) منادى مفرد محذوف حرف النداء ، كما قال تعالى : يوسف أعرض عن هذا . و ( ثوبي ) منصوب بفعل مضمر ; التقدير : أعطني ثوبي ، أو اترك ثوبي ، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه .
قوله تعالى : قالوا وكان عند الله أي عظيما . والوجيه عند العرب : العظيم القدر الرفيع المنزلة . ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه . وقرأ ابن مسعود : ( وكان عبدا لله ) . وقيل : معنى وجيها أي كلمه تكليما . قال أبو بكر الأنباري في ( كتاب الرد ) : زعم من طعن في القرآن أن المسلمين صحفوا وكان عند الله وجيها وأن الصواب عنده ( وكان عبدا لله وجيها ) وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه ، وذلك أن الآية لو حملت على قوله وقرئت : ( وكان عبدا ) نقص الثناء على موسى عليه السلام ; وذلك أن وجيها يكون عند أهل الدنيا وعند أهل زمانه وعند أهل الآخرة ، فلا يوقف على مكان المدح ، لأنه إن كان وجيها عند بني الدنيا كان ذلك إنعاما من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله . فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله : وكان عند الله وجيها استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله ، فمن غير اللفظ صرف عن نبي الله أفخر الثناء وأعظم المدح .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا ٩٦
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن أذية رسولهم، محمد صلى اللّه عليه وسلم، النبي الكريم، الرءوف الرحيم، فيقابلوه بضد ما يجب له من الإكرام والاحترام، وأن لا يتشبهوا بحال الذين آذوا موسى بن عمران، كليم الرحمن، فبرأه اللّه مما قالوا من الأذية، أي: أظهر اللّه لهم براءته. والحال أنه عليه الصلاة والسلام، ليس محل التهمة والأذية، فإنه كان وجيها عند اللّه، مقربًا لديه، من خواص المرسلين، ومن عباده المخلصين، فلم يزجرهم ما له، من الفضائل عن أذيته والتعرض له بما يكره، فاحذروا أيها المؤمنون، أن تتشبهوا بهم في ذلك، والأذية المشار إليها هي قول بني إسرائيل لموسى لما رأوا شدة حيائه وتستره عنهم: "إنه ما يمنعه من ذلك إلا أنه آدر" أي: كبير الخصيتين، واشتهر ذلك عندهم، فأراد الله أن يبرئه منهم، فاغتسل يومًا، ووضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فأهوى موسى عليه السلام في طلبه، فمر به على مجالس بني إسرائيل، فرأوه أحسن خلق اللّه، فزال عنه ما رموه به.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٠٧
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٠٧
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه ، وأن يقولوا ) قولا سديدا ) أي : مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٠٧
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا أي قصدا وحقا . وقال ابن عباس : أي صوابا . وقال قتادة ومقاتل : يعني قولوا قولا سديدا في شأن زينب وزيد ، ولا تنسبوا النبي إلى ما لا يحل . وقال عكرمة وابن عباس أيضا : القول السداد لا إله إلا الله . وقيل : هو الذي يوافق ظاهره باطنه . وقيل : هو ما أريد به وجه الله دون غيره . وقيل : هو الإصلاح بين المتشاجرين . وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض . والقول السداد يعم الخيرات ، فهو عام في جميع ما ذكر وغير ذلك .
وظاهر الآية يعطي أنه إنما أشار إلى ما يكون خلافا للأذى الذي قيل في جهة الرسول وجهة المؤمنين .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٠٧
يأمر تعالى المؤمنين بتقواه، في جميع أحوالهم، في السر والعلانية، ويخص منها، ويندب للقول السديد، وهو القول الموافق للصواب، أو المقارب له، عند تعذر اليقين، من قراءة، وذكر، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتعلم علم وتعليمه، والحرص على إصابة الصواب، في المسائل العلمية، وسلوك كل طريق يوصل لذلك، وكل وسيلة تعين عليه.
ومن القول السديد، لين الكلام ولطفه، في مخاطبة الأنام، والقول المتضمن للنصح والإشارة، بما هو الأصلح.
يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ١٧
نسخ
مشاركة
التفسير
يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ١٧
ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك ، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم ، أي : يوفقهم للأعمال الصالحة ، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية . وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها .
ثم قال : ( ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) : وذلك أنه يجار من النار ، ويصير إلى النعيم المقيم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا خالد ، عن ليث ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ، فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا ، فقال : " إن الله أمرني أن آمركم ، أن تتقوا الله وتقولوا قولا سديدا " . ثم أتى النساء فقال : " إن الله أمرني أن آمركن : أن تتقين الله وتقلن قولا سديدا " .
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب " التقوى " : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، حدثنا عبد العزيز بن عمران الزهري ، حدثنا عيسى بن سمرة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إلا سمعته يقول : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) الآية . غريب جدا .
وروى من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس موقوفا ، من سره أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله .
قال عكرمة : القول السديد : لا إله إلا الله .
وقال غيره : السديد : الصدق . وقال مجاهد : هو السداد . وقال غيره : هو الصواب . والكل حق .
يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ١٧
ثم وعد جل وعز بأنه يجازي على القول السداد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب ; وحسبك بذلك درجة ورفعة ومنزلة . ومن يطع الله ورسوله أي فيما أمر به ونهى عنه . فقد فاز فوزا عظيما .
يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ١٧
ثم ذكر ما يترتب على تقواه، وقول القول السديد فقال: { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي: يكون ذلك سببًا لصلاحها، وطريقًا لقبولها، لأن استعمال التقوى، تتقبل به الأعمال كما قال تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
ويوفق فيه الإنسان للعمل الصالح، ويصلح اللّه الأعمال [أيضًا] بحفظها عما يفسدها، وحفظ ثوابها ومضاعفته، كما أن الإخلال بالتقوى، والقول السديد سبب لفساد الأعمال، وعدم قبولها، وعدم تَرَتُّبِ آثارها عليها.
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أيضًا { ذُنُوبَكُمْ } التي هي السبب في هلاككم، فالتقوى تستقيم بها الأمور، ويندفع بها كل محذور ولهذا قال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }
إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٢٧
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٢٧
قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بالأمانة : الطاعة ، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم ، فلم يطقنها ، فقال لآدم : إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال : يا رب ، وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . فأخذها آدم فتحملها ، فذلك قوله : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، الأمانة : الفرائض ، عرضها الله على السماوات والأرض والجبال ، إن أدوها أثابهم . وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) يعني : غرا بأمر الله .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قال : عرضت على آدم فقال : خذها بما فيها ، فإن أطعت غفرت لك ، وإن عصيت عذبتك . قال : قبلت ، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم ، حتى أصاب الخطيئة .
وقد روى الضحاك ، عن ابن عباس ، قريبا من هذا . وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه ، والله أعلم . وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والحسن البصري ، وغير واحد : [ ألا ] إن الأمانة هي الفرائض .
وقال آخرون : هي الطاعة .
وقال الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق [ قال ] : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها .
وقال قتادة : الأمانة : الدين والفرائض والحدود .
وقال بعضهم : الغسل من الجنابة .
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم قال : الأمانة ثلاثة : الصلاة ، والصوم ، والاغتسال من الجنابة .
وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف ، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا من وفق الله ، وبالله المستعان .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة [ البصري ] ، حدثنا حماد بن واقد - يعني : أبا عمر الصفار - سمعت أبا معمر - يعني : عون بن معمر - يحدث عن الحسن - يعني : البصري - أنه تلا هذه الآية : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) قال : عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت : لا . ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد ، التي شدت بالأوتاد ، وذللت بالمهاد ، قال : فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت : لا . ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب ، قال : قيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت : وما فيها ؟ قال : قيل لها : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت . قالت : لا .
وقال مقاتل بن حيان : إن الله حين خلق خلقه ، جمع بين الإنس والجن ، والسماوات والأرض والجبال ، فبدأ بالسماوات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة ، ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة . . . ؟ فقلن : يا رب ، إنا لا نستطيع هذا الأمر ، وليست بنا قوة ، ولكنا لك مطيعين . ثم عرض الأمانة على الأرضين ، فقال لهن : أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني ، وأعطيكن الفضل والكرامة ؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ، ولكنا لك سامعين مطيعين ، لا نعصيك في شيء تأمرنا به . ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم : ما لي عندك ؟ قال : يا آدم ، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة ، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة . وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت ، فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار . قال : رضيت [ يا ] رب . وتحملها ، فقال الله عز وجل : قد حملتكها . فذلك قوله : ( وحملها الإنسان ( . رواه ابن أبي حاتم .
وعن مجاهد أنه قال : عرضها على السماوات فقالت : يا رب ، حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة . قال : وعرضها على الأرض فقالت : يا رب ، غرست في الأشجار ، وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر ، وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة . وقالت الجبال مثل ذلك ، قال الله تعالى : ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) في عاقبة أمره . وهكذا قال ابن جريج .
وعن ابن أشوع أنه قال : لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ، ضججن إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن ، وقلن : ربنا . لا طاقة لنا بالعمل ، ولا نريد الثواب .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ) [ الآية ] ، فقال الإنسان : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى : إني معينك عليها ، أي : معينك على عينيك بطبقتين ، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق . ومعينك على لسانك بطبقتين ، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق . ومعينك على فرجك بلباس ، فلا تكشفه إلى ما أكره .
ثم روي عن أبي حازم نحو هذا .
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله ، عز وجل : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) قال : إن الله عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ، ويجعل لهن ثوابا وعقابا ، ويستأمنهن على الدين . فقلن : لا نحن مسخرات لأمرك ، لا نريد ثوابا ولا عقابا . قال : وعرضها الله على آدم فقال : بين أذني وعاتقي . قال ابن زيد : فقال الله تعالى له : أما إذ تحملت هذا فسأعينك ، أجعل لبصرك حجابا ، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه ، وأجعل للسانك بابا وغلقا ، فإذا خشيت فأغلق ، وأجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك .
وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية ، حدثنا عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء ، فأرسلوا به ، فمنهم رسول الله ، ومنهم نبي ، ومنهم نبي رسول ، ونزل القرآن وهو كلام الله ، ونزلت العربية والعجمية ، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ، ولم يدع الله شيئا من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم ، إلا بينه لهم . فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح ، ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب ، فعالم يعمل ، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها ، حتى وصل إلي وإلى أمتي ، ولا يهلك على الله إلا هالك ، ولا يغفله إلا تارك . فالحذر أيها الناس ، وإياكم والوسواس الخناس ، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا .
هذا حديث غريب جدا ، وله شواهد من وجوه أخرى .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا عبد الله بن عبد المجيد الحنفي ، أخبرنا أبو العوام القطان ، حدثنا قتادة ، وأبان بن أبي عياش ، عن خليد العصري ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - وكان يقول ، وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن - [ وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلا ] ، وأدى الأمانة " . قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .
وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن أبي العوام عمران بن داور القطان ، به .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها - أو قال : يكفر كل شيء - إلا الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أد أمانتك . فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له : أد أمانتك . فيقول : أنى يا رب ، وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له : أد أمانتك . فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول : اذهبوا به إلى أمه الهاوية . فيذهب به إلى الهاوية ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها ، فيجدها هنالك كهيئتها ، فيحملها فيضعها على عاتقه ، فيصعد بها إلى شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت فهوى في أثرها أبد الآبدين " . وقال : والأمانة في الصوم ، والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع . فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال : صدق .
قال شريك : وحدثنا عياش العامري ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . ولم يذكر : " الأمانة في الصلاة وفي كل شيء " . إسناده جيد ، ولم يخرجوه .
ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا " أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة " . ثم حدثنا عن رفع الأمانة ، فقال : " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر [ الوكت ، فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر ] المجل كجمر دحرجته [ على رجلك ، تراه منتبرا وليس فيه شيء " . قال : ثم أخذ حصى فدحرجه ] على رجله ، قال : " فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، حتى يقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، حتى يقال للرجل : ما أجلده وأظرفه وأعقله . وما في قلبه حبة من خردل من إيمان . ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت ، إن كان مسلما ليردنه علي دينه ، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه ، فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا " .
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن عبد الله بن عمرو ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة " .
هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص .
وقد قال الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب : حدثني يحيى بن أيوب العلاف المصري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن ابن حجيرة ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طعمة " . فزاد في الإسناد : " ابن حجيرة " ، وجعله من مسند ابن عمر . وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة ، قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد : حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن خناس بن سحيم - أو قال : جبلة بن سحيم - قال : أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي : لا والأمانة . فجعل زياد يبكي ويبكي ، فظننت أني أتيت أمرا عظيما ، فقلت له : أكان يكره هذا ؟ قال : نعم . كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي .
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ، قال أبو داود : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف بالأمانة فليس منا " ، تفرد به أبو داود ، رحمه الله .
إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٢٧
قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
لما بين تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بين ، أمر بالتزام أوامره . والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال ، وهو قول الجمهور . روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله : حدثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أجرت وإن ضيعتها عذبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها ) . فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد . وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال ; فقال ابن مسعود : هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها . وروي عنه أنها في كل الفرائض ، وأشدها أمانة المال . وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، وأن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وفي حديث مرفوع الأمانة الصلاة إن شئت قلت قد صليت وإن شئت قلت لم أصل . وكذلك الصيام وغسل الجنابة . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها ، فلا تلبسها إلا بحق . فإن حفظتها حفظتك ، فالفرج أمانة ، والأذن أمانة ، والعين أمانة ، واللسان أمانة ، والبطن أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له . وقال السدي : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله ، وخيانته إياه في قتل أخيه . وذلك أن الله تعالى قال له : ( يا آدم ، هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ) قال : ( اللهم لا ) قال : ( فإن لي بيتا بمكة فأته ) فقال للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ؟ فأبت ، وقال للأرض : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للجبال كذلك فأبت . فقال لقابيل : احفظ ولدي بالأمانة ، فقال نعم ، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك . فرجع فوجده قد قتل أخاه ، فذلك قوله تبارك وتعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها . الآية . وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال ، قالت : وما فيها ؟ قيل لها : إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت . فقالت لا . قال مجاهد : فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه ، قال : وما هي ؟ قال : إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك . قال : فقد تحملتها يا رب . قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر .
وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال قال : الأمانة الفرائض ، عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال ، إن أدوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم . فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيما لدين الله عز وجل ألا يقوموا به . ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها . قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . وقيل : لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أن يعرض الأمانة على الخلق ، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه . وقيل : هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السماوات والأرض والجبال والخلق ، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها ، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها ; قاله بعض المتكلمين . ومعنى عرضنا أظهرنا ، كما تقول : عرضت الجارية على البيع . والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السماوات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن فأبين أن يحملنها أي أن يحملن وزرها ، كما قال جل وعز : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا . وحملها الإنسان قال الحسن : المراد الكافر والمنافق . إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بربه . فيكون على هذا الجواب مجازا ، مثل : واسأل القرية . وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب ، أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها ، وأشفقت وقالت : لا أبتغي ثوابا ولا عقابا ، وكل يقول : هذا أمر لا نطيقه ، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخرن له ، قال الحسن وغيره . قال العلماء : معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب ، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير . وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام . والعرض على الإنسان إلزام . وقال القفال وغيره : العرض في هذه الآية ضرب مثل ، أي أن السماوات والأرض على كبر أجرامها ، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع ، لما فيها من الثواب والعقاب ، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال ، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل . وهذا كقوله : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل - ثم قال : - وتلك الأمثال نضربها للناس .
قال القفال : فإذا تقرر في أنه تعالى يضرب الأمثال ، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل ، وجب حمله عليه . وقال قوم : إن الآية من المجاز ، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السماوات والأرض والجبال ، رأينا أنها لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت ، فعبر عن هذا المعنى بقوله . إنا عرضنا الأمانة الآية . وهذا كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل ، فرأيت أنها تقصر عنه . وقيل : عرضنا بمعنى عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ، ورجحت الأمانة بثقلها عليها . وقيل : إن عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، إنما كان من آدم عليه السلام . وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذريته ، وسلطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش ، وعهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه وحرم وأحل ، فقبله ولم يزل عاملا به . فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده ، ويقلده من الأمانة ما تقلده ، فأمره أن يعرض ذلك على السماوات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى ، فأبين أن يقبلنه شفقا من عذاب الله . ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه . ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط ، ولم يهب منه ما تهيبت السماوات والأرض والجبال . إنه كان ظلوما لنفسه جهولا بعاقبة ما تقلد لربه . قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي : عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة ! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف ما قال ، وإن نظرنا إلى ظاهره وجدناه بخلاف ما قال ، وإن نظرنا إلى باطنه وجدناه بعيدا مما قال ! وذلك أنه ردد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة ، إلا أنه يومئ في مقالته إلى أنه سلطه على جميع ما في الأرض ، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه ، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال ; فما تصنع السماوات والأرض والجبال بالحلال والحرام ؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش ! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده . وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم ، ثم ذكر أن الإنسان حملها ، أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك ، فسماه ظلوما أي لنفسه ، جهولا بما فيها .
وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر ، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة ، ثم وضعها حيث شاء ، ثم دعا لها السماوات والأرض والجبال ليحملنها ، وقال لهن : إن هذه الأمانة ، ولها ثواب وعليها عقاب ; قالوا : يا رب ، لا طاقة لنا بها ; وأقبل الإنسان من قبل أن يدعى فقال للسماوات والأرض والجبال : ما وقوفكم ؟ قالوا : دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقنا منها ولم نطقها ; قال : فحركها بيده وقال : والله لو شئت أن أحملها لحملتها ; فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه ، ثم وضعها وقال : والله لو شئت أن أزداد لازددت ; قالوا : دونك ! فحملها حتى بلغ بها حقويه ، ثم وضعها وقال : والله لو شئت أن أزداد لازددت ; قالوا : دونك ، فحملها حتى وضعها على عاتقه ، فلما أهوى ليضعها ، قالوا : مكانك ! إن هذه الأمانة ، ولها ثواب وعليها عقاب ، وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقنا منها ، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها ، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة ، إنك كنت ظلوما جهولا . وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها . وحملها الإنسان أي التزم القيام بحقها ، وهو في ذلك ظلوم لنفسه . وقال قتادة : للأمانة ، جهول بقدر ما دخل فيه . وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير . وقال الحسن : جهول بربه . قال : ومعنى ( حملها ) خان فيها . وقال الزجاج : والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل . وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره : الإنسان آدم ، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة . وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له : أتحمل هذه الأمانة بما فيها . قال وما فيها ؟ قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت . قال : أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي . فقال الله تعالى له : إني سأعينك ، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك ، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك . وقال قوم : الإنسان النوع كله . وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا . وقال السدي : الإنسان قابيل . فالله أعلم .
إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٢٧
يعظم تعالى شأن الأمانة، التي ائتمن اللّه عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية، كحال العلانية، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها، [ولم تؤديها] فعليك العقاب.
{ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي: خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها اللّه على الإنسان، على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل. فانقسم الناس -بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام:
منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا.
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا ٣٧
نسخ
مشاركة
التفسير
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا ٣٧
وقوله تعالى : ( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ) أي : إنما حمل ابن آدم الأمانة وهي التكاليف ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات ، وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله ، ( والمشركين والمشركات ) ، وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ، عز وجل ، ومخالفة رسله ، ( ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ) أي : وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله ، وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته ( وكان الله غفورا رحيما ) .
[ آخر تفسير سورة " الأحزاب " ]
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا ٣٧
ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات اللام في ( ليعذب ) متعلقة ب ( حمل ) أي حملها ليعذب العاصي ويثيب المطيع ; فهي لام التعليل ; لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة . وقيل ب ( عرضنا ) ; أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافقين ليعذبهم الله ، وإيمان المؤمن ليثيبه الله . ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات قراءة الحسن بالرفع ، يقطعه من الأول ; أي يتوب الله عليهم بكل حال . وكان الله غفورا رحيما خبر بعد خبر ل ( كان ) . ويجوز أن يكون نعتا لغفور ، ويجوز أن يكون حالا من المضمر . والله أعلم بالصواب
لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ وَٱلۡمُشۡرِكَٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمَۢا ٣٧
فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فله الحمد تعالى، حيث ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين، الدالين على تمام مغفرة اللّه، وسعة رحمته، وعموم جوده، مع أن المحكوم عليهم، كثير منهم، لم يستحق المغفرة والرحمة، لنفاقه وشركه.
تم تفسير سورة الأحزاب.
بحمد اللّه وعونه.
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم