بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١
قال العوفي عن ابن عباس : نزلت سورة النساء بالمدينة . وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وزيد بن ثابت ، وروى من طريق عبد الله بن لهيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس " .
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر ، حدثنا محمد بن بشر العبدي ، حدثنا مسعر بن كدام ، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ) الآية ، و ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) الآية ، و ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) و ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك ) الآية ، و ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من النساء : لهن أحب إلي من الدنيا جميعا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) وقوله : ( وإن تك حسنة يضاعفها ) وقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقوله : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) وقوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما ) رواه ابن جرير : ثم روى من طريق صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) والثانية : ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) والثالثة : ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) .
ثم ذكر قول ابن مسعود سواء ، يعني في الخمسة . الباقية .
وروى الحاكم من طريق أبي نعيم ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مليكة ; سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء ، فإني قرأت القرآن وأنا صغير . ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( 1 ) )
يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام ( وخلق منها زوجها ) وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : خلقت المرأة من الرجل ، فجعل نهمتها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض ، فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم .
وفي الحديث الصحيح : " إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج " .
وقوله : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) أي : وذرأ منهما ، أي : من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر .
ثم قال تعالى : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) أي : واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال إبراهيم ومجاهد والحسن : ( الذي تساءلون به ) أي : كما يقال : أسألك بالله وبالرحم . وقال الضحاك : واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن بروها وصلوها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع وغير واحد .
وقرأ بعضهم : ( والأرحام ) بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي : تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره .
وقوله : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) أي : هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال : ( والله على كل شيء شهيد ) [ البروج : 9 ] .
وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ; ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ] وأم واحدة; ليعطف بعضهم على بعض ، ويحننهم على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم ، من حديث جرير بن عبد الله البجلي; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر - وهم مجتابو النمار - أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) حتى ختم الآية وقال : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد [ واتقوا الله ] ) [ الحشر : 18 ] ثم حضهم على الصدقة فقال : " تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، صاع تمره . . . " وذكر تمام الحديث .
وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم [ الذي خلقكم من نفس واحدة ] ) الآية .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١
سورة النساء
وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها على ما يأتي بيانه . قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : يا أيها الناس حيث وقع إنما هو مكي ، وقاله علقمة وغيره ، فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني . وقال النحاس : هذه السورة مكية .
قلت : والصحيح الأول ، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ تعني قد بنى بها . ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة . ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها . وأما من قال : إن قوله : يا أيها الناس مكي حيث وقع فليس بصحيح ؛ فإن البقرة مدنية وفيها قوله ، يا أيها الناس في موضعين ، وقد تقدم
. والله أعلم
قوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم قد مضى في " البقرة " اشتقاق الناس ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث ، فلا معنى للإعادة . وفي الآية تنبيه على الصانع . وقال : " واحدة " على تأنيث لفظ النفس . ولفظ النفس يؤنث وإن عني به مذكر . ويجوز في الكلام " من نفس واحد " وهذا على مراعاة المعنى ؛ إذ المراد بالنفس آدم عليه السلام ، قاله مجاهد وقتادة . وهي قراءة ابن أبي عبلة " واحد " بغير هاء . وبث : فرق ونشر في الأرض ؛ ومنه وزرابي مبثوثة وقد تقدم في " البقرة " .
ومنهما يعني آدم وحواء . قال مجاهد : خلقت حواء من قصيرى آدم . وفي الحديث : خلقت المرأة من ضلع عوجاء ، وقد مضى في البقرة . رجالا كثيرا ونساء حصر ذريتهما في نوعين ؛ فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع ، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما ، على ما تقدم ذكره في " البقرة " من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها .
الثانية : قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام كرر الاتقاء تأكيدا وتنبيها لنفوس المأمورين . والذي في موضع نصب على النعت . والأرحام معطوف . أي اتقوا الله أن تعصوه ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ أهل المدينة " تساءلون " بإدغام التاء في السين . وأهل الكوفة بحذف التاء ، لاجتماع تاءين ، وتخفيف السين ؛ لأن المعنى يعرف ؛ وهو كقوله : ولا تعاونوا على الإثم وتنزل وشبهه .
وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة " الأرحام " بالخفض .
وقد تكلم النحويون في ذلك . فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحل القراءة به . وأما الكوفيون فقالوا : هو قبيح ؛ ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه ؛ قال النحاس : فيما علمت .
وقال سيبويه : لم يعطف على المضمر المخفوض ؛ لأنه بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه . وقال جماعة : هو معطوف على المكني ؛ فإنهم كانوا يتساءلون بها ، يقول الرجل : سألتك بالله والرحم ؛ هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد ، وهو الصحيح في المسألة ، على ما يأتي . وضعفه أقوام منهم الزجاج ، وقالوا : يقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض ؛ كقوله فخسفنا به وبداره الأرض ويقبح " مررت به وزيد " . قال الزجاج : عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه ؛ فكما لا يجوز " مررت بزيد وك " كذلك لا يجوز " مررت بك وزيد " . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر ؛ كما قال :
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
عطف " الأيام " على الكاف في " بك " بغير الباء للضرورة . وكذلك قول الآخر :
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف
عطف " الكعب " على الضمير في " بينها " ضرورة . وقال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس . وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ ما أنتم بمصرخي و اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأخذت نعلي ومضيت . قال الزجاج : قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحلفوا بآبائكم فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم . ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم ، وأنه خاص لله تعالى . قال النحاس : وقول بعضهم " والأرحام " قسم خطأ من المعنى والإعراب ؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب . وروى شعبة عن عون بن أبي جحيفة ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاة عراة ، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير لما رأى من فاقتهم ؛ ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال : يا أيها الناس اتقوا ربكم ، إلى : والأرحام ؛ ثم قال : تصدق رجل بديناره تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمره . . . وذكر الحديث . فمعنى هذا على النصب ؛ لأنه حضهم على صلة أرحامهم . وأيضا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت . فهذا يرد قول من قال : المعنى أسألك بالله وبالرحم . وقد قال أبو إسحاق : معنى تساءلون به يعني تطلبون حقوقكم به . ولا معنى للخفض أيضا مع هذا .
قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة " والأرحام " بالخفض ، واختاره ابن عطية . ورده الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري ، واختار العطف فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا يعرفه أهل الصنعة ، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستقبح ما قرأ به ، وهذا مقام محذور ، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو ؛ فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يشك أحد في فصاحته . وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر ؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء : وأبيك لو طعنت في خاصرته . ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله ، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه . قال القشيري : وقد قيل هذا إقسام بالرحم ، أي اتقوا الله وحق الرحم ؛ كما تقول : افعل كذا وحق أبيك . وقد جاء في التنزيل : والنجم ، والطور ، والتين ، لعمرك وهذا تكلف
قلت : لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أن يكون " والأرحام " من هذا القبيل ، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدا لها حتى قرنها بنفسه . والله أعلم .
ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء ، فلا يبعد أن يكون قسما . والعرب تقسم بالرحم . ويصح أن تكون الباء مرادة فحذفها كما حذفها في قوله :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
فجر وإن لم يتقدم باء . قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك : والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور ولا يمنع منه . ومنه قوله :
آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشور
ومنه :
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقول الآخر :
وما بينها والكعب غوط نفانف
ومنه :
فحسبك والضحاك سيف مهند
وقول الآخر :
وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
وقول الآخر :
ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعا
وقول الآخر :
أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
ف " سواها " مجرور الموضع بفي . وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين فعطف على الكاف والميم . وقرأ عبد الله بن يزيد " والأرحام " بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدر ، تقديره : والأرحام أهل أن توصل . ويحتمل أن يكون إغراء ؛ لأن من العرب من يرفع المغرى . وأنشد الفراء :
إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا قا ل أخو النجدة السلاح السلاح
وقد قيل : إن " والأرحام " بالنصب عطف على موضع به ؛ لأن موضعه نصب ، ومنه قوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وكانوا يقولون : أنشدك بالله والرحم . والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا .
الثالثة : اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي ؟ نعم صلي أمك فأمرها بصلتها وهي كافرة .
فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافر ، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى ، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم ؛ وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ملك ذا رحم محرم فهو حر . وهو قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود ، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري ، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق . ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال : الأول - أنه مخصوص بالآباء والأجداد .
الثاني - الجناحان يعني الإخوة .
الثالث - كقول أبي حنيفة .
وقال الشافعي : لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته ، ولا يعتق عليه إخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته .
والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي . وأحسن طرقه رواية النسائي له ؛ رواه من حديث ضمرة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه . وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه ؛ غير أن النسائي قال في آخره : هذا حديث منكر . وقال غيره : تفرد به ضمرة . وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين . وضمرة عدل ثقة ، وانفراد الثقة بالحديث لا يضره . والله أعلم .
الرابعة : واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة . فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث . وقال شريك القاضي بعتقهم . وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه ؛ واحتجوا بقوله عليه السلام : لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه . قالوا : فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك ، ولصاحب الملك التصرف . وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع ؛ فإن الله تعالى يقول : وبالوالدين إحسانا فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب ، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه ؛ فإذا يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملا بالحديث فيشتريه فيعتقه ، أو لأجل الإحسان عملا بالآية . ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه . وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك ، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة ، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث ، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب ، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة ؛ فإنه يقول : أنا ابن أبيه . وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه . والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : والأرحام الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة ؛ ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام . فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند . وهم يرون ذلك نسخا ، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة ، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات . والله أعلم .
السادسة : قوله تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا أي حفيظا ؛ عن ابن عباس ومجاهد . ابن زيد : عليما . وقيل : رقيبا حافظا ؛ قيل : بمعنى فاعل . فالرقيب من صفات الله تعالى ، والرقيب : الحافظ والمنتظر ؛ تقول رقبت أرقب رقبة ورقبانا إذا انتظرت . والمرقب : المكان العالي المشرف ، يقف عليه الرقيب . والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . ويقال : إن الرقيب ضرب من الحيات ، فهو لفظ مشترك . والله أعلم .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١
افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك. وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك، وأن الموجب لتقواه لأنه { رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } ورزقكم، ورباكم بنعمه العظيمة، التي من جملتها خلقكم { مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بـها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه. وكذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد في حال حركاتـهم وسكونـهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموما، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنـها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل منها، موضحة لما أبهم. وفي قوله: { وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا } تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة.
وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا ٢
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم; ولهذا قال : ( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) قال سفيان الثوري ، عن أبي صالح : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك .
وقال سعيد بن جبير : لا تبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام .
وقال سعيد بن المسيب والزهري : لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا .
وقال إبراهيم النخعي والضحاك : لا تعط زائفا وتأخذ جيدا .
وقال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة ، ويقول شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم .
وقوله : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، وسفيان بن حسين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا .
وقوله : ( إنه كان حوبا كبيرا ) قال ابن عباس : أي إثما كبيرا عظيما .
وقد رواه ابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( حوبا كبيرا ) قال : " إثما كبيرا " . ولكن في إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو ضعيف وهكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، وأبي سنان مثل قول ابن عباس .
وفي الحديث المروي في سنن أبي داود : " اغفر لنا حوبنا وخطايانا " .
وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل ، مولى أبي عيينة ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس : أن أبا أيوب طلق امرأته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا أيوب ، إن طلاق أم أيوب كان حوبا " قال ابن سيرين : الحوب الإثم .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا بشر بن موسى ، أخبرنا هوذة بن خليفة ، أخبرنا عوف ، عن أنس : أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها " ثم رواه ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم ، عن حميد الطويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن طلاق أم سليم لحوب " فكف .
والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه .
وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا ٢
قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
فيه خمس مسائل :
الأولى قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما ؛ كقوله : وألقي السحرة ساجدين ولا سحر مع السجود ، فكذلك لا يتم مع البلوغ . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يتيم أبي طالب " استصحابا لما كان . وآتوا أي أعطوا . والإيتاء الإعطاء . ولفلان أتو ، أي عطاء . أبو زيد : أتوت الرجل آتوه إتاوة ، وهي الرشوة . واليتيم من لم يبلغ الحلم ، وقد تقدم في " البقرة " مستوفى . وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء . نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه ؛ فنزلت ، فقال العم : نعوذ بالله من الحوب الكبير ! ورد المال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره يعني جنته . فلما قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله ، فقال عليه السلام : ثبت الأجر وبقي الوزر . فقيل : كيف يا رسول الله ؟ فقال : ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده لأنه كان مشركا .
الثانية : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين :
أحدهما - إجراء الطعام والكسوة ما دامت الولاية ؛ إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد كالصغير والسفيه الكبير .
الثاني - الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه ، وذلك عند الابتلاء والإرشاد ، وتكون تسميته مجازا ، المعنى : الذي كان يتيما ، وهو استصحاب الاسم ؛ كقوله تعالى : وألقي السحرة ساجدين أي الذين كانوا سحرة . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : " يتيم أبي طالب " . فإذا تحقق الولي رشده حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله كله على كل حال ، لأنه يصير جدا .
قلت : لما لم يذكر الله تعالى في هذه الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم . قال أبو بكر الرازي الحنفي في أحكام القرآن : لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما ، فأقول : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد ، وجب دفع المال إليه ، وإن كان دون ذلك لم يجب ، عملا بالآيتين . وقال أبو حنيفة : لما بلغ أشده صار يصلح أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتيم ؟ ! وهل ذلك إلا في غاية البعد ؟ . قال ابن العربي : وهذا باطل لا وجه له ؛ لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص ، وليس في هذه المسألة . وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة ، ولا الدرهم الطيب بالزيف . وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى ، فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من أموالهم ؛ ويقولون : اسم باسم ورأس برأس ؛ فنهاهم الله عن ذلك . هذا قول سعيد بن المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية . وقيل : المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم . وقالمجاهد وأبو صالح وباذان : لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله . وقال ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث . عطاء : لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير . وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية ؛ فإنه يقال : تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه . ومنه البدل .
الرابعة : قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم قال مجاهد : وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ؛ فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم . وقال ابن فورك ، عن الحسن : تأول الناس في هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة . وقالت طائفة من المتأخرين : إن إلى بمعنى مع ، كقوله تعالى : من أنصاري إلى الله . وأنشد القتبي :
يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر
وليس بجيد . وقال الحذاق : إلى على بابها وهي تتضمن الإضافة ، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل . فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع .
الخامسة : قوله تعالى : إنه كان حوبا كبيرا " إنه " أي الأكل كان حوبا كبيرا أي إثما كبيرا ؛ عن ابن عباس والحسن وغيرهما . يقال : حاب الرجل يحوب حوبا إذا أثم . وأصله الزجر للإبل ؛ فسمي الإثم حوبا ؛ لأنه يزجر عنه وبه . ويقال في الدعاء : اللهم اغفر حوبتي ؛ أي إثمي . والحوبة أيضا الحاجة . ومنه في الدعاء : إليك أرفع حوبتي ؛ أي حاجتي . والحوب الوحشة ؛ ومنه قوله عليه السلام لأبي أيوب : إن طلاق أم أيوب لحوب . وفيه ثلاث لغات " حوبا " بضم الحاء وهي قراءة العامة ولغة أهل الحجاز . وقرأ الحسن " حوبا " بفتح الحاء . وقال الأخفش : وهي لغة تميم . مقاتل : لغة الحبش .
والحوب المصدر ، وكذلك الحيابة . والحوب الاسم . وقرأ أبي بن كعب " حابا " على المصدر مثل القال . ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد . والحوأب ( بهمزة بعد الواو ) . المكان الواسع . والحوأب ماء أيضا . ويقال : ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة ؛ ومنه قولهم : بات بحيبة سوء . وأصل الياء الواو . وتحوب فلان أي تعبد وألقى الحوب عن نفسه . والتحوب أيضا التحزن . وهو أيضا الصياح الشديد ؛ كالزجر ، وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل :
فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَهُمۡ إِلَىٰٓ أَمۡوَٰلِكُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حُوبٗا كَبِيرٗا ٢
وقوله تعالى: { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين لهم، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم. فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا، كاملة موفرة، وأن لا { تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ } الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. { بِالطَّيِّبِ } وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة. { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي: مع أموالكم، ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى { حُوبًا كَبِيرًا } أي: إثمًا عظيمًا، ووزرًا جسيمًا. ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله. وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ ٣
وقوله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى ) أي : إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء ، فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه .
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام ، عن ابن جريج ، أخبرني هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة; أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها ، وكان لها عذق . وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه : ( وإن خفتم ألا تقسطوا [ في اليتامى ] ) أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله [ تعالى ] ( ويستفتونك في النساء ) قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى : ( وترغبون أن تنكحوهن ) [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال .
وقوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) أي : انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين ، [ وإن شاء ثلاثا ] وإن شاء أربعا ، كما قال تعالى : ( جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) [ فاطر : 1 ] أي : منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه ، بخلاف قصر الرجال على أربع ، فمن هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء; لأن المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره .
قال الشافعي : وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة .
وهذا الذي قاله الشافعي ، رحمه الله ، مجمع عليه بين العلماء ، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع . وقال بعضهم : بلا حصر . وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين ، وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري . وقد علقه البخاري ، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل منهن بثلاث عشرة ، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع . وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة ، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع .
ذكر الأحاديث في ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر ، عن الزهري . قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه : أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعا . فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلك لا تمكث إلا قليلا . وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك ، ولآمرن بقبرك فيرجم ، كما رجم قبر أبي رغال .
وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن اسماعيل بن علية وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ ، عن معمر - بإسناده - مثله إلى قوله : اختر منهن أربعا . وباقي الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي ، حيث قال بعد روايته له : سمعت البخاري يقول : هذا حديث غير محفوظ ، والصحيح ما روى شعيب وغيره ، عن الزهري ، حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة ، فذكره . قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه : أن رجلا من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال .
وهذا التعليل فيه نظر ، والله أعلم . وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك ، عن الزهري مرسلا . قال أبو زرعة : وهو أصح .
قال البيهقي : ورواه عقيل ، عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد .
قال أبو حاتم : وهذا وهم ، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره .
قال البيهقي : ورواه يونس وابن عيينة ، عن الزهري ، عن محمد بن أبي سويد .
وهذا كما علله البخاري . وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقات على شرط الصحيحين ثم قد روي من غير طريق معمر ، بل والزهري قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا أبو بريد عمرو بن يزيد الجرمي أخبرنا سيف بن عبيد حدثنا سرار بن مجشر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر : أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا . هكذا أخرجه النسائي في سننه . قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة ، وكذا وثقه ابن معين . قال أبو علي : وكذلك رواه السميدع بن واهب عن سرار .
قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وصفوان بن أمية - يعني حديث غيلان بن سلمة .
فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن معه ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال ، وإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
حديث آخر في ذلك : روى أبو داود وابن ماجه في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن حميضة بن الشمردل - وعند ابن ماجه : بنت الشمردل ، وحكى أبو داود أن منهم من يقول : الشمرذل بالذال المعجمة - عن قيس بن الحارث . وعند أبي داود في رواية : الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اختر منهن أربعا " .
وهذا الإسناد حسن ، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثله ، لما للحديث من الشواهد .
حديث آخر في ذلك : قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، في مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول : أخبرني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلي ، رضي الله عنه ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختر أربعا أيتهن شئت ، وفارق الأخرى " ، فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة ، فطلقتها .
فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غيلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي ، رحمه الله .
وقوله : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) أي : فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن ، كما قال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) [ النساء : 129 ] فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة ، أو على الجواري السراري ، فإنه لا يجب قسم بينهن ، ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن ، ومن لا فلا حرج .
وقوله : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) قال بعضهم : [ أي ] أدنى ألا تكثر عائلتكم . قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي ، رحمهم الله ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : ( وإن خفتم عيلة ) أي فقرا ( فسوف يغنيكم الله من فضله ) [ التوبة : 28 ] وقال الشاعر
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وتقول العرب : عال الرجل يعيل عيلة ، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر; فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر ، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا . والصحيح قول الجمهور : ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) أي : لا تجوروا . يقال : عال في الحكم : إذا قسط وظلم وجار ، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
وقال هشيم : عن أبي إسحاق قال : كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان لا أعول . رواه ابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن عمر بن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن عمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ذلك أدنى ألا تعولوا ) قال : " لا تجوروا " .
قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث خطأ ، والصحيح : عن عائشة . موقوف .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، وعائشة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وأبي مالك وأبي رزين والنخعي ، والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أنهم قالوا : لا تميلوا وقد استشهد عكرمة ، رحمه الله ، ببيت أبي طالب الذي قدمناه ، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة ، وقد رواه ابن جرير ، ثم أنشده جيدا ، واختار ذلك .
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ ٣
قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا
فيه أربع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : وإن خفتم شرط ، وجوابه فانكحوا . أي إن خفتم ألا تعدلوا في مهورهن وفي النفقة عليهن فانكحوا ما طاب لكم أي غيرهن . وروى الأئمة واللفظ لمسلم عن عروة بن الزبير ، عن عائشة في قول الله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع قالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . وذكر الحديث . وقال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري الوصي من مال اليتيم لنفسه ، ويبيع من نفسه من غير محاباة . وللموكل النظر فيما اشترى وكيله لنفسه أو باع منها . وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك . فأما الأب فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ ؛ وقد مضى في " البقرة " القول في هذا . وقال الضحاك والحسن وغيرهما : إن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام ؛ من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء ، فقصرتهن الآية على أربع . وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما : المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك خافوا في النساء ؛ لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء و " خفتم " من الأضداد ؛ فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع ، وقد يكون مظنونا ؛ فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف . فقال أبو عبيدة : خفتم بمعنى أيقنتم . وقال آخرون : خفتم ظننتم . قال ابن عطية : وهذا الذي اختاره الحذاق ، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين . التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط لليتيمة فليعدل عنها .
و " تقسطوا " معناه تعدلوا . يقال : أقسط الرجل إذا عدل . وقسط إذا جار وظلم صاحبه . قال الله تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا يعني الجائرون . وقال عليه السلام : المقسطون في الدين على منابر من نور يوم القيامة يعني العادلين . وقرأ ابن وثاب والنخعي " تقسطوا " بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة " لا " كأنه قال : وإن خفتم أن تجوروا .
الثانية : قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء إن قيل : كيف جاءت ما للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل ؛ فعنه أجوبة خمسة :
الأول - أن " من " و " ما " قد يتعاقبان ؛ قال الله تعالى : والسماء وما بناها أي ومن بناها . وقال فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع . فما هاهنا لمن يعقل وهن النساء ؛ لقوله بعد ذلك من النساء مبينا لمبهم . وقرأ ابن أبي عبلة " من طاب " على ذكر من يعقل .
الثاني : قال البصريون : " ما " تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل يقال : ما عندك ؟ فيقال : ظريف وكريم . فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء ؛ أي الحلال ، وما حرمه الله فليس بطيب . وفي التنزيل وما رب العالمين فأجابه موسى على وفق ما سأل ؛ وسيأتي .
الثالث : حكى بعض الناس أن ما في هذه الآية ظرفية ، أي ما دمتم تستحسنون النكاح قال ابن عطية : وفي هذا المنزع ضعف .
جواب رابع : قال الفراء ما هاهنا مصدر . وقال النحاس : وهذا بعيد جدا ؛ لا يصح فانكحوا الطيبة . قال الجوهري : طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا . قال علقمة :
كأن تطيابها في الأنف مشموم
جواب خامس : وهو أن المراد بما هنا العقد ؛ أي فانكحوا نكاحا طيبا . وقراءة ابن أبي عبلة ترد هذه الأقوال الثلاثة . وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان ما سبح له الرعد . أي سبحان من سبح له الرعد . ومثله قولهم : سبحان ما سخركن لنا . أي من سخركن .
واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ليس له مفهوم ؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة : اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف . فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك ، وأن حكمها أعم من ذلك .
الثالثة : تعلق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ . وقال : إنما تكون يتيمة قبل البلوغ ، وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة ؛ بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطها عن صداق مثلها ؛ لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا .
وذهب مالك والشافعي والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر ؛ لقوله تعالى : ويستفتونك في النساء والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في الذكور ، واسم الرجل لا يتناول الصغير ؛ فكذلك اسم النساء ، والمرأة لا يتناول الصغيرة .
وقد قال : في يتامى النساء والمراد به هناك اليتامى هنا ؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها . فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج إلا بإذنها ، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها ، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج إلا بإذنها . كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون ، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها ، فأرغبها في المال وخطبها إليها ، فرفع شأنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال قدامة : يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها ، زوجتها من قد علمت فضله وقرابته . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة . قال الدارقطني : لم يسمعه محمد بن إسحاق من نافع ، وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه . ورواه ابن أبي ذئب ، عن عمر بن حسين ، عن نافع عن عبد الله بن عمر : أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال : فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي تكره ذلك . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها ففارقها . وقال : ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا سكتن فهو إذنها . فتزوجها بعد عبد الله بن المغيرة بن شعبة . فهذا يرد ما يقوله أبو حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي ، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح . وقد مضى في " البقرة " ذكره ؛ فلا معنى لقولهم : إن هذا الحديث محمول على غير البالغة لقوله إلا بإذنها فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله أعلم .
الرابعة : وفي تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل ، والرد إليه فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره ؛ لقولها : ( بأدنى من سنة صداقها ) . فوجب أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم . وقد قال مالك : للناس مناكح عرفت لهم وعرفوا لها . أي صدقات وأكفاء . وسئل مالك عن رجل زوج ابنته من ابن أخ له فقير فاعترضت أمها فقال : إني لأرى لها في ذلك متكلما . فسوغ لها في ذلك الكلام حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه . وروي " لا أرى " بزيادة الألف والأول أصح . وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها ؛ لأن الآية إنما خرجت في اليتامى . هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها .
الخامسة : فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها جاز له أن يتزوجها ، ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة . وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور ، وقاله من التابعين الحسن وربيعة ، وهو قول الليث . وقال زفر والشافعي : لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان ، أو يزوجها منه ولي لها هو أقعد بها منه ؛ أو مثله في القعدد ؛ وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه فيكون ناكحا منكحا فلا . واحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام : لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل . فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب ؛ فإذا اتحد اثنان منهم سقط واحد من المذكورين . وفي المسألة قول ثالث ، وهو أن تجعل أمرها إلى رجل يزوجها منه . روي هذا عن المغيرة بن شعبة ، وبه قال أحمد ، ذكره ابن المنذر .
السادسة : قوله تعالى : ما طاب لكم من النساء معناه ما حل لكم ؛ عن الحسن وابن جبير وغيرهما . واكتفى بذكر من يجوز نكاحه ؛ لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن إسحاق والجحدري وحمزة " طاب " " بالإمالة " وفي مصحف أبي " طيب " بالياء ؛ فهذا دليل الإمالة . " من النساء " دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم . وواحد النساء نسوة ، ولا واحد لنسوة من لفظه ، ولكن يقال امرأة .
السابعة : قوله تعالى : مثنى وثلاث ورباع وموضعها من الإعراب نصب على البدل من ما وهي نكرة لا تنصرف ؛ لأنها معدولة وصفة ؛ كذا قال أبو علي . وقال الطبري : هي معارف ؛ لأنها لا يدخلها الألف واللام ، وهي بمنزلة عمر في التعريف ؛ قاله الكوفي . وخطأ الزجاج هذا القول . وقيل : لم ينصرف ؛ لأنه معدول عن لفظه ومعناه ، فأحاد معدول عن واحد واحد ، ومثنى معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة ، ورباع عن أربعة أربعة . وفي كل واحد منها لغتان : فعال ومفعل ؛ يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع ، وكذلك إلى معشر وعشار . وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة : أحد وثنى وثلث وربع مثل عمر وزفر . وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية . وحكى المهدوي ، عن النخعي وابن وثاب " ثلاث وربع " بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا ؛ كما قال :
أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغله
قال الثعلبي : ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلا بيت جاء عن الكميت :
فلم يستثيروك حتى رمي ت فوق الرجال خصالا عشارا
يعني طعنت عشرة . وقال ابن الدهان : وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر بالبيت لشذوذه . وقال أبو عمرو بن الحاجب : ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع . وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال ؟ فيه خلاف أصحها أنه لم يثبت . وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك .
وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة ؛ تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز مثنى وثلاث حتى يتقدم قبله جمع ، مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار . وهي في موضع الحال هنا وفي الآية ، وتكون صفة ؛ ومثال كون هذه الأعداد صفة يتبين في قوله تعالى : أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع فهي صفة للأجنحة وهي نكرة . وقال ساعدة بن جؤية :
ولكنما أهلي بواد أنيسه ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد
وأنشد الفراء :
قتلنا به من بين مثنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس
فوصف ذئابا وهي نكرة بمثنى وموحد ، وكذلك بيت الفراء ؛ أي قتلنا به ناسا ، فلا تنصرف إذا هذه الأسماء في معرفة ولا نكرة . وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة . وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة ؛ لأنه قد زال عنه العدل .
الثامنة : اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع ، كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة ، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة ، وزعم أن الواو جامعة ؛ وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا ، وجمع بينهن في عصمته . والذي صار إلى هذه الجهالة ، وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر ؛ فجعلوا مثنى مثل اثنين ، وكذلك ثلاث ورباع . وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها ، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة ؛ تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع ؛ فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع . وهذا كله جهل باللسان والسنة ، ومخالفة لإجماع الأمة ، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع . وأخرج مالك في موطئه ، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة : اختر منهن أربعا وفارق سائرهن . في كتاب أبي داود ، عن الحارث بن قيس ، قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : اختر منهن أربعا . وقال مقاتل : إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر ؛ فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا . كذا قال : " قيس بن الحارث " ، والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الأسدي كما ذكر أبو داود . وكذا روى محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير : أن ذلك كان حارث بن قيس ، وهو المعروف عند الفقهاء . وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته ؛ على ما يأتي بيانه في " الأحزاب " . وأما قولهم : إن الواو جامعة ؛ فقد قيل ذلك ، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات . والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة . وكذلك تستقبح ممن يقول : أعط فلانا أربعة ستة ثمانية ، ولا يقول ثمانية عشر . وإنما الواو في هذا الموضع بدل ؛ أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى ، ورباع بدلا من ثلاث ؛ ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو . ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث ، ولا لصاحب الثلاث رباع . وأما قولهم : إن مثنى تقتضي اثنين ، وثلاث ثلاثة ، ورباع أربعة ، فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه ، وجهالة منهم . وكذلك جهل الآخرين ، بأن مثنى تقتضي اثنين اثنين ، وثلاث ثلاثة ثلاثة ، ورباع أربعة أربعة ، ولم يعلموا أن اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، حصر للعدد . ومثنى وثلاث ورباع بخلافها . ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل ؛ وذلك أنها إذا قالت : جاءت الخيل مثنى ، إنما تعني بذلك اثنين اثنين ؛ أي جاءت مزدوجة . قال الجوهري : وكذلك معدول العدد . وقال غيره : إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار ، فإنما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا ، أو اثنين اثنين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو عشرة عشرة ، وليس هذا المعنى في الأصل ؛ لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة ، أو قوم عشرة عشرة ، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة . فإذا قلت : جاءوني رباع وثناء فلم تحصر عدتهم . وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين . وسواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب ، فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم .
وأما اختلاف علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع وهي :
التاسعة : فقال مالك والشافعي : عليه الحد إن كان عالما . وبه قال أبو ثور . وقال الزهري : يرجم إذا كان عالما ، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد ، ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا . وقالت طائفة : لا حد عليه في شيء من ذلك . هذا قول النعمان . وقال يعقوب ومحمد : يحد في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح . وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة في عقدة أو تزوج متعة أو تزوج بغير شهود ، أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها . وقال أبو ثور : إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود . وفيه قول ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه : جلد مائة ولا ينفى . فهذه فتيا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف بما فوقها .
العاشرة : ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي ، عن محمد بن معن الغفاري ، قال : أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فقالت : يا أمير المؤمنين ، إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه ، وهو يعمل بطاعة الله عز وجل . فقال لها : نعم الزوج زوجك : فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب . فقال له كعب الأسدي : يا أمير المؤمنين ، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه . فقال عمر : كما فهمت كلامها فاقض بينهما . فقال كعب : علي بزوجها ، فأتي به فقال له : إن امرأتك هذه تشكوك . قال : أفي طعام أم شراب ؟ قال لا . فقالت المرأة :
يا أيها القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده
زهده في مضجعي تعبده فاقض القضا كعب ولا تردده
نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده
فقال زوجها :
زهدني في فرشها وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما قد نزل
في سورة النحل وفي السبع الطول وفي كتاب الله تخويف جلل
فقال كعب :
إن لها عليك حقا يا رجل نصيبها في أربع لمن عقل
فأعطها ذاك ودع عنك العلل
ثم قال : إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك . فقال عمر : والله ما أدري من أي أمريك أعجب ؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما ؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة . وروى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تستعدي زوجها ، فقالت : ليس لي ما للنساء ؛ زوجي يصوم الدهر . قال : لك يوم وله يوم ، للعبادة يوم وللمرأة يوم .
الحادية عشرة : قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة قال الضحاك وغيره : في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين
فواحدة فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن العشرة . وذلك دليل على وجوب ذلك ، والله أعلم . وقرئت بالرفع ، أي فواحدة فيها كفاية أو كافية . وقال الكسائي : فواحدة تقنع . وقرئت بالنصب بإضمار فعل ، أي فانكحوا واحدة .
الثانية عشرة : قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانكم يريد الإماء . وهو عطف على " فواحدة " أي إن خاف ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه . وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطء ولا القسم ؛ لأن المعنى فإن خفتم ألا تعدلوا في القسم فواحدة أو ما ملكت أيمانكم فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة ، فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في الوطء أو في القسم . إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق بالرقيق . وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها . ألا ترى أنها المنفقة ؟ كما قال عليه السلام : حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وهي المعاهدة المبايعة ، وبها سميت الألية يمينا ، وهي المتلقية لرايات المجد ؛ كما قال :
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
الثالثة عشرة : قوله تعالى : ذلك أدنى ألا تعولوا أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : عال الرجل يعول إذا جار ومال . ومنه قولهم : عال السهم عن الهدف مال عنه . قال ابن عمر : إنه لعائل الكيل والوزن ؛ قال الشاعر :
قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين
أي جاروا . وقال أبو طالب :
بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
يريد غير مائل . وقال آخر :
ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي
أي جار ومال . وعال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة . ومنه قوله تعالى : وإن خفتم عيلة . ومنه قول الشاعر :
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وهو عائل وقوم عيلة ، والعيلة والعالة الفاقة ، وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي ، وعال الأمر اشتد وتفاقم . وقال الشافعي : ألا تعولوا ألا تكثر عيالكم .
قال الثعلبي : وما قال هذا غيره ، وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله . وزعم ابن العربي أن عال على سبعة معان لا ثامن لها ، يقال : عال : مال ، الثاني : زاد ، الثالث : جار ، الرابع : افتقر ، الخامس : أثقل ، حكاه ابن دريد . قالت الخنساء :
ويكفي العشيرة ما عالها
السادس : عال قام بمئونة العيال ؛ ومنه قوله عليه السلام : وابدأ بمن تعول .
السابع : عال غلب ؛ ومنه عيل صبره . أي غلب . ويقال : أعال الرجل كثر عياله . وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح .
قلت : أما قول الثعلبي " ما قاله غيره " فقد أسنده الدارقطني في سننه عن زيد بن أسلم ، وهو قول جابر بن زيد ؛ فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد سبقا الشافعي إليه . وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح . وقد ذكرنا : عال الأمر اشتد وتفاقم ، حكاه الجوهري . وقال الهروي في غريبيه : " وقال أبو بكر : يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها . وقال الأحمر : يقال عالني الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك " . وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر الدوري وابن الأعرابي . قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة : العرب تقول عال يعول وأعال يعيل أي كثر عياله .
وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ، ولعله لغة . قال الثعلبي المفسر : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير ؛ وأنشد :
وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
يعني وإن كثرت ماشيته وعياله . وقال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا . وقرأ طلحة بن مصرف " ألا تعيلوا " وهي حجة الشافعي رضي الله عنه . قال ابن عطية : وقدح الزجاج وغيره في تأويل عال من العيال بأن قال : إن الله تعالى قد أباح كثرة السراري وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال . وهذا القدح غير صحيح ؛ لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله .
الرابعة عشرة : تعلق بهذه الآية من أجاز للمملوك أن يتزوج أربعا ، لأن الله تعالى قال : فانكحوا ما طاب لكم من النساء يعني ما حل مثنى وثلاث ورباع ولم يخص عبدا من حر . وهو قول داود والطبري وهو المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئه ، وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب . وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ؛ قال وهو قول الليث . قال أبو عمر : قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد : لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين ؛ وبه قال أحمد وإسحاق . وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين ؛ ولا أعلم لهم مخالفا من الصحابة . وهو قول الشعبي وعطاء وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد . والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده . وكل من قال حده نصف حد الحر ، وطلاقه تطليقتان ، وإيلاؤه شهران ، ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال : تناقض في قوله " ينكح أربعا " والله أعلم .
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ ٣
أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا { مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } أي: ما وقع عليهن اختياركم من ذوات الدين، والمال، والجمال، والحسب، والنسب، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن، فاختاروا على نظركم، ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك" وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح، بل وقد أباح له الشارع النظر إلى مَنْ يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد عليها، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا. وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، فأبيح له واحدة بعد واحدة، حتى يبلغ أربعا، لأن في الأربع غنية لكل أحد، إلا ما ندر، ومع هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم، ووثق بالقيام بحقوقهن. فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة، أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم في ملك اليمين { ذَلِك } أي: الاقتصار على واحدة أو ما ملكت اليمين { أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } أي: تظلموا. وفي هذا أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم، وعدم القيام بالواجب -ولو كان مباحًا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض، له بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد.
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓٔٗا مَّرِيٓٔٗا ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓٔٗا مَّرِيٓٔٗا ٤
وقوله : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النحلة : المهر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : نحلة : فريضة . وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة : أي فريضة . زاد ابن جريج : مسماه . وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق .
ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما ، وأن يكون طيب النفس بذلك ، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبا بها ، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك ، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبا; ولهذا قال [ تعالى ] ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة ، عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئا ، فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك ، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئا مريئا شفاء مباركا .
وقال هشيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، ونزل : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان عن عمير الخثعمي ، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي ، عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) قالوا : يا رسول الله ، فما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " .
وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطاة ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمر بن الخطاب قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنكحوا الأيامى " ثلاثا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، ما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " .
ابن البيلماني ضعيف ، ثم فيه انقطاع أيضا .
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓٔٗا مَّرِيٓٔٗا ٤
قوله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا
فيه عشرة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وآتوا النساء صدقاتهن الصدقات جمع ، الواحدة صدقة . قال الأخفش : وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات ، وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت . قال المازني : يقال صداق المرأة بالكسر ، ولا يقال بالفتح . وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح ، عن النحاس . والخطاب في هذه الآية للأزواج ؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج . أمرهم الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم . وقيل : الخطاب للأولياء ؛ قاله أبو صالح . وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا ، فنهوا عن ذلك وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن . قال في رواية الكلبي : أن أهل الجاهلية كان الولي إذا زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا ، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير ؛ فنزل : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . وقال المعتمر بن سليمان ، عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى ، فأمروا أن يضربوا المهور . والأول أظهر ؛ فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد ؛ لأنه قال : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى إلى قوله : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . وذلك يوجب تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الآخر .
الثانية : هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق ؛ وليس بشيء ؛ لقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فعم . وقال : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف . وأجمع العلماء أيضا أنه لا حد لكثيره ، واختلفوا في قليله على ما يأتي بيانه في قوله : وآتيتم إحداهن قنطارا . وقرأ الجمهور " صدقاتهن " بفتح الصاد وضم الدال . وقرأ قتادة " صدقاتهن " بضم الصاد وسكون الدال . وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد " صدقتهن "
الثالثة : قوله تعالى : نحلة النحلة والنحلة ، بكسر النون وضمها لغتان . وأصلها من العطاء ؛ نحلت فلانا شيئا أعطيته . فالصداق عطية من الله تعالى للمرأة . وقيل : نحلة أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع . وقال قتادة : معنى نحلة فريضة واجبة . ابن جريج وابن زيد : فريضة مسماة . قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة . وقال الزجاج : نحلة تدينا . والنحلة الديانة والملة . يقال . هذا نحلته أي دينه . وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين كانوا يأخذونه في الجاهلية ، حتى قال بعض النساء في زوجها :
لا يأخذ الحلوان من بناتنا
تقول : لا يفعل ما يفعله غيره . فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء . و " نحلة " منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره أنحلوهن نحلة . وقيل : هي نصب وقيل على التفسير . وقيل : هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال .
الرابعة : قوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا مخاطبة للأزواج ، ويدل بعمومه على أن هبة المرأة صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة ؛ وبه قال جمهور الفقهاء . ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها . وزعم الفراء أنه مخاطبة للأولياء ؛ لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا ، فلم يبح لهم منه إلا ما طابت به نفس المرأة . والقول الأول أصح ؛ لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر ، والضمير في منه عائد على الصداق . وكذلك قال عكرمة وغيره . وسبب الآية فيما ذكر أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت فإن طبن لكم .
الخامسة : واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك عليها ، ولا رجوع لها فيه . إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه ، واحتج بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا . قال ابن العربي : وهذا باطل ؛ لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها ؛ إذ ليس المراد صورة الأكل ، وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال ، وهذا بين .
السادسة : فإن شرطت عليه عند عقد النكاح ألا يتزوج عليها ، وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها ، ثم تزوج عليها فلا شيء لها عليه في رواية ابن القاسم ؛ لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه . كما اشترط أهل بريرة أن تعتقها عائشة والولاء لبائعها ، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط . كذلك هاهنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة . قال ابن عبد الحكم : إن كان بقي من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء ، وإن كانت وضعت عنه شيئا من صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها ؛ لأنه شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا كان لها واجبا أخذه منه ، فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم .
وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا ؛ لأنه ليس بمال ؛ إذ لا يمكن للمرأة هبته ولا الزوج أكله . وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب : يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق ؛ على حديث صفية - رواه الأئمة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها . وروي عن أنس أنه فعله ، وهو راوي حديث صفية . وأجاب الأولون بأن قالوا : لا حجة في حديث صفية ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق ، وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق . فلا ينبغي الاستدلال بمثل هذا ؛ والله أعلم .
الثامنة : قوله تعالى : نفسا قيل : هو منصوب على البيان . ولا يجيز سيبويه ولا الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان ، وأجاز ذلك المازني وأبو العباس المبرد إذا كان العامل فعلا . وأنشد :
وما كان نفسا بالفراق تطيب
وفي التنزيل خشعا أبصارهم يخرجون فعلى هذا يجوز " شحما تفقأت . ووجها حسنت " . وقال أصحاب سيبويه : إن نفسا منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا ، وليست منصوبة على التمييز ؛ وإذا كان هذا فلا حجة فيه . وقال الزجاج . الرواية :
وما كان نفسي . . .
واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما .
التاسعة : قوله تعالى : فكلوه ليس المقصود صورة الأكل ، وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان ، وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما . وليس المراد نفس الأكل ؛ إلا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتع بالمال عبر عن التصرفات بالأكل . ونظيره قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع يعلم أن صورة البيع غير مقصودة ، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره ؛ ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى .
العاشرة : قوله تعالى : هنيئا مريئا منصوب على الحال من الهاء في كلوه وقيل : نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس . هنأه الطعام والشراب يهنؤه ، وما كان هنيئا ؛ ولقد هنؤ ، والمصدر الهنء . وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنيء . وهنيء اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف . وهنئ يهنأ فهو هنئ على فعل كزمن . وهنأني الطعام ومرأني على الإتباع ؛ فإذا لم يذكر " هنأني " قلت : أمرأني الطعام بالألف ، أي انهضم . قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث ارجعن مأزورات غير مأجورات . فقلبوا الواو من ( موزورات ) ألفا إتباعا للفظ مأجورات . وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي : يقال هنيء وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال مرئني ؛ حكاه الهروي . وحكى القشيري أنه يقال : هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني ، وهو قليل . وقيل : هنيئا لا إثم فيه ، ومريئا لا داء فيه . قال كثير :
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت
ودخل رجل على علقمة وهو يأكل شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له : كل من الهنيء المريء . وقيل : الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء ، والمريء المحمود العاقبة ، التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي . يقول : لا تخافون في الدنيا به مطالبة ، ولا في الآخرة تبعة . يدل عليه ما روى ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه فقال : إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ، ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها ثم ليشتر به عسلا فليشربه بماء السماء ؛ فيجمع الله عز وجل له الهنيء والمريء والماء المبارك ) . والله أعلم .
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓٔٗا مَّرِيٓٔٗا ٤
ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونـهن حقوقهن، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا، ودفعة واحدة، يشق دفعه للزوجة، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء { صَدُقَاتِهِنَّ } أي: مهورهن { نِحْلَةً } أي: عن طيب نفس، وحال طمأنينة، فلا تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنـها تملكه بالعقد، لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك. { فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ } أي: من الصداق { نَفْسًا } بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة. وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء، غير ما طابت به. وفي قوله: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء } دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به، بل منهي عنه كالمشركة، وكالفاجرة، كما قال تعالى: { وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وقال: { وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }
وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٥
ينهى تعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ، أي : تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها . ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء ، وهم أقسام : فتارة يكون الحجر للصغر; فإن الصغير مسلوب العبارة . وتارة يكون الحجر للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة يكون الحجر للفلس ، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها ، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه .
وقد قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) قال : هم بنوك والنساء ، وكذا قال ابن مسعود ، والحكم بن عتيبة والحسن ، والضحاك : هم النساء والصبيان .
وقال سعيد بن جبير : هم اليتامى . وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العائكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها " .
ورواه ابن مردويه مطولا .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حرب بن سريج عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) قال : الخدم ، وهم شياطين الإنس وهم الخدم .
وقوله : ( وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول [ تعالى ] لا تعمد إلى مالك وما خولك الله ، وجعله معيشة ، فتعطيه امرأتك أو بنيك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه .
وقال مجاهد : ( وقولوا لهم قولا معروفا ) يعني في البر والصلة .
وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة ، ومن تحت الحجر بالفعل ، من الإنفاق في الكساوى والإنفاق والكلام الطيب ، وتحسين الأخلاق .
وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٥
قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا
فيه عشر مسائل :
الأولى : لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم في قوله : وآتوا اليتامى أموالهم وإيصال الصدقات إلى الزوجات ، بين أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه . فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي والكفيل للأيتام . وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة . واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة ؛ فقال عوام أهل العلم : الوصية لها جائزة . واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة . وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال في رجل أوصى إلى امرأته قال : لا تكون المرأة وصيا ؛ فإن فعل حولت إلى رجل من قومه . واختلفوا في الوصية إلى العبد ؛ فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب . وأجازه مالك والأوزاعي وابن عبد الحكم . وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " مستوفى .
الثانية : قوله تعالى : السفهاء قد مضى في " البقرة " معنى السفه لغة . واختلف العلماء في هؤلاء السفهاء ، من هم ؟ فروى سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم . قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وروى إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك قال : هم الأولاد الصغار ، لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء . وروى سفيان ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : هم النساء . قال النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح ؛ إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات ؛ لأنه الأكثر في جمع فعيلة . ويقال : لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن التجارة . وروي عن عمر أنه قال : من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا ؛ فذلك قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم يعني الجهال بالأحكام . ويقال : لا تدفع إلى الكفار ؛ ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع ، أو يدفع إليه مضاربة . وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( السفهاء هنا كل من يستحق الحجر ) . وهذا جامع . وقال ابن خويز منداد : وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال : حال يحجر عليه لصغره ، وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره ، وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله . فأما المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به . والحجر يكون مرة في حق الإنسان ومرة في حق غيره ؛ فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا . والمحجور عليه في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين ، والمفلس وذات الزوج لحق الزوج ، والبكر في حق نفسها . فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما . وأما الكبير فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله ، ولا يؤمن منه إتلاف ماله في غير وجه ، فأشبه الصبي ؛ وفيه خلاف يأتي . ولا فرق بين أن يتلف ماله في المعاصي أو القرب والمباحات . واختلف أصحابنا إذا أتلف ماله في القرب ؛ فمنهم من حجر عليه ، ومنهم من لم يحجر عليه . والعبد لا خلاف فيه . والمديان ينزع ما بيده لغرمائه ؛ لإجماع الصحابة ، وفعل عمر ذلك بأسيفع جهينة ؛ ذكره مالك في الموطأ . والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها ؛ لأنها لا تحسن النظر لنفسها . حتى إذا تزوجت ودخل إليها الناس ، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع . وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها .
قلت : وأما الجاهل بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره ، فلا يدفع إليه المال ؛ لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها . وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره . والله أعلم .
واختلفوا في وجه إضافة المال إلى المخاطبين على هذا ، وهي للسفهاء ؛ فقيل : أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا ؛ كقوله تعالى : فسلموا على أنفسكم وقوله فاقتلوا أنفسكم .
وقيل : أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم ؛ فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ، ومن ملك إلى ملك ، أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم ، وبها قوام أمركم .
وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة : ( أن المراد أموال المخاطبين حقيقة ) . قال ابن عباس : ( لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم ؛ بل كن أنت الذي تنفق عليهم ) . فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان ؛ صغار ولد الرجل وامرأته . وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء .
الثالثة : ودلت الآية على جواز الحجر على السفيه ؛ لأمر الله عز وجل بذلك في قوله : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم وقال فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا . فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف . وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير ، ومعنى السفيه إلى الكبير البالغ ؛ لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه ، والقلم مرفوع عن غير البالغ ، فالذم والحرج منفيان عنه ؛ قاله الخطابي . الرابعة : واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه ؛ فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم : إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده . وهو قول الشافعي وأبي يوسف . وقال ابن القاسم : أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام . وقال أصبغ : إن كان ظاهر السفه فأفعاله مردودة ، وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه الإمام . واحتج سحنون لقول مالك بأن قال : لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما احتاج السلطان أن يحجر على أحد . وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه قبل ذلك .
الخامسة : واختلفوا في الحجر على الكبير ؛ فقال مالك وجمهور الفقهاء : يحجر عليه . وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله ؛ فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها سلم إليه بكل حال ، سواء كان مفسدا أو غير مفسد ؛ لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة ، ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا وأبا ، وأنا أستحيي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا . وقيل عنه : إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق ، وإنما يمنع من تسليم المال احتياطا . وهذا كله ضعيف في النظر والأثر . وقد روى الدارقطني : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا يعقوب بن إبراهيم - هو أبو يوسف القاضي - أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه أن عبد الله بن جعفر أتى الزبير فقال : إني اشتريت بيع كذا وكذا ، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فأتى علي عثمان فقال : إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه . فقال الزبير : فأنا شريكه في البيع . فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ؟ قال يعقوب : أنا آخذ بالحجر وأراه ، وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه ، وإذا اشترى أو باع قبل الحجر أجزت بيعه . قال يعقوب بن إبراهيم : وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ بالحجر . فقول عثمان : كيف أحجر على رجل ، دليل على جواز الحجر على الكبير ؛ فإن عبد الله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة ، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها ، وقدم مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه . وكانت خيبر سنة خمس من الهجرة . وهذا يرد على أبي حنيفة قوله . وستأتي حجته إن شاء الله تعالى .
السادسة : قوله تعالى : التي جعل الله لكم قياما أي لمعاشكم وصلاح دينكم .
وفي التي ثلاث لغات : التي واللت بكسر التاء واللت بإسكانها . وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات : اللتان واللتا بحذف النون واللتان بشد النون . وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه السورة إن شاء الله تعالى .
والقيام والقوام : ما يقيمك بمعنى . يقال : فلان قيام أهله وقوام بيته ، وهو الذي يقيم شأنه ، أي يصلحه . ولما انكسرت القاف من قوام أبدلوا الواو ياء . وقراءة أهل المدينة " قيما " بغير ألف . قال الكسائي والفراء : قيما وقواما بمعنى قياما ، وانتصب عندهما على المصدر . أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما . وقال الأخفش : المعنى قائمة بأموركم . يذهب إلى أنها جمع . وقال البصريون : قيما جمع قيمة ؛ كديمة وديم ، أي جعلها الله قيمة للأشياء . وخطأ أبو علي هذا القول وقال : هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم ، ولكن شذت في الرد إلى الياء كما شذ قولهم : جياد في جمع جواد ونحوه . وقوما وقواما وقياما معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك . وقرأ الحسن والنخعي " اللاتي " جعل على جمع التي ، وقراءة العامة " التي " على لفظ الجماعة . قال الفراء : الأكثر في كلام العرب " النساء اللواتي ، والأموال التي " وكذلك غير الأموال ؛ ذكره النحاس :
السابعة : قوله تعالى : وارزقوهم فيها واكسوهم قيل : معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم فيها . وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر . فكان هذا دليلا على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها . وفي البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة : إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني ؟ فقالوا : يا أبا هريرة ، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة ! . قال المهلب : النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع ؛ وهذا الحديث حجة في ذلك .
الثامنة : قال ابن المنذر : واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب ؛ فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا ، وعلى النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن . فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها . وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها .
التاسعة : ولا نفقة لولد الولد على الجد ؛ هذا قول مالك . وقالت طائفة : ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض . ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى ، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال ، وسواء في ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم ؛ هذا قول الشافعي . وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد ؛ على ظاهر قوله عليه السلام لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف . وفي حديث أبي هريرة يقول الابن أطعمني إلى من تدعني ؟ يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف . ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذلك ؛ لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها ، بدليل قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح الآية . فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك . وفي قوله : تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني يرد على من قال : لا يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر ؛ وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم . هذا قول عطاء والزهري . وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . قالوا : فوجب أن ينظر إلى أن يوسر . وقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية . قالوا : فندب تعالى إلى إنكاح الفقير ؛ فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح . ولا حجة لهم في هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها . والحديث نص في موضع الخلاف . وقيل : الخطاب لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره ؛ على ما تقدم من الخلاف في إضافة المال . فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله ؛ فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة . وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام والخدم . وإن كان دون ذلك فبحسبه . وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة . فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الإمام القيام به من بيت المال ؛ فإن لم يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالأخص . وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به . ولا ترجع عليه ولا على أحد . وقد مضى في البقرة عند قوله : والوالدات يرضعن أولادهن .
العاشرة : قوله تعالى : وقولوا لهم قولا معروفا أراد تليين الخطاب والوعد الجميل . واختلف في القول المعروف ؛ فقيل : معناه ادعوا لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم وصنع لكم ، وأنا ناظر لك ، وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك . وقيل : معناه وعدوهم وعدا حسنا ؛ أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم . ويقول الأب لابنه : مالي إليك مصيره ، وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك .
وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا وَٱرۡزُقُوهُمۡ فِيهَا وَٱكۡسُوهُمۡ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٥
وقوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا } السفهاء: جمع "سفيه" وهو: من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، لأن الله جعل الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم، ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولا معروفا، بأن يعدوهم -إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم، ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبرًا لخواطرهم. وفي إضافته تعالى الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم، إذا كان لهم مال، لقوله: { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ } وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة؛ لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول الأمين.
وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٦
وقوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم ( حتى إذا بلغوا النكاح ) قال مجاهد : يعني : الحلم . قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد . وقد روى أبو داود في سننه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل " .
وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق " أو يستكمل خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير .
واختلفوا في إنبات الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشعرة ، هل تدل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ; لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها . والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عطية القرظي ، رضي الله عنه قال : عرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت فيمن لم ينبت ، فخلى سبيلي .
وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي : حسن صحيح . وإنما كان كذلك; لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية .
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الغريب " : حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر : أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه : انظروا إليه . فلم يوجد أنبت ، فدرأ عنه الحد . قال أبو عبيد : ابتهرها : أي قذفها ، والابتهار أن يقول : فعلت بها وهو كاذب فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره .
قبيح بمثلي نعت الفتاة إما ابتهارا وإما ابتيارا
وقوله : ( فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) قال سعيد بن جبير : يعني : صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم . وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة . وهكذا قال الفقهاء متى بلغ الغلام مصلحا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه .
وقوله : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم .
ثم قال تعالى : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) [ أي ] من كان في غنية عن مال اليتيم فليستعفف عنه ، ولا يأكل منه شيئا . قال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم .
( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) نزلت في مال اليتيم .
وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن . . ، قالت : نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) بقدر قيامه عليه .
ورواه البخاري عن إسحاق عن عبد الله بن نمير ، عن هشام ، به .
قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجرة مثله أو قدر حاجته . واختلفوا : هل يرد إذا أيسر ، على قولين : أحدهما : لا; لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا . وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي; لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل . وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ، ولي يتيم ؟ فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال : تفدي مالك - بماله " شك حسين .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال : " بالمعروف غير مسرف " .
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من حديث حسين المعلم به .
وروى أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخزاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال : ما كنت ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا .
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح في إبلي وأفقر ، فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقي عليها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب .
ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد به .
وبهذا القول - وهو عدم أداء البدل - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعي ، وعطية العوفي ، والحسن البصري .
والثاني : نعم; لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة . وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرب قال : قال عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه : إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت .
طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال لي عمر ، رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احتجت أخذت منه ، فإذا أيسرت رددته ، وإن استغنيت استعففت .
إسناد صحيح وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك . وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) يعني : القرض . قال : وروي عن عبيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جبير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسدي نحو ذلك . وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( فليأكل بالمعروف ) قال : يأكل بثلاث أصابع .
ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) قال : يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم . قال : وروي عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك .
وقال عامر الشعبي : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [ أكل ] الميتة ، فإن أكل منه قضاه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن وهب : حدثني نافع بن أبي نعيم القارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله : ( فليأكل بالمعروف ) فقالا ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء .
وهذا بعيد من السياق; لأنه قال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) يعني : من الأولياء ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) أي : منهم ( فليأكل بالمعروف ) أي : بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ) [ الإسراء : 34 ] أي : لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .
وقوله : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) يعني : بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [ منهم ] فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ( فأشهدوا عليهم ) وهذا أمر الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم; لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه .
ثم قال : ( وكفى بالله حسيبا ) أي : وكفى بالله محاسبا وشهيدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم للأموال : هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مبخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله . ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تلين مال يتيم " .
وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٦
قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا
فيه سبع عشرة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وابتلوا اليتامى الابتلاء الاختبار ؛ وقد تقدم . وهذه الآية خطاب للجميع في بيان كيفية دفع أموالهم . وقيل : إنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه . وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه وهو صغير ، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
الثانية : واختلف العلماء في معنى الاختبار ؛ فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ، ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل له العلم بنجابته ، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله ، والإهمال لذلك . فإذا توسم الخير قال علماؤنا وغيرهم : لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصي تسليم جميع ماله إليه . وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنده . وليس في العلماء من يقول : إنه إذا اختبر الصبي فوجده رشيدا ترتفع الولاية عنه ، وأنه يجب دفع ماله إليه وإطلاق يده في التصرف ؛ لقوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح . وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين ؛ إما أن يكون غلاما أو جارية ؛ فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا ، أو أعطاه شيئا نزرا يتصرف فيه ؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه ، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه ؛ فإن أتلفه فلا ضمان على الوصي . فإذا رآه متوخيا سلم إليه ماله وأشهد عليه . وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه ، في الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته ، واستيفاء الغزل وجودته . فإن رآها رشيدة سلم أيضا إليها مالها وأشهد عليها . وإلا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما . وقال الحسن ومجاهد وغيرهما : اختبروهم في عقولهم وأديانهم وتنمية أموالهم .
الثالثة : قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح أي الحلم ؛ لقوله تعالى : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم أي البلوغ ، وحال النكاح . والبلوغ يكون بخمسة أشياء : ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء ، واثنان يختصان بالنساء وهما الحيض والحبل . فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما . واختلفوا في الثلاث ؛ فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل : خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم . وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة ، واختاره ابن العربي . وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذا السن . قال أصبغ بن الفرج : والذي نقول به أن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة ؛ وذلك أحب ما فيه إلي وأحسنه عندي ؛ لأنه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال . واحتج بحديث ابن عمر إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز ، ولم يجز يوم أحد ؛ لأنه كان ابن أربع عشرة سنة . أخرجه مسلم . قال أبو عمر بن عبد البر : هذا فيمن عرف مولده ، وأما من جهل مولده وعدة سنه أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع ، عن أسلم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه كتب إلى أمراء الأجناد : ( ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي ) . وقال عثمان في غلام سرق : انظروا إن كان قد اخضر مئزره فاقطعوه . وقال عطية القرظي : عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة ؛ فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ ، ومن لم ينبت منهم استحياه ؛ فكنت فيمن لم ينبت فتركني .
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم ، وذلك سبع عشرة سنة ؛ فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يجب عليه الحد . وقال مالك مرة : بلوغه أن يغلظ صوته وتنشق أرنبته . وعن أبي حنيفة رواية أخرى : تسع عشرة سنة ؛ وهي الأشهر . وقال في الجارية : بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر . وروى اللؤلئي عنه ثمان عشرة سنة . وقال داود : لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة . فأما الإنبات فمنهم من قال : يستدل به على البلوغ ؛ روي عن ابن القاسم وسالم ، وقال مالك مرة ، والشافعي في أحد قوليه ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور . وقيل : هو بلوغ ؛ إلا أنه يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت ويجعل من لم ينبت في الذراري ؛ قاله الشافعي في القول الآخر ؛ لحديث عطية القرظي . ولا اعتبار بالخضرة والزغب ، وإنما يترتب الحكم على الشعر . وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب : لو جرت عليه المواسي لحددته . قال أصبغ : قال لي ابن القاسم وأحب إلي ألا يقام عليه الحد إلا باجتماع الإنبات والبلوغ . وقال أبو حنيفة : لا يثبت بالإنبات حكم ، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ . وقال الزهري وعطاء : لا حد على من لم يحتلم ؛ وهو قول الشافعي ، ومال إليه مالك مرة ، وقال به بعض أصحابه . وظاهره عدم اعتبار الإنبات والسن . قال ابن العربي : " إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فإنه دعوى ، والسن التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها ، ولا قام في الشرع دليل عليها ، وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الإنبات في بني قريظة ؛ فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظا ، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا " .
قلت : هذا قوله هنا ، وقال في سورة الأنفال عكسه ؛ إذ لم يعرج على حديث ابن عمر هناك ، وتأوله كما تأول علماؤنا ، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة ، ومن لا يطيقه فلا يسهم له فيجعل في العيال . وهو الذي فهمه عمر بن عبد العزيز من الحديث . والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم أي أبصرتم ورأيتم ؛ ومنه قوله تعالى : آنس من جانب الطور نارا أي أبصر ورأى . قال الأزهري : تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحدا ؛ معناه تبصر . قال النابغة :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا يوم الجليل على مستأنس وحد
أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره . وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد ؛ ومنه قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا أي علمتم . والأصل فيه أبصرتم . وقراءة العامة " رشدا " بضم الراء وسكون الشين . وقرأ السلمي وعيسى والثقفي وابن مسعود رضي الله عنهم " رشدا " بفتح الراء والشين ، وهما لغتان . وقيل : رشدا مصدر رشد . ورشدا مصدر رشد ، وكذلك الرشاد . والله أعلم .
الخامسة : واختلف العلماء في تأويل رشدا فقال الحسن وقتادة وغيرهما : صلاحا في العقل والدين . وقال ابن عباس والسدي والثوري : ( صلاحا في العقل وحفظ المال ) . قال سعيد بن جبير والشعبي : إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده ؛ فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده . وهكذا قال الضحاك : لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله . وقال مجاهد : رشدا يعني في العقل خاصة . وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه ؛ وهو مذهب مالك وغيره . وقال أبو حنيفة : لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا . وبه قال زفر بن الهذيل ؛ وهو مذهب النخعي . واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة ، عن أنس أن حبان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف ، فقيل : يا رسول الله احجر عليه ؛ فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف . فاستدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تبع . فقال : لا أصبر . فقال له : فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا . قالوا : فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام ، ثبت أن الحجر لا يجوز . وهذا لا حجة لهم فيه ؛ لأنه مخصوص بذلك على ما بيناه في البقرة ، فغيره بخلافه . وقال الشافعي : إن كان مفسدا لماله ودينه ، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه ، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين : أحدهما يحجر عليه ؛ وهو اختيار أبي العباس بن شريح . والثاني لا حجر عليه ؛ وهو اختيار إسحاق المروزي ، والأظهر من مذهب الشافعي . قال الثعلبي : وهذا الذي ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم ، ومن التابعين شريح ، وبه قال الفقهاء : مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور . قال الثعلبي : وادعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة .
السادسة : إذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين : إيناس الرشد والبلوغ ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال ، كذلك نص الآية . وهو رواية ابن القاسم وأشهب وابن وهب عن مالك في الآية . وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة . قال أبو حنيفة : لكونه جدا وهذا يدل على ضعف قوله ، وضعف ما احتج به أبو بكر الرازي في أحكام القرآن له من استعمال الآيتين حسب ما تقدم ؛ فإن هذا من باب المطلق والمقيد ، والمطلق يرد إلى المقيد باتفاق أهل الأصول . وماذا يغني كونه جدا إذا كان غير جد ، أي بخت . إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد . ولم يره أبو حنيفة والشافعي ، ورأوا الاختبار في الذكر والأنثى على ما تقدم . وفرق علماؤنا بينهما بأن قالوا : الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح ؛ فبه تفهم المقاصد كلها . والذكر بخلافها ؛ فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار ، ويكمل عقله بالبلوغ ، فيحصل له الغرض . وما قاله الشافعي أصوب ؛ فإن نفس الوطء بإدخال الحشفة لا يزيدها في رشدها إذا كانت عارفة بجميع أمورها ومقاصدها ، غير مبذرة لمالها . ثم زاد علماؤنا فقالوا : لا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال . قال ابن العربي : وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة ؛ منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب . وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول ، وجعلوا في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها . وليس في هذا كله دليل ، وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير ؛ وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة . وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي عنه ، أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن . والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد . فاعرفه وركب عليه واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه .
السابعة : واختلفوا فيما فعلته ذات الأب في تلك المدة ؛ فقيل : هو محمول على الرد لبقاء الحجر ، وما عملته بعده فهو محمول على الجواز . وقال بعضهم : ما عملته في تلك المدة محمول على الرد إلا أن يتبين فيه السداد ، وما عملته بعد ذلك محمول على الإمضاء حتى يتبين فيه السفه .
الثامنة : واختلفوا في دفع المال إلى المحجور عليه هل يحتاج إلى السلطان أم لا ؟ فقالت فرقة : لا بد من رفعه إلى السلطان ، ويثبت عنده رشده ثم يدفع إليه ماله . وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان . قال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا ألا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الصبي ، ويبرأ المحجور عليه لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت .
التاسعة : فإذا سلم المال إليه بوجود الرشد ، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عندنا ، وعند الشافعي في أحد قوليه . وقال أبو حنيفة : لا يعود ؛ لأنه بالغ عاقل ؛ بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص . ودليلنا قوله تعالى : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وقال تعالى : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ولم يفرق بين أن يكون محجورا سفيها أو يطرأ ذلك عليه بعد الإطلاق .
العاشرة : ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنع من تجارة وإبضاع وشراء وبيع . وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله : عين وحرث وماشية وفطرة . ويؤدي عنه أروش الجنايات وقيم المتلفات ، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة . ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق ، ويشتري له جارية يتسررها ، ويصالح له وعليه على وجه النظر له . وإذا قضى الوصي بعض الغرماء وبقي من المال بقية تفي ما عليه من الدين كان فعل الوصي جائزا . فإن تلف باقي المال فلا شيء لباقي الغرماء على الوصي ولا على الذين اقتضوا . وإن اقتضى الغرماء جميع المال ثم أتى غرماء آخرون فإن كان عالما بالدين الباقي أو كان الميت معروفا بالدين الباقي ضمن الوصي لهؤلاء الغرماء ما كان يصيبهم في المحاصة ، ورجع على الذين اقتضوا دينهم بذلك . وإن لم يكن عالما بذلك ، ولا كان الميت معروفا بالدين فلا شيء على الوصي . وإذا دفع الوصي دين الميت بغير إشهاد ضمن . وأما إن أشهد وطال الزمان حتى مات الشهود فلا شيء عليه . وقد مضى في البقرة عند قوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم من أحكام الوصي في الإنفاق وغيره ما فيه كفاية ، والحمد لله .
الحادية عشرة : قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ليس يريد أن أكل مالهم من غير إسراف جائز ، فيكون له دليل خطاب ، بل المراد ولا تأكلوا أموالهم فإنه إسراف . فنهى الله سبحانه وتعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ؛ على ما يأتي بيانه .
والإسراف في اللغة الإفراط ومجاوزة الحد . وقد تقدم في آل عمران والسرف الخطأ في الإنفاق . ومنه قول الشاعر :
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف
أي ليس يخطئون مواضع العطاء . وقال آخر :
وقال قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرف
قال النضر بن شميل : السرف التبذير ، والسرف الغفلة . وسيأتي لمعنى الإسراف زيادة بيان في " الأنعام " إن شاء الله تعالى . " وبدارا " معناه : ومبادرة كبرهم ، وهو حال البلوغ .
والبدار والمبادرة كالقتال والمقاتلة . وهو معطوف على إسرافا . و أن يكبروا في موضع نصب ب بدارا ، أي لا تستغنم مال محجورك فتأكله وتقول أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ؛ عن ابن عباس وغيره .
الثانية عشرة : قوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف الآية . بين الله تعالى ما يحل لهم من أموالهم ؛ فأمر الغني بالإمساك وأباح للوصي الفقير أن يأكل من مال وليه بالمعروف . يقال : عف الرجل عن الشيء واستعف إذا أمسك . والاستعفاف عن الشيء تركه . ومنه قوله تعالى : وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا .
والعفة : الامتناع عما لا يحل ولا يجب فعله . روى أبو داود من حديث حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم . قال : فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل .
الثالثة عشرة : واختلف العلماء من المخاطب والمراد بهذه الآية ؟ ففي صحيح مسلم ، عن عائشة في قوله تعالى : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قالت : نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا جاز أن يأكل منه . في رواية : بقدر ماله بالمعروف .
وقال بعضهم : المراد اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وأعف عن ماله ، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره ؛ قال ربيعة ويحيى بن سعيد . والأول قول الجمهور وهو الصحيح ؛ لأن اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه . والله أعلم .
الرابعة عشرة : واختلف الجمهور في الأكل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم : ( هو القرض إذا احتاج ويقضي إذا أيسر ) ؛ قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية ، وهو قول الأوزاعي . ولا يستسلف أكثر من حاجته . قال عمر : ( ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ؛ فإذا أيسرت قضيت ) . روى عبد الله بن المبارك ، عن عاصم ، عن أبي العالية ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال : قرضا - ثم تلا فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم .
وقول ثان - روي عن إبراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة : لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل بالمعروف ؛ لأن ذلك حق النظر ، وعليه الفقهاء . قال الحسن : هو طعمة من الله له ؛ وذلك أنه يأكل ما يسد جوعته ، ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل . والدليل على صحة هذا القول إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف ؛ لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله . فلا حجة لهم في قول عمر : ( فإذا أيسرت قضيت ) - أن لو صح . وقد روي عن ابن عباس وأبي العالية والشعبي أن ( الأكل بالمعروف هو كالانتفاع بألبان المواشي ، واستخدام العبيد ، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال ؛ كما يهنأ الجرباء ، وينشد الضالة ، ويلوط الحوض ، ويجذ التمر . فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للوصي أخذها ) . وهذا كله يخرج مع قول الفقهاء : إنه يأخذ بقدر أجر عمله ؛ وقالت به طائفة وأن ذلك هو المعروف ، ولا قضاء عليه ، والزيادة على ذلك محرمة .
وفرق الحسن بن صالح بن حي - ويقال ابن حيان - بين وصي الأب والحاكم ؛ فلوصي الأب أن يأكل بالمعروف ، وأما وصي الحاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ؛ وهو القول الثالث .
وقول رابع روي عن مجاهد قال : ليس له أن يأخذ قرضا ولا غيره . وذهب إلى أن الآية منسوخة ، نسخها قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وهذا ليس بتجارة . وقال زيد بن أسلم : إن الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية . وحكى بشر بن الوليد ، عن ابن يوسف ، قال : لا أدري ، لعل هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .
وقول خامس - وهو الفرق بين الحضر والسفر ؛ فيمنع إذا كان مقيما معه في المصر . فإذا احتاج أن يسافر من أجله فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ، ولا يقتني شيئا ؛ قاله أبو حنيفة وصاحباه أبو يوسف ومحمد .
وقول سادس - قال أبو قلابة : فليأكل بالمعروف مما يجني من الغلة ؛ فأما المال الناض فليس له أن يأخذ منه شيئا قرضا ولا غيره .
وقول سابع - روى عكرمة ، عن ابن عباس ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال : ( إذا احتاج واضطر ) . وقال الشعبي : كذلك إذا كان منه بمنزلة الدم ولحم الخنزير أخذ منه ؛ فإن وجد أوفى . قال النحاس : وهذا لا معنى له لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان له أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد . وقال ابن عباس أيضا والنخعي : ( المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من مال نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ؛ فيستعفف الغني بغناه ، والفقير يقتر على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه ) . قال النحاس : وهذا من أحسن ما روي في تفسير الآية ؛ لأن أموال الناس محظورة لا يطلق شيء منها إلا بحجة قاطعة .
قلت : وقد اختار هذا القول الكيا الطبري في أحكام القرآن له ؛ فقال : " توهم متوهمون من السلف بحكم الآية أن للوصي أن يأكل من مال الصبي قدرا لا ينتهي إلى حد السرف ، وذلك خلاف ما أمر الله تعالى به من قوله : - لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا يتحقق ذلك في مال اليتيم . فقوله : ومن كان غنيا فليستعفف يرجع إلى أكل مال نفسه دون مال اليتيم . فمعناه ولا تأكلوا أموال اليتيم مع أموالكم ، بل اقتصروا على أكل أموالكم . وقد دل عليه قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وبان بقوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف الاقتصار على البلغة ، حتى لا يحتاج إلى أكل مال اليتيم ؛ فهذا تمام معنى الآية . فقد وجدنا آيات محكمات تمنع أكل مال الغير دون رضاه ، سيما في حق اليتيم . وقد وجدنا هذه الآية محتملة للمعاني ، فحملها على موجب الآيات المحكمات متعين . فإن قال من ينصر مذهب السلف : إن القضاة يأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين ، فهلا كان الوصي كذلك إذا عمل لليتيم ، ولم لا يأخذ الأجرة بقدر عمله ؟ قيل له : اعلم أن أحدا من السلف لم يجوز للوصي أن يأخذ من مال الصبي مع غنى الوصي ، بخلاف القاضي ؛ فذلك فارق بين المسألتين . وأيضا فالذي يأخذه الفقهاء والقضاة والخلفاء القائمون بأمور الإسلام لا يتعين له مالك . وقد جعل الله ذلك المال الضائع لأصناف بأوصاف ، والقضاة من جملتهم ، والوصي إنما يأخذ بعمله مال شخص معين من غير رضاه ؛ وعمله مجهول وأجرته مجهولة وذلك بعيد عن الاستحقاق .
قلت : وكان شيخنا الإمام أبو العباس يقول : إن كان مال اليتيم كثيرا يحتاج إلى كبير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فرض له فيه أجر عمله ، وإن كان تافها لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا ؛ غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والسمن ، غير مضر به ولا مستكثر له ، بل على ما جرت العادة بالمسامحة فيه . قال شيخنا : وما ذكرته من الأجرة ، ونيل اليسير من التمر واللبن كل واحد منهما معروف ؛ فصلح حمل الآية على ذلك . والله أعلم .
قلت : والاحتراز عنه أفضل ، إن شاء الله .
وأما ما يأخذه قاضي القسمة ويسميه رسما ونهب أتباعه فلا أدري له وجها ولا حلا ، وهم داخلون في عموم قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أمر الله تعالى بالإشهاد تنبيها على التحصين وزوالا للتهم . وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء ؛ فإن القول قول الوصي ؛ لأنه أمين . وقالت طائفة : هو فرض ؛ وهو ظاهر الآية ، وليس بأمين فيقبل قوله ، كالوكيل إذا زعم أنه قد رد ما دفع إليه أو المودع ، وإنما هو أمين للأب ، ومتى ائتمنه الأب لا يقبل قوله على غيره . ألا ترى أن الوكيل لو ادعى أنه قد دفع لزيد ما أمره به بعدالته لم يقبل قوله إلا ببينة ؛ فكذلك الوصي . ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن جبير أن هذا الإشهاد إنما هو على دفع الوصي في يسره ما استقرضه من مال يتيمه حالة فقره . قال عبيدة : هذه الآية دليل على وجوب القضاء على من أكل ؛ المعنى : فإذا اقترضتم أو أكلتم فأشهدوا إذا غرمتم . والصحيح أن اللفظ يعم هذا وسواه . والظاهر أن المراد إذا أنفقتم شيئا على المولى عليه فأشهدوا ، حتى ولو وقع خلاف أمكن إقامة البينة ؛ فإن كل مال قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بالإشهاد على دفعه ، لقوله تعالى : فأشهدوا فإذا دفع لمن دفع إليه بغير إشهاد فلا يحتاج في دفعها لإشهاد إن كان قبضها بغير إشهاد . والله أعلم .
السادسة عشرة : قوله تعالى : كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه والتثمير له ، كذلك عليه حفظ الصبي في بدنه . فالمال يحفظه بضبطه ، والبدن يحفظه بأدبه . وقد مضى هذا المعنى في " البقرة " . وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن في حجري يتيما أآكل من ماله ؟ قال : نعم غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله . قال : يا رسول الله ، أفأضربه ؟ قال : ما كنت ضاربا منه ولدك . قال ابن العربي : وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا .
السابعة عشرة : قوله تعالى : وكفى بالله حسيبا أي كفى الله حاسبا لأعمالكم ومجازيا بها . ففي هذا وعيد لكل جاحد حق . والباء زائدة ، وهو في موضع رفع .
وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ٦
الابتلاء: هو الاختبار والامتحان، وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد، الممكن رشده، شيئا من ماله، ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله، فيتبين بذلك رشده من سفهه، فإن استمر غير محسن للتصرف لم يدفع إليه ماله، بل هو باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كثيرا. فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } كاملة موفرة. { وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا } أي: مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم من أموالكم، إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم. { وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } أي: ولا تأكلوها في حال صغرهم التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم، ولا منعكم من أكلها، تبادرون بذلك أن يكبروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها. وهذا من الأمور الواقعة من كثير من الأولياء، الذين ليس عندهم خوف من الله، ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم، يرون هذه الحال حال فرصة فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم الله عليهم، فنهى الله تعالى عن هذه الحالة بخصوصها.
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٧
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا ، فأنزل الله : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ] ) أي : الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى ، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله [ تعالى ] لكل منهم ، بما يدلي به إلى الميت من قرابة ، أو زوجية ، أو ولاء . فإنه لحمة كلحمة النسب . وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : جاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن لي ابنتين ، وقد مات أبوهما ، وليس لهما شيء ، فأنزل الله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) الآية ، وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر ، والله أعلم .
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٧
قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا
فيه خمس مسائل :
الأولى : لما ذكر الله تعالى أمر اليتامى وصله بذكر المواريث . ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري ، توفي وترك امرأة يقال لها : أم كجة وثلاث بنات له منها ؛ فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه يقال لهما : سويد وعرفجة ؛ فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا ، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ، ويقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل ، وطاعن بالرمح ، وضارب بالسيف ، وحاز الغنيمة . فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما ، فقالا : يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا . فقال عليه السلام : انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن . فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم ، وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم ؛ فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار ، لعدم تصرفهم والنظر في مصالحهم ، فعكسوا الحكم ، وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم ، وأخطئوا في آرائهم وتصرفاتهم .
الثانية : قال علماؤنا : في هذه الآية فوائد ثلاث :
إحداها : بيان علة الميراث وهي القرابة .
الثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد .
الثالثة : إجمال النصيب المفروض . وذلك مبين في آية المواريث ؛ فكان في هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي .
الثالثة : ثبت أن أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : اجعلها في فقراء أقاربك فجعلها لحسان وأبي . قال أنس : ( وكانا أقرب إليه مني ) . قال أبو داود : بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال : أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار . وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام . وأبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار . قال الأنصاري : بين أبي طلحة وأبي ستة آباء . قال : وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب وأبا طلحة . قال أبو عمر : في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه ، وما كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة .
الرابعة : قوله تعالى : مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو ؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا ؛ فإن الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا . فنزلت يوصيكم الله في أولادكم إلى قوله تعالى : الفوز العظيم فأرسل إليهما أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس ، ولبناته الثلثين ، ولكما بقية المال .
الخامسة : استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير عن حاله ، كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها . فقال مالك : يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به ؛ لقوله تعالى : مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا . وهو قول ابن كنانة ، وبه قال الشافعي ، ونحوه قول أبي حنيفة . قال أبو حنيفة : في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له . وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم له فلا يقسم . وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم ؛ وهو قول أبي ثور . قال ابن المنذر : وهو أصح القولين .
ورواه ابن القاسم ، عن مالك فيما ذكر ابن العربي . قال ابن القاسم : وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات ، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم ، أن يباع ولا شفعة فيه ؛ لقوله عليه السلام : الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة . فجعل عليه السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود ، وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه . هذا دليل الحديث .
قلت : ومن الحجة لهذا القول ما خرجه الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى ، عن محمد بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم . قال أبو عبيد : هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم . يقول : فلا يقسم ؛ وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك .
والتعضية التفريق ، يقال : عضيت الشيء إذا فرقته . ومنه قوله تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين . وقال تعالى : غير مضار فنفى المضارة . وكذلك قال عليه السلام : لا ضرر ولا ضرار . وأيضا فإن الآية ليس فيها تعرض للقسمة ، وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا كان أو كثيرا ، ردا على الجاهلية فقال : للرجال نصيب وللنساء نصيب وهذا ظاهر جدا . فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر ؛ وذلك بأن يقول الوارث : قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه ؛ فيقول له شريكه : أما تمكينك على الاختصاص فلا يمكن ؛ لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال ، وتغيير الهيئة ، وتنقيص القيمة ؛ فيقع الترجيح . والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل . والله الموفق .
قال الفراء : نصيبا مفروضا هو كقولك : قسما واجبا ، وحقا لازما ؛ فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب . الزجاج : انتصب على الحال . أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض . الأخفش : أي جعل الله لهم نصيبا . والمفروض : المقدر الواجب .
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٧
كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } : أي: قسط وحصة { مِمَّا تَرَكَ } أي: خلف { الْوَالِدَان } أي: الأب والأم { وَالْأَقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: { نَصِيبًا مَفْرُوضًا } : أي: قد قدره العليم الحكيم. وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك. وأيضا فهاهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } فتبارك الله أحسن الحاكمين.
وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٨
وقوله : ( وإذا حضر القسمة [ أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ] ) قيل : المراد : وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث واليتامى والمساكين فليرضخ لهم من التركة نصيب ، وأن ذلك كان واجبا في ابتداء الإسلام . وقيل : يستحب واختلفوا : هل هو منسوخ أم لا ؟ على قولين ، فقال البخاري : حدثنا أحمد بن حميد أخبرنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن الشيباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين ) قال : هي محكمة ، وليست بمنسوخة . تابعه سعيد عن ابن عباس .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عباد بن العوام ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها .
وقال الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في هذه الآية ، قال : هي واجبة على أهل الميراث ، ما طابت به أنفسهم . وهكذا روي عن ابن مسعود ، وأبي موسى ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأبي العالية ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وإبراهيم النخعي ، وعطاء بن أبي رباح ، والزهري ، ويحيى بن يعمر : إنها واجبة .
وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن اسماعيل بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن محمد بن سيرين قال : ولي عبيدة وصية ، فأمر بشاة فذبحت ، فأطعم أصحاب هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي .
وقال مالك ، فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع ، عن الزهري : أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله . وقال الزهري : وهي محكمة .
وقال مالك ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد قال : هو حق واجب ما طابت به الأنفس .
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم :
قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة : أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، والقاسم بن محمد أخبراه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية قالا فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه . قالا وتلا ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له ، إنما ذلك إلى الوصية ، وإنما هذه الآية في الوصية يريد الميت [ أن ] يوصي لهم . رواه ابن أبي حاتم .
ذكر من قال : إن هذه الآية منسوخة بالكلية :
قال سفيان الثوري ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : ( وإذا حضر القسمة ) قال : منسوخة .
وقال إسماعيل بن مسلم المكي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال في هذه الآية : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) نسختها الآية التي بعدها : ( يوصيكم الله في أولادكم )
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى ) كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى . رواهن ابن مردويه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين ) نسختها آية الميراث ، فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر - [ نصيبا مفروضا ]
وحدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنها منسوخة ، كانت قبل الفرائض ، كان ما ترك الرجل من مال أعطي منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حضروا القسمة ، ثم نسخ بعد ذلك ، نسختها المواريث ، فألحق الله بكل ذي حق حقه ، وصارت الوصية من ماله ، يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء .
وقال مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : هي منسوخة ، نسختها المواريث والوصية .
وهكذا روي عن عكرمة ، وأبي الشعثاء ، والقاسم بن محمد ، وأبي صالح ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنهم قالوا : إنها منسوخة . وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم .
وقد اختار ابن جرير هاهنا قولا غريبا جدا ، وحاصله : أن معنى الآية عنده ( وإذا حضر القسمة ) أي : وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت ( فارزقوهم منه وقولوا لهم ) لليتامى والمساكين إذا حضروا ( قولا معروفا ) هذا مضمون ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار ، وفيه نظر ، والله أعلم .
وقد قال العوفي عن ابن عباس : ( وإذا حضر القسمة ) وهي قسمة الميراث . وهكذا قال غير واحد ، والمعنى على هذا لا على ما سلكه أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بل المعنى : أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون ، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل ، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه ، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهذا يأخذ ، وهم يائسون لا شيء يعطون ، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم ، وإحسانا إليهم ، وجبرا لكسرهم . كما قال الله تعالى : ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) [ الأنعام : 141 ] وذم الذين ينقلون المال خفية; خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة ، كما أخبر عن أصحاب الجنة ( إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ) [ القلم : 17 ] أي : بليل . وقال : ( فانطلقوا وهم يتخافتون . أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ) [ القلم : 23 ، 24 ] ( دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ) [ محمد : 10 ] فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه; ولهذا جاء في الحديث : " ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته " أي : منعها يكون سبب محاق ذلك المال بالكلية .
وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٨
قوله تعالى : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
فيه أربع مسائل :
الأولى : بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة ، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا ، إن كان المال كثيرا ؛ والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ . ( وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم ؛ درهم يسبق مائة ألف ) . فالآية على هذا القول محكمة ؛ قاله ابن عباس . وامتثل ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره ، وأمر به أبو موسى الأشعري وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية . وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك . والأول أصح ؛ فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم ، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم . قال ابن جبير : ضيع الناس هذه الآية . قال الحسن : ولكن الناس شحوا . وفي البخاري ، عن ابن عباس في قوله تعالى : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين قال : ( هي محكمة وليست بمنسوخة ) . وفي رواية قال : ( إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون بها ؛ هما واليان : وال يرث وذلك الذي يرزق ، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف ، ويقول : لا أملك لك أن أعطيك ) . قال ابن عباس : ( أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية ، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث ) . قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير ، والشكر لله عز وجل . وقالت طائفة : هذا الرضخ واجب على جهة الفرض ، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم ، كالماعون والثوب الخلق وما خف . حكى هذا القول ابن عطية والقشيري . والصحيح أن هذا على الندب ؛ لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث ، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول . وذلك مناقض للحكمة ، وسبب للتنازع والتقاطع . وذهبت فرقة إلى أن المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية ، لا الورثة . وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد . ( فإذا أراد المريض أن يفرق ماله بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه ) . وهذا والله أعلم - يتنزل حيث كانت الوصية واجبة ، ولم تنزل آية الميراث . والصحيح الأول وعليه المعول .
الثانية : فإذا كان الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله ؛ فقالت طائفة : يعطى ولي الوارث الصغير من مال محجوره بقدر ما يرى . وقيل : لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة : ليس لي شيء من هذا المال إنما هو لليتيم ، فإذا بلغ عرفته حقكم . فهذا هو القول المعروف . وهذا إذا لم يوص الميت له بشيء ؛ فإن أوصى يصرف له ما أوصى . ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه ؛ وفعلا ذلك ، ذبحا شاة من التركة ، وقال عبيدة : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي . وروى قتادة ، عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث محكمات تركهن الناس : هذه الآية ، وآية الاستئذان يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ، وقوله : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
الثالثة : قوله تعالى " منه " الضمير عائد على معنى القسمة ؛ إذ هي بمعنى المال والميراث ؛ لقوله تعالى : ثم استخرجها من وعاء أخيه أي السقاية ؛ لأن الصواع مذكر . ومنه قوله عليه السلام : واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب فأعاد مذكرا على معنى الدعاء . وكذلك قوله لسويد بن طارق الجعفي حين سأله عن الخمر إنه ليس بدواء ولكنه داء فأعاد الضمير على معنى الشراب . ومثله كثير . يقال : قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه ، والاسم القسمة مؤنثة ؛ والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم ، والموضع مقسم مثل مجلس ، وتقسمهم الدهر فتقسموا ، أي فرقهم فتفرقوا . والتقسيم التفريق . والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : وقولوا لهم قولا معروفا قال سعيد بن جبير : يقال لهم خذوا بورك لكم . وقيل : قولوا مع الرزق وددت أن لو كان أكثر من هذا . وقيل : لا حاجة مع الرزق إلى عذر ، نعم إن لم يصرف إليهم شيء فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار .
وَإِذَا حَضَرَ ٱلۡقِسۡمَةَ أُوْلُواْ ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينُ فَٱرۡزُقُوهُم مِّنۡهُ وَقُولُواْ لَهُمۡ قَوۡلٗا مَّعۡرُوفٗا ٨
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي: قسمة المواريث { أُولُو الْقُرْبَى } أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: { الْقِسْمَةَ } لأن الوارثين من المقسوم عليهم. { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين } أي: المستحقون من الفقراء. { فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ } أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم. ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال. وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم { قَولًا مَعْرُوفًا } يردوهم ردًّا جميلا، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح.
وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا ٩
وقوله : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم [ ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله ] ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يحضره الموت ، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ، ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة .
وهكذا قال مجاهد وغير واحد ، وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : " لا " . قال : فالشطر ؟ قال : " لا " . قال : فالثلث ؟ قال : " الثلث ، والثلث كثير " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .
وفي الصحيح أن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث ، والثلث كثير " .
قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي الثلث في وصيته وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث .
وقيل : المراد بقوله : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله ) [ أي ] في مباشرة أموال اليتامى ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا )
حكاه ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس : وهو قول حسن ، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما ، أي : كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم .
وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا ٩
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : وليخش حذفت الألف من ليخش للجزم بالأمر ، ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في ضرورة الشعر . وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم ؛ وأنشد الجميع :
محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شيء تبالا
أراد لتفد ، ومفعول يخش محذوف لدلالة الكلام عليه . و " خافوا " جواب لو . التقدير لو تركوا لخافوا . ويجوز حذف اللام في جواب لو . وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها ؛ فقالت طائفة : ( هذا وعظ للأوصياء ، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ) ؛ قاله ابن عباس . ولهذا قال الله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما . وقالت طائفة : المراد جميع الناس ، أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ؛ وإن لم يكونوا في حجورهم . وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده . ومن هذا ما حكاه الشيباني قال : كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي ، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان . فقلت له : يا أبا بشر ، ودي ألا يكون لي ولد . فقال لي : ما عليك ! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت ، أحب أو كره ، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ؛ ثم تلا الآية . وفي رواية : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت : بلى ! فتلا هذه الآية وليخش الذين لو تركوا إلى آخرها .
قلت : ومن هذا المعنى ما روى محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحسن الصدقة جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته . وقول ثالث قاله جمع من المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته : إن الله سيرزق ولدك فانظر لنفسك ، وأوص بمالك في سبيل الله ، وتصدق وأعتق . حتى يأتي على عامة ماله أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته ؛ فنهوا عن ذلك . فكأن الآية تقول لهم : ( كما تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله ) ؛ قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ( إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى رازق ولدك ، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك ) ؛ فذلك قوله تعالى : فليتقوا الله . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس هذا ، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره : أمسك على ورثتك ، وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك ، وينهاه عن الوصية ، فيتضرر بذلك ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له ؛ فقيل لهم : كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضررهم . وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ؛ روي عن سعيد بن جبير وابن المسيب . قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان ؛ يصلح لأحدهما القول الواحد ، ولآخر القول الثاني . وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه . وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ؛ فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه .
قلت : وهذا التفصيل صحيح ؛ لقوله عليه السلام لسعد : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس . فإن لم يكن للإنسان ولد ، أو كان وهو غني مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه ؛ فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح ، فيكون وزره عليه .
الثانية : قوله تعالى : وليقولوا قولا سديدا السديد : العدل والصواب من القول ؛ أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما عليه من الحقوق الواجبة ، ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار . وقيل : المعنى قولوا للميت قولا عدلا ، وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله ، ولا يأمره بذلك ، ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن . هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ولم يقل مروهم ؛ لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد . وقيل : المراد اليتيم ؛ أن لا ينهروه ولا يستخفوا به .
وَلۡيَخۡشَ ٱلَّذِينَ لَوۡ تَرَكُواْ مِنۡ خَلۡفِهِمۡ ذُرِّيَّةٗ ضِعَٰفًا خَافُواْ عَلَيۡهِمۡ فَلۡيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡيَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدًا ٩
قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها، بدليل قوله: { وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } أي: سدادا، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. وقيل: إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } في ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله، من عدم إهانتهم والقيام عليهم، وإلزامهم لتقوى الله.
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا ٠١
ثم أعلمهم أن من أكل مال يتيم ظلما فإنما يأكل في بطنه نارا; ولهذا قال : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) أي : إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب ، فإنما يأكلون نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة . وثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيدة أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ، ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال : " انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال ، كل رجل له مشفران كمشفري البعير ، وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ، ثم يجاء بصخرة من نار فتقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم خوار وصراخ . قلت يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " .
وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .
وقال أبو بكر ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا زياد بن المنذر ، عن نافع بن الحارث عن أبي برزة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا " قيل : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : " ألم تر أن الله قال : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ إنما يأكلون في بطونهم نارا ] ) الآية .
رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي زرعة ، عن عقبة بن مكرم وأخرجه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن أحمد بن علي بن المثنى ، عن عقبة بن مكرم .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، وأحمد بن عصام حدثنا أبو عامر العبدي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحرج مال الضعيفين : المرأة واليتيم " أي أوصيكم باجتناب مالهما .
وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما [ إنما يأكلون في بطونهم نارا ] ) انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير [ وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ] ) [ البقرة : 220 ] .
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا ٠١
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ؛ فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية ، قال مقاتل بن حيان ؛ ولهذا قال الجمهور : إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم . وقال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار . وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا ؛ لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف الأشياء . وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق . وسمى المأكول نارا بما يئول إليه ؛ كقوله تعالى : إني أراني أعصر خمرا أي عنبا . وقيل : نارا أي حراما ؛ لأن الحرام يوجب النار ، فسماه الله تعالى باسمه . وروى أبو سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال : رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما . فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر . وقال صلى الله عليه وسلم : اجتنبوا السبع الموبقات وذكر فيها وأكل مال اليتيم .
الثانية : قوله تعالى : وسيصلون سعيرا وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم ما لم يسم فاعله ؛ من أصلاه الله حر النار إصلاء . قال الله تعالى : سأصليه سقر . وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى . دليله قوله تعالى : ثم الجحيم صلوه . ومنه قولهم : صليته مرة بعد أخرى . وتصليت : استدفأت بالنار . قال :
وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس
وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى وصلاء . قال الله تعالى : لا يصلاها إلا الأشقى . والصلاء هو التسخن بقرب النار أو مباشرتها ؛ ومنه قول الحارث بن عباد :
لم أكن من جناتها علم الل ه وإني لحرها اليوم صال
والسعير : الجمر المشتعل .
الثالثة : وهذه آية من آيات الوعيد ، ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب . والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت ؛ بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون ، فكأن هذا جمع بين الكتاب والسنة ، لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ؛ لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى . روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل . فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية .
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا ٠١
ولما أمرهم بذلك، زجرهم عن أكل أموال اليتامى، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } أي: بغير حق. وهذا القيد يخرج به ما تقدم، من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى. فمَنْ أكلها ظلمًا فـ { إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } أي: فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي: نارًا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.
وصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١
هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك ، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة ، والحجاج بين الأئمة ، فموضعه كتاب " الأحكام " فالله المستعان .
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض ، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك . وقد روى أبو داود وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ، تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم ، وهو ينسى ، وهو أول شيء ينتزع من أمتي " .
رواه ابن ماجه ، وفي إسناده ضعف .
وقد روي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر . قال [ سفيان ] ابن عيينة : إنما سمى الفرائض نصف العلم; لأنه يبتلى به الناس كلهم .
وقال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام : أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني ابن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين ، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا ، فدعا بماء فتوضأ منه ، ثم رش علي ، فأفقت ، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) .
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج به ، ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر .
حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله - هو ابن عمرو الرقي - عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال . قال : فقال : " يقضي الله في ذلك " . قال : فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك " .
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، به . قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه .
والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ، ولم يكن له بنات ، وإنما كان يورث كلالة ، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري ، رحمه الله ، فإنه ذكره هاهنا . والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية ، والله أعلم .
فقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) أي : يأمركم بالعدل فيهم ، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث ، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث ، وفاوت بين الصنفين ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين; وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشم المشقة ، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى .
وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم ، كما جاء في الحديث الصحيح .
وقد رأى امرأة من السبي تدور على ولدها ، فلما وجدته أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟ " قالوا : لا يا رسول الله : قال : " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها " .
وقال البخاري هاهنا : حدثنا محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث ، وجعل للزوجة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض ، للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى البنت النصف . ويعطى الغلام الصغير . وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم ، ولا يحوز الغنيمة . . اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فيغير ، فقال بعضهم : يا رسول الله ، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفرس ، ولا تقاتل القوم ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئا . . وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ، ويعطونه الأكبر فالأكبر . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا .
وقوله : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) قال بعض الناس : قوله : ( فوق ) زائدة وتقديره : فإن كن نساء اثنتين كما في قوله [ تعالى ] ( فاضربوا فوق الأعناق ) [ الأنفال : 12 ] وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك; فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع ، ثم قوله : ( فلهن ثلثا ما ترك ) لو كان المراد ما قالوه لقال : فلهما ثلثا ما ترك . وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة ، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين . وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين ، فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وأيضا فإنه قال : ( وإن كانت واحدة فلها النصف ) فلو كان للبنتين النصف [ أيضا ] لنص عليه ، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم .
وقوله : ( ولأبويه لكل واحد منهما السدس [ مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ] ) إلى آخره ، الأبوان لهما في الميراث أحوال :
أحدها : أن يجتمعا مع الأولاد ، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة ، فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع له - والحالة هذه - بين هذه الفرض والتعصيب .
الحال الثاني : أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم - والحالة هذه - الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض ، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض للأم ، وهو الثلثان ، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة الربع . ثم اختلف العلماء : ما تأخذ الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين; لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما . وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه وهو قول عمر وعثمان ، وأصح الروايتين عن علي . وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت ، وهو قول الفقهاء السبعة ، والأئمة الأربعة ، وجمهور العلماء - رحمهم الله .
والقول الثاني : أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله : ( فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ) فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا . وهو قول ابن عباس . وروي عن علي ، ومعاذ بن جبل ، نحوه . وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه " الإيجاز في علم الفرائض " .
وهذا فيه نظر ، بل هو ضعيف; لأن ظاهر الآية إنما هو [ ما ] إذا استبد بجميع التركة ، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة ، فتأخذ ثلثه ، كما تقدم .
والقول الثالث : أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة ، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر ، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة ، فيبقى خمسة للأب . وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي; لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال ، فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث ما بقي وهو سهم ، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان . ويحكى هذا عن محمد بن سيرين ، رحمه الله ، وهو مركب من القولين الأولين ، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا . والصحيح الأول ، والله أعلم .
والحال الثالث من أحوال الأبوين : وهو اجتماعهما مع الإخوة ، وسواء كانوا من الأبوين ، أو من الأب ، أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، فيفرض لها مع وجودهم السدس ، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي .
وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور . وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث ، قال الله تعالى : ( فإن كان له إخوة ) فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة . فقال عثمان : لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ، ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس .
وفي صحة هذا الأثر نظر ، فإن شعبة هذا تكلم فيه مالك بن أنس ، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به ، والمنقول عنهم خلافه .
وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه أنه قال : الأخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه المسألة جزءا على حدة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة ، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة قوله : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته عليهم دون أمهم .
وهذا كلام حسن . لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم ، وهذا قول شاذ ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال :
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه عن ابن عباس ، قال : السدس الذي حجبته الإخوة لأم لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم .
ثم قال ابن جرير : وهذا قول مخالف لجميع الأمة ، وقد حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا عمرو ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
وقوله : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) أجمع العلماء سلفا وخلفا : أن الدين مقدم على الوصية ، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة . وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه وأصحاب التفاسير ، من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال : إنكم تقرءون ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه . ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم .
قلت : لكن كان حافظا للفرائض معتنيا بها وبالحساب فالله أعلم .
وقوله : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) أي : إنما فرضنا للآباء وللأبناء ، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية ، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين الوصية ، كما تقدم عن ابن عباس ، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم; لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي - أو الأخروي أو هما - من أبيه ما لا يأتيه من ابنه ، وقد يكون بالعكس; فلهذا قال : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) أي : كأن النفع متوقع ومرجو من هذا ، كما هو متوقع ومرجو من الآخر; فلهذا فرضنا لهذا ولهذا ، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث ، والله أعلم .
وقوله : ( فريضة من الله ) أي : [ من ] هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث ، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض - هو فرض من الله حكم به وقضاه ، والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه; ولهذا قال : ( إن الله كان عليما حكيما )
وصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١
قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما
فيه خمس وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم بين تعالى في هذه الآية ما أجمله في قوله : للرجال نصيب و للنساء نصيب فدل هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال . وهذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد الأحكام ، وأم من أمهات الآيات ؛ فإن الفرائض عظيمة القدر حتى إنها ثلث العلم ، وروي نصف العلم . وهو أول علم ينزع من الناس وينسى . رواه الدارقطني ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول شيء ينتزع من أمتي . وروي أيضا عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما . وإذا ثبت هذا فاعلم أن الفرائض كانت جل علم الصحابة ، وعظيم مناظرتهم ، ولكن الخلق ضيعوه . وقد روى مطرف ، عن مالك ، قال عبد الله بن مسعود : ( من لم يتعلم الفرائض والطلاق والحج فبم يفضل أهل البادية ؟ ) وقال ابن وهب ، عن مالك : كنت أسمع ربيعة يقول : ( من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها ) . قال مالك : وصدق .
الثانية : روى أبو داود والدارقطني ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة . قال الخطابي أبو سليمان : الآية المحكمة هي كتاب الله تعالى : واشترط فيها الإحكام ؛ لأن من الآي ما هو منسوخ لا يعمل به ، وإنما يعمل بناسخه . والسنة القائمة هي الثابتة مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من السنن الثابتة . وقوله : أو فريضة عادلة يحتمل وجهين من التأويل : أحدهما : أن يكون من العدل في القسمة ؛ فتكون معدلة على الأنصباء والسهام المذكورة في الكتاب والسنة . والوجه الآخر : أن تكون مستنبطة من الكتاب والسنة ومن معناهما ؛ فتكون هذه الفريضة تعدل ما أخذ من الكتاب والسنة إذ كانت في معنى ما أخذ عنهما نصا .
روى عكرمة قال : أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت يسأل عن امرأة تركت زوجها وأبويها . قال : للزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي . فقال : تجده في كتاب الله أو تقول برأي ؟ قال : أقوله برأي ؛ لا أفضل أما على أب . قال أبو سليمان : فهذا من باب تعديل الفريضة إذا لم يكن فيها نص ؛ وذلك أنه اعتبرها بالمنصوص عليه ، وهو قوله تعالى : وورثه أبواه فلأمه الثلث . فلما وجد نصيب الأم الثلث ، وكان باقي المال هو الثلثان للأب ، قاس النصف الفاضل من المال بعد نصيب الزوج على كل المال إذا لم يكن مع الوالدين ابن أو ذو سهم ؛ فقسمه بينهما على ثلاثة ، للأم سهم وللأب سهمان وهو الباقي . وكان هذا أعدل في القسمة من أن يعطي الأم من النصف الباقي ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي وهو السدس ، ففضلها عليه فيكون لها وهي مفضولة في أصل الموروث أكثر مما للأب وهو المقدم والمفضل في الأصل . وذلك أعدل مما ذهب إليه ابن عباس من توفير الثلث على الأم ، وبخس الأب حقه برده إلى السدس ؛ فترك قوله وصار عامة الفقهاء إلى زيد . قال أبو عمر : وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في زوج وأبوين : ( للزوج النصف ، وللأم ثلث جميع المال ، وللأب ما بقي ) . وقال في امرأة وأبوين : ( للمرأة الربع ، وللأم ثلث جميع المال ، والباقي للأب ) . وبهذا قال شريح القاضي ومحمد بن سيرين وداود بن علي ، وفرقة منهم أبو الحسن محمد بن عبد الله الفرضي المصري المعروف بابن اللبان في المسألتين جميعا . وزعم أنه قياس قول علي في المشتركة . وقال في موضع آخر : إنه قد روي ذلك عن علي أيضا . قال أبو عمر : المعروف المشهور عن علي وزيد وعبد الله وسائر الصحابة وعامة العلماء ما رسمه مالك . ومن الحجة لهم على ابن عباس : ( أن الأبوين إذا اشتركا في الوراثة ، ليس معهما غيرهما ، كان للأم الثلث وللأب الثلثان ) . وكذلك إذا اشتركا في النصف الذي يفضل عن الزوج ، كانا فيه كذلك على ثلث وثلثين . وهذا صحيح في النظر والقياس .
الثالثة : واختلفت الروايات في سبب نزول آية المواريث ؛ فروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني ، عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت : يا رسول الله ، إن سعدا هلك وترك بنتين وأخاه ، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد ، وإنما تنكح النساء على أموالهن ؛ فلم يجبها في مجلسها ذلك . ثم جاءته فقالت : يا رسول الله ، ابنتا سعد ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع لي أخاه فجاء فقال له : ادفع إلى ابنته الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي . لفظ أبي داود . في رواية الترمذي وغيره : فنزلت آية المواريث . قال : هذا حديث صحيح .
وروى جابر أيضا قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان ، فوجداني لا أعقل ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم رش علي منه فأفقت . فقلت : كيف أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت يوصيكم الله في أولادكم . أخرجاه في الصحيحين . وأخرجه الترمذي وفيه " فقلت يا نبي الله كيف أقسم مالي بين ولدي ؟ فلم يرد علي شيئا فنزلت يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية . قال : " حديث حسن صحيح " .
وفي البخاري ، عن ابن عباس ( أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد ، والوصية للوالدين ؛ فنسخ ذلك بهذه الآيات ) . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كجة ؛ وقد ذكرناها . السدي : نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت . وقيل : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو ؛ فنزلت الآية تبيينا أن لكل صغير وكبير حظه . ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع ؛ ولذلك تأخر نزولها . والله أعلم .
قال الكيا الطبري : وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك ، بل ثبت خلافه ؛ فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعد بن الربيع . وقيل : نزلت في ورثة ثابت بن قيس بن شماس . والأول أصح عند أهل النقل . فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم ، ولو كان ذلك ثابتا من قبل في شرعنا ما استرجعه . ولم يثبت قط في شرعنا أن الصبي ما كان يعطى الميراث حتى يقاتل على الفرس ويذب عن الحريم .
قلت : وكذلك قال القاضي أبو بكر بن العربي قال : ودل نزول هذه الآية على نكتة بديعة ؛ وهو أن ما كانت عليه الجاهلية تفعله من أخذ المال لم يكن في صدر الإسلام شرعا مسكوتا مقرا عليه ؛ لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما ؛ لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما يؤثر في المستقبل فلا ينقض به ما تقدم وإنما كانت ظلامة رفعت . قاله ابن العربي .
الرابعة : قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم قالت الشافعية : قول الله تعالى يوصيكم الله في أولادكم حقيقة في أولاد الصلب ، فأما ولد الابن فإنما يدخل فيه بطريق المجاز ؛ فإذا حلف أن لا ولد له وله ولد ابن لم يحنث ؛ وإذا أوصى لولد فلان لم يدخل فيه ولد ولده . وأبو حنيفة يقول : إنه يدخل فيه إن لم يكن له ولد صلب . ومعلوم أن الألفاظ لا تتغير بما قالوه .
الخامسة : قال ابن المنذر : لما قال تعالى : يوصيكم الله في أولادكم فكان الذي يجب على ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد ، المؤمن منهم والكافر ؛ فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يرث المسلم الكافر علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض ، فلا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم على ظاهر الحديث .
قلت : ولما قال تعالى : في أولادكم دخل فيهم الأسير في أيدي الكفار ؛ فإنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام . وبه قال كافة أهل العلم ، إلا النخعي فإنه قال : لا يرث الأسير . فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود . ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : لا نورث ما تركنا صدقة وسيأتي بيانه في " مريم " إن شاء الله تعالى . وكذلك لم يدخل القاتل عمدا لأبيه أو جده أو أخيه أو عمه بالسنة وإجماع الأمة ، وأنه لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا ؛ على ما تقدم بيانه في البقرة . فإن قتله خطأ فلا ميراث له من الدية ، ويرث من المال في قول مالك ، ولا يرث في قول الشافعي وأحمد وسفيان وأصحاب الرأي ، من المال ولا من الدية شيئا ؛ حسبما تقدم بيانه في البقرة . وقول مالك أصح ، وبه قال إسحاق وأبو ثور . وهو قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والزهري والأوزاعي وابن المنذر ؛ لأن ميراث من ورثه الله تعالى في كتابه ثابت لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع . وكل مختلف فيه فمردود إلى ظاهر الآيات التي فيها المواريث .
السادسة : اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب : منها الحلف والهجرة والمعاقدة ، ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة عند قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي . إن شاء الله تعالى . وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ لقوله عليه السلام : ألحقوا الفرائض بأهلها رواه الأئمة . يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى . وهي ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس . فالنصف فرض خمسة : ابنة الصلب ، وابنة الابن ، والأخت الشقيقة ، والأخت للأب ، والزوج . وكل ذلك إذا انفردوا عمن يحجبهم عنه . والربع فرض الزوج مع الحاجب ، وفرض الزوجة والزوجات مع عدمه . والثمن فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب . والثلثان فرض أربع : الاثنتين فصاعدا من بنات الصلب ، وبنات الابن ، والأخوات الأشقاء ، أو للأب . وكل هؤلاء إذا انفردن عمن يحجبهن عنه . والثلث فرض صنفين : الأم مع عدم الولد ، وولد الابن ، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات ، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم . وهذا هو ثلث كل المال . فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة زوج أو زوجة وأبوان ؛ فللأم فيها ثلث ما يبقى . وقد تقدم بيانه . وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم وكان ثلث ما يبقى أحظى له . والسدس فرض سبعة : الأبوان والجد مع الولد وولد الابن ، والجدة والجدات إذا اجتمعن ، وبنات الابن مع بنت الصلب ، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة ، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى . وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجدة والجدات فإنه مأخوذ من السنة . والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء : نسب ثابت ، ونكاح منعقد ، وولاء عتاقة . وقد تجتمع الثلاثة الأشياء فيكون الرجل زوج المرأة ومولاها وابن عمها . وقد يجتمع فيه منها شيئان لا أكثر ، مثل أن يكون زوجها ومولاها ، أو زوجها وابن عمها ؛ فيرث بوجهين ويكون له جميع المال إذا انفرد : نصفه بالزوجية ونصفه بالولاء أو بالنسب . ومثل أن تكون المرأة ابنة الرجل ومولاته ، فيكون لها أيضا المال إذا انفردت : نصفه بالنسب ونصفه بالولاء .
السابعة : ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية ؛ فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات ، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره ، ثم الديون على مراتبها ، ثم يخرج من الثلث الوصايا ، وما كان في معناها على مراتبها أيضا ، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة . وجملتهم سبعة عشر . عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل ، والأب وأب الأب وهو الجد وإن علا ، والأخ وابن الأخ ، والعم وابن العم ، والزوج ومولى النعمة . ويرث من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت ، والأم والجدة وإن علت ، والأخت والزوجة ، ومولاة النعمة وهي المعتقة . وقد نظمهم بعض الفضلاء فقال :
والوارثون إن أردت جمعهم مع الإناث الوارثات معهم عشرة من جملة الذكران
وسبع أشخاص من النسوان وهم ، وقد حصرتهم في النظم
الابن وابن الابن وابن العم والأب منهم وهو في الترتيب
والجد من قبل الأخ القريب وابن الأخ الأدنى أجل والعم
والزوج والسيد ثم الأم وابنة الابن بعدها والبنت
وزوجة وجدة وأخت والمرأة المولاة أعني المعتقه
خذها إليك عدة محققه
الثامنة : لما قال تعالى : في أولادكم يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه ، دنيا أو بعيدا ، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم . قال بعضهم : ذلك حقيقة في الأدنين مجاز في الأبعدين . وقال بعضهم : هو حقيقة في الجميع ؛ لأنه من التولد ، غير أنهم يرثون على قدر القرب منه ؛ قال الله تعالى : يا بني آدم . وقال عليه السلام : أنا سيد ولد آدم قال : يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا إلا أنه غلب عرف الاستعمال في إطلاق ذلك على الأعيان الأدنين على تلك الحقيقة ؛ فإن كان في ولد الصلب ذكر لم يكن لولد الولد شيء ، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم . وإن لم يكن في ولد الصلب ذكر وكان في ولد الولد بدئ بالبنات للصلب ، فأعطين إلى مبلغ الثلثين ، ثم أعطي الثلث الباقي لولد الولد إذا استووا في القعدد ، أو كان الذكر أسفل ممن فوقه من البنات ، للذكر مثل حظ الأنثيين . هذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي . وبه قال عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ؛ إلا ما يروى عن ابن مسعود أنه قال : ( إن كان الذكر من ولد الولد بإزاء الأنثى رد عليها ، وإن كان أسفل منها يرد عليها ) ؛ مراعيا في ذلك قوله تعالى : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك فلم يجعل للبنات وإن كثرن إلا الثلثين .
قلت : هكذا ذكر ابن العربي هذا التفصيل عن ابن مسعود ، والذي ذكره ابن المنذر والباجي عنه : ( أن ما فضل عن بنات الصلب لبني الابن دون بنات الابن ) ، ولم يفصلا . وحكاه ابن المنذر ، عن أبي ثور . ونحوه حكى أبو عمر ، قال أبو عمر : وخالف في ذلك ابن مسعود فقال : وإذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لبني الابن دون أخواتهم ، ودون من فوقهم من بنات الابن ، ومن تحتهم . وإلى هذا ذهب أبو ثور وداود بن علي . وروي مثله عن علقمة . وحجة من ذهب هذا المذهب حديث ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر خرجه البخاري ومسلم وغيرهما . ومن حجة الجمهور قول الله عز وجل : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين لأن ولد الولد ولد . ومن جهة النظر والقياس أن كل من يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصبه في الفاضل من المال ؛ كأولاد الصلب . فوجب بذلك أن يشرك ابن الابن أخته ، كما يشرك الابن للصلب أخته . فإن احتج لأبي ثور وداود أن بنت الابن لما لم ترث شيئا من الفاضل بعد الثلثين منفردة لم يعصبها أخوها . فالجواب أنها إذا كان معها أخوها قويت به وصارت عصبة معه . وظاهر قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم وهي من الولد .
التاسعة : قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك الآية . فرض الله تعالى للواحدة النصف ، وفرض لما فوق الثنتين الثلثين ، ولم يفرض للثنتين فرضا منصوصا في كتابه ؛ فتكلم العلماء في الدليل الذي يوجب لهما الثلثين ما هو ؟ فقيل : الإجماع وهو مردود ؛ لأن الصحيح عن ابن عباس أنه أعطى البنتين النصف ؛ لأن الله عز وجل قال : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وهذا شرط وجزاء . قال : فلا أعطي البنتين الثلثين . وقيل : أعطيتا الثلثين بالقياس على الأختين ؛ فإن الله سبحانه لما قال في آخر السورة : وله أخت فلها نصف ما ترك وقال تعالى : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك فألحقت الابنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين ، وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين . واعترض هذا بأن ذلك منصوص عليه في الأخوات ، والإجماع منعقد عليه فهو مسلم بذلك . وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث إذا انفردت ، علمنا أن للاثنتين الثلثين . احتج بهذه الحجة وقال هذه المقالة إسماعيل القاضي وأبو العباس المبرد . قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ؛ لأن الاختلاف في البنتين وليس في الواحدة . فيقول مخالفه : إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف ؛ فهذا دليل على أن هذا فرضهم . وقيل : فوق زائدة أي إن كن نساء اثنتين . كقوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق أي الأعناق . ورد هذا القول النحاس وابن عطية وقالا : هو خطأ ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى . قال ابن عطية : ولأن قوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق هو الفصيح ، وليست فوق زائدة بل هي محكمة للمعنى ؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ . كما قال دريد بن الصمة : اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال . وأقوى الاحتجاج في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول . ولغة أهل الحجاز وبني أسد الثلث والربع إلى العشر . ولغة بني تميم وربيعة الثلث بإسكان اللام إلى العشر . ويقال : ثلثت القوم أثلثهم ، وثلثت الدراهم أثلثها إذا تممتها ثلاثة ، وأثلثت هي ؛ إلا أنهم قالوا في المائة والألف : أمأيتها وآلفتها وأمأت وآلفت .
العاشرة : قوله تعالى : وإن كانت واحدة فلها النصف قرأ نافع وأهل المدينة " واحدة " بالرفع على معنى وقعت وحدثت ، فهي كانت التامة ؛ كما قال الشاعر :
إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهرمه الشتاء
والباقون بالنصب . قال النحاس : وهذه قراءة حسنة . أي وإن كانت المتروكة أو المولودة " واحدة " مثل فإن كن نساء . فإذا كان مع بنات الصلب بنات ابن ، وكان بنات الصلب اثنتين فصاعدا حجبن بنات الابن أن يرثن بالفرض ؛ لأنه لا مدخل لبنات الابن أن يرثن بالفرض في غير الثلثين . فإن كانت بنت الصلب واحدة فإن ابنة الابن أو بنات الابن يرثن مع بنات الصلب تكملة الثلثين ؛ لأنه فرض يرثه البنتان فما زاد . وبنات الابن يقمن مقام البنات عند عدمهن . وكذلك أبناء البنين يقومون مقام البنين في الحجب والميراث . فلما عدم من يستحق منهن السدس كان ذلك لبنت الابن ، وهي أولى بالسدس من الأخت الشقيقة للمتوفى . على هذا جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ؛ إلا ما يروى عن أبي موسى وسليمان بن أبي ربيعة أن للبنت النصف ، والنصف الثاني للأخت ، ولا حق في ذلك لبنت الابن . وقد صح عن أبي موسى ما يقتضي أنه رجع عن ذلك ؛ رواه البخاري : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا أبو قيس سمعت هزيل بن شرحبيل يقول : سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت . فقال : ( للابنة النصف ، وللأخت النصف ) ؛ وأت ابن مسعود فإنه سيتابعني . فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال : ( لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ! أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم : للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ) . فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : ( لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم ) . فإن كان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن في درجتها أو أسفل منها عصبها ، فكان النصف الثاني بينهما ، للذكر مثل حظ الأنثيين بالغا ما بلغ - خلافا لابن مسعود على ما تقدم إذا استوفى بنات الصلب ، أو بنت الصلب وبنات الابن الثلثين وكذلك يقول في الأخت لأب وأم ، وأخوات وإخوة لأب : للأخت من الأب والأم النصف ، والباقي للإخوة والأخوات ، ما لم يصبهن من المقاسمة أكثر من السدس ؛ فإن أصابهن أكثر من السدس أعطاهن السدس تكملة الثلثين ، ولم يزدهن على ذلك . وبه قال أبو ثور .
الحادية عشرة : إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع . وأجمع أهل العلم على أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى أن الولد الذي في بطنها يرث ويورث إذا خرج حيا واستهل . وقالوا جميعا : إذا خرج ميتا لم يرث ؛ فإن خرج حيا ولم يستهل فقالت طائفة : لا ميراث له وإن تحرك أو عطس ما لم يستهل . هذا قول مالك والقاسم بن محمد وابن سيرين والشعبي والزهري وقتادة . وقالت طائفة : إذا عرفت حياة المولود بتحريك أو صياح أو رضاع أو نفس فأحكامه أحكام الحي . هذا قول الشافعي وسفيان الثوري والأوزاعي . قال ابن المنذر : الذي قال الشافعي يحتمل النظر ، غير أن الخبر يمنع منه وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه . وهذا خبر ، ولا يقع على الخبر النسخ .
الثانية عشرة : لما قال تعالى : في أولادكم تناول الخنثى وهو الذي له فرجان . وأجمع العلماء على أنه يورث من حيث يبول ؛ إن بال من حيث يبول الرجل ورث ميراث رجل ، وإن بال من حيث تبول المرأة ورث ميراث المرأة . قال ابن المنذر : ولا أحفظ عن مالك فيه شيئا ، بل قد ذكر ابن القاسم أنه هاب أن يسأل مالكا عنه . فإن بال منهما معا فالمعتبر سبق البول ؛ قاله سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق . وحكي ذلك عن أصحاب الرأي . وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في الخنثى : يورثه من حيث يبول ؛ فإن بال منهما جميعا فمن أيهما سبق ، فإن بال منهما معا فنصف ذكر ونصف أنثى . وقال يعقوب ومحمد : من أيهما خرج أكثر ورث ؛ وحكي عن الأوزاعي . وقال النعمان : إذا خرج منهما معا فهو مشكل ، ولا أنظر إلى أيهما أكثر . وروي عنه أنه وقف عنه إذا كان هكذا . وحكي عنه قال : إذا أشكل يعطى أقل النصيبين . وقال يحيى بن آدم : إذا بال من حيث يبول الرجل ويحيض كما تحيض المرأة ورث من حيث يبول ؛ لأن في الأثر : يورث من مباله . وفي قول الشافعي : إذا خرج منهما جميعا ولم يسبق أحدهما الآخر يكون مشكلا ، ويعطى من الميراث ميراث أنثى ، ويوقف الباقي بينه وبين سائر الورثة حتى يتبين أمره أو يصطلحوا ، وبه قال أبو ثور . وقال الشعبي : يعطى نصف ميراث الذكر ، ونصف ميراث الأنثى ؛ وبه قال الأوزاعي ، وهو مذهب مالك . قال ابن شاس في جواهره الثمينة على مذهب مالك عالم المدينة : الخنثى يعتبر إذا كان ذا فرجين فرج المرأة وفرج الرجل بالمبال منهما ؛ فيعطى الحكم لما بال منه فإن بال منهما اعتبرت الكثرة من أيهما ، فإن تساوى الحال اعتبر السبق ، فإن كان ذلك منهما معا اعتبر نبات اللحية أو كبر الثديين ومشابهتهما لثدي النساء ، فإن اجتمع الأمران اعتبر الحال عند البلوغ ، فإن وجد الحيض حكم به ، وإن وجد الاحتلام وحده حكم به ، فإن اجتمعا فهو مشكل . وكذلك لو لم يكن فرج ، لا المختص بالرجال ولا المختص بالنساء ، بل كان له مكان يبول منه فقط انتظر به البلوغ ؛ فإن ظهرت علامة مميزة وإلا فهو مشكل . ثم حيث حكمنا بالإشكال فميراثه نصف نصيبي ذكر وأنثى .
قلت : هذا الذي ذكروه من العلامات في الخنثى المشكل . وقد أشرنا إلى علامة في " البقرة " وصدر هذه السورة تلحقه بأحد النوعين ، وهي اعتبار الأضلاع ؛ وهي مروية عن علي رضي الله عنه وبها حكم . وقد نظم بعض الفضلاء العلماء حكم الخنثى في أبيات كثيرة أولها :
وأنه معتبر الأحوال بالثدي واللحية والمبال
وفيها يقول :
وإن يكن قد استوت حالاته ولم تبن وأشكلت آياته
فحظه من مورث القريب ستة أثمان من النصيب
هذا الذي استحق للإشكال وفيه ما فيه من النكال
وواجب في الحق ألا ينكحا ما عاش في الدنيا وألا ينكحا
إذ لم يكن من خالص العيال ولا اغتدى من جملة الرجال
وكل ما ذكرته في النظم قد قاله سراة أهل العلم
وقد أبى الكلام فيه قوم منهم ولم يجنح إليه لوم
لفرط ما يبدو من الشناعه في ذكره وظاهر البشاعه
وقد مضى في شأنه الخفي حكم الإمام المرتضى علي
بأنه إن نقصت أضلاعه فللرجال ينبغي إتباعه
في الإرث والنكاح والإحرام في الحج والصلاة والأحكام
وإن تزد ضلعا على الذكران فإنها من جملة النسوان
لأن للنسوان ضلعا زائده على الرجال فاغتنمها فائده
إذ نقصت من آدم فيما سبق لخلق حواء وهذا القول حق
عليه مما قاله الرسول صلى عليه ربنا دليل
قال أبو الوليد بن رشد : ولا يكون الخنثى المشكل زوجا ولا زوجة ، ولا أبا ولا أما . وقد قيل : إنه قد وجد من له ولد من بطنه وولد من ظهره . قال ابن رشد : فإن صح ورث من ابنه لصلبه ميراث الأب كاملا ، ومن ابنه لبطنه ميراث الأم كاملا . وهذا بعيد ، والله أعلم . وفي سنن الدارقطني عن أبي هانئ عمر بن بشير قال : سئل عامر الشعبي عن مولود ليس بذكر ولا أنثى ، ليس له ما للذكر ولا ما للأنثى ، يخرج من سرته كهيئة البول والغائط ؛ فسئل عامر عن ميراثه فقال عامر : نصف حظ الذكر ونصف حظ الأنثى .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : ولأبويه أي لأبوي الميت . وهذا كناية عن غير مذكور ، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه ؛ كقوله : حتى توارت بالحجاب و إنا أنزلناه في ليلة القدر . والسدس رفع بالابتداء ، وما قبله خبره : وكذلك الثلث . والسدس . وكذلك نصف ما ترك وكذلك فلكم الربع . وكذلك لهن الربع . و فلهن الثمن وكذلك فلكل واحد منهما السدس . والأبوان تثنية الأب والأبة . واستغني بلفظ الأم عن أن يقال لها أبة . ومن العرب من يجري المختلفين مجرى المتفقين ؛ فيغلب أحدهما على الآخر لخفته أو شهرته . جاء ذلك مسموعا في أسماء صالحة ؛ كقولهم للأب والأم : أبوان . وللشمس والقمر : القمران . ولليل والنهار : الملوان . وكذلك العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . غلبوا القمر على الشمس لخفة التذكير ، وغلبوا عمر على أبي بكر لأن أيام عمر امتدت فاشتهرت . ومن زعم أنه أراد بالعمرين عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فليس قوله بشيء ؛ لأنهم نطقوا بالعمرين قبل أن يروا عمر بن عبد العزيز ؛ قال ابن الشجري . ولم يدخل في قوله تعالى : ولأبويه من علا من الآباء دخول من سفل من الأبناء في قوله أولادكم ؛ لأن قوله : ولأبويه لفظ مثنى لا يحتمل العموم والجمع أيضا ؛ بخلاف قوله أولادكم . والدليل على صحة هذا قوله تعالى : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث والأم العليا جدة ولا يفرض لها الثلث بإجماع ، فخروج الجدة عن هذا اللفظ مقطوع به ، وتناوله للجد مختلف فيه . فممن قال هو أب وحجب به الإخوة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك أيام حياته ، واختلفوا في ذلك بعد وفاته ؛ فممن قال إنه أب ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة ، كلهم يجعلون الجد عند عدم الأب كالأب سواء ، يحجبون به الإخوة كلهم ولا يرثون معه شيئا . وقاله عطاء وطاوس والحسن وقتادة . وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق . والحجة لهم قوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم يا بني آدم ، وقوله عليه السلام : يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا . وذهب علي بن أبي طالب وزيد وابن مسعود إلى توريث الجد مع الإخوة ، ولا ينقص من الثلث مع الإخوة للأب والأم أو للأب إلا مع ذوي الفروض ؛ فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئا في قول زيد . وهو قول مالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي . وكان علي يشرك بين الإخوة والجد إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئا مع ذوي الفرائض وغيرهم . وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة . وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب وأن الابن يحجب أباه . وأنزلوا الجد بمنزلة الأب في الحجب والميراث إذا لم يترك المتوفى أبا أقرب منه في جميع المواضع . وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة من الميراث ؛ إلا ما روي عن الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة . والحجة لقول الجمهور إن هذا ذكر لا يعصب أخته فلا يقاسم الجد كالعم وابن العم . قال الشعبي : أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ مات ابن لعاصم بن عمر وترك أخوين فأراد عمر أن يستأثر بمال فاستشار عليا وزيدا في ذلك فمثلا له مثلا فقال : ( لولا أن رأيكما اجتمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أكون أباه ) . روى الدارقطني عن زيد بن ثابت أن عمر بن الخطاب استأذن عليه يوما فأذن له ، ورأسه في يد جارية له ترجله ، فنزع رأسه ؛ فقال له عمر : دعها ترجلك . فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إلي جئتك . فقال عمر : إنما الحاجة لي ، إني جئتك لتنظر في أمر الجد . فقال زيد : لا والله ! ما تقول فيه . فقال عمر : ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص ، إنما هو شيء تراه ، فإن رأيته وافقني تبعته ، وإلا لم يكن عليك فيه شيء . فأبى زيد ، فخرج مغضبا وقال : قد جئتك وأنا أظن ستفرغ من حاجتي . ثم أتاه مرة أخرى في الساعة التي أتاه في المرة الأولى ، فلم يزل به حتى قال : فسأكتب لك فيه . فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلا . إنما مثله مثل شجرة تنبت على ساق واحدة ، فخرج فيها غصن ثم خرج في غصن غصن آخر ؛ فالساق يسقي الغصن ، فإن قطعت الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن ، وإن قطعت الثاني رجع الماء إلى الأول . فأتى به فخطب الناس عمر ثم قرأ قطعة القتب عليهم ثم قال : إن زيد بن ثابت قد قال في الجد قولا وقد أمضيته . قال : وكان عمر أول جد كان ؛ فأراد أن يأخذ المال كله ، مال ابن ابنه دون إخوته ، فقسمه بعد ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
الرابعة عشرة : وأما الجدة فأجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم . وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأم الأب . وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم . واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي ؛ فقالت طائفة : ( لا ترث الجدة وابنها حي ) . روي عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي . وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : ( ترث الجدة مع ابنها ) . روي عن عمر وابن مسعود وعثمان وعلي وأبي موسى الأشعري ، وقال به شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر . وقال : كما أن الجد لا يحجبه إلا الأب كذلك الجدة لا يحجبها إلا الأم . وروى الترمذي عن عبد الله قال في الجدة مع ابنها : ( إنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسا مع ابنها وابنها حي ) . والله أعلم .
الخامسة عشرة : واختلف العلماء في توريث الجدات ؛ فقال مالك : لا يرث إلا جدتان ، أم أم وأم أب وأمهاتهما . وكذلك روى أبو ثور عن الشافعي ، وقال به جماعة من التابعين . فإن انفردت إحداهما فالسدس لها ، وإن اجتمعتا وقرابتهما سواء فالسدس بينهما . وكذلك إن كثرن إذا تساوين في القعدد ؛ وهذا كله مجمع عليه . فإن قربت التي من قبل الأم كان لها السدس دون غيرها ، وإن قربت التي من قبل الأب كان بينها وبين التي من قبل الأم وإن بعدت . ولا ترث إلا جدة واحدة من قبل الأم . ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال . هذا مذهب زيد بن ثابت ، وهو أثبت ما روي عنه في ذلك . وهو قول مالك وأهل المدينة . وقيل : إن الجدات أمهات ؛ فإذا اجتمعن فالسدس لأقربهن ؛ كما أن الآباء إذا اجتمعوا كان أحدهم بالميراث أقربهم ؛ فكذلك البنون والإخوة ، وبنو الإخوة وبنو العم إذا اجتمعوا كان أحقهم بالميراث أقربهم ؛ فكذلك الأمهات . قال ابن المنذر : وهذا أصح ، وبه أقول . وكان الأوزاعي يورث ثلاث جدات : واحدة من قبل الأم واثنتين من قبل الأب . وهو قول أحمد بن حنبل ؛ رواه الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وروي عن زيد بن ثابت عكس هذا ؛ أنه كان يورث ثلاث جدات : ثنتين من جهة الأم وواحدة من قبل الأب . وقول علي رضي الله عنه كقول زيد هذا . وكانا يجعلان السدس لأقربهما ، من قبل الأم كانت أو من قبل الأب . ولا يشركها فيه من ليس في قعددها ، وبه يقول الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور . وأما عبد الله بن مسعود وابن عباس فكانا يورثان الجدات الأربع ؛ وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد . قال ابن المنذر : وكل جدة إذا نسبت إلى المتوفى وقع في نسبها أب بين أمين فليست ترث ، في قول كل من يحفظ عنه من أهل العلم .
السادسة عشرة : قوله تعالى لكل واحد منهما السدس فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس ؛ وأبهم الولد فكان الذكر والأنثى فيه سواء . فإن مات رجل وترك ابنا وأبوين فلأبويه لكل واحد منهما السدس ، وما بقي فللابن . فإن ترك ابنة وأبوين فللابنة النصف وللأبوين السدسان ، وما بقي فلأقرب عصبة وهو الأب ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر . فاجتمع للأب الاستحقاق بجهتين : التعصيب والفرض .
فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فأخبر جل ذكره أن الأبوين إذا ورثاه أن للأم الثلث . ودل بقوله : وورثه أبواه وإخباره أن للأم الثلث ، أن الباقي وهو الثلثان للأب . وهذا كما تقول لرجلين : هذا المال بينكما ، ثم تقول لأحدهما : أنت يا فلان لك منه ثلث ؛ فإنك حددت للآخر منه الثلثين بنص كلامك ؛ ولأن قوة الكلام في قوله : وورثه أبواه يدل على أنهما منفردان عن جميع أهل السهام من ولد وغيره ، وليس في هذا اختلاف .
قلت : وعلى هذا يكون الثلثان فرضا للأب مسمى لا يكون عصبة ، وذكر ابن العربي أن المعنى في تفضيل الأب بالثلث عند عدم الولد الذكورية والنصرة ، ووجوب المؤنة عليه ، وثبتت الأم على سهم لأجل القرابة .
قلت : وهذا منتقض ؛ فإن ذلك موجود مع حياته فلم حرم السدس . والذي يظهر أنه إنما حرم السدس في حياته إرفاقا بالصبي وحياطة على ماله ؛ إذ قد يكون إخراج جزء من ماله إجحافا به . أو أن ذلك تعبد ، وهو أولى ما يقال . والله الموفق .
السابعة عشرة : إن قيل : ما فائدة زيادة الواو في قوله : وورثه أبواه ، وكان ظاهر الكلام أن يقول : فإن لم يكن له ولد ورثه أبواه . قيل له : أراد بزيادتها الإخبار ليبين أنه أمر مستقر ثابت ، فيخبر عن ثبوته واستقراره ، فيكون حال الوالدين عند انفرادهما كحال الولدين ، للذكر مثل حظ الأنثيين . ويجتمع للأب بذلك فرضان السهم والتعصيب إذ يحجب الإخوة كالولد . وهذا عدل في الحكم ، ظاهر في الحكمة . والله أعلم .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : فلأمه الثلث قرأ أهل الكوفة " فلإمه الثلث " وهي لغة حكاها سيبويه . قال الكسائي : هي لغة كثير من هوازن وهذيل ؛ ولأن اللام لما كانت مكسورة وكانت متصلة بالحرف كرهوا ضمة بعد كسرة ، فأبدلوا من الضمة كسرة ؛ لأنه ليس في الكلام فعل . ومن ضم جاء به على الأصل ؛ ولأن اللام تنفصل لأنها داخلة على الاسم . قال جميعه النحاس .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : فإن كان له إخوة فلأمه السدس الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، وهذا هو حجب النقصان ، وسواء كان الإخوة أشقاء أو للأب أو للأم ، ولا سهم لهم . وروي عن ابن عباس أنه كان يقول : ( السدس الذي حجب الإخوة الأم عنه هو للإخوة ) . وروي عنه مثل قول الناس ( إنه للأب ) . قال قتادة : وإنما أخذه الأب دونهم ؛ لأنه يمونهم ويلي نكاحهم والنفقة عليهم . وأجمع أهل العلم على أن أخوين فصاعدا ذكرانا كانوا أو إناثا من أب وأم ، أو من أب أو من أم يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ؛ إلا ما روي عن ابن عباس أن ( الاثنين من الإخوة في حكم الواحد ، ولا يحجب الأم أقل من ثلاثة ) . وقد صار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس ؛ لأن كتاب الله في الإخوة وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق . قال الكيا الطبري : ومقتضى أقوالهم ألا يدخلن مع الإخوة ؛ فإن لفظ الإخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات ، كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات . وذلك يقتضي ألا تحجب الأم بالأخ الواحد والأخت من الثلث إلى السدس ؛ وهو خلاف إجماع المسلمين . وإذا كن مرادات بالآية مع الإخوة كن مرادات على الانفراد . واستدل الجميع بأن أقل الجمع اثنان ؛ لأن التثنية جمع شيء إلى مثله ، فالمعنى يقتضي أنها جمع . وقال عليه السلام : الاثنان فما فوقهما جماعة . وحكي عن سيبويه أنه قال : سألت الخليل عن قوله " ما أحسن وجوههما " ؟ فقال : الاثنان جماعة . وقد صح قول الشاعر :
ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين
وأنشد الأخفش :
لما أتتنا المرأتان بالخبر فقلن إن الأمر فينا قد شهر
وقال آخر :
يحيى بالسلام غني قوم ويبخل بالسلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور
ولما وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عباس قال له عثمان : ( إن قومك حجبوها - يعني قريشا - وهم أهل الفصاحة والبلاغة ) . وممن قال : ( إن أقل الجمع ثلاثة ) - وإن لم يقل به هنا - ابن مسعود والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم . والله أعلم .
الموفية عشرين : قوله تعالى : من بعد وصية يوصي بها أو دين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم " يوصى " بفتح الصاد . الباقون بالكسر ، وكذلك الآخر . واختلفت الرواية فيهما عن عاصم . والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا . قال الأخفش : وتصديق ذلك قوله تعالى : يوصين وتوصون .
الحادية والعشرون : إن قيل : ما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدين ، والدين مقدم عليها بإجماع . وقد روى الترمذي عن الحارث عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأنتم تقرون الوصية قبل الدين . قال : والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يبدأ بالدين قبل الوصية . وروى الدارقطني من حديث عاصم بن ضمرة عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين قبل الوصية وليس لوارث وصية . رواه عنهما أبو إسحاق الهمداني . فالجواب من أوجه خمسة : الأول : إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما ؛ فلذلك تقدمت الوصية في اللفظ .
جواب ثان : لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدمها اهتماما بها ؛ كما قال تعالى : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة .
جواب ثالث : قدمها لكثرة وجودها ووقوعها ؛ فصارت كاللازم لكل ميت مع نص الشرع عليها ، وأخر الدين لشذوذه ، فإنه قد يكون وقد لا يكون . فبدأ بذكر الذي لا بد منه ، وعطف بالذي قد يقع أحيانا . ويقوي هذا : العطف بأو ، ولو كان الدين راتبا لكان العطف بالواو .
جواب رابع : إنما قدمت الوصية إذ هي حظ مساكين وضعفاء ، وأخر الدين إذ هو حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وله فيه مقال .
جواب خامس : لما كانت الوصية ينشئها من قبل نفسه قدمها ، والدين ثابت مؤدى ذكره أو لم يذكره .
الثانية والعشرون : ولما ثبت هذا تعلق الشافعي بذلك في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث فقال : إن الرجل إذا فرط في زكاته وجب أخذ ذلك من رأس ماله . وهذا ظاهر ببادئ الرأي ؛ لأنه حق من الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي . وقال أبو حنيفة ومالك : إن أوصى بها أديت من ثلثه ، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء . قالوا : لأن ذلك موجب لترك الورثة فقراء ؛ إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله فلا يبقى للورثة حق .
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : آباؤكم وأبناؤكم رفع بالابتداء والخبر مضمر ، تقديره : هم المقسوم عليهم وهم المعطون .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا قيل : في الدنيا بالدعاء والصدقة ؛ كما جاء في الأثر ( إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده ) . وفي الحديث الصحيح إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث - فذكر - أو ولد صالح يدعو له . وقيل : ( في الآخرة ؛ فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه ) ؛ عن ابن عباس والحسن . وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفع من درجة أبيه في الآخرة سأل الله فرفع إليه أباه ، وكذلك الأب إذا كان أرفع من ابنه ؛ وسيأتي في " الطور " بيانه . وقيل : في الدنيا والآخرة ؛ قال ابن زيد . واللفظ يقتضي ذلك .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : فريضة فريضة نصب على المصدر المؤكد ، إذ معنى يوصيكم يفرض عليكم . وقال مكي وغيره : هي حال مؤكدة ؛ والعامل يوصيكم وذلك ضعيف . والآية متعلقة بما تقدم ؛ وذلك أنه عرف العباد أنهم كفوا مؤنة الاجتهاد في إيصاء القرابة مع اجتماعهم في القرابة ، أي إن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة ، وفي الآخرة بالشفاعة . وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب ؛ فلو كان القسمة موكولة إلى الاجتهاد لوجوب النظر في غنى كل واحد منهم . وعند ذلك يخرج الأمر عن الضبط إذ قد يختلف الأمر ، فبين الرب تبارك وتعالى أن الأصلح للعبد ألا يوكل إلى اجتهاده في مقادير المواريث ، بل بين المقادير شرعا .
إن الله كان عليما أي بقسمة المواريث حكيما حكم قسمتها وبينها لأهلها . وقال الزجاج : عليما أي بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما يقدره ويمضيه منها . وقال بعضهم : إن الله سبحانه لم يزل ولا يزال ، والخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال . ومذهب سيبويه أنهم رأوا حكمة وعلما فقيل لهم : إن الله عز وجل كان كذلك لم يزل على ما رأيتم .
وصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ فَإِن كُنَّ نِسَآءٗ فَوۡقَ ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَۖ وَإِن كَانَتۡ وَٰحِدَةٗ فَلَهَا ٱلنِّصۡفُۚ وَلِأَبَوَيۡهِ لِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٞۚ فَإِن لَّمۡ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٞ وَوَرِثَهُۥٓ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ فَإِن كَانَ لَهُۥٓ إِخۡوَةٞ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ لَا تَدۡرُونَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ لَكُمۡ نَفۡعٗاۚ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١
هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" - مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على ذلك. فقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } أي: أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا، هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث، وقد ذكره بقوله: { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } أي: بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة } أي: بنتا أو بنت ابن { فَلَهَا النِّصْفُ } وهذا إجماع. بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله: { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضا فقوله: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين. وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى. وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } نص في الأختين الثنتين. فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح. بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: { فَوْقَ اثْنَتَيْن } ؟. قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين. ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها. وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم. فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين، وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد. ودل قوله: { مِمَّا تَرَكَ } أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمم ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: { وَلِأَبَوَيْهِ } أي: أبوه وأمه { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو متعددًا. فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد. وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما. { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأُم، فدل ذلك على أن الباقي للأب. وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأُم ثلث الباقي والأب الباقي. وقد دل على ذلك قوله: { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا. ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين. ولأنا لو أعطينا الأُم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود مساواتها للأب، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم. { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ } أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قوله: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال، وهو معدوم، والله أعلم] ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الإخوة" بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد، لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين. وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } وقال في الإخوة للأُم: { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة، كان للأُم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم [إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب] ثم قال تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة. وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال. وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال.
۞ وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ ٢١
يقول تعالى : ولكم - أيها الرجال - نصف ما ترك أزواجكم إذا متن عن غير ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [ وصية ] يوصين بها أو دين . وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية ، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب .
ثم قال : ( ولهن الربع مما تركتم [ إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم ] ) إلخ ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه .
وقوله : ( من بعد وصية ) إلخ ، الكلام عليه كما تقدم .
وقوله : ( وإن كان رجل يورث كلالة ) الكلالة : مشتقة من الإكليل ، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق : أنه سئل عن الكلالة ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد . فلما ولي عمر بن الخطاب قال : إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه . رواه ابن جرير وغيره .
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، فسمعته يقول : القول ما قلت ، وما قلت وما قلت . قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد .
وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وصح عن غير وجه عن عبد الله بن عباس ، وزيد بن ثابت ، وبه يقول الشعبي والنخعي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، والحكم . وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة . وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم . وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وورد فيه حديث مرفوع . قال أبو الحسين بن اللبان : وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهو أنه لا ولد له . والصحيح عنه الأول ، ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد .
وقوله : ( وله أخ أو أخت ) أي : من أم ، كما هو في قراءة بعض السلف ، منهم سعد بن أبي وقاص ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه ، ( فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث )
وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه ، أحدها : أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم . الثاني : أن ذكرهم وأنثاهم سواء . الثالث : أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة ، فلا يرثون مع أب ، ولا جد ، ولا ولد ، ولا ولد ابن . الرابع : أنهم لا يزادون على الثلث ، وإن كثر ذكورهم وإناثهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا يونس ، عن الزهري قال : قضى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم ، للذكر مثل الأنثى قال محمد بن شهاب الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذه الآية التي قال الله تعالى : ( فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث )
واختلف العلماء في المسألة المشتركة ، وهي : زوج ، وأم أو جدة ، واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين . فعلى قول الجمهور : للزوج النصف ، وللأم أو الجدة السدس ، ولولد الأم الثلث ، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوة الأم .
وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فأعطى الزوج النصف ، والأم السدس ، وجعل الثلث لأولاد الأم ، فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين ، هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة ؟ فشرك بينهم .
وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان ، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، رضي الله عنهم . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح القاضي ، ومسروق ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي ، وإسحاق ابن راهويه .
وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم ، بل يجعل الثلث لأولاد الأم ، ولا شيء لأولاد الأبوين ، والحالة هذه ، لأنهم عصبة . وقال وكيع بن الجراح : لم يختلف عنه في ذلك ، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري ، وهو المشهور عن ابن عباس ، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن زياد ، وزفر بن الهذيل ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد ، وأبي ثور ، وداود بن علي الظاهري ، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي ، رحمه الله ، في كتابه " الإيجاز " .
وقوله : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) أي : لتكون وصيته على العدل ، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة ، أو ينقصه ، أو يزيده على ما قدر الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته; ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي ، حدثنا عمر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإضرار في الوصية من الكبائر " .
وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة ، قال أبو القاسم ابن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين . وروى عنه غير واحد من الأئمة . وقال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ . وقال علي بن المديني : هو مجهول لا أعرفه . لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، موقوفا : " الإضرار في الوصية من الكبائر " . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن عائذ بن حبيب ، عن داود بن أبي هند . ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا وفي بعضها : ويقرأ ابن عباس : ( غير مضار )
قال ابن جريج والصحيح الموقوف .
ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث : هل هو صحيح أم لا ؟ على قولين : أحدهما : لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والقول القديم للشافعي ، رحمهم الله ، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار . وهو مذهب طاوس ، وعطاء ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز .
وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه . واحتج بأن رافع بن خديج أوصى ألا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها قال : وقال بعض الناس : لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " . وقال الله تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) [ النساء : 58 ] فلم يخص وارثا ولا غيره . انتهى ما ذكره .
فمتى كان الإقرار صحيحا مطابقا لما في نفس الأمر جرى فيه هذا الخلاف ، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم ، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة ( غير مضار وصية من الله والله عليم حليم ) [ ثم قال الله ]
وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ ٢١
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم فيه ثمانية مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآيتين . الخطاب للرجال . والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا ، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع . وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد ، وله مع وجوده الربع . وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد ، والثمن مع وجوده . وأجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد ، وفي الثمن إن كان له ولد واحد ، وأنهن شركاء في ذلك ؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع ، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن .
الثانية : قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة الكلالة مصدر ؛ من تكلله النسب أي أحاط به . وبه سمي الإكليل ، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها . ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس . ( فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة ) . هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم . وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال : ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد . وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري . فالأب والابن طرفان للرجل ؛ فإذا ذهبا تكلله النسب . ومنه قيل : روضة مكللة إذا حفت بالنور . وأنشدوا :
مسكنه روضة مكللة عم بها الأيهقان والذرق
يعني نبتين . وقال امرؤ القيس :
أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
فسموا القرابة كلالة ؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم ، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه . كما قال أعرابي : مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم . وقال الفرزدق :
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال آخر :
وإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب
وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء ؛ فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء . قال الأعشى :
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا
وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة . قال أبو عمر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره . وروي عن عمر بن الخطاب أن ( الكلالة من لا ولد له خاصة ) ؛ وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه . وقال ابن زيد : الكلالة الحي والميت جميعا . وعن عطاء : الكلالة المال . قال ابن العربي : وهذا قول طريف لا وجه له .
قلت : له وجه يتبين بالإعراب آنفا . وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد .
وعن السدي أن الكلالة الميت . وعنه مثل قول الجمهور . وهذه الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب ؛ فقرأ بعض الكوفيين " يورث كلالة " بكسر الراء وتشديدها . وقرأ الحسن وأيوب " يورث " بكسر الراء وتخفيفها ، على اختلاف عنهما . وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال . كذلك حكى أصحاب المعاني ؛ فالأول من ورث ، والثاني من أورث .
وكلالة مفعوله وكان بمعنى وقع . ومن قرأ " يورث " بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال ، والتقدير : يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف . ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان ؛ فالتقدير : ذا ورثة . ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع ، ويورث نعت لرجل ، ورجل رفع بكان ، وكلالة نصب على التفسير أو الحال ؛ على أن الكلالة هو الميت ، التقدير : وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت .
الثامنة والعشرون : ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين : آخر السورة وهنا ، ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة . فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عنى بها الإخوة للأم ؛ لقوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ " وله أخ أو أخت من أمه " . ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا ؛ فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه ؛ لقوله عز وجل وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا ؛ فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة . وقال الشعبي : ( الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة ) . كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس ، وهو القول الأول الذي بدأنا به . قال الطبري : والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده ، لصحة خبر جابر : فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة ، أفأوصي بمالي كله ؟ قال : لا .
الثالثة : قال أهل اللغة : يقال رجل كلالة وامرأة كلالة . ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة . وأعاد ضمير مفرد في قوله : وله أخ ولم يقل لهما . ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا ؛ تقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم ؛ قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة . وقال تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ويجوز أولى بهم ؛ عن الفراء وغيره . ويقال في امرأة : مرأة ، وهو الأصل . وأخ أصله أخو ، يدل عليه أخوان ؛ فحذف منه وغير على غير قياس . قال الفراء ضم أول أخت ، لأن المحذوف منها واو ، وكسر أول بنت ؛ لأن المحذوف منها ياء . وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا .
الرابعة : قوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا . وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى . وهذا إجماع من العلماء ، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم . فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس . فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث ، وقد تمت الفريضة . وعلى هذا عامة الصحابة ؛ لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس . وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة ، وهو لا يرى ذلك . والعول مذكور في غير هذا الموضع ، ليس هذا موضعه . فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم ؛ فللزوج النصف ، ولإخوتها لأمها الثلث ، وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها . وهكذا من له فرض مسمى أعطيه ، والباقي للعصبة إن فضل . فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية ، وتسمى أيضا المشتركة . قال قوم : ( للإخوة للأم الثلث ، وللزوج النصف ، وللأم السدس ) ، وسقط الأخ والأخت من الأب والأم ، والأخ والأخت من الأب .
روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم ، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر ؛ لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شيء . وقال قوم : ( الأم واحدة ، وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث ) ؛ ولهذا سميت المشتركة والحمارية . روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح ، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق . ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا . فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية ، والله الموفق للهداية .
وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء ؛ فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله : للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب كما تقدم . وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة ، قال الله عز وجل : والذين عقدت أيمانكم على ما يأتي بيانه . ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة ؛ قال الله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا الأنفال : وسيأتي . وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم ، إن شاء الله تعالى . وسيأتي في سورة " النور " ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى . والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت ؛ لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم . وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو : لا يرث . وقد تقدم ميراث المرتد في سورة " البقرة " والحمد لله .
الخامسة : قوله تعالى : غير مضار نصب على الحال والعامل يوصى .
أي يوصي بها غير مضار ، أي غير مدخل الضرر على الورثة . أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة ؛ ولا يقر بدين . فالإضرار راجع إلى الوصية والدين ؛ أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث ، فإن زاد فإنه يرد ، إلا أن يجيزه الورثة ؛ لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى . وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا . وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز . وقد تقدم هذا في " البقرة " . وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها ؛ كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف ؛ فإن ذلك لا يجوز عندنا . وروي عن الحسن أنه قرأ غير مضار وصية من الله " على الإضافة . قال النحاس : وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن ؛ لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر . والقراءة حسنة على حذف ، والمعنى : غير مضار ذي وصية ، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم . وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة .
السادسة : فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين ؛ فقالت طائفة : يبدأ بدين الصحة ؛ هذا قول النخعي والكوفيين . قالوا : فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون . وقالت طائفة : هما سواء إذا كان لغير وارث . هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد ، وذكر أبو عبيد أنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن .
السابعة : قد مضى في " البقرة " الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها . وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب ( وهو مطعون فيه ) عن أبي هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار . قال : وقرأ علي أبو هريرة من هاهنا من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار حتى بلغ ذلك الفوز العظيم . وقال ابن عباس : ( الإضرار في الوصية من الكبائر ) ؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه ؛ لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء . وفي المذهب قوله : أن ذلك مضارة ترد . وبالله التوفيق .
الثامنة : قوله تعالى : وصية نصب على المصدر في موضع الحال والعامل " يوصيكم " ويصح أن يعمل فيها مضار والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا ، قال ابن عطية ؛ وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ " غير مضار وصية " بالإضافة ؛ كما تقول : شجاع حرب . وبضة المتجرد ؛ في قول طرفة بن العبد . والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى .
ثم قال : والله عليم حليم يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم . وقرأ بعض المتقدمين " والله عليم حكيم يعني حكيم بقسمة الميراث والوصية .
وَلَكُمۡ نِصۡفُ مَا تَرَكَ أَزۡوَٰجُكُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٞ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡنَۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِينَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ وَإِن كَانَ رَجُلٞ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةٞ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوۡ أُخۡتٞ فَلِكُلِّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكۡثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِۚ مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصَىٰ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍ غَيۡرَ مُضَآرّٖۚ وَصِيَّةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٞ ٢١
{ وَلَكُمْ } أيها الأزواج { نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأُنثى، الواحد والمتعدد، الذي من الزوج أو من غيره، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا. ثم قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي: من أم، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأُم، فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد أي: لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد. { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أي: من الأخ والأخت { السُّدُسُ }، { فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ } أي: من واحد { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أي: لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله: { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء، لأن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية. ودل لفظ { الْكَلَالَةِ } على أن الفروع وإن نزلوا، والأصولَ الذكور وإن علوا، يُسقطون أولاد الأُم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث كلالة، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا. ودل قوله: { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأُم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: - "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء، فيَسْقُط الأشقاء، وهذا هو الصواب في ذلك. وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، فمذكور في قوله: { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } الآية. فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف، والثنتان لهما الثلثان، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق، والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى، والجد مع الإخوة لغير أم، والعول، والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا؟ قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي. وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله: { لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه" وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة. قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين [انتهى]. وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن } { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } ونحوها لمن يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له. وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما، مثابا ومعاقبا، بقدر ما فيه من موجبات ذلك، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح. إن كان ذكرا فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم. وإن كان أنثى فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن. وإن كان مشكلا، فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه الأقل، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوكُ أعدل الطريقين، قال تعالى: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب. وبيان ذلك: أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } الآية. وقال يوسف عليه السلام: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه. وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم. وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح. وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، وهم بين حالتين: إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين: إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه. وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم. ولما كان الزوجان ليسا من القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس الصحيح، والله أعلم] وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام. وإذا تعين توريثهم، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم. وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر" وقال تعالى: { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئًا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم. فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، وهو الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم. وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات. فإذا كان الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.
تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٣١
أي : هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه ، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها; ولهذا قال : ( ومن يطع الله ورسوله ) أي : فيها ، فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضا بحيلة ووسيلة ، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته ( يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم.
تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٣١
قوله : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
قوله تعالى : تلك حدود الله وتلك بمعنى هذه ، أي هذه أحكام الله قد بينها لكم لتعرفوها وتعملوا بها .
ومن يطع الله ورسوله في قسمة المواريث فيقر بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار جملة في موضع نصب على النعت لجنات
تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٣١
أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين. ثم قوله تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار. { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون.
وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ٤١
أي ، لكونه غير ما حكم الله به وضاد الله في حكمه . وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن أشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيته ، فيختم بشر عمله ، فيدخل النار; وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " . قال : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم ( تلك حدود الله ) إلى قوله : ( عذاب مهين ) .
[ و ] قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه : حدثنا عبدة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد ، حدثنا [ نصر ] بن علي الحداني ، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني ، حدثني شهر بن حوشب : أن أبا هريرة حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية ، فتجب لهما النار " وقال : قرأ علي أبو هريرة من هاهنا : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ) حتى بلغ : ( [ و ] ذلك الفوز العظيم ) .
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحداني به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل .
وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ٤١
وقوله : ومن يعص الله ورسوله يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها ويتعد حدوده أي يخالف أمره يدخله نارا خالدا فيها والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه ، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما . كما تقول : خلد الله ملكه . وقال زهير :
ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع . وقرأ نافع وابن عامر " ندخله " بالنون في الموضعين ، على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه . الباقون بالياء كلاهما ؛ لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله .
وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ يُدۡخِلۡهُ نَارًا خَٰلِدٗا فِيهَا وَلَهُۥ عَذَابٞ مُّهِينٞ ٤١
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها.
وَٱلَّٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا ٥١
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة ، حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت; ولهذا قال : ( واللاتي يأتين الفاحشة ) يعني : الزنا ( من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك .
قال ابن عباس : كان الحكم كذلك ، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد ، أو الرجم .
وكذا روي عن عكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وأبي صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والضحاك : أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتربد وجهه ، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم ، فلما سري عنه قال : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر ، الثيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة " .
وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا; البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك في وجهه ، فلما أنزلت : ( أو يجعل الله لهن سبيلا ) [ و ] ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا خذوا ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " .
وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وكيع بن الجراح ، حدثنا الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، عن قبيصة بن حريث ، عن سلمة بن المحبق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .
وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم ، ثم قال : وليس هو بالحافظ ، كان قصابا بواسط .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عباس بن حمدان ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البكران يجلدان وينفيان ، والثيبان يجلدان ويرجمان ، والشيخان يرجمان " . هذا حديث غريب من هذا الوجه .
وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة ، عن أخيه عيسى بن لهيعة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس بعد سورة النساء " .
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك ، فدل على أن الجلد ليس بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم .
وَٱلَّٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا ٥١
قوله : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا
فيه ثمان مسائل :
الأولى : لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن ، وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال ، ذكر أيضا التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة ، لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف .
الثانية : قوله تعالى : " واللاتي " اللاتي جمع التي ، وهو اسم مبهم للمؤنث ، وهي معرفة ولا يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير ، ولا يتم إلا بصلته ؛ وفيه ثلاث لغات كما تقدم . ويجمع أيضا " اللات " بحذف الياء وإبقاء الكسرة ؛ و " اللائي " بالهمزة وإثبات الياء ، و " اللاء " بكسر الهمزة وحذف الياء ، و " اللا " بحذف الهمزة . فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي ، وفي اللاء : اللوائي . وقد روي عنهم " اللوات " بحذف الياء وإبقاء الكسرة ؛ قاله ابن الشجري . قال الجوهري : أنشد أبو عبيد :
من اللواتي والتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لدات
واللوا بإسقاط التاء . وتصغير التي اللتيا بالفتح والتشديد ؛ قال الراجز ( العجاج ) :
بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها نفس تودت
وبعض الشعراء أدخل على " التي " حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله وحده ؛ فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها . وقال :
من أجلك يالتي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
ويقال : وقع في اللتيا والتي ؛ وهما اسمان من أسماء الداهية .
الثالثة : قوله تعالى : يأتين الفاحشة الفاحشة في هذا الموضع الزنا ، والفاحشة الفعلة القبيحة ، وهي مصدر كالعاقبة والعافية . وقرأ ابن مسعود " بالفاحشة " بباء الجر .
الرابعة : قوله تعالى : من نسائكم إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات ؛ كما قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا الحكم .
الخامسة : قوله تعالى : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم أي من المسلمين ، فجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد . وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ؛ قال الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وقال هنا : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فنشدهما : كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما . قال : فما يمنعكما أن ترجموهما ؛ قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما . وقال قوم : إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ؛ إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما ؛ وهذا ضعيف ؛ فإن اليمين تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا .
السادسة : ولا بد أن يكون الشهود ذكورا ؛ لقوله : منكم ولا خلاف فيه بين الأمة . وأن يكونوا عدولا ؛ لأن الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة ، وهذا أعظم ، وهو بذلك أولى . وهذا من حمل المطلق على المقيد بالدليل ، على ما هو مذكور في أصول الفقه . ولا يكونون ذمة ، وإن كان الحكم على ذمية ، وسيأتي ذلك في " المائدة " وتعلق أبو حنيفة بقوله : أربعة منكم في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن . وسيأتي بيانه في " النور " إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله تعالى : فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت هذه أول عقوبات الزناة ؛ وكان هذا في ابتداء الإسلام ؛ قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد حتى نسخ بالأذى الذي بعده ، ثم نسخ ذلك بآية " النور " وبالرجم في الثيب . وقالت فرقة : بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك ، ولكن التلاوة أخرت وقدمت ؛ ذكره ابن فورك ، وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة ، فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن ؛ قاله ابن العربي .
الثامنة : واختلف العلماء هل كان هذا السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين :
أحدهما : أنه توعد بالحد ، والثاني : ( أنه حد ) ؛ قاله ابن عباس والحسن . زاد ابن زيد : وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه . وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد ؛ غير أن ذلك الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى ، على اختلاف التأويلين في أيهما قبل ؛ وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم . وهذا نحو قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه . هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين ، فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما ، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم ، وقد قال بعض العلماء : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد ؛ لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد . وأما الحبس فمنسوخ بإجماع ، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز . والله أعلم .
وَٱلَّٰتِي يَأۡتِينَ ٱلۡفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِي ٱلۡبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلٗا ٥١
أي: النساء { اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } أي: الزنا، ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها. { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } أي: من رجالكم المؤمنين العدول. { فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أي: احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ } أي: هذا منتهى الحبس. { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } أي: طريقا غير الحبس في البيوت، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا، وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن.
وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فََٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فََٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا ٦١
وقوله : ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) أي : واللذان يأتيان الفاحشة فآذوهما . قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير ، والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم .
وقال عكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا .
وقال السدي : نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا .
وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكني ، وكأنه يريد اللواط ، والله أعلم .
وقد روى أهل السنن ، من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به "
وقوله : ( فإن تابا وأصلحا ) أي : أقلعا ونزعا عما كانا عليه ، وصلحت أعمالهما وحسنت ( فأعرضوا عنهما ) أي : لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ( إن الله كان توابا رحيما ) وقد ثبت في الصحيحين " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها " أي : ثم لا يعيرها بما صنعت بعد الحد ، الذي هو كفارة لما صنعت .
وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فََٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا ٦١
قوله تعالى : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : واللذان " اللذان " تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان كرحيان ومصطفيان وشجيان . قال سيبويه : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء المتمكنة والأسماء المبهمات . وقال أبو علي : حذفت الياء تخفيفا ، إذ قد أمن اللبس في اللذان ؛ لأن النون لا تنحذف ، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في رحياك ومصطفيا القوم ؛ فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين . وقرأ ابن كثير " اللذان " بتشديد النون ؛ وهي لغة قريش ؛ وعلته أنه جعل التشديد عوضا من ألف " ذا " على ما يأتي بيانه في سورة " القصص " عند قوله تعالى : فذانك برهانان . وفيها لغة أخرى " اللذا " بحذف النون . هذا قول الكوفيين . وقال البصريون : إنما حذفت النون لطول الاسم بالصلة . وكذلك قرأ " هذان " و " فذانك برهانان " بالتشديد فيهما . والباقون بالتخفيف . وشدد أبو عمرو " فذانك برهانان " وحدها . و " اللذان " رفع بالابتداء . قال سيبويه : المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها ، أي الفاحشة " منكم " . ودخلت الفاء في فآذوهما لأن في الكلام معنى الأمر ؛ لأنه لما وصل الذي بالفعل تمكن فيه معنى الشرط ؛ إذ لا يقع عليه شيء بعينه ، فلما تمكن الشرط والإبهام فيه جرى مجرى الشرط فدخلت الفاء ، ولم يعمل فيه ما قبله من الإضمار كما لا يعمل في الشرط ما قبله ؛ فلما لم يحسن إضمار الفعل قبلهما لينصبا رفعا بالابتداء ؛ وهذا اختيار سيبويه . ويجوز النصب على تقدير إضمار فعل ، وهو الاختيار إذا كان في الكلام معنى الأمر والنهي نحو قولك : اللذين عندك فأكرمهما .
الثانية : قوله تعالى : فآذوهما قال قتادة والسدي : معناه التوبيخ والتعيير . وقالت فرقة : هو السب والجفاء دون تعيير . ابن عباس : النيل باللسان والضرب بالنعال . قال النحاس : وزعم قوم أنه منسوخ .
قلت : رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : واللاتي يأتين الفاحشة و اللذان يأتيانها كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في " النور " . قاله النحاس : وقيل وهو أولى : إنه ليس بمنسوخ ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما : فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل .
الثالثة : واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى : واللاتي وقوله : واللذان فقال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات ، والآية الثانية في الرجال خاصة . وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن ؛ فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى . وهذا قول يقتضيه اللفظ ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة . ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى : من نسائكم وفي الثانية منكم ؛ واختاره النحاس ورواه عن ابن عباس . وقال السدي وقتادة وغيرهما : الأولى في النساء المحصنات . يريد : ودخل معهن من أحصن من الرجال بالمعنى ، والثانية في الرجل والمرأة البكرين . قال ابن عطية : ومعنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه . وقد رجحه الطبري ، وأباه النحاس وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد ؛ لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة . وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ؛ فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعا في الإيذاء . قال قتادة : كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا ؛ وهذا لأن الرجل يحتاج إلى السعي والاكتساب .
الرابعة : واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة على ما بيناه ؛ فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك ، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك ، وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق . وقال جماعة من العلماء : بل على الثيب الرجم بلا جلد . وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور ؛ متمسكين بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما ، وبقوله عليه السلام لأنيس : اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر الجلد ؛ فلو كان مشروعا لما سكت عنه . قيل لهم : إنما سكت عنه ؛ لأنه ثابت بكتاب الله تعالى ، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن ؛ لأن قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يعم جميع الزناة . والله أعلم . ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له : عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ . وهذا واضح .
الخامسة : واختلفوا في نفي البكر مع الجلد ؛ فالذي عليه الجمهور أنه ينفى مع الجلد ؛ قاله الخلفاء الراشدون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وهو قول ابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين ، وبه قال عطاء وطاوس وسفيان ومالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وقال بتركه حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن . والحجة للجمهور حديث عبادة المذكور ، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، حديث العسيف وفيه : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عاما . أخرجه الأئمة . احتج من لم ير نفيه بحديث أبي هريرة في الأمة ، ذكر فيه الجلد دون النفي . وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : غرب عمر ربيعة بن أبي أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر ؛ فقال عمر : لا أغرب مسلما بعد هذا . قالوا : ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد . ثم إن النص الذي في الكتاب إنما هو الجلد ، والزيادة على النص نسخ ؛ فيلزم عليه نسخ القاطع بخبر الواحد .
والجواب : أما حديث أبي هريرة فإنما هو في الإماء لا في الأحرار . وقد صح عن عبد الله بن عمر أنه ضرب أمته في الزنا ونفاها . وأما حديث عمر وقوله : لا أغرب بعده مسلما ، فيعني في الخمر - والله أعلم - لما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب ، وأن أبا بكر ضرب وغرب ، وأن عمر ضرب وغرب . أخرجه الترمذي في جامعه ، والنسائي في سننه عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني عن عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع . قال الدارقطني : تفرد به عبد الله بن إدريس ولم يسنده عنه أحد من الثقات غير أبي كريب ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النفي فلا كلام لأحد معه ، ومن خالفته السنة خاصمته . وبالله التوفيق .
وأما قولهم : الزيادة على النص نسخ ، فليس بمسلم ، بل زيادة حكم آخر مع الأصل .
ثم هو قد زاد الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح على الماء ، واشترط الفقر في القربى ؛ إلى غير ذلك مما ليس منصوصا عليه في القرآن . وقد مضى هذا المعنى في البقرة ويأتي .
السادسة : القائلون بالتغريب لم يختلفوا في تغريب الذكر الحر ، واختلفوا في تغريب العبد والأمة ؛ فممن رأى التغريب فيهما ابن عمر جلد مملوكة له في الزنا ونفاها إلى فدك وبه قال الشافعي وأبو ثور والثوري والطبري وداود . واختلف قول الشافعي في نفي العبد ، فمرة قال : أستخير الله في نفي العبد ، ومرة قال : ينفى نصف سنة ، ومرة قال : ينفى سنة إلى غير بلده ؛ وبه قال الطبري .
واختلف أيضا قوله في نفي الأمة على قولين . وقال مالك : ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد ، ومن نفي حبس في الموضع الذي ينفى إليه . وينفى من مصر إلى الحجاز وشغب وأسوان ونحوها ، ومن المدينة إلى خيبر وفدك ؛ وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز . ونفى علي من الكوفة إلى البصرة . وقال الشافعي : أقل ذلك يوم وليلة . قال ابن العربي : كان أصل النفي أن بني إسماعيل أجمع رأيهم على أن من أحدث حدثا في الحرم غرب منه ، فصارت سنة فيهم يدينون بها ؛ فلأجل ذلك استن الناس إذا أحدث أحد حدثا غرب عن بلده ، وتمادى ذلك في الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة . احتج من لم ير النفي على العبد بحديث أبي هريرة في الأمة ؛ ولأن تغريبه عقوبة لمالكه تمنعه من منافعه في مدة تغريبه ، ولا يناسب ذلك تصرف الشرع ، فلا يعاقب غير الجاني . وأيضا فقد سقط عنه الجمعة والحج والجهاد الذي هو حق لله تعالى لأجل السيد ؛ فكذلك التغريب . والله أعلم .
والمرأة إذا غربت ربما يكون ذلك سببا لوقوعها فيما أخرجت من سببه وهو الفاحشة ، وفي التغريب سبب لكشف عورتها وتضييع لحالها ؛ ولأن الأصل منعها من الخروج من بيتها وأن صلاتها فيه أفضل . وقال صلى الله عليه وسلم : أعروا النساء يلزمن الحجال فحصل من هذا تخصيص عموم حديث التغريب بالمصلحة المشهود لها بالاعتبار . وهو مختلف فيه عند الأصوليين والنظار . وشذت طائفة فقالت : يجمع الجلد والرجم على الشيخ ، ويجلد الشاب ؛ تمسكا بلفظ " الشيخ " في حديث زيد بن ثابت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة خرجه النسائي . وهذا فاسد ؛ لأنه قد سماه في الحديث الآخر " الثيب " .
السابعة : قوله تعالى : فإن تابا أي من الفاحشة . وأصلحا يعني العمل فيما بعد ذلك . فأعرضوا عنهما أي اتركوا أذاهما وتعييرهما . وإنما كان هذا قبل نزول الحدود . فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية . وليس المراد بالإعراض الهجرة ، ولكنها متاركة معرض ؛ وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة ، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى .
والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي .
وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فََٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا ٦١
{ و } كذلك { الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا } أي: الفاحشة { مِنْكُمْ } من الرجال والنساء { فَآذُوهُمَا } بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون، والنساء يحبسن ويؤذين. فالحبس غايته إلى الموت، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح، ولهذا قال: { فَإِنْ تَابَا } أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه، وعزما على أن لا يعودا { وَأَصْلَحَا } العمل الدال على صدق التوبة { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي: عن أذاهما { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين، عظيم الرحمة والإحسان، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم، وسامحهم عن ما صدر منهم. ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة، سترًا لعباده، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات، ولا مع الرجال، ولا ما دون أربعة. ولا بد من التصريح بالشهادة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وتومئ إليه هذه الآية لما قال: { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } لم يكتف بذلك حتى قال: { فَإِنْ شَهِدُوا } أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا، من غير تعريض ولا كناية. ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر.
إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٧١
يقول تعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ، ثم يتوب ولو قبل معاينة الملك [ لقبض ] روحه قبل الغرغرة .
قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب .
وقال قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة . رواه ابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة ، عمدا كان أو غيره .
وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله فهو جاهل حين عملها . قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه .
وقال أبو صالح عن ابن عباس : من جهالته عمل السوء .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ( ثم يتوبون من قريب ) قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت ، وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب . وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته . وهو مروي عن ابن عباس . وقال الحسن البصري : ( ثم يتوبون من قريب ) ما لم يغرغر . وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب .
ذكر الأحاديث في ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عياش وعصام بن خالد ، قالا حدثنا ابن ثوبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير بن نفير عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " .
[ و ] رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، به وقال الترمذي : حسن غريب . ووقع في سنن ابن ماجه : عن عبد الله بن عمرو . وهو وهم ، إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب .
حديث آخر عن ابن عمر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي قال : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عمر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه ، وأدنى من ذلك ، وقبل موته بيوم وساعة ، يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلا قبل منه " .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرنا إبراهيم بن ميمون ، أخبرني رجل من ملحان يقال له : أيوب - قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه . فقلت له : إنما قال الله : (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ) فقال : إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهكذا رواه أبو داود الطيالسي ، وأبو عمر الحوضي ، وأبو عامر العقدي ، عن شعبة .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم " . فقال الآخر : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم " فقال الثالث : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحو " . قال الرابع : أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله [ تعالى ] يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه " . وقد رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني فذكر قريبا منه .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عوف ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر " .
أحاديث في ذلك مرسلة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن قال :
بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " هذا مرسل حسن . عن الحسن البصري ، رحمه الله .
آخر : قال ابن جرير أيضا ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب; أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله .
أثر آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند أنس بن مالك وثم أبو قلابة ، فحدث أبو قلابة فقال : إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فقال : وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح . فقال الله : وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح .
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال إبليس : وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني " .
فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة [ منه ] ; ولهذا قال تعالى : ( فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما ) فأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحشرجت الروح في الحلق ، وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم - فلا توبة متقبلة حينئذ ، ولات حين مناص
إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٧١
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما
فيها مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إنما التوبة على الله قيل : هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا . وقيل : لمن جهل فقط ، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر . واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين ؛ لقوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون . وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في قولهم : لا يكون تائبا من أقام على ذنب . ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل السنة . وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها ، وإن شاء لم يقبلها . وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف ؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه ، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم ، والمكلف لهم ؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه ، تعالى عن ذلك ، غير أنه قد أخبر سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .
وقوله : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده وقوله : وإني لغفار لمن تاب طه : فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء .
والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا ؛ فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب . قال أبو المعالي وغيره : وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن ، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة . قال ابن عطية : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى . فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي : يغلب على الظن قبول توبته . وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز . قال ابن عطية : وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه ، وبه أقول ، والله تعالى أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض . معنى قوله : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وقوله تعالى : وإني لغفار . وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله " على الله " حذفا وليس على ظاهره ، وإنما المعنى على فضل الله ورحمته بعباده . وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أتدري ما حق العباد على الله ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : أن يدخلهم الجنة . فهذا كله معناه : على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق . دليله قوله تعالى : كتب على نفسه الرحمة أي وعد بها . وقيل : على هاهنا معناها " عند " والمعنى واحد ، التقدير : عند الله ، أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها ؛ وهي أربعة : الندم بالقلب ، وترك المعصية في الحال ، والعزم على ألا يعود إلى مثلها ، وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره ؛ فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة . وقد قيل من شروطها : الاعتراف بالذنب وكثرة الاستغفار ، وقد تقدم في " آل عمران " كثير من معاني التوبة وأحكامها . ولا خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا ؛ ولهذا قال علماؤنا : إن السارق والسارقة والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود . وقيل : على بمعنى " من " أي إنما التوبة من الله للذين ؛ قاله أبو بكر بن عبدوس ، والله أعلم . وسيأتي في " التحريم " الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها .
الثانية : قوله تعالى : للذين يعملون السوء بجهالة السوء في هذه الآية ، و " الأنعام " . أنه من عمل منكم سوءا بجهالة الأنعام : يعم الكفر والمعاصي ؛ فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته . قال قتادة : أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة ، عمدا كانت أو جهلا ؛ وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد والسدي . وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا : الجهالة هنا العمد . وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ؛ يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله . وهذا القول جار مع قوله تعالى : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو . وقال الزجاج : يعني قوله بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل : بجهالة أي لا يعلمون كنه العقوبة ؛ ذكره ابن فورك . قال ابن عطية : وضعف قوله هذا ورد عليه .
الثالثة : قوله تعالى : ثم يتوبون من قريب قال ابن عباس والسدي : معناه قبل المرض والموت . وروي عن الضحاك أنه قال : كل ما كان قبل الموت فهو قريب . وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق ، وأن يغلب المرء على نفسه . ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال :
قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر بها غلق النفوس فإنها
ذخر وغنم للمنيب المحسن
قال علماؤنا رحمهم الله : وإنما صحت التوبة منه في هذا الوقت ؛ لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل . وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر . قال : هذا حديث حسن غريب . ومعنى ما لم يغرغر : ما لم تبلغ روحه حلقومه ؛ فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به . قاله الهروي وقيل : المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . والمبادر في الصحة أفضل ، وألحق لأمله من العمل الصالح . والبعد كل البعد الموت ؛ كما قال مالك بن الريب
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
وروى صالح المري عن الحسن قال : من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به . وقال الحسن أيضا : إن إبليس لما هبط قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده . قال الله تعالى : ( فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه ) .
إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٧١
توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي: المعاصي { بِجَهَالَةٍ } أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا. وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } الآية. وقال تعالى: { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } وقال هنا: { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي: المعاصي فيما دون الكفر. { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله: { مِنْ قَرِيبٍ } أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم.
وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨١
ولهذا قال [ تعالى ] ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) وهذا كما قال تعالى : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده [ وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ] ) الآيتين ، [ غافر : 84 ، 85 ] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [ تعالى ] ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) الآية [ الأنعام : 158 ] .
وقوله : ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) [ الآية ] يعني : أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ ذهبا ] .
قال ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : ( ولا الذين يموتون وهم كفار ) قالوا : نزلت في أهل الشرك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، قال : حدثني أبي ، عن مكحول : أن عمر بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان : أن أبا ذر حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقبل توبة عبده - أو يغفر لعبده - ما لم يقع الحجاب " . قيل : وما وقوع الحجاب ؟ قال : " أن تخرج النفس وهي مشركة " ; ولهذا قال [ تعالى ] ( أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ) أي : موجعا شديدا مقيما .
وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨١
قوله تعالى : وليست التوبة نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس ؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع ، لأنها حال زوال التكليف . وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين . وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما وهو الخلود . وإن كانت الإشارة بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه ؛ وهذا على أن السيئات ما دون الكفر ؛ أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت ، ولا لمن مات كافرا فتاب يوم القيامة . وقد قيل : إن السيئات هنا الكفر ، فيكون المعنى وليست التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت ، ولا للذين يموتون وهم كفار . وقال أبو العالية : نزل أول الآية في المؤمنين إنما التوبة على الله . والثانية في المنافقين . وليست التوبة للذين يعملون السيئات يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم . حتى إذا حضر أحدهم الموت يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت . قال إني تبت الآن فليس لهذا توبة . ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما أي وجيعا دائما . وقد تقدم .
وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّئَِّاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ٨١
{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي: المعاصي فيما دون الكفر. { حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله: { مِنْ قَرِيبٍ } أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا ٩١
قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الشيباني عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السوائي ، ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس - : ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك .
هكذا رواه البخاري وأبو داود ، والنسائي ، وابن مردويه ، وابن أبي حاتم ، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان - عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى - كلاهما عن ابن عباس بما تقدم .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي ، حدثني علي بن حسين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
تفرد به أبو داود وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك ، فقال وكيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبا ، كان أحق بها ، فنزلت : ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى عليها حميمه ثوبه ، فمنعها من الناس . فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها .
وروى العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فورث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية : فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )
وقال زيد بن أسلم في الآية [ ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) ] كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك . رواه ابن أبي حاتم .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل ، به . ثم روي من طريق ابن جريج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهله على الصبي يكون فيهم ، فنزلت : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) الآية .
قال ابن جريج : وقال مجاهد : كان الرجل إذا توفي كان ابنه أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء ، إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .
قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح ، فنزلت هذه الآية .
وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبا ، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يشب أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ، ولم يلق عليها ثوبا نجت ، فأنزل الله : [ تعالى ] ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )
وقال مجاهد في الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته ، فيتزوجها أو يزوجها ابنه . رواه ابن أبي حاتم . ثم قال : وروي عن الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي مجلز ، والضحاك ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان - نحو ذلك .
قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وما ذكره مجاهد ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ، والله أعلم .
وقوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) أي : لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك ، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ولا تعضلوهن ) يقول : ولا تقهروهن ( لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) يعني : الرجل تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي .
وكذا قال الضحاك ، وقتادة [ وغير واحد ] واختاره ابن جرير .
وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا معمر قال : أخبرني سماك بن الفضل ، عن ابن البيلماني قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام . قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) في الجاهلية ( ولا تعضلوهن ) في الإسلام .
وقوله : ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، وأبو قلابة ، وأبو صالح ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا ، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ] ) الآية [ البقرة : 229 ] .
وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : الفاحشة المبينة : النشوز والعصيان .
واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبذاء اللسان ، وغير ذلك .
يعني : أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم ، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] في قوله : ( لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
قال عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام .
قال عبد الرحمن بن زيد : كان العضل في قريش بمكة ، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها . قال : فهذا قوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) الآية .
وقال مجاهد في قوله : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) هو كالعضل في سورة البقرة .
وقوله : ( وعاشروهن بالمعروف ) أي : طيبوا أقوالكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ) [ البقرة : 228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك . قالت : سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ، وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني ، فقال : " هذه بتلك " ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) [ الأحزاب : 21 ] .
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد .
وقوله تعالى : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا [ ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ] ) أي : فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة . كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يعطف عليها ، فيرزق منها ولدا . ويكون في ذلك الولد خير كثير وفي الحديث الصحيح : " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن سخط منها خلقا رضي منها آخر " .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا ٩١
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا
فيه ثمان مسائل :
الأولى : قوله تعالى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات . والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن ؛ والخطاب للأولياء . وأن في موضع رفع ب " يحل " أي : لا يحل لكم وراثة النساء . وكرها مصدر في موضع الحال . واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها ؛ فروى البخاري عن ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك . وأخرجه أبو داود بمعناه . وقال الزهري وأبو مجلز : كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ؛ فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ؛ وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها ، فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها . فيكون المعنى : لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن . وقيل : كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها ؛ قاله السدي . وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها . فنزلت هذه الآية . وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها ؛ فذلك قوله تعالى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها . والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم ، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال . " وكرها " بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي ، الباقون بالفتح ، وهما لغتان . وقال القتبي : الكره ( بالفتح ) بمعنى الإكراه ، والكره ( بالضم ) المشقة . يقال : لتفعل ذلك طوعا أو كرها ، يعني طائعا أو مكرها . والخطاب للأولياء . وقيل : لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها ، أو يفتدين ببعض مهورهن ، وهذا أصح . واختاره ابن عطية قال : ودليل ذلك قوله تعالى : إلا أن يأتين بفاحشة وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج ، على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا .
الثانية : قوله تعالى : ولا تعضلوهن قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في " البقرة " .
إلا أن يأتين بفاحشة اختلف الناس في معنى الفاحشة ؛ فقال الحسن : هو الزنا ، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة ، وترد إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة ؛ إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن . وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا ، قال الله تعالى : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة : الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز ، قالوا : فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ؛ وهذا هو مذهب مالك . قال ابن عطية : إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية . وقال قوم : الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا ؛ وهذا في معنى النشوز . ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع ؛ إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى : لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك . قال ابن عطية : والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى ، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال .
قال أبو عمر : قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء ؛ لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى ؛ ومنه قيل للبذيء : فاحش ومتفحش ، وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها ، وإن شاء طلقها ؛ وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك ، ولا أعلم أحدا قال : له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة . والله أعلم .
وقال الله عز وجل : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقال الله عز وجل : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فهذه الآيات أصل هذا الباب .
وقول رابع إلا أن يأتين بفاحشة مبينة إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت ، فيكون هذا قبل النسخ ، وهذا في معنى قول عطاء ، وهو ضعيف .
الثالثة : وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها . إلا الأب في بناته ؛ فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض ، قولا واحدا ، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك : أنه كسائر الأولياء ، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه . والقول الآخر - لا يعرض له :
الرابعة : يجوز أن يكون تعضلوهن جزما على النهي ، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى ، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على أن ترثوا فتكون الواو مشتركة عطفت فعلا على فعل . وقرأ ابن مسعود ولا أن تعضلوهن فهذه القراءة تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يجوز بالنص .
الخامسة : قوله تعالى : " مبينة " بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو ، والباقون بفتح الياء . وقرأ ابن عباس " مبينة " بكسر الباء وسكون الياء ، من أبان الشيء ، يقال : أبان الأمر بنفسه ، وأبنته وبين وبينته ، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة .
السادسة : قوله تعالى : وعاشروهن بالمعروف أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة . والخطاب للجميع ، إذ لكل أحد عشرة ، زوجا كان أو وليا ؛ ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج ، وهو مثل قوله تعالى : فإمساك بمعروف وذلك توفية حقها من المهر والنفقة ، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب ، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها . والعشرة : المخالطة والممازجة . ومنه قول طرفة :
فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر
. جعل الحبيب جمعا كالخليط والغريق . وعاشره معاشرة ، وتعاشر القوم واعتشروا . فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال ، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش . وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء . وقال بعضهم : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له . قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي : أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ، فقلت : ما هذا ؟ قال : إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب ، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن . وقال ابن عباس رضي الله عنه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي . وهذا داخل فيما ذكرناه . قال ابن عطية : وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم : فاستمتع بها وفيها عوج أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها ؛ فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق ، وهو سبب الخلع .
السابعة : استدل علماؤنا بقوله تعالى : وعاشروهن بالمعروف على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها ، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد ، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها ، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها ؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد ؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد . قال علماؤنا : وهذا غلط ؛ لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد ؛ لأنها تحتاج من غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد ، وهذا بين . والله أعلم .
الثامنة : قوله تعالى : فإن كرهتموهن أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز ؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال ، فعسى أن يئول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين . وأن رفع ب عسى وأن والفعل مصدر .
قلت : ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر أو قال غيره . المعنى : أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها . أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب . وقال مكحول : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له ، فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له . وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية ، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال : كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة . وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها ؛ فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها ، فكان يقول : أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني ، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها . قال علماؤنا : في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا ٩١
كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت. فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله: { كَرْهًا } وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل. ثم قال: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال. { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } أي: ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة. وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور. فإن كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم.
وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٠٢
وقوله : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) أي : إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها ، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئا ، ولو كان قنطارا من مال .
وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا .
وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل ، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت عن أبي العجفاء السلمي قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت إليك علق القربة ، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي العجفاء - واسمه هرم بن مسيب البصري - وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
طريق أخرى عن عمر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن ، عن المجالد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صدق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك . ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها . فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين ، نهيت الناس أن يزيدوا النساء صداقهم على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم . فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا [ فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ] ) [ النساء : 20 ] قال : فقال : اللهم غفرا ، كل الناس أفقه من عمر . ثم رجع فركب المنبر فقال : إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل . إسناده جيد قوي .
طريق أخرى : قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور النساء . فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله تعالى يقول : " وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب " . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : " فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا " فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته .
طريق أخرى : عن عمر فيها انقطاع : قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال . فقالت امرأة - من صفة النساء طويلة ، في أنفها فطس - : ما ذاك لك . قال : ولم ؟ قالت : لأن الله [ تعالى ] قال : ( وآتيتم إحداهن قنطارا ) الآية . فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ .
وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٠٢
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا
فيه مسائل :
الأولى : لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج ، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا .
الثانية : واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة ؛ فقال مالك رضي الله عنه : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو . وقال جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك .
الثالثة : قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا الآية فيها دليل على جواز المغالاة في المهور ؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح . وخطب عمر رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ؟ فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . وفي رواية فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ! . وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . وترك الإنكار . أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال : خطب عمر الناس ، فذكره إلى قوله : اثنتي عشرة أوقية ، ولم يذكر : فقامت إليه امرأة . إلى آخره . وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي العجفاء ، وزاد بعد قوله : أوقية . وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه ، ويقول : قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة ؛ وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة . قال الجوهري : وعلق القربة لغة في عرق القربة . قال غيره : ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به . يقول كلفت إليك حتى عصام القربة . وعرق القربة ماؤها ؛ يقول : جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة ، وهو ماؤها في السفر . ويقال : بل عرق القربة أن يقول : نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة ، وهو سيلانها . وقيل : إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر ؛ ففسر به اللفظان : العرق والعلق . وقال الأصمعي : عرق القربة كلمة معناها الشدة . قال : ولا أدري ما أصلها . قال الأصمعي : وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول : سمعت شيخاننا يقولون : لقيت من فلان عرق القربة ، يعنون الشدة . وأنشدني لابن الأحمر :
ليست بمشتمة تعد وعفوها عرق السقاء على القعود اللاغب
قال أبو عبيد : أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤخذ صاحبها بها ، وقد أبلغت إليه كعرق القربة ، فقال : كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر ؛ ثم قال : على القعود اللاغب ، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم . وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه ؛ زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه ؛ فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر . وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام . وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور ؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ؛ كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد . وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة . ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره ، فسأله عنه فقال : مائتين ؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل .
فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور ؛ وهذا لا يلزم ، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور ، وإنما الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال ، وهذا مكروه باتفاق . وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال : نعم . وقال للمرأة : أترضين أن أزوجك فلانا ؟ قالت : نعم . فزوج أحدهما من صاحبه ؛ فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا ، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ؛ فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا ، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر ؛ فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف . وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق ؛ لقوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا واختلفوا في أقله ، وسيأتي عند قوله تعالى : أن تبتغوا بأموالكم . ومضى القول في تحديد القنطار في " آل عمران " . وقرأ ابن محيصن " وآتيتم إحداهن " بوصل ألف إحداهن وهي لغة ؛ ومنه قول الشاعر :
وتسمع من تحت العجاج لها ازملا
وقول الآخر :
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
الرابعة : قوله تعالى : فلا تأخذوا منه شيئا قال بكر بن عبد الله المزني : لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا ؛ لقول الله تعالى : فلا تأخذوا ، وجعلها ناسخة لآية " البقرة " .
وقال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض . قال الطبري : هي محكمة ، ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء ؛ فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها .
بهتانا : مصدر في موضع الحال ، وإثما : معطوف عليه ، مبينا : من نعته .
وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيًۡٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٠٢
بل متى { أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } أي: تطليقَ زوجة وتزوجَ أخرى. أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج. ولكن إذا { آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ } أي: المفارقة أو التي تزوجها { قِنْطَارًا } أي: مالا كثيرا. { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } بل وفروه لهن ولا تمطلوا بهن. وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر. ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه [لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم] ثم قال: { أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فإن هذا لا يحل ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل، فإن إثمه واضح.
وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ١٢
ولهذا قال [ الله ] منكرا : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) أي : وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد : يعني بذلك الجماع .
وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم أن أحدكما كاذب . فهل منكما تائب " ثلاثا . فقال الرجل : يا رسول الله ، مالي - يعني : ما أصدقها - قال : " لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها .
وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها ، فإذا هي حامل من الزنا ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقضى لها بالصداق وفرق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : " الولد عبد لك " .
فالصداق في مقابلة البضع ، ولهذا قال تعالى : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض )
وقوله : ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير : أن المراد بذلك العقد .
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : ( وأخذن منكم ميثاقا [ غليظا ] ) قال : قوله : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والحسن ، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير ، والضحاك والسدي - نحو ذلك .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس في الآية هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فإن " كلمة الله " هي التشهد في الخطبة . قال : وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به قال له : جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي . رواه ابن أبي حاتم .
وفي صحيح مسلم ، عن جابر في خطبة حجة الوداع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها : " واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " .
وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ١٢
قوله تعالى : وكيف تأخذونه الآية تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة . وقال بعضهم : الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع ؛ حكاه الهروي وهو قول الكلبي . وقال الفراء : الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها . وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع . قال ابن عباس : ولكن الله كريم يكني .
وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة ؛ ويقال للشيء المختلط : فضا . قال الشاعر :
فقلت لها يا عمتي لك ناقتي وتمر فضا في عيبتي وزبيب
ويقال : القوم فوضى فضا ، أي مختلطون لا أمير عليهم . وعلى أن معنى أفضى خلا وإن لم يكن جامع ، هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا ؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال : يستقر بمجرد الخلوة . لا يستقر إلا بالوطء . يستقر بالخلوة في بيت الإهداء . التفرقة بين بيته وبيتها . والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، قالوا : إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها ؛ لما رواه الدارقطني عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق . وقال عمر : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة ولها الميراث . وعن علي : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق . وقال مالك : إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها ، واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان لها . قال الشافعي : لا عدة عليها ولها نصف المهر . وقد مضى في " البقرة " .
السادسة : قوله تعالى : وأخذن منكم ميثاقا غليظا فيه ثلاثة أقوال . قيل : هو قوله عليه السلام : فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله . قاله عكرمة والربيع .
الثاني : قوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي .
الثالث : عقدة النكاح قول الرجل : نكحت وملكت عقدة النكاح ؛ قاله مجاهد وابن زيد . وقال قوم : الميثاق الغليظ الولد . والله أعلم .
وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ١٢
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } وبيان ذلك: أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها، فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك، والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض. فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد، والقيام بحقوقها.
وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا ٢٢
وقوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ] ) يحرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعظاما واحتراما أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سوار ، عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قيس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته ، فقالت : إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا قيس توفي . فقال : " خيرا " . ثم قالت : إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه . وإنما كنت أعده ولدا ، فما ترى ؟ فقال لها : " ارجعي إلى بيتك " . قال : فنزلت هذه الآية ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء [ إلا ما قد سلف ] ) الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا ، حسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة في قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) [ الآية ] قال : نزلت في أبي قيس بن الأسلت ، خلف على أم عبيد الله بنت صخر وكانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خلف ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خلف ، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، كانت عند أمية بن خلف ، فخلف عليها صفوان بن أمية .
وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية; ولهذا قال : ( إلا ما قد سلف ) كما قال ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) قال : وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه ، فأولدها ابنه النضر بن كنانة قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ولدت من نكاح لا من سفاح " . قال : فدل على أنه كان سائغا لهم ذلك ، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحا فيما بينهم ، فقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي حدثنا قراد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) ( وأن تجمعوا بين الأختين ) وهكذا قال عطاء وقتادة . ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، والله أعلم . على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة ، مبشع غاية التبشع ولهذا قال : ( إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) ولهذا قال [ تعالى ] ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) [ الأنعام : 151 ] وقال ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) [ الإسراء : 32 ] فزاد هاهنا : ( ومقتا ) أي : بغضا ، أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله; ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة; لأنهن أمهات ، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب [ للأمة ] بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه .
وقال عطاء بن أبي رباح في قوله : ( ومقتا ) أي : يمقت الله عليه ( وساء سبيلا ) أي : وبئس طريقا لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ، ويصير ماله فيئا لبيت المال . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي بردة - وفي رواية : ابن عمر - وفي رواية : عن عمه : أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا أشعث ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : مر بي عمي الحارث بن عمرو ، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم ، أين بعثك النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه .
مسألة :
وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضا ، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع ، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية . فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك . قد روى [ الحافظ ] ابن عساكر في ترجمة خديج الحصني مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب . فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية . ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة ، فرأيت منها ذاك وذاك ، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد . فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنها لا تصلح له . ثم قال : نعم ما رأيت . ثم قال : ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فدعوته ، وكان آدم شديد الأدمة ، فقال : دونك هذه ، بيض بها ولدك . قال : و [ قد ] كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي [ بن أبي طالب ] رضي الله عنه .
وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا ٢٢
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء يقال : كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها حتى نزلت هذه الآية : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم فصار حراما في الأحوال كلها ؛ لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج ، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه ؛ على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
الثانية : قوله تعالى : ما نكح قيل : المراد بها النساء . وقيل : العقد ، أي نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله ؛ إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه . وهو اختيار الطبري . ف من متعلقة ب تنكحوا و " ما نكح " مصدر . قال : ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع ما " من " . فالنهي على هذا إنما وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد . والأول أصح ، وتكون ما بمعنى " الذي " و " من " . والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى ؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء . وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه ، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي . ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ؛ فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما . ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكان أمية قتل عنها . ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة ، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار . ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن . والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه . وقال الأشعث بن سوار : توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني أعدك ولدا ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية . وقد كان في العرب من تزوج ابنته ، وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة ؛ ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب . فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة .
الثالثة : قوله تعالى : إلا ما قد سلف أي تقدم ومضى . والسلف ؛ من تقدم من آبائك وذوي قرابتك . وهذا استثناء منقطع ، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه . وقيل : إلا بمعنى بعد ، أي بعد ما سلف ؛ كما قال تعالى : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي بعد الموتة الأولى . وقيل : إلا ما قد سلف أي ولا ما سلف ؛ كقوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ يعني ولا خطأ . وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، معناه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف . وقيل : في الآية إضمار لقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف .
الرابعة : قوله تعالى : إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا عقب بالذم البالغ المتتابع ، وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية . قال أبو العباس : سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها ؛ ويقال لهذا الرجل : الضيزن . وقال ابن عرفة : كانت العرب إذا تزوج الرجل امرأة أبيه فأولدها قيل للولد : المقتي . وأصل المقت البغض ؛ من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت . فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه : مقيت ؛ فسمى تعالى هذا النكاح مقتا إذ هو ذا مقت يلحق فاعله . وقيل : المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء ، إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن . وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى ؛ قال ابن زيد : وعليه فيكون الاستثناء متصلا ، ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على ما يأتي بيانه . والله أعلم .
وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةٗ وَمَقۡتٗا وَسَآءَ سَبِيلًا ٢٢
أي: لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي: الأب وإن علا. { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي: أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه { وَمَقْتًا } من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه، مع الأمر ببره. { وَسَاءَ سَبِيلًا } أي: بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها.
حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٣٢
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب ، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : حرمت عليكم سبع نسبا ، وسبع صهرا ، وقرأ : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) الآية .
وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ) فهن النسب .
وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى : ( وبناتكم ) ; فإنها بنت فتدخل في العموم ، كما هو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد بن حنبل . وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها; لأنها ليست بنتا شرعية ، فكما لم تدخل في قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) فإنها لا ترث بالإجماع ، فكذلك لا تدخل في هذه الآية . والله أعلم .
وقوله : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) أي كما تحرم عليك أمك التي ولدتك ، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك; ولهذا روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن أنس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " ، وفي لفظ لمسلم : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " .
وقد قال بعض الفقهاء : كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور . وقال بعضهم : ست صور ، هي مذكورة في كتب الفروع . والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك; لأنه يوجد مثل بعضها في النسب ، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر ، فلا يرد على الحديث شيء أصلا البتة ، ولله الحمد .
ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة ، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية . وهذا قول مالك ، ويحكى عن ابن عمر ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، والزهري .
وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم ، من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحرم المصة والمصتان " .
وقال قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم الفضل قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ، والمصة ولا المصتان " ، وفي لفظ آخر : " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان " رواه مسلم .
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق ابن راهويه ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . ويحكى عن علي ، وعائشة ، وأم الفضل ، وابن الزبير ، وسليمان بن يسار ، وسعيد بن جبير ، رحمهم الله .
وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات ، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان فيما أنزل [ الله ] من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن . ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة نحو ذلك .
وفي حديث سهلة بنت سهيل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع مولى أبي حذيفة خمس رضعات وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات . وبهذا قال الشافعي ، رحمه الله [ تعالى ] وأصحابه . ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور . وكما قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة ، عند قوله : ( يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) [ الآية : 233 ] .
واختلفوا : هل يحرم لبن الفحل ، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم ؟ وإنما يختص الرضاع بالأم فقط ، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف ؟ على قولين ، تحرير هذا كله في كتاب " الأحكام الكبير " .
وقوله : ( وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل . وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل بها ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ، ولهذا قال : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) [ أي ] في تزويجهن ، فهذا خاص بالربائب وحدهن .
وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات [ و ] الربائب فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها; لقوله : ( فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم )
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي ، رضي الله عنه ، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها .
وفي رواية عن قتادة ، عن سعيد ، عن زيد بن ثابت ; أنه كان يقول : إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل .
وقال ابن المنذر : حدثنا إسحاق ، عن
عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن حفص ، عن مسلم بن عويمر الأجدع أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال : فلم أجامعها حتى توفي عمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال : فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر فقال : انكح أمها . قال : فسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها . فأخبرت أبي ما قال ابن عباس وما قال ابن عمر ، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عمر وابن عباس فكتب معاوية : إني لا أحل ما حرم الله ، ولا أحرم ما أحل [ الله ] وأنت وذاك والنساء سواها كثير . فلم ينه ولم يأذن لي ، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن سماك بن الفضل ، عن رجل ، عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء ، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة . وفي إسناده رجل مبهم لم يسم .
وقال ابن جريج أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدا قال له : ( وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم ) أراد بهما الدخول جميعا فهذا القول مروي كما ترى عن علي ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، ومجاهد ، وابن جبير وابن عباس ، وقد توقف فيه معاوية ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني ، فيما نقله الرافعي عن العبادي . [ وقد خالفه جمهور العلماء من السلف والخلف ، فرأوا أن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على الأم ، وأنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم ، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على الربيبة ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عزرة حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها ، أنه قال : إنها مبهمة ، فكرهها .
ثم قال : وروي عن ابن مسعود ، وعمران بن حصين ، ومسروق ، وطاوس ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، ومكحول ، وابن سيرين ، وقتادة ، والزهري نحو ذلك . وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وجمهور الفقهاء قديما وحديثا ، ولله الحمد والمنة .
قال ابن جرير : والصواب ، أعني قول من قال : " الأم من المبهمات " ; لأن الله لم يشرط معهن الدخول كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه . وقد روي بذلك أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ، غير أن في إسناده نظرا ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الابنة .
ثم قال : وهذا الخبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
وأما قوله : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) فجمهور الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره ، قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له كقوله تعالى : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) [ النور : 33 ]
وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله ، انكح أختي بنت أبي سفيان - وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان - قال : " أو تحبين ذلك ؟ " قالت : نعم ، لست لك بمخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي . قال : " فإن ذلك لا يحل لي " . قالت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة . قال بنت أم سلمة ؟ " قالت نعم . قال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لبنت أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن " . وفي رواية للبخاري : " إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي " .
فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك ، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف . وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل ، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف - عن ابن جريج ، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت ، وقد ولدت لي ، فوجدت عليها ، فلقيني علي بن أبي طالب فقال : مالك ؟ فقلت : توفيت المرأة . فقال علي : لها ابنة ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف . قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي بالطائف قال : فانكحها . قلت : فأين قول الله [ عز وجل ] ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) قال : إنها لم تكن في حجرك ، إنما ذلك إذا كانت في حجرك .
هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب ، على شرط مسلم ، وهو قول غريب جدا ، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه . وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك ، رحمه الله ، واختاره ابن حزم ، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية ، رحمه الله ، فاستشكله ، وتوقف في ذلك ، والله أعلم .
وقال ابن المنذر : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الأثرم ، عن أبي عبيدة قوله : ( اللاتي في حجوركم ) قال : في بيوتكم .
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس ، عن ابن شهاب : أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر : ما أحب أن أخبرهما جميعا . يريد أن أطأهما جميعا بملك يميني . وهذا منقطع .
وقال سنيد بن داود في تفسيره : حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له ؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، رحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين ، لأن الله حرم ذلك في النكاح ، قال : ( وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ) وملك اليمين هم تبع للنكاح ، إلا ما روي عن عمر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم . وروى هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة . وكذا قال قتادة عن أبي العالية .
ومعنى قوله تعالى : ( اللاتي دخلتم بهن ) أي : نكحتموهن . قاله ابن عباس وغير واحد .
وقال ابن جريج عن عطاء : هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها . قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها . قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها .
وقال ابن جرير : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النظر إلى فرجها بشهوة ، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع .
وقوله : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) أي : وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم ، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية ، كما قال تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [ إذا قضوا منهن وطرا ] ) الآية [ الأحزاب : 37 ] .
وقال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) قال : كنا نحدث ، والله أعلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد ، قال المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل الله [ عز وجل ] ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) ونزلت : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) [ الأحزاب : 4 ] . ونزلت : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) [ الأحزاب : 40 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا الجرح بن الحارث ، عن الأشعث ، عن الحسن بن محمد أن هؤلاء الآيات مبهمات : ( وحلائل أبنائكم ) ( أمهات نسائكم ) ثم قال : وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك .
قلت : معنى مبهمات : أي عامة في المدخول بها وغير المدخول ، فتحرم بمجرد العقد عليها ، وهذا متفق عليه . فإن قيل : فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة ، كما هو قول الجمهور ، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه ؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " .
وقوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف [ إن الله كان غفورا رحيما ] ) أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج ، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه . فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف ، كما قال : ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) [ الدخان : 56 ] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا . وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ، ومن أسلم وتحته أختان خير ، فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما .
ثم رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث ابن لهيعة . وأخرجه أبو داود والترمذي أيضا من حديث يزيد بن أبي حبيب ، كلاهما عن أبي وهب الجيشاني . قال الترمذي : واسمه ديلم بن الهوشع ، عن الضحاك بن فيروز الديلمي ، عن أبيه ، به وفي لفظ للترمذي : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اختر أيتهما شئت " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن .
وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعيني قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية ، فقال : " إذا رجعت فطلق إحداهما " .
قلت : فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ، ويحتمل أن يكون غيره ، فيكون أبو وهب قد رواه عن اثنين ، عن فيروز الديلمي ، والله أعلم .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني حدثنا هيثم بن خارجة ، حدثنا يحيى بن إسحاق ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن رزيق بن حكيم ، عن كثير بن مرة ، عن الديلمي قال : قلت : يا رسول الله ، إن تحتي أختين ؟ قال : " طلق أيهما شئت " .
فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي [ رضي الله عنه ] قال أبو زرعة الدمشقي : كان يصحب عبد الملك بن مروان ، والثاني هو أبو فيروز الديلمي ، رضي الله عنه ، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي المتنبئ لعنه الله .
وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة عن ابن مسعود : أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين ، فكرهه ، فقال له - يعني السائل - : يقول الله عز وجل : ( إلا ما ملكت أيمانكم ) فقال له ابن مسعود : وبعيرك مما ملكت يمينك .
وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك . قال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب : أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ، فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا . قال مالك : قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب : قال : وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري ، رحمه الله ، في كتابه " الاستذكار " : إنما كنى قبيصة بن ذؤيب عن علي بن أبي طالب ، لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه .
ثم قال أبو عمر ، رحمه الله : حدثني خلف بن أحمد ، رحمه الله ، قراءة عليه : أن خلف بن مطرف حدثهم : حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمي إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني ، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادا ، ثم رغبت في الأخرى ، فما أصنع ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى . قلت : فإن ناسا يقولون : بل تزوجها ثم تطأ الأخرى . فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك . ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد - أو قال : إلا الأربع - ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب .
ثم قال أبو عمر : هذا الحديث رحلة لو لم يصب الرجل من أقصى المشرق أو المغرب إلى مكة غيره لما خابت رحلته .
قلت : وقد روي عن علي نحو ما تقدم عن عثمان ، وقال أبو بكر بن مردويه :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي حدثنا عبد الرحمن بن غزوان ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال لي علي بن أبي طالب : حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين - قال ابن عباس : يحرمهن علي قرابتي منهن ، ولا يحرمهن على قرابة بعضهن من بعض - يعني الإماء - وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فلما جاء الإسلام أنزل الله [ عز وجل ] ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) يعني : في النكاح .
ثم قال أبو عمر : روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن سلمة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد . وعن ابن سيرين والشعبي مثل ذلك .
قال أبو عمر ، رحمه الله : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف ، منهم : ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب ، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحل ذلك في النكاح . وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله [ تعالى ] ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم [ وعماتكم وخالاتكم ] ) إلى آخر الآية : أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، فكذلك يجب أن يكون نظرا وقياسا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب . وكذلك هو عند جمهورهم ، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها ، والله المحمود .
حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٣٢
قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما
فيه إحدى وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم أي نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم ؛ فذكر الله تعالى في هذه الآية ما يحل من النساء وما يحرم ، كما ذكر تحريم حليلة الأب . فحرم الله سبعا من النسب وستا من رضاع وصهر ، وألحقت السنة المتواترة سابعة ؛ وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ، ونص عليه الإجماع . وثبتت الرواية عن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، وتلا هذه الآية . وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار مثل ذلك ، وقال : السابعة قوله تعالى : والمحصنات . فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات ، وبنات الأخ وبنات الأخت . والسبع المحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين ، والسابعة ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم . قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهن بإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن ؛ فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم ؛ وبهذا قول جميع أئمة الفتوى بالأمصار . وقالت طائفة من السلف : الأم والربيبة سواء ، لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى .
قالوا : ومعنى قوله : وأمهات نسائكم أي اللاتي دخلتم بهن . وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . وزعموا أن شرط الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا ؛ رواه خلاس عن علي بن أبي طالب . وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت ، وهو قول ابن الزبير ومجاهد . قال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ؛ وقول الجمهور مخالف لهذا وعليه الحكم والفتيا ، وقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا : لو وطئها بزنى أو قبلها أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها . وعندنا وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح ؛ والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي . وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة ، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة . قال ابن جريج : قلت لعطاء الرجل ينكح المرأة ثم لا يراها ولا يجامعها حتى يطلقها أوتحل له أمها ؟ قال : لا ، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل . فقلت له : أكان ابن عباس يقرأ : وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن ؟ قال : لا ، لا . وروى سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : وأمهات نسائكم قال : هي مبهمة لا تحل بالعقد على الابنة ؛ وكذلك روى مالك في موطئه عن زيد بن ثابت ، وفيه : " فقال زيد لا ، الأم مبهمة ليس فيها شرط وإنما الشرط في الربائب " . قال ابن المنذر : وهذا هو الصحيح ؛ لدخول جميع أمهات النساء في قوله تعالى : وأمهات نسائكم . ويؤيد هذا القول من جهة الإعراب أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا ؛ فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات ، على أن تكون " الظريفات " نعتا لنسائك ونساء زيد ؛ فكذلك الآية لا يجوز أن يكون اللاتي من نعتهما جميعا ؛ لأن الخبرين مختلفان ، ولكنه يجوز على معنى أعني . وأنشد الخليل وسيبويه :
إن بها أكتل أو رزاما خويربين ينقفان الهاما
خويربين يعني لصين ، بمعنى أعني . وينقفان : يكسران ؛ نقفت رأسه كسرته . وقد جاء صريحا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت أخرجه في الصحيحين
الثانية : وإذا تقرر هذا وثبت فاعلم أن التحريم ليس صفة للأعيان ، والأعيان ليست موردا للتحليل والتحريم ولا مصدرا ، وإنما يتعلق التكليف بالأمر والنهي بأفعال المكلفين من حركة وسكون ؛ لكن الأعيان لما كانت موردا للأفعال أضيف الأمر والنهي والحكم إليها وعلق بها مجازا على معنى الكناية بالمحل عن الفعل الذي يحل به .
الثالثة : قوله تعالى : أمهاتكم تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ؛ ولهذا يسميه أهل العلم المبهم ، أي لا باب فيه ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ؛ وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات . والأمهات جمع أمهة ؛ يقال : أم وأمهة بمعنى واحد ، وجاء القرآن بهما . وقد تقدم في الفاتحة بيانه . وقيل : إن أصل أم أمهة على وزن فعلة مثل قبرة وحمرة لطيرين ، فسقطت وعادت في الجمع . قال الشاعر :
أمهتي خندف والدوس أبي
وقيل : أصل الأم أمة ، وأنشدوا :
تقبلتها عن أمة لك طالما تثوب إليها في النوائب أجمعا
ويكون جمعها أمات . قال الراعي :
كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا
فالأم اسم لكل أنثى لها عليك ولادة ؛ فيدخل في ذلك الأم دنية ، وأمهاتها وجداتها وأم الأب وجداته وإن علون . والبنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة ، وإن شئت قلت : كل أنثى يرجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات ؛ فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها وبنات الأبناء وإن نزلن . والأخت اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما والبنات جمع بنت ، والأصل بنية ، والمستعمل ابنة وبنت . قال الفراء : كسرت الباء من بنت لتدل الكسرة على الياء ، وضمت الألف من أخت لتدل على حذف الواو ، فإن أصل أخت أخوة ، والجمع أخوات . والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو في أحدهما . وإن شئت قلت : كل ذكر رجع نسبه إليك فأخته عمتك . وقد تكون العمة من جهة الأم ، وهي أخت أب أمك . والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما . وإن شئت قلت : كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك . وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك . وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة ؛ وكذلك بنت الأخت . فهذه السبع المحرمات من النسب . وقرأ نافع - في رواية أبي بكر بن أبي أويس - بتشديد الخاء من الأخ إذا كانت فيه الألف واللام مع نقل الحركة .
الرابعة : قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وهي في التحريم مثل من ذكرنا ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب . وقرأ عبد الله " وأمهاتكم اللائي " بغير تاء ؛ كقوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض قال الشاعر :
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا
" أرضعنكم " : فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه ، وبنتها لأنها أخته ، وأختها لأنها خالته ، وأمها لأنها جدته ، وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته ، وأخته لأنها عمته ، وأمه لأنها جدته ، وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته .
الخامسة : قال أبو نعيم عبيد الله بن هشام الحلبي : سئل مالك عن المرأة أيحج معها أخوها من الرضاعة ؟ قال : نعم . قال أبو نعيم : وسئل مالك عن امرأة تزوجت فدخل بها زوجها . ثم جاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما ؛ قال : يفرق بينهما ، وما أخذت من شيء له فهو لها ، وما بقي عليه فلا شيء عليه . ثم قال مالك : إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل هذا فأمر بذلك ؛ فقالوا : يا رسول الله ، إنها امرأة ضعيفة ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أليس يقال إن فلانا تزوج أخته ؟
السادسة : التحريم بالرضاع إنما يحصل إذا اتفق الإرضاع في الحولين ؛ كما تقدم في " البقرة " . ولا فرق بين قليل الرضاع وكثيره عندنا إذا وصل إلى الأمعاء ولو مصة واحدة . واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين : أحدهما خمس رضعات ؛ لحديث عائشة قالت : كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن . موضع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس ، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس . ولا يقبل على هذا خبر واحد ولا قياس ؛ لأنه لا ينسخ بهما . وفي حديث سهلة أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن . الشرط الثاني : أن يكون في الحولين ، فإن كان خارجا عنهما لم يحرم ؛ لقوله تعالى : حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وليس بعد التمام والكمال شيء . واعتبر أبو حنيفة بعد الحولين ستة أشهر . ومالك الشهر ونحوه . وقال زفر : ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين . وقال الأوزاعي : إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع . وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم ؛ وهو قول عائشة رضي الله عنها ؛ وروي عن أبي موسى الأشعري ، وروي عنه ما يدل على رجوعه عن ذلك ، وهو ما رواه أبو حصين عن أبي عطية قال : قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت وتورم ثديها ، فجعل يمصه ويمجه فدخل في بطنه جرعة منه ؛ فسأل أبا موسى فقال : بانت منك ، وائت ابن مسعود فأخبره ، ففعل ؛ فأقبل بالأعرابي إلى أبي موسى الأشعري وقال : أرضيعا ترى هذا الأشمط ! إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم . فقال الأشعري : لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم . فقوله : " لا تسألوني " يدل على أنه رجع عن ذلك . واحتجت عائشة بقصة سالم مولى أبي حذيفة وأنه كان رجلا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل : أرضعيه خرجه الموطأ وغيره . وشذت طائفة فاعتبرت عشر رضعات ؛ تمسكا بأنه كان فيما أنزل : عشر رضعات . وكأنهم لم يبلغهم الناسخ . وقال داود : لا يحرم إلا بثلاث رضعات ؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الإملاجة والإملاجتان . خرجه مسلم . وهو مروي عن عائشة وابن الزبير ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ، وهو تمسك بدليل الخطاب ، وهو مختلف فيه . وذهب من عدا هؤلاء من أئمة الفتوى إلى أن الرضعة الواحدة تحرم إذا تحققت كما ذكرنا ؛ متمسكين بأقل ما ينطلق عليه اسم الرضاع . وعضد هذا بما وجد من العمل عليه بالمدينة وبالقياس على الصهر ؛ بعلة أنه معنى طارئ يقتضي تأبيد التحريم فلا يشترط فيه العدد كالصهر . وقال الليث بن سعد : وأجمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم . قال أبو عمر . لم يقف الليث على الخلاف في ذلك .
قلت : وأنص ما في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : لا تحرم المصة ولا المصتان أخرجه مسلم في صحيحه . وهو يفسر معنى قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم أي أرضعنكم ثلاث رضعات فأكثر ؛ غير أنه يمكن أن يحمل على ما إذا لم يتحقق وصوله إلى جوف الرضيع ؛ لقوله : " عشر رضعات معلومات . وخمس رضعات معلومات " . فوصفها بالمعلومات إنما هو تحرز مما يتوهم أو يشك في وصوله إلى الجوف . ويفيد دليل خطابه أن الرضعات إذا كانت غير معلومات لم تحرم . والله أعلم . وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت ؛ لأنه مرة يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرة يرويه عن عائشة ، ومرة يرويه عن أبيه ؛ ومثل هذا الاضطراب يسقطه . وروي عن عائشة أنه لا يحرم إلا سبع رضعات . وروي عنها أنها أمرت أختها " أم كلثوم " أن ترضع سالم بن عبد الله عشر رضعات . وروي عن حفصة مثله ، وروي عنها ثلاث ، وروي عنها خمس ؛ كما قال الشافعي رضي الله عنه ، وحكي عن إسحاق .
السابعة : قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم استدل به من نفى لبن الفحل ، وهو سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقالوا : لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل . وقال الجمهور : قوله تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم يدل على أن الفحل أب ؛ لأن اللبن منسوب إليه فإنه در بسبب ولده . وهذا ضعيف ؛ فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا ، واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل ، وما كان من الرجل إلا وطء هو سبب لنزول الماء منه ، وإذا فصل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما ؛ ولذلك لم يكن للرجل حق في اللبن ، وإنما اللبن لها ، فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب يقتضي التحريم من الرضاع ، ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها . نعم ، الأصل فيه حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها ، وهو عمها من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب . قالت : فأبيت أن آذن له ؛ فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال : ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك . وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ؛ وهذا أيضا خبر واحد . ويحتمل أن يكون " أفلح " مع أبي بكر رضيعي لبان فلذلك قال : ليلج عليك فإنه عمك . وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله ، ولكن العمل عليه ، والاحتياط في التحريم أولى ، مع أن قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم يقوي قول المخالف .
الثامنة : قوله تعالى : وأخواتكم من الرضاعة وهي الأخت لأب وأم ، وهي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك ؛ سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك . والأخت من الأب دون الأم ، وهي التي أرضعتها زوجة أبيك . والأخت من الأم دون الأب ، وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر . ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال تعالى : وأمهات نسائكم والصهر أربع : أم المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن . فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها على ما تقدم
التاسعة : قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن هذا مستقل بنفسه . ولا يرجع قوله : من نسائكم اللاتي دخلتم بهن إلى الفريق الأول ، بل هو راجع إلى الربائب ، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم . والربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة ، فعيلة بمعنى مفعولة . واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره . وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها ؛ فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها ؛ واحتجوا بالآية فقالوا : حرم الله تعالى الربيبة بشرطين : أحدهما : أن تكون في حجر المتزوج بأمها . والثاني : الدخول بالأم ؛ فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم . واحتجوا بقوله عليه السلام : لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة فشرط الحجر . ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك . قال ابن المنذر والطحاوي : أما الحديث عن علي فلا يثبت ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي ، وإبراهيم هذا لا يعرف ، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف . قال أبو عبيد : ويدفعه قوله : فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن فعم . ولم يقل : اللائي في حجري ، ولكنه سوى بينهن في التحريم . قال الطحاوي : وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب ؛ لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك .
العاشرة : قوله تعالى : فإن لم تكونوا دخلتم بهن يعني بالأمهات . فلا جناح عليكم يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم . وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها . واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب ؛ فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع ؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما . واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن ، وهو أحد قولي الشافعي . واختلفوا في النظر ؛ فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها . وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة . وقال الثوري : يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها ؛ ولم يذكر الشهوة . وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ؛ وهو قول الشافعي . والدليل على أن بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح ؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ . وقد يحتمل أن يقال : إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع ؛ فإن النظر اجتماع ولقاء ، وفيه بين المحبين استمتاع ؛ وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا :
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدان
نعم ، وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني
فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة .
الحادية عشرة : قوله تعالى : وحلائل أبنائكم الحلائل جمع حليلة ، وهي الزوجة . سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل ؛ . فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال ؛ فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه .
الثانية عشرة : أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء ، كان مع العقد وطء أو لم يكن ؛ لقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وقوله تعالى : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ؛ فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح ؛ لأن النكاح الفاسد لا يخلو : إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه . فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه . وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح ؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ . والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم . والله أعلم . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده . وأجمع العلماء وهي المسألة :
الثالثة عشرة : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه ؛ فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه ، لا أعلمهم يختلفون فيه ؛ فوجب تحريم ذلك تسليما لهم . ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم . قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه .
وقال يعقوب ومحمد : إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه ، وتحرم عليه أمها وابنتها . وقال مالك : إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها ، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه . وقال الشافعي : إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس ؛ وهو قول الأوزاعي :
الرابعة عشرة : واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ؛ فقال أكثر أهل العلم : لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك ؛ وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحد ، ثم يدخل بامرأته . ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك . وقالت طائفة : تحرم عليه . روي هذا القول عن عمران بن حصين ؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وروي عن مالك ؛ وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال ، وهو قول أهل العراق . والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز : أن الزنى لا حكم له ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال : وأمهات نسائكم وليست التي زنى بها من أمهات نسائه ، ولا ابنتها من ربائبه . وهو قول الشافعي وأبي ثور . لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز . وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح . ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله : يا غلام من أبوك قال : فلان الراعي . فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال ؛ فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده ؛ وهي رواية ابن القاسم في المدونة . ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها ، وهو المشهور . قال عليه السلام : لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام . وقال عليه السلام : لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها . قال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة . وقال عبد الملك الماجشون : إنها تحل ؛ وهو الصحيح لقوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا يعني بالنكاح الصحيح ، على ما يأتي في " الفرقان " بيانه . ووجه التمسك من الحديث على تلك المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ؛ وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته ؛ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؛ فثبتت البنوة وأحكامها .
فإن قيل : فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك ، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة ؟
فالجواب : إن ذلك موجب ما ذكرناه . وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط ؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يحرم النكاح باللواط . وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه ؛ وهو قول أحمد بن حنبل . قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته . وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به . وهو قول أحمد بن حنبل .
السادسة عشرة : قوله تعالى : الذين من أصلابكم تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب . ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه ؛ على ما يأتي بيانه في " الأحزاب " . وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
السابعة عشرة : قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين موضع أن رفع على العطف على حرمت عليكم أمهاتكم . والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين .
وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية ، وقوله عليه السلام : لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن . واختلفوا في الأختين بملك اليمين ؛ فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء ، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع ؛ وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة . واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها ؛ فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت . قال أبو عمر : من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه ، ومن جعله كالوطء لم يجزه . وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد على أخت الزوجة ؛ لقول الله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين يعني الزوجتين بعقد النكاح . فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله . والله أعلم .
الثامنة عشرة : شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ؛ كما يجوز الجمع بينهما في الملك . واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين : " حرمتهما آية وأحلتهما آية " . ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية . فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر : أحسبه قال علي - قال : وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأله وبما أفتاه ؛ فقال له : لكني أنهاك ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا . وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان . والآية التي أحلتهما قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم . ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول ؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل . وممن قال ذلك من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله ، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل . وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكا فيمن كرهه . ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وابنتها . قال ابن عطية : ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما ؛ فلم يلزمه حدا . قال أبو عمر : ( أما قول علي لجعلته نكالا ) ولم يقل لحددته حد الزاني ؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا ، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله . وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : ( أحلتهما آية وحرمتهما آية ) معلوم محفوظ ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق .
التاسعة عشرة : واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوجها . قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة ، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية . وفيه قول ثالث : وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما . هكذا قال الحكم وحماد ؛ وروي معنى ذلك عن النخعي . ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته . فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل . فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته ؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة . ومذهب الكوفيين في هذا الباب : الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى ؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى ؛ وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة . فأما بعد انقضاء العدة فلا ، حتى يملك فرج التي يطأ غيره ؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه . قالوا : لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود ، فلا فرق بين عودتها إليه وبين بقائها في ملكه . وقول مالك حسن ؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال ؛ وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال . ولم يختلفوا في العتق ؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال ؛ وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه . فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح . الثالث : في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح ؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء . وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح ؛ كما تقدم عن الشافعي . وفي الباب بعينه قول آخر : أن النكاح لا ينعقد ؛ وهو معنى قول الأوزاعي . وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة .
الموفية عشرين : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة . واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق ؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت ، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي ، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : له أن ينكح أختها وأربعا سواها ؛ وروي عن عطاء ، وهي أثبت الروايتين عنه ، وروي عن زيد بن ثابت أيضا ؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد . قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : إلا ما قد سلف يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : إلا ما قد سلف في قوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين ؛ على ما قاله مالك والشافعي ، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ؛ وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين . وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد . وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين ؛ إحداهما نكاح امرأة الأب ، والثانية ، الجمع بين الأختين ؛ ألا ترى أنه قال : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف . وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ولم يذكر في سائر المحرمات إلا ما قد سلف . والله أعلم .
حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُمۡ وَعَمَّٰتُكُمۡ وَخَٰلَٰتُكُمۡ وَبَنَاتُ ٱلۡأَخِ وَبَنَاتُ ٱلۡأُخۡتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِيٓ أَرۡضَعۡنَكُمۡ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمۡ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِي دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمۡ تَكُونُواْ دَخَلۡتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ وَحَلَٰٓئِلُ أَبۡنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنۡ أَصۡلَٰبِكُمۡ وَأَن تَجۡمَعُواْ بَيۡنَ ٱلۡأُخۡتَيۡنِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٣٢
هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، وعلى المحللات من النساء. فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله. الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة، وإن بعدت، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة، والأخوات الشقيقات، أو لأب أو لأم. والعمة: كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا. والخالة: كل أخت لأمك، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا. وبنات الأخ وبنات الأخت أي: وإن نزلت. فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة. وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت. وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها، إنما هو لصاحب اللبن، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط. لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة. وأما المحرمات بالصهر فهن أربع. حلائل الآباء وإن علوا، وحلائل الأبناء وإن نزلوا، وارثين أو محجوبين. وأمهات الزوجة وإن علون، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد. والرابعة: الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الآية. وقد قال الجمهور: إن قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان: إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها. والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم. وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام.
۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٤٢
وقوله [ تعالى ] ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) أي : وحرم عليكم الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات ( إلا ما ملكت أيمانكم ) يعني : إلا ما ملكتموهن بالسبي ، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن ، فإن الآية نزلت في ذلك .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان - هو الثوري - عن عثمان البتي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا نساء من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) [ قال ] فاستحللنا فروجهن .
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع ، عن هشيم ، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، ثلاثتهم عن عثمان البتي ، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سواري عن عثمان البتي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة ، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره ، وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد ، به .
وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد قال الإمام أحمد :
حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي علقمة ، عن أبي سعيد الخدري ; أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس ، لهن أزواج من أهل الشرك ، فكأن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم )
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة - زاد مسلم : وشعبة - ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ، ثلاثتهم عن قتادة ، بإسناده نحوه . وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة . كذا قال . وقد تابعه سعيد وشعبة ، والله أعلم .
وقد روى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في سبايا خيبر ، وذكر مثل حديث أبي سعيد ، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها ، أخذا بعموم هذه الآية . قال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ، ويتلو هذه الآية ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم )
وكذا رواه سفيان عن منصور ، ومغيرة والأعمش عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال : بيعها طلاقها . وهو منقطع .
وقال سفيان الثوري ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها .
ورواه سعيد ، عن قتادة قال : إن أبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس قالوا : بيعها طلاقها .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، [ حدثنا ] ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : ( والمحصنات من النساء ) قال : هن ذوات الأزواج ، حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر : وقال الحسن مثل ذلك .
وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) قال : إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها .
وقال عوف ، عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها .
فهذا قول هؤلاء من السلف [ رحمهم الله ] وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقها ; لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما; فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ونجزت عتقها ، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها - كما قال هؤلاء لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم .
وقد قيل : المراد بقوله : ( والمحصنات من النساء ) يعني : العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا . حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما . وقال عمر وعبيدة : ( والمحصنات من النساء ) ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم .
وقوله : ( كتاب الله عليكم ) أي : هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، فالزموا كتابه ، ولا تخرجوا عن حدوده ، والزموا شرعه وما فرضه .
وقد قال عبيدة وعطاء والسدي في قوله : ( كتاب الله عليكم ) يعني الأربع . وقال إبراهيم : ( كتاب الله عليكم ) يعني : ما حرم عليكم .
وقوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) أي : ما عدا من ذكرنا من المحارم هن لكم حلال ، قاله عطاء وغيره . وقال عبيدة والسدي : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ما دون الأربع ، وهذا بعيد ، والصحيح قول عطاء كما تقدم . وقال قتادة ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) يعني : ما ملكت أيمانكم .
وهذه الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين ، وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية .
وقوله : ( أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين ) أي : تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي; ولهذا قال : ( محصنين غير مسافحين )
وقوله : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ) أي : كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، كقوله : ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) [ النساء : 21 ] وكقوله ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) [ النساء : 4 ] وكقوله ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ) [ البقرة : 229 ]
وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك . وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ، ثم أبيح ثم نسخ ، مرتين . وقال آخرون أكثر من ذلك ، وقال آخرون : إنما أبيح مرة ، ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك .
وقد روي عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمهم الله تعالى . وكان ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والسدي يقرءون : " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة " . وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ، ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب " الأحكام " .
وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني ، عن أبيه : أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فقال : " يأيها الناس ، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب " الأحكام " .
وقوله : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال : فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادة به وزيادة للجعل .
قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها - قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) .
قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا يرث واحد منهما صاحبه .
ومن قال بالقول الأول جعل معناه كقوله : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ] ) [ النساء : 4 ] أي : إذا فرضت لها صداقا فأبرأتك منه ، أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال : ( ولا جناح عليكم ) أيها الناس ( فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) يعني : إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال [ علي ] بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ) والتراضي أن يوفيها صداقها ثم يخيرها ، ويعني في المقام أو الفراق .
وقوله : ( إن الله كان عليما حكيما ) مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [ العظيمة ] .
وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٤٢
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
فيه أربع عشرة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : والمحصنات عطف على المحرمات والمذكورات قبل . والتحصن : التمنع ؛ ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه ؛ ومنه قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم الأنبياء : أي لتمنعكم ؛ ومنه الحصان للفرس ( بكسر الحاء ) لأنه يمنع صاحبه من الهلاك . والحصان ( بفتح الحاء ) : المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك . وحصنت المرأة تحصن فهي حصان ؛ مثل جبنت فهي جبان . وقال حسان في عائشة رضي الله عنها :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والمصدر الحصانة ( بفتح الحاء ) والحصن كالعلم . فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج ؛ يقال : امرأة محصنة أي متزوجة ، ومحصنة أي حرة ؛ ومنه والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب . ومحصنة أي عفيفة ؛ قال الله تعالى : محصنات غير مسافحات وقال : محصنين غير مسافحين . ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة ، أي ممتنعة من الفسق ، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد . قال الله تعالى : والذين يرمون المحصنات أي الحرائر ، وكان عرف الإماء في الجاهلية الزنى ؛ ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعته : " وهل تزني الحرة " ؟ والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره ؛ فبناء ( ح ص ن ) معناه المنع كما بينا . ويستعمل الإحصان في الإسلام ؛ لأنه حافظ ومانع ، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإيمان قيد لفتك . ومنه قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وقال الشاعر :
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
الثانية : إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ؛ فقال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : المراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة ، أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج . وهو قول الشافعي في أن السباء يقطع العصمة ؛ وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وقال به أشهب . يدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا ؛ فكان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله عز وجل في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم . أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن . وهذا نص صحيح صريح في أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج ؛ فأنزل الله تعالى في جوابهم إلا ما ملكت أيمانكم . وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى . واختلفوا في استبرائها بماذا يكون ؛ فقال الحسن : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبرئون المسبية بحيضة ؛ وقد روي ذلك من حديث أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ) . ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا حتى يقال إن المسبية مملوكة ولكنها كانت زوجة زال نكاحها فتعتد عدة الإماء ، على ما نقل عن الحسن بن صالح قال : عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب . وكافة العلماء رأوا استبراءها واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة واحدة . والمشهور من مذهب مالك أنه لا فرق بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين . وروى عنه ابن بكير أنهما إن سبيا جميعا واستبقي الرجل أقرا على نكاحهما ؛ فرأى في هذه الرواية أن استبقاءه إبقاء لما يملكه ؛ لأنه قد صار له عهد وزوجته من جملة ما يملكه ، فلا يحال بينه وبينها ؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري ، وبه قال ابن القاسم ورواه عن مالك . والصحيح الأول ؛ لما ذكرناه ؛ ولأن الله تعالى قال : إلا ما ملكت أيمانكم فأحال على ملك اليمين وجعله هو المؤثر فيتعلق الحكم به من حيث العموم والتعليل جميعا ، إلا ما خصه الدليل . وفي الآية قول ثان قاله عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة : أن المراد بالآية ذوات الأزواج ، أي فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج فإن بيعها طلاقها والصدقة بها طلاقها وأن تورث طلاقها وتطليق الزوج طلاقها . قال ابن مسعود : فإذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحق ببضعها وكذلك المسبية ؛ كل ذلك موجب للفرقة بينها وبين زوجها . قالوا : وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون بيع الأمة طلاقا لها ؛ لأن الفرج محرم على اثنين في حال واحدة بإجماع من المسلمين .
قلت : وهذا يرده حديث بريرة ؛ لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها ثم خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت ذات زوج ؛ وفي إجماعهم على أن بريرة قد خيرت تحت زوجها مغيث بعد أن اشترتها عائشة فأعتقتها لدليل على أن بيع الأمة ليس طلاقها ؛ وعلى ذلك جماعة فقهاء الأمصار من أهل الرأي والحديث ، وألا طلاق لها إلا الطلاق . وقد احتج بعضهم بعموم قوله : إلا ما ملكت أيمانكم وقياسا على المسبيات . وما ذكرناه من حديث بريرة يخصه ويرده ، وأن ذلك إنما هو خاص بالمسبيات على حديث أبي سعيد ، وهو الصواب والحق إن شاء الله تعالى . وفي الآية قول ثالث : روى الثوري عن مجاهد عن إبراهيم قال ابن مسعود في قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال : ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين . وقال علي بن أبي طالب : ذوات الأزواج من المشركين . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب والمحصنات من النساء هن ذوات الأزواج ؛ ويرجع ذلك إلى أن الله حرم الزنى . وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية يراد به العفائف ، أي كل النساء حرام . وألبسهن اسم الإحصان من كان منهن ذات زوج أو غير ذات زوج ؛ إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك .
إلا ما ملكت أيمانكم قالوا : معناه بنكاح أو شراء . هذا قول أبي العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيدة عن عمر ؛ فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين ، ويكون معنى الآية عندهم في قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم يعني تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء ، فكأنهن كلهن ملك يمين وما عدا ذلك فزنى ، وهذا قول حسن . وقد قال ابن عباس : المحصنات العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب . قال ابن عطية : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنى ؛ وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها . وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل : قوله والمحصنات إلى قوله حكيما . قال ابن عطية : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول ؟
الثالثة : قوله تعالى : كتاب الله عليكم نصب على المصدر المؤكد ، أي حرمت هذه النساء كتابا من الله عليكم . ومعنى حرمت عليكم كتب الله عليكم . وقال الزجاج والكوفيون : هو نصب على الإغراء ، أي الزموا كتاب الله ، أو عليكم كتاب الله . وفيه نظر على ما ذكره أبو علي ؛ فإن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء ، فلا يقال : زيدا عليك ، أو زيدا دونك ؛ بل يقال : عليك زيدا ودونك عمرا ، وهذا الذي قاله صحيح على أنه يكون منصوبا ب عليكم وأما على تقدير حذف الفعل فيجوز ويجوز الرفع على معنى هذا كتاب الله وفرضه وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع " كتب الله عليكم " على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى والمعنى كتب الله عليكم ما قصه من التحريم وقال عبيدة السلماني وغيره قوله كتاب الله عليكم إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله تعالى : مثنى وثلاث ورباع وفي هذا بعد ؛ والأظهر أن قوله : كتاب الله عليكم إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله .
الرابعة : قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص " وأحل لكم " ردا على حرمت عليكم . الباقون بالفتح ردا على قوله تعالى : كتاب الله عليكم . وهذا يقتضي ألا يحرم من النساء إلا من ذكر ، وليس كذلك ؛ فإن الله تعالى قد حرم على لسان نبيه من لم يذكر في الآية فيضم إليها ، قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها . وقال ابن شهاب : فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة ، وقد قيل : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها متلقى من الآية نفسها ؛ لأن الله تعالى حرم الجمع بين الأختين ، والجمع بين المرأة وعمتها في معنى الجمع بين الأختين ؛ أو لأن الخالة في معنى الوالدة والعمة في معنى الوالد . والصحيح الأول ؛ لأن الكتاب والسنة كالشيء الواحد ؛ فكأنه قال : أحللت لكم ما وراء ما ذكرنا في الكتاب ، وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد عليه السلام . وقول ابن شهاب : " فنرى خالة أبيها وعمة أبيها بتلك المنزلة " إنما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة والعمة على العموم وتم له ذلك ؛ لأن العمة اسم لكل أنثى شاركت أباك في أصليه أو في أحدهما والخالة كذلك كما بيناه . وفي مصنف أبي داود وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا الخالة على بنت أختها ولا تنكح الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى . وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يجمع بين العمة والخالة وبين العمتين والخالتين . الرواية لا يجمع برفع العين على الخبر على المشروعية فيتضمن النهي عن ذلك ، وهذا الحديث مجمع على العمل به في تحريم الجمع بين من ذكر فيه بالنكاح . وأجاز الخوارج الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها ، ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه ، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة . وقوله : لا يجمع بين العمتين والخالتين فقد أشكل على بعض أهل العلم وتحير في معناه حتى حمله على ما يبعد أو لا يجوز ؛ فقال : معنى بين العمتين على المجاز ، أي بين العمة وبنت أخيها ؛ فقيل لهما : عمتان ، كما قيل : سنة العمرين أبي بكر وعمر ؛ قال : وبين الخالتين مثله . قال النحاس : وهذا من التعسف الذي لا يكاد يسمع بمثله ، وفيه أيضا مع التعسف أنه يكون كلاما مكررا لغير فائدة ؛ لأنه إذا كان المعنى نهى أن يجمع بين العمة وبنت أخيها وبين العمتين يعني به العمة وبنت أخيها صار الكلام مكررا لغير فائدة ؛ وأيضا فلو كان كما قال لوجب أن يكون وبين الخالة ، وليس كذلك الحديث ؛ لأن الحديث ( نهى أن يجمع بين العمة والخالة ) . فالواجب على لفظ الحديث ألا يجمع بين امرأتين إحداهما عمة الأخرى والأخرى خالة الأخرى . قال النحاس : وهذا يخرج على معنى صحيح ، يكون رجل وابنه تزوجا امرأة وابنتها ؛ تزوج الرجل البنت وتزوج الابن الأم فولد لكل واحد منهما ابنة من هاتين الزوجتين ؛ فابنة الأب عمة ابنة الابن ، وابنة الابن خالة ابنة الأب . وأما الجمع بين الخالتين فهذا يوجب أن يكونا امرأتين كل واحدة منهما خالة الأخرى ؛ وذلك أن يكون رجل تزوج ابنة رجل وتزوج الآخر ابنته ، فولد لكل واحد منهما ابنة ، فابنة كل واحد منهما خالة الأخرى . وأما الجمع بين العمتين فيوجب ألا يجمع بين امرأتين كل واحدة منهما عمة الأخرى ؛ وذلك أن يتزوج رجل أم رجل ويتزوج الآخر أم الآخر ، فيولد لكل واحد منهما ابنة فابنة كل واحد منهما عمة الأخرى ؛ فهذا ما حرم الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما ليس في القرآن .
الخامسة : وإذا تقرر هذا فقد عقد العلماء فيمن يحرم الجمع بينهن عقدا حسنا ؛ فروى معتمر بن سليمان عن فضيل بن ميسرة عن أبي جرير عن الشعبي قال : كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى فالجمع بينهما باطل . فقلت له : عمن هذا ؟ قال : عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال سفيان الثوري : تفسيره عندنا أن يكون من النسب ، ولا يكون بمنزلة امرأة وابنة زوجها يجمع بينهما إن شاء . قال أبو عمر : وهذا على مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحديث وغيرهم فيما علمت لا يختلفون في هذا الأصل . وقد كره قوم من السلف أن يجمع الرجل بين ابنة رجل وامرأته من أجل أن أحدهما لو كان ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى . والذي عليه العلماء أنه لا بأس بذلك ، وأن المراعى النسب دون غيره من المصاهرة ؛ ثم ورد في بعض الأخبار التنبيه على العلة في منع الجمع بين من ذكر ، وذلك ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة مما يقع بين الضرائر من الشنآن والشرور بسبب الغيرة ؛ فروى ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة ، وقال : إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ذكره أبو محمد الأصيلي في فوائده وابن عبد البر وغيرهما . ومن مراسيل أبي داود عن حسين بن طلحة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة ؛ وقد طرد بعض السلف هذه العلة فمنع الجمع بين المرأة وقريبتها ، وسواء كانت بنت عم أو بنت خال أو بنت خالة ؛ روي ذلك عن إسحاق بن طلحة وعكرمة وقتادة وعطاء في رواية ابن أبي نجيح ، وروى عنه ابن جريج أنه لا بأس بذلك وهو الصحيح . وقد نكح حسن بن حسين بن علي في ليلة واحدة ابنة محمد بن علي وابنة عمر بن علي فجمع بين ابنتي عم ؛ ذكره عبد الرزاق . زاد ابن عيينة : فأصبح نساؤهم لا يدرين إلى أيتهما يذهبن ؛ وقد كره مالك هذا ، وليس بحرام عنده . وفي سماع ابن القاسم : سئل مالك عن ابنتي العم أيجمع بينهما ؟ فقال : ما أعلمه حراما . قيل له : أفتكرهه ؟ قال : إن ناسا ليتقونه ؛ قال ابن القاسم : وهو حلال لا بأس به . قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا أبطل هذا النكاح . وهما داخلتان في جملة ما أبيح بالنكاح غير خارجتين منه بكتاب ولا سنة ولا إجماع ، وكذلك الجمع بين ابنتي عمة وابنتي خالة . وقال السدي في قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم : يعني النكاح فيما دون الفرج . وقيل : المعنى وأحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم . قتادة : يعني بذلك ملك اليمين خاصة .
السادسة : قوله تعالى : أن تبتغوا بأموالكم لفظ يجمع التزوج والشراء . و " أن " في موضع نصب بدل من " ما " ، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ؛ ويحتمل أن يكون المعنى لأن ، أو بأن ؛ فتحذف اللام أو الباء فيكون في موضع نصب . ومحصنين نصب على الحال ، ومعناه متعففين عن الزنى . غير مسافحين أي غير زانين . والسفاح الزنى ، وهو مأخوذ من سفح الماء ، أي صبه وسيلانه ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس : هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر . وقد قيل : إن قوله محصنين غير مسافحين يحتمل وجهين : أحدهما : ما ذكرناه وهو الإحصان بعقد النكاح ، تقديره اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح ؛ فيكون للآية على هذا الوجه عموم . ويحتمل أن يقال : محصنين أي الإحصان صفة لهن ، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن ؛ والوجه الأول أولى ؛ لأنه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى ؛ ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن ، وذلك خلاف الإجماع .
السابعة : قوله تعالى : بأموالكم أباح الله تعالى الفروج بالأموال ولم يحصل ، فوجب إذا حصل بغير المال ألا تقع الإباحة به ؛ لأنها على غير الشرط المأذون فيه ، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه . ويرد على أحمد قوله في أن العتق يكون صداقا ؛ لأنه ليس فيه تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها ؛ فإن الذي كان يملكه المولى من عنده لم ينتقل إليها وإنما سقط . فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا ولم تستحق عليه شيئا ، وإنما أتلف به ملكه ، لم يكن مهرا . وهذا بين مع قوله تعالى : وآتوا النساء وذلك أمر يقتضي الإيجاب ، وإعطاء العتق لا يصح . وقوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه وذلك محال في العتق ، فلم يبق أن يكون الصداق إلا مالا لقوله تعالى : بأموالكم اختلف من قال بذلك في قدر ذلك ؛ فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى : بأموالكم في جواز الصداق بقليل وكثير ، وهو الصحيح ؛ ويعضده قوله عليه السلام في حديث الموهوبة ولو خاتما من حديد . وقوله عليه السلام : أنكحوا الأيامى ؛ ثلاثا . قيل : ما العلائق بينهم يا رسول الله ؟ قال : ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبا من أراك . وقال أبو سعيد الخدري : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صداق النساء فقال : هو ما اصطلح عليه أهلوهم . وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن رجلا أعطى امرأة ملء يديه طعاما كانت به حلالا . أخرجهما الدارقطني في سننه . قال الشافعي : كل ما جاز أن يكون ثمنا لشيء ، أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقا ، وهذا قول جمهور أهل العلم . وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها ، كلهم أجازوا الصداق بقليل المال وكثيره ، وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك ، واختاره ابن المنذر وغيره . قال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطا حلت به ، وأنكح ابنته من عبد الله بن وداعة بدرهمين . وقال ربيعة : يجوز النكاح بدرهم . وقال أبو الزناد ما تراضى به الأهلون وقال مالك : لا يكون الصداق أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا قال بعض أصحابنا في تعليل له : وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد ، لأن البضع عضو واليد عضو يستباح بمقدر من المال ، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا ؛ فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد . قال أبو عمر : قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة ، فقاس الصداق على قطع اليد ، واليد عنده لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا ، ولا صداق عنده أقل من ذلك ، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه ، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق . وقد قال الداراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار : تعرقت فيها يا أبا عبد الله أي سلكت فيها سبيل أهل العراق . وقد احتج أبو حنيفة بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صداق دون عشرة دراهم أخرجه الدارقطني . وفي سنده مبشر بن عبيد متروك . وروي عن داود الأودي عن الشعبي عن علي عليه السلام : لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم . قال أحمد بن حنبل : لقن غياث بن إبراهيم داود الأودي عن الشعبي عن علي : لا مهر أقل من عشرة دراهم . فصار حديثا . وقال النخعي : أقله أربعون درهما . سعيد بن جبير : خمسون درهما . ابن شبرمة : خمسة دراهم . ورواه الدارقطني عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه : لا مهر أقل من خمسة دراهم .
الثامنة : قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة الاستمتاع التلذذ والأجور المهور ؛ وسمي المهر أجرا لأنه أجر الاستمتاع ، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرا ، وذلك دليل على أنه في مقابلة البضع ؛ لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا . وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو : بدن المرأة أو منفعة البضع أو الحل ؛ ثلاثة أقوال ، والظاهر المجموع ؛ فإن العقد يقتضي كل ذلك . والله أعلم .
التاسعة : واختلف العلماء في معنى الآية ؛ فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح فآتوهن أجورهن أي مهورهن ، فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا إن كان مسمى ، أو مهر مثلها إن لم يسم . فإن كان النكاح فاسدا فقد اختلفت الرواية عن مالك في النكاح الفاسد ، هل تستحق به مهر المثل ، أو المسمى إذا كان مهرا صحيحا ؟ فقال مرة المهر المسمى ، وهو ظاهر مذهبه ؛ وذلك أن ما تراضوا عليه يقين ، ومهر المثل اجتهاد فيجب أن يرجع إلى ما تيقناه ؛ لأن الأموال لا تستحق بالشك . ووجه قوله : " مهر المثل " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها . قال ابن خويز منداد : ولا يجوز أن تحمل الآية على جواز المتعة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وحرمه ؛ ولأن الله تعالى قال : فانكحوهن بإذن أهلهن ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين ، ونكاح المتعة ليس كذلك . وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام . وقرأ ابن عباس وأبي وابن جبير " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن " ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم . وقال سعيد بن المسيب : نسختها آية الميراث ؛ إذ كانت المتعة لا ميراث فيها . وقالت عائشة والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في القرآن ؛ وذلك في قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين . وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة ، قال : وإنما كانت لمن لم يجد ، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : نسخ صوم رمضان كل صوم ، ونسخت الزكاة كل صدقة ، ونسخ الطلاق والعدة والميراث المتعة ، ونسخت الأضحية كل ذبح . وعن ابن مسعود قال : المتعة منسوخة نسخها الطلاق والعدة والميراث . وروى عطاء عن ابن عباس قال : ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي .
العاشرة : واختلف العلماء كم مرة أبيحت ونسخت ؛ ففي صحيح مسلم عن عبد الله قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء ؛ فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل . قال أبو حاتم البستي في صحيحه : قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم " ألا نستخصي " دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن أبيح لهم الاستمتاع ، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنى ، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل ثم نهى عنها عام خيبر ، ثم أذن فيها عام الفتح ، ثم حرمها بعد ثلاث ، فهي محرمة إلى يوم القيامة . وقال ابن العربي : وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة ؛ لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت في غزوة أوطاس ، ثم حرمت بعد ذلك واستقر الأمر على التحريم ، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة ، لأن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك . وقال غيره ممن جمع طرق الأحاديث فيها : إنها تقتضي التحليل والتحريم سبع مرات ؛ فروى ابن أبي عمرة أنها كانت في صدر الإسلام . وروى سلمة بن الأكوع أنها كانت عام أوطاس . ومن رواية علي تحريمها يوم خيبر . ومن رواية الربيع بن سبرة إباحتها يوم الفتح .
قلت : وهذه الطرق كلها في صحيح مسلم ؛ وفي غيره عن علي نهيه عنها في غزوة تبوك ؛ رواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن علي ، ولم يتابع إسحاق بن راشد على هذه الرواية عن ابن شهاب ، قاله أبو عمر رحمه الله . وفي مصنف أبي داود من حديث الربيع بن سبرة النهي عنها في حجة الوداع ، وذهب أبو داود إلى أن هذا أصح ما روي في ذلك . وقال عمرو عن الحسن : ما حلت المتعة قط إلا ثلاثا في عمرة القضاء ما حلت قبلها ولا بعدها . وروي هذا عن سبرة أيضا ؛ فهذه سبعة مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت . قال أبو جعفر الطحاوي : كل هؤلاء الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقها أخبروا أنها كانت في سفر ، وأن النهي لحقها في ذلك السفر بعد ذلك ، فمنع منها ، وليس أحد منهم يخبر أنها كانت في حضر ؛ وكذلك روي عن ابن مسعود . فأما حديث سبرة الذي فيه إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لها في حجة الوداع فخارج عن معانيها كلها ؛ وقد اعتبرنا هذا الحرف فلم نجده إلا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصة ، وقد رواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فذكر أن ذلك كان في فتح مكة وأنهم شكوا إليه العزبة فرخص لهم فيها ، ومحال أن يشكوا إليه العزبة في حجة الوداع ؛ لأنهم كانوا حجوا بالنساء ، وكان تزويج النساء بمكة يمكنهم ، ولم يكونوا حينئذ كما كانوا في الغزوات المتقدمة . ويحتمل أنه لما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم تكرير مثل هذا في مغازيه وفي المواضع الجامعة ، ذكر تحريمها في حجة الوداع ؛ لاجتماع الناس حتى يسمعه من لم يكن سمعه ، فأكد ذلك حتى لا تبقى شبهة لأحد يدعي تحليلها ؛ ولأن أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا .
الحادية عشرة : روى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال : سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح ؟ قال : لا سفاح ولا نكاح .
قلت : فما هي ؟ قال : المتعة كما قال الله تعالى .
قلت : هل عليها عدة ؟ قال : نعم حيضة .
قلت : يتوارثان ، قال : لا . قال أبو عمر : لم يختلف العلماء من السلف والخلف أن المتعة نكاح إلى أجل لا ميراث فيه ، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق . وقال ابن عطية : " وكانت المتعة أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ؛ وعلى أن لا ميراث بينهما ، ويعطيها ما اتفقا عليه ؛ فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ويستبرئ رحمها : لأن الولد لا حق فيه بلا شك ، فإن لم تحمل حلت لغيره . وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ وأن الولد لا يلحق في نكاح المتعة " .
قلت : هذا هو المفهوم من عبارة النحاس ؛ فإنه قال : وإنما المتعة أن يقول لها : أتزوجك يوما - أو ما أشبه ذلك - على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك ؛ وهذا هو الزنى بعينه ولم يبح قط في الإسلام ؛ ولذلك قال عمر : لا أوتى برجل تزوج متعة إلا غيبته تحت الحجارة .
الثانية عشرة : وقد اختلف علماؤنا إذا دخل في نكاح المتعة هل يحد ولا يلحق به الولد أو يدفع الحد للشبهة ويلحق به الولد على قولين ؛ ولكن يعذر ويعاقب . وإذا لحق اليوم الولد في نكاح المتعة في قول بعض العلماء مع القول بتحريمه ، فكيف لا يلحق في ذلك الوقت الذي أبيح ، فدل على أن نكاح المتعة كان على حكم النكاح الصحيح ، ويفارقه في الأجل والميراث . وحكى المهدوي عن ابن عباس أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود . وفيما حكاه ضعف ؛ لما ذكرنا . قال ابن العربي : وقد كان ابن عباس يقول بجوازها ، ثم ثبت رجوعه عنها ، فانعقد الإجماع على تحريمها ؛ فإذا فعلها أحد رجم في مشهور المذهب . وفي رواية أخرى عن مالك : لا يرجم ؛ لأن نكاح المتعة ليس بحرام ، ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به دون سائر العلماء ؛ وهو أن ما حرم بالسنة هل هو مثل ما حرم بالقرآن أم لا ؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء ؛ وهذا ضعيف . وقال أبو بكر الطرطوسي : ولم يرخص في نكاح المتعة إلا عمران بن حصين وابن عباس وبعض الصحابة وطائفة من أهل البيت . وفي قول ابن عباس يقول الشاعر :
أقول للركب إذ طال الثواء بنا يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
في بضة رخصة الأطراف ناعمة تكون مثواك حتى مرجع الناس
وسائر العلماء والفقهاء من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ، وأن المتعة حرام . وقال أبو عمر : أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلهم يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عباس
وحرمها سائر الناس . وقال معمر : قال الزهري : ازداد الناس لها مقتا حتى قال الشاعر :
قال المحدث لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس
كما تقدم .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : " أجورهن " يعم المال وغيره ، فيجوز أن يكون الصداق منافع أعيان . وقد اختلف في هذا العلماء ؛ فمنعه مالك والمزني والليث وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه ؛ إلا أن أبا حنيفة قال : إذا تزوج على ذلك فالنكاح جائز وهو في حكم من لم يسم لها ، ولها مهر مثلها إن دخل بها ، وإن لم يدخل بها فلها المتعة . وكرهه ابن القاسم في كتاب محمد وأجازه أصبغ . قال ابن شاس : فإن وقع مضى في قول أكثر الأصحاب . وهي رواية أصبغ عن ابن القاسم . وقال الشافعي : النكاح ثابت وعليه أن يعلمها ما شرط لها . فإن طلقها قبل الدخول ففيها للشافعي قولان : أحدهما أن لها نصف أجر تعليم تلك السورة ، والآخر أن لها نصف مهر مثلها . وقال إسحاق : النكاح جائز . قال أبو الحسن اللخمي : والقول بجواز جميع ذلك أحسن . والإجارة والحج كغيرهما من الأموال التي تتملك وتباع وتشترى . وإنما كره ذلك مالك لأنه يستحب أن يكون الصداق معجلا ، والإجارة والحج في معنى المؤجل .
احتج أهل القول الأول بأن الله تعالى قال : بأموالكم وتحقيق المال ما تتعلق به الأطماع ، ويعد للانتفاع ، ومنفعة الرقبة في الإجارة ومنفعة التعليم للعلم كله ليس بمال . قال الطحاوي : والأصل المجتمع عليه أن رجلا لو استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن سماها ، بدرهم لم يجز ؛ لأن الإجارات لا تجوز إلا لأحد معنيين ؛ إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه ، وإما على وقت معلوم ؛ وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم ولا على عمل معلوم ، وإنما استأجره على أن يعلم ، وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها . وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات . وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولا أعيان الأموال ثبت بالنظر أنه لا تملك به الأبضاع . والله الموفق .
احتج من أجاز ذلك بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة ، وفيه فقال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن . في رواية قال : انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن . قالوا : ففي هذا دليل على انعقاد النكاح وتأخر المهر الذي هو التعليم ، وهذا على الظاهر من قوله : بما معك من القرآن فإن الباء للعوض ؛ كما تقول : خذ هذا بهذا ، أي عوضا منه . وقوله في الرواية الأخرى : ( فعلمها ) نص في الأمر بالتعليم ، والمساق يشهد بأن ذلك لأجل النكاح ، ولا يلتفت لقول من قال إن ذلك كان إكراما للرجل بما حفظه من القرآن ، أي لما حفظه ، فتكون الباء بمعنى اللام ؛ فإن الحديث الثاني يصرح بخلافه في قوله : فعلمها من القرآن . ولا حجة فيما روي عن أبي طلحة أنه خطب أم سليم فقالت : إن أسلم تزوجته . فأسلم فتزوجها ؛ فلا يعلم مهر كان أكرم من مهرها ، كان مهرها الإسلام فإن ذلك خاص به . وأيضا فإنه لا يصل إليها منه شيء بخلاف التعليم وغيره من المنافع . وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها ؛ على ما يأتي بيانه في سورة " القصص " . وقد روي من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه : يا فلان هل تزوجت قال : لا ، وليس معي ما أتزوج به . قال : أليس معك قل هو الله أحد ؟ قال : بلى ! قال : ثلث القرآن ، أليس معك آية الكرسي ؟ قال : بلى ! قال : ربع القرآن ، أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح ؟ قال : بلى ! قال : ربع القرآن أليس معك إذا زلزلت ؟ قال : بلى ! قال : ربع القرآن . تزوج تزوج .
قلت : وقد أخرج الدارقطني حديث سهل من حديث ابن مسعود ، وفيه زيادة تبين ، ما احتج به مالك وغيره ، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ينكح هذه ؟ فقام ذلك الرجل فقال : أنا يا رسول الله ؛ فقال : ألك مال ؟ قال : لا ، يا رسول الله ؛ قال : فهل تقرأ من القرآن شيئا ؟ . قال : نعم ، سورة البقرة ، وسورة المفصل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها وإذا رزقك الله عوضتها . فتزوجها الرجل على ذلك . وهذا نص - لو صح - في أن التعليم لا يكون صداقا . قال الدارقطني : تفرد به عتبة بن السكن وهو متروك الحديث . و " فريضة " نصب على المصدر في موضع الحال ، أي مفروضة .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أي من زيادة ونقصان في المهر ؛ فإن ذلك سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة . والمراد إبراء المرأة عن المهر ، أو توفية الرجل كل المهر إن طلق قبل الدخول . وقال القائلون بأن الآية في المتعة : هذا إشارة إلى ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة في أول الإسلام ؛ فإنه كان يتزوج الرجل المرأة شهرا على دينار مثلا ، فإذا انقضى الشهر فربما كان يقول : زيديني في الأجل أزدك في المهر . فبين أن ذلك كان جائزا عند التراضي .
وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٤٢
{ وَ } من المحرمات في النكاح { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } أي: ذوات الأزواج. فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها. { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ. وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي: الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام. ودخل في قوله: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } كلُّ ما لم يذكر في هذه الآية، فإنه حلال طيب. فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد. وقوله: { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أي: تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم { مُحْصِنِينَ } أي: مستعفين عن الزنا، ومعفين نساءكم. { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } والسفح: سفح الماء في الحلال والحرام، فإن الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال فلا يبقى محصنا لزوجته. وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله تعالى: { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } .{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } أي: ممن تزوجتموها { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي: الأجور في مقابلة الاستمتاع. ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها { فَرِيضَةً } أي: إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه الله عليكم، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده. أو معنى قوله فريضة: أي: مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم، فلا تنقصوا منها شيئًا. { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي: بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس [هذا قول كثير من المفسرين، وقال كثير منهم: إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها، ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما، والله أعلم]. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: كامل العلم واسعه، كامل الحكمة: فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام.
وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥٢
يقول [ تعالى ] ومن لم يجد ) طولا ) أي : سعة وقدرة ( أن ينكح المحصنات المؤمنات ) أي الحرائر .
وقال ابن وهب : أخبرني عبد الجبار ، عن ربيعة : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ) قال ربيعة الطول الهوى ، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم شرع يشنع على هذا القول ويرده ( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) أي : فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : ( من فتياتكم المؤمنات ) قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان .
ثم اعترض بقوله : ( والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ) أي : هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور .
ثم قال : ( فانكحوهن بإذن أهلهن ) فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ، ليس لعبده أن يتزوج إلا بإذنه ، كما جاء في الحديث : " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر " أي زان .
فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها; لما جاء في الحديث : " لا تزوج المرأة [ المرأة ، ولا المرأة نفسها ] فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " .
وقوله : ( وآتوهن أجورهن بالمعروف ) أي : وادفعوا مهورهن بالمعروف ، أي : عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن; لكونهن إماء مملوكات .
وقوله : ( محصنات ) أي : عفائف عن الزنا لا يتعاطينه; ولهذا قال : ( غير مسافحات ) وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة .
وقوله : ( ولا متخذات أخدان ) قال ابن عباس : المسافحات ، هن الزواني المعالنات يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة . ( ومتخذات أخدان ) يعني : أخلاء .
وكذا روي عن أبي هريرة ، ومجاهد والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ويحيى بن أبي كثير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، قالوا : أخلاء . وقال الحسن البصري : يعني : الصديق . وقال الضحاك أيضا : ( ولا متخذات أخدان ) ذات الخليل الواحد [ المسيس ] المقرة به ، نهى الله عن ذلك ، يعني [ عن ] تزويجها ما دامت كذلك .
وقوله : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) اختلف القراء في ) أحصن ) فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد ، مبني لما لم يسم فاعله ، وقرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين واحد . واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام . روي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزر بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والسدي . وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب ، وهو منقطع . وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ] في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا [ ذلك ] استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم .
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا مرفوعا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقي ] حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : ( فإذا أحصن ) قال : " إحصانها إسلامها وعفافها " . وقال المراد به هاهنا التزويج ، قال : وقال علي : اجلدوهن .
[ ثم ] قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر .
قلت : وفي إسناده ضعف ، ومنهم من لم يسم ، و [ مثله ] لا تقوم به حجة .
وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها .
وقيل : المراد به هاهنا : التزويج . وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم . ونقله أبو علي الطبري في كتابه " الإيضاح " عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة . وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير في تفسيره ، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي .
وقيل معنى القراءتين متباين فمن قرأ ( أحصن ) بضم الهمزة ، فمراده التزويج ، ومن قرأ " أحصن " بفتحها ، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسيره ، وقرره ونصره .
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج; لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث يقول سبحانه وتعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم ) والله أعلم . والآية الكريمة سياقها كلها في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : ( فإذا أحصن ) أي : تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه .
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور; وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم . وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خطب فقال : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحسنت ، اتركها حتى تماثل " .
وعند عبد الله بن أحمد ، عن غير أبيه : " فإذا تعالت من نفسها حدها خمسين " .
وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها ، فليبعها ولو بحبل من شعر " ولمسلم إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة " .
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال : أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا .
الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا ، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه . وعمدتهم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم . وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال : " إن زنت فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة .
أخرجاه في الصحيحين وعند مسلم : قال ابن شهاب : الضفير الحبل .
قالوا : فلم يؤقت في هذا الحديث عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم .
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على أمة حد حتى تحصن - أو حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " .
وقد رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا . وقال : رفعه خطأ ، إنما هو من قول ابن عباس ، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران ، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة .
قالوا : وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ] قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :
أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث .
الثاني : أن لفظ الحد في قوله : فليجلدها الحد ، لفظ مقحم من بعض الرواة ، بدليل الجواب الثالث وهو :
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم ، من حديث عباد بن تميم ، عن عمه - وكان قد شهد بدرا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير " .
الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد; لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بعثكال نخل فيه مائة شمراخ ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف . وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ، ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم .
وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ; أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج .
وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا ، فهو كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم .
الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) [ النور : 2 ] وكحديث عبادة بن الصامت : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث .
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، وهو في غاية الضعف; لأن الله تعالى إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان . وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : " اجلدوها " ولم يقل مائة ، فلو كان حكمها كما قال داود لوجب بيان ذلك لهم; لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : " ولم تحصن " لعدم الفرق بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر ، فبينه لهم . كما [ ثبت ] في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه ، فذكرها لهم ثم قال : " والسلام ما قد علمتم " وفي لفظ : لما أنزل الله قوله : ( ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ الأحزاب : 56 ] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ وذكر الحديث ، وهكذا هذا السؤال .
الجواب الرابع - عن مفهوم الآية - : جواب أبي ثور ، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه ، ذلك أنه يقول فإذا أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات وهو الرجم ، وهو لا يتناصف فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين . فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا; وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات ) والمراد بهن الحرائر فقط ، من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : ( نصف ما على المحصنات من العذاب ) يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم .
ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ] نصا في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية كانت قد زنت برجل من الحمس ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ] فرفعهما إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وجلدهما خمسين خمسين .
وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى ، أي : أن الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات ، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة . قال ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي ، فيما رواه ابن عبد الحكم ، عنه . وقد ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد عن لفظ الآية; لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها ، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها ، وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله - فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة . وهذا أيضا بعيد; لأنه ليس في لفظ الآية ما يدل عليه .
ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة أو رجمهن ، كما أثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها ، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها " .
ملخص الآية : أنها إذا زنت أقوال : أحدها : أنها تجلد خمسين قبل الإحصان وبعده ، وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال :
[ أحدها ] أنها تنفى عنه والثاني : لا تنفى عنه مطلقا . [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ] والثالث : أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف الحرة . وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو رأي الإمام ، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال ، وأما النساء فلا ; لأن ذلك مضاد لصيانتهن ، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عبادة وحديث أبي هريرة ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه ، رواه البخاري ، و [ كل ] ذلك مخصوص بالمعنى ، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم .
والثاني : أن الأمة إذا زنت تجلد خمسين بعد الإحصان ، وتضرب [ قبله ] تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير : أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن أراد نفيه فيكون مذهبا بالتأويل وإلا فهو كالقول الثاني .
القول الآخر : أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود ، و [ هو ] أضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور ، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم ) أي : إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك [ كله ، فحينئذ يتزوج الأمة ، وإن ترك تزوج الأمة ] وجاهد نفسه في الكف عن الزنا ، فهو خير له; لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : ( وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم )
ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز نكاح الإماء ، على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت; لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن . وخالف الجمهور أبا حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا ، سواء كان واجدا الطول لحرة أم لا وسواء خاف العنت أم لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه [ عموم ] قوله تعالى : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) [ المائدة : 5 ] أي : العفائف ، وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة ، وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .
وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥٢
قوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
فيه إحدى وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا الآية نبه تعالى على تخفيف في النكاح وهو نكاح الأمة لمن لم يجد الطول . واختلف العلماء في معنى الطول على ثلاثة أقوال :
الأول : السعة والغنى ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد ومالك في المدونة . يقال : طال يطول طولا في الإفضال والقدرة . وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله ( بفتح الطاء ) . وطولا ( بضم الطاء ) في ضد القصر . والمراد هاهنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم ، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور . قال أحمد بن المعذل : قال عبد الملك : الطول كل ما يقدر به على النكاح من نقد أو عرض أو دين على ملي . قال : وكل ما يمكن بيعه وإجارته فهو طول . قال : وليست الزوجة ولا الزوجتان ولا الثلاثة طولا . وقال : وقد سمعت ذلك من مالك رضي الله عنه . قال عبد الملك : لأن الزوجة لا ينكح بها ولا يصل بها إلى غيرها إذ ليست بمال . وقد سئل مالك عن رجل يتزوج أمة وهو ممن يجد الطول ؛ فقال : أرى أن يفرق بينهما . قيل له : إنه يخاف العنت . قال : السوط يضرب به . ثم خففه بعد ذلك .
القول الثاني : الطول الحرة . وقد اختلف قول مالك في الحرة هل هي طول أم لا ؛ فقال في المدونة : ليست الحرة بطول تمنع من نكاح الأمة ؛ إذا لم يجد سعة لأخرى وخاف العنت . وقال في كتاب محمد ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول . قال اللخمي : وهو ظاهر القرآن . وروي نحو هذا عن ابن حبيب ، وقاله أبو حنيفة . فيقتضي هذا أن من عنده حرة فلا يجوز له نكاح الأمة وإن عدم السعة وخاف العنت ، لأنه طالب شهوة وعنده امرأة ، وقال به الطبري واحتج له . قال أبو يوسف : الطول هو وجود الحرة تحته ؛ فإذا كانت تحته حرة فهو ذو طول ، فلا يجوز له نكاح الأمة .
القول الثالث : الطول الجلد والصبر لمن أحب أمة وهويها حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوج الأمة إذا لم يملك هواها وخاف أن يبغي بها وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة ؛ هذا قول قتادة والنخعي وعطاء وسفيان الثوري .
فيكون قوله تعالى : لمن خشي العنت على هذا التأويل في صفة عدم الجلد . وعلى التأويل الأول يكون تزويج الأمة معلقا بشرطين : عدم السعة في المال ، وخوف العنت ؛ فلا يصح إلا باجتماعهما . وهذا هو نص مذهب مالك في المدونة من رواية ابن نافع وابن القاسم وابن وهب وابن زياد . قال مطرف وابن الماجشون : لا يحل للرجل أن ينكح أمة ، ولا يقران إلا أن يجتمع الشرطان كما قال الله تعالى . وقاله أصبغ . وروي هذا القول عن جابر بن عبد الله وابن عباس وعطاء وطاوس والزهري ومكحول ، وبه قال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق ، واختاره ابن المنذر وغيره . فإن وجد المهر وعدم النفقة فقال مالك في كتاب محمد : لا يجوز له أن يتزوج أمة . وقال أصبغ : ذلك جائز ؛ إذ نفقة الأمة على أهلها إذا لم يضمها إليه . وفي الآية قول رابع : قال مجاهد : مما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة والنصرانية ، وإن كان موسرا . وقال بذلك أبو حنيفة أيضا ، ولم يشترط خوف العنت ؛ إذا لم تكن تحته حرة . قالوا : لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة ؛ فالآية على هذا أصل في جواز نكاح الأمة مطلقا .
قال مجاهد : وبه يأخذ سفيان ، وذلك أني سألته عن نكاح الأمة فحدثني عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن عباد بن عبد الله عن علي رضي الله عنه قال : إذا نكحت الحرة على الأمة كان للحرة يومان وللأمة يوم . قال : ولم ير علي به بأسا . وحجة هذا القول عموم قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم . وقوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا إلى قوله : ذلك لمن خشي العنت منكم ؛ لقوله عز وجل : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . وقد اتفق الجميع على أن للحر أن يتزوج أربعا وإن خاف ألا يعدل . قالوا : وكذلك له تزوج الأمة وإن كان واجدا للطول غير خائف للعنت . وقد روي عن مالك في الذي يجد طولا لحرة أنه يتزوج أمة مع قدرته على طول الحرة ؛ وذلك ضعيف من قوله . وقد قال مرة أخرى : ما هو بالحرام البين ، وأجوزه . والصحيح أنه لا يجوز للحر المسلم أن ينكح أمة غير مسلمة بحال ، ولا له أن يتزوج بالأمة المسلمة إلا بالشرطين المنصوص عليهما كما بينا . والعنت الزنى ؛ فإن عدم الطول ولم يخش العنت لم يجز له نكاح الأمة ، وكذلك إن وجد الطول وخشي العنت . فإن قدر على طول حرة كتابية وهي المسألة :
الثانية : فهل يتزوج الأمة ؛ اختلف علماؤنا في ذلك ، فقيل : يتزوج الأمة فإن الأمة المسلمة لا تلحق بالكافرة ، فأمة مؤمنة خير من حرة مشركة . واختاره ابن العربي . وقيل : يتزوج الكتابية ؛ لأن الأمة وإن كانت تفضلها بالإيمان فالكافرة تفضلها بالحرية وهي زوجة . وأيضا فإن ولدها يكون حرا لا يسترق ، وولد الأمة يكون رقيقا ؛ وهذا هو الذي يتمشى على أصل المذهب .
الثالثة : واختلف العلماء في الرجل يتزوج الحرة على الأمة ولم تعلم بها ؛ فقالت طائفة : النكاح ثابت . كذلك قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، وروي عن علي . وقيل : للحرة الخيار إذا علمت . ثم في أي شيء يكون لها الخيار ؛ فقال الزهري وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق في أن تقيم معه أو تفارقه . وقال عبد الملك : في أن تقر نكاح الأمة أو تفسخه . وقال النخعي : إذا تزوج الحرة على الأمة فارق الأمة إلا أن يكون له منها ولد ؛ فإن كان لم يفرق بينهما . وقال مسروق : يفسخ نكاح الأمة ؛ لأنه أمر أبيح للضرورة كالميتة ، فإذا ارتفعت الضرورة ارتفعت الإباحة .
الرابعة : فإن كانت تحته أمتان علمت الحرة بواحدة منهما ولم تعلم بالأخرى فإنه يكون لها الخيار . ألا ترى لو أن حرة تزوج عليها أمة فرضيت ، ثم تزوج عليها أمة فرضيت ، ثم تزوج عليها أخرى فأنكرت كان ذلك لها ؛ فكذلك هذه إذا لم تعلم بالأمتين وعلمت بواحدة . قال ابن القاسم : قال مالك : وإنما جعلنا الخيار للحرة في هذه المسائل لما قالت العلماء قبلي . يريد سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهما . قال مالك : ولولا ما قالوه لرأيته حلالا ؛ لأنه في كتاب الله حلال . فإن لم تكفه الحرة واحتاج إلى أخرى ولم يقدر على صداقها جاز له أن يتزوج الأمة حتى ينتهي إلى أربع بالتزويج بظاهر القرآن . رواه ابن وهب عن مالك . وروى ابن القاسم عنه : يرد نكاحه . قال ابن العربي : والأول أصح في الدليل ، وكذلك هو في القرآن ؛ فإن من رضي بالسبب المحقق رضي بالمسبب المرتب عليه ، وألا يكون لها خيار ؛ لأنها قد علمت أن له نكاح الأربع ؛ وعلمت أنه إن لم يقدر على نكاح حرة تزوج أمة ، وما شرط الله سبحانه عليها كما شرطت على نفسها ، ولا يعتبر في شروط الله سبحانه وتعالى علمها . وهذا غاية التحقيق في الباب والإنصاف فيه .
الخامسة : قوله تعالى : المحصنات يريد الحرائر ؛ يدل عليه التقسيم بينهن وبين الإماء في قوله : من فتياتكم المؤمنات . وقالت فرقة : معناه العفائف . وهو ضعيف ؛ لأن الإماء يقعن تحته فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب ، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات . وهو قول ابن ميسرة والسدي . وقد اختلف العلماء فيما يجوز للحر الذي لا يجد الطول ويخشى العنت من نكاح الإماء ؛ فقال مالك وأبو حنيفة وابن شهاب الزهري والحارث العكلي : له أن يتزوج أربعا . وقال حماد بن أبي سليمان : ليس له أن ينكح من الإماء أكثر من اثنتين . وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق : ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة . وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة ؛ واحتجوا بقوله تعالى : ذلك لمن خشي العنت منكم وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة .
السادسة : قوله تعالى : فمن ما ملكت أيمانكم أي فليتزوج بأمة الغير . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة نفسه ؛ لتعارض الحقوق واختلافها .
السابعة : قوله تعالى : من فتياتكم أي المملوكات ، وهي جمع فتاة . والعرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة فتاة . وفي الحديث الصحيح : لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي وسيأتي . ولفظ الفتى والفتاة يطلق أيضا على الأحرار في ابتداء الشباب ، فأما في المماليك فيطلق في الشباب وفي الكبر .
الثامنة : قوله تعالى : المؤمنات بين بهذا أنه لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية ، فهذه الصفة مشترطة عند مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، والثوري والأوزاعي والحسن البصري والزهري ومكحول ومجاهد .
وقالت طائفة من أهل العلم منهم أصحاب الرأي : نكاح الأمة الكتابية جائز . قال أبو عمر : ولا أعلم لهم سلفا في قولهم ، إلا أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل فإنه قال : إماء أهل الكتاب بمنزلة الحرائر منهن . قالوا : وقوله المؤمنات على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها ؛ وهذا بمنزلة قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإن خاف ألا يعدل فتزوج أكثر من واحدة جاز ، ولكن الأفضل ألا يتزوج ؛ فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوج إلا مؤمنة ، ولو تزوج غير المؤمنة جاز . واحتجوا بالقياس على الحرائر ، وذلك أنه لما لم يمنع قوله : المؤمنات في الحرائر من نكاح الكتابيات فكذلك لا يمنع قوله : المؤمنات في الإماء من نكاح إماء الكتابيات . وقال أشهب في المدونة : جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية . فالمنع عنده أن يفضل الزوج في الحرية والدين معا . ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز لمسلم نكاح مجوسية ولا وثنية ، وإذا كان حراما بإجماع نكاحهما فكذلك وطؤهما بملك اليمين قياسا ونظرا .
وقد روي عن طاوس ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم قالوا : لا بأس بنكاح الأمة المجوسية بملك اليمين . وهو قول شاذ مهجور لم يلتفت إليه أحد من فقهاء الأمصار . وقالوا : لا يحل أن يطأها حتى تسلم . وقد تقدم القول في هذه المسألة في " البقرة " مستوفى . والحمد لله .
التاسعة : قوله تعالى : والله أعلم بإيمانكم المعنى أن الله عليم ببواطن الأمور ولكم ظواهرها ، وكلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من التزوج بالإماء عند الضرورة ، وإن كانت حديثة عهد بسباء ، أو كانت خرساء وما أشبه ذلك . ففي اللفظ تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر .
العاشرة : قوله تعالى : بعضكم من بعض ابتداء وخبر ؛ كقولك زيد في الدار . والمعنى أنتم بنو آدم . وقيل : أنتم مؤمنون . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض : هذا فتاة هذا ، وهذا فتاة هذا . فبعضكم على هذا التقدير مرفوع بفعله وهو فلينكح . والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيره وتسميه الهجين ، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له ، وإنما انحطت الأمة فلم يجز للحر التزوج بها إلا عند الضرورة ؛ لأنه تسبب إلى إرقاق الولد ، وأن الأمة لا تفرغ للزوج على الدوام ، لأنها مشغولة بخدمة المولى .
الحادية عشرة : قوله تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن أي بولاية أربابهن المالكين وإذنهم . وكذلك العبد لا ينكح إلا بإذن سيده ؛ لأن العبد مملوك لا أمر له ، وبدنه كله مستغرق ، لكن الفرق بينهما أن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده فإن أجازه السيد جاز ؛ هذا مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي . والأمة إذا تزوجت بغير إذن أهلها فسخ ولم يجز بإجازة السيد ؛ لأن نقصان الأنوثة في الأمة يمنع من انعقاد النكاح البتة . وقالت طائفة : إذا نكح العبد بغير إذن سيده فسخ نكاحه ؛ هذا قول الشافعي والأوزاعي وداود بن علي ، قالوا : لا تجوز إجازة المولى إن لم يحضره ؛ لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته ، فإن أراد النكاح استقبله على سنته . وقد أجمع علماء المسلمين على أنه لا يجوز نكاح العبد بغير إذن سيده . وقد كان ابن عمر يعد العبد بذلك زانيا ويحده ؛ وهو قول أبي ثور . وذكر عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه أخذ عبدا له نكح بغير إذنه فضربه الحد وفرق بينهما وأبطل صداقها . قال : وأخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة أنه أخبره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى ، ويرى عليه الحد ، ويعاقب الذين أنكحوهما . قال : وأخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما عبد نكح بغير إذن سيده فهو عاهر . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو نكاح حرام ؛ فإن نكح بإذن سيده فالطلاق بيد من يستحل الفرج . قال أبو عمر : على هذا مذهب جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق ، ولم يختلف عن ابن عباس أن الطلاق بيد السيد ؛ وتابعه على ذلك جابر بن زيد وفرقة . وهو عند العلماء شذوذ لا يعرج عليه ، وأظن ابن عباس تأول في ذلك قول الله تعالى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء . وأجمع أهل العلم على أن نكاح العبد جائز بإذن مولاه ؛ فإن نكح نكاحا فاسدا فقال الشافعي : إن لم يكن دخل فلا شيء لها ، وإن كان دخل فعليه المهر إذا عتق ؛ هذا هو الصحيح من مذهبه ، وهو قول أبي يوسف ومحمد لا مهر عليه حتى يعتق . وقال أبو حنيفة : إن دخل عليها فلها المهر . وقال مالك والشافعي : إذا كان عبد بين رجلين فأذن له أحدهما في النكاح فنكح فالنكاح باطل ، فأما الأمة إذا آذنت أهلها في النكاح فأذنوا جاز ، وإن لم تباشر العقد لكن تولي من يعقده عليها .
الثانية عشرة : قوله تعالى : وآتوهن أجورهن دليل على وجوب المهر في النكاح ، وأنه للأمة .
بالمعروف معناه بالشرع والسنة ، وهذا يقتضي أنهن أحق بمهورهن من السادة ، وهو مذهب مالك . قال في كتاب الرهون : ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز . وقال الشافعي : الصداق للسيد ؛ لأنه عوض فلا يكون للأمة . أصله إجازة المنفعة في الرقبة ، وإنما ذكرت لأن المهر وجب بسببها . وذكر القاضي إسماعيل في أحكامه : زعم بعض العراقيين إذا زوج أمته من عبده فلا مهر . وهذا خلاف الكتاب والسنة وأطنب فيه .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : محصنات أي عفائف . وقرأ الكسائي " محصنات " بكسر الصاد في جميع القرآن ، إلا في قوله تعالى : والمحصنات من النساء . وقرأ الباقون بالنصب في جميع القرآن . ثم قال : غير مسافحات أي غير زوان ، أي معلنات بالزنى ؛ لأن أهل الجاهلية كان فيهم الزواني في العلانية ، ولهن رايات منصوبات كراية البيطار .
ولا متخذات أخدان أصدقاء على الفاحشة ، واحدهم خدن وخدين ، وهو الذي يخادنك ، ورجل خدنة ، إذا اتخذ أخدانا أي أصحابا ، عنأبي زيد . وقيل : المسافحة المجاهرة بالزنى ، أي التي تكري نفسها لذلك . وذات الخدن هي التي تزني سرا . وقيل : المسافحة المبذولة ، وذات الخدن التي تزني بواحد . وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى ، ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ؛ عن ابن عباس وغيره .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : فإذا أحصن قراءة عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة . الباقون بضمها . فبالفتح معناه أسلمن ، وبالضم زوجن . فإذا زنت الأمة المسلمة جلدت نصف جلد الحرة ؛ وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور ، ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم . وعليه فلا تحد كافرة إذا زنت ، وهو قول الشافعي فيما ذكر ابن المنذر . وقال آخرون : إحصانها التزوج بحر . فإذا زنت الأمة المسلمة التي لم تتزوج فلا حد عليها ، قال سعيد بن جبير والحسن وقتادة ، وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء ، وبه قال أبو عبيد . قال : وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنه أنه سئل عن حد الأمة فقال : إن الأمة ألقت فروة رأسها من وراء الدار . قال الأصمعي : الفروة جلدة الرأس . قال أبو عبيدة : وهو لم يرد الفروة بعينها ، وكيف تلقي جلدة رأسها من وراء الدار ، ولكن هذا مثل ! إنما أراد بالفروة القناع ، يقول ليس عليها قناع ولا حجاب ، وأنها تخرج إلى كل موضع يرسلها أهلها إليه ، لا تقدر على الامتناع من ذلك ؛ فتصير حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور ، مثل رعاية الغنم وأداء الضريبة ونحو ذلك ؛ فكأنه رأى أن لا حد عليها إذا فجرت ؛ لهذا المعنى . وقالت فرقة : إحصانها التزوج ، إلا أن الحد واجب على الأمة المسلمة غير المتزوجة بالسنة ، كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل : يا رسول الله ، الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ فأوجب عليها الحد . قال الزهري : فالمتزوجة محدودة بالقرآن ، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث .
قال القاضي إسماعيل في قول من قال " إذا أحصن " أسلمن : بعد ؛ لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن في قوله تعالى : من فتياتكم المؤمنات . وأما من قال : " إذا أحصن " تزوجن ، وأنه لا حد على الأمة حتى تتزوج ؛ فإنهم ذهبوا إلى ظاهر القرآن وأحسبهم لم يعلموا هذا الحديث . والأمر عندنا أن الأمة إذا زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله ، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا رجم عليها ؛ لأن الرجم لا يتنصف . قال أبو عمر : ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن ، فكان ذلك زيادة بيان .
قلت : ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد في ذلك . والله أعلم . وقال أبو ثور فيما ذكر ابن المنذر : وإن كانوا اختلفوا في رجمهما فإنهما يرجمان إذا كانا محصنين ، وإن كان إجماع فالإجماع أولى .
الخامسة عشرة : واختلف العلماء فيمن يقيم الحد عليهما ؛ فقال ابن شهاب : مضت السنة أن يحد العبد والأمة أهلوهم في الزنى ، إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لأحد أن يفتات عليه ؛ وهو مقتضى قوله عليه السلام : إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد . وقال علي رضي الله عنه في خطبته : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقائكم الحد ، من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديث عهد بنفاس ، فخشيت إن أنا جلدتها أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : أحسنت . أخرجه مسلم موقوفا عن علي . وأسنده النسائي وقال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن وهذا نص في إقامة السادة الحدود على المماليك من أحصن منهم ومن لم يحصن . قال مالك رضي الله عنه : يحد المولى عبده في الزنى وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود بذلك ، ولا يقطعه في السرقة ، وإنما يقطعه الإمام ؛ وهو قول الليث . وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم ، منهم ابن عمر وأنس ، ولا مخالف لهم من الصحابة .
وروي عن ابن أبي ليلى أنه قال : أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت ، في مجالسهم . وقال أبو حنيفة : يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنى وسائر الحدود ؛ وهو قول الحسن بن حي . وقال الشافعي : يحده المولى في كل حد ويقطعه ؛ واحتج بالأحاديث التي ذكرنا . وقال الثوري والأوزاعي : يحده في الزنى ؛ وهو مقتضى الأحاديث ، والله أعلم . وقد مضى القول في تغريب العبيد في هذه السورة .
السادسة عشرة : فإن زنت الأمة ثم عتقت قبل أن يحدها سيدها لم يكن له سبيل إلى حدها ، والسلطان يجلدها إذا ثبت ذلك عنده ؛ فإن زنت ثم تزوجت لم يكن لسيدها أن يجلدها أيضا لحق الزوج ؛ إذ قد يضره ذلك . وهذا مذهب مالك إذا لم يكن الزوج ملكا للسيد ، فلو كان ، جاز للسيد ذلك لأن حقهما حقه .
السابعة عشرة : فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره ، ولا التفات لما أنكره المولى ، وهذا مجمع عليه بين العلماء . وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب والمعتق بعضه . وأجمعوا أيضا على أن الأمة إذا زنت ثم أعتقت حدت حد الإماء ؛ وإذا زنت وهي لا تعلم بالعتق ثم علمت وقد حدت أقيم عليها تمام حد الحرة ؛ ذكره ابن المنذر .
الثامنة عشرة : واختلفوا في عفو السيد عن عبده وأمته إذا زنيا ؛ فكان الحسن البصري يقول : له أن يعفو . وقال غير الحسن : لا يسعه إلا إقامة الحد ، كما لا يسع السلطان أن يعفو عن حد إذا علمه ، لم يسع السيد كذلك أن يعفو عن أمته إذا وجب عليها الحد ؛ وهذا على مذهب أبي ثور . قال ابن المنذر : وبه نقول .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب أي الجلد ويعني بالمحصنات هاهنا الأبكار الحرائر ؛ لأن الثيب عليها الرجم والرجم لا يتبعض ، وإنما قيل للبكر محصنة وإن لم تكن متزوجة ؛ لأن الإحصان يكون بها ؛ كما يقال : أضحية قبل أن يضحى بها ؛ وكما يقال للبقرة : مثيرة قبل أن تثير . وقيل : المحصنات المتزوجات ؛ لأن عليها الضرب والرجم في الحديث ، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف الضرب . والفائدة في نقصان حدهن أنهن أضعف من الحرائر . ويقال : إنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر . وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ؛ ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد ، وكذلك الإماء لما كانت نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل . وذكر في الآية حد الإماء خاصة ، ولم يذكر حد العبيد ؛ ولكن حد العبيد والإماء سواء ؛ خمسون جلدة في الزنى ، وفي القذف وشرب الخمر أربعون ؛ لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور من العبيد في ذلك بعلة المملوكية ، كما دخل الإماء تحت قوله عليه السلام : من أعتق شركا له في عبد . وهذا الذي يسميه العلماء القياس في معنى الأصل ؛ ومنه قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية . فدخل في ذلك المحصنين قطعا ؛ على ما يأتي بيانه في سورة " النور " إن شاء الله تعالى .
الموفية عشرين : وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزانية ليس بيعها بواجب لازم على ربها ، وإن اختاروا له ذلك ؛ لقوله عليه السلام : إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر . أخرجه مسلم عن أبي هريرة . وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها في الرابعة . منهم داود وغيره ؛ لقوله فليبعها وقوله : ثم بيعوها ولو بضفير . قال ابن شهاب : فلا أدري بعد الثالثة أو الرابعة ؛ والضفير الحبل . فإذا باعها بزناها ؛ لأنه عيب فلا يحل أن يكتم . فإن قيل : إذا كان مقصود الحديث إبعاد الزانية ووجب على بائعها التعريف بزناها فلا ينبغي لأحد أن يشتريها ؛ لأنها مما قد أمرنا بإبعادها . فالجواب أنها مال ولا تضاع ؛ للنهي عن إضاعة المال ، ولا تسيب ؛ لأن ذلك إغراء لها بالزنى وتمكين منه ، ولا تحبس دائما ، فإن فيه تعطيل منفعتها على سيدها فلم يبق إلا بيعها . ولعل السيد الثاني يعفها بالوطء أو يبالغ في التحرز فيمنعها من ذلك . وعلى الجملة فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال . والله أعلم .
الحادية والعشرون : وأن تصبروا خير لكم أي الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة ، لأنه يفضي إلى إرقاق الولد ، والغض من النفس والصبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه . يعني يصير ولده رقيقا ؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد . وقال سعيد بن جبير : ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب ، قال الله تعالى : وأن تصبروا خير لكم ، أي عن نكاح الإماء . وفي سنن ابن ماجه عن الضحاك بن مزاحم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر . ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس ، وكان خادما لأنس ، وزاد : فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت - أو قال - فساد البيت .
وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥٢
ثم قال تعالى { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا } الآية. أي: ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي: الحرائر المؤمنات وخاف على نفسه العَنَت أي: الزنا والمشقة الكثيرة، فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات. وهذا بحسب ما يظهر، وإلا فالله أعلم بالمؤمن الصادق من غيره، فأمور الدنيا مبنية على ظواهر الأمور، وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن. { فَانْكِحُوهُنَّ } أي: المملوكات { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } أي: سيدهن واحدا أو متعددا. { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي: ولو كن إماء، فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب للأمة. ولكن لا يجوز نكاح الإماء إلا إذا كن { مُحْصَنَاتٍ } أي: عفيفات عن الزنا { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } أي: زانيات علانية. { وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أي: أخلاء في السر. فالحاصل أنه لا يجوز للحر المسلم نكاح أمة إلا بأربعة شروط ذكرها الله: الإيمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا، وعدم استطاعة طول الحرة، وخوف العنت، فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن. ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الأولاد للرق، ولما فيه من الدناءة والعيب. وهذا إذا أمكن الصبر، فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلا بنكاحهن وجب ذلك. ولهذا قال: { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقوله: { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي: تزوجن أو أسلمن أي: الإماء { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } أي: الحرائر { مِنَ الْعَذَابِ } وذلك الذي يمكن تنصيفه وهو: الجَلد فيكون عليهن خمسون جَلدة. وأما الرجم فليس على الإماء رجم لأنه لا يتنصف، فعلى القول الأول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد، إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة. وعلى القول الثاني: إن الإماء غير المسلمات، إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن. وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة. ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات، يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث. وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم الأمة لعدم الفارق بينهما.
يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٢
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم - أيها المؤمنون - ما أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، ( ويهديكم سنن الذين من قبلكم ) يعني : طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها ( ويتوب عليكم ) أي من الإثم والمحارم ، ( والله عليم حكيم ) أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله .
يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٢
قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم
أي ليبين لكم أمر دينكم ومصالح أمركم ، وما يحل لكم وما يحرم عليكم . وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم الله تعالى ؛ ومنه قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء على ما يأتي . وقال بعد هذا : يريد الله أن يخفف عنكم فجاء هذا ب أن والأول باللام . فقال الفراء : العرب تعاقب بين لام كي وأن ؛ فتأتي باللام التي على معنى " كي " في موضع " أن " في أردت وأمرت ؛ فيقولون : أردت أن تفعل ، وأردت تفعل ؛ لأنهما يطلبان المستقبل . ولا يجوز ظننت لتفعل ؛ لأنك تقول ظننت أن قد قمت . وفي التنزيل وأمرت لأعدل بينكم وأمرنا لنسلم لرب العالمين . يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم . يريدون أن يطفئوا نور الله . قال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
يريد أن أنسى . قال النحاس : وخطأ الزجاج هذا القول وقال : لو كانت اللام بمعنى " أن " لدخلت عليها لام أخرى ؛ كما تقول : جئت كي تكرمني ، ثم تقول جئت لكي تكرمني . وأنشدنا قيس بن عبادة :
أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود
قال : والتقدير إرادته ليبين لكم . قال النحاس : وزاد الأمر على هذا حتى سماها بعض القراء لام أن ؛ وقيل : المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم .
ويهديكم سنن الذين من قبلكم أي من أهل الحق . وقيل : معنى يهديكم يبين لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل . وقال بعض أهل النظر : في هذا دليل على أن كل ما حرم الله قبل هذه الآية علينا فقد حرم على من كان قبلنا .
قال النحاس : وهذا غلط ؛ لأنه يكون المعنى ويبين لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نهي عنه ، وقد يكون ويبين لكم كما بين لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومي به إلى هذا بعينه . ويقال : إن قوله يريد الله ابتداء القصة ، أي يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته . ويهديكم يعرفكم سنن الذين من قبلكم أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم ، وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم ولكني أتوب عليكم . والله عليم بمن تاب حكيم بقبول التوبة .
يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٦٢
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل. { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده. ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك. وقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا ٧٢
وله : ( [ والله يريد أن يتوب عليكم ] ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ) أي : يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة ( أن تميلوا ) يعني : عن الحق إلى الباطل ( ميلا عظيما )
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا ٧٢
قوله تعالى : والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما
قوله تعالى : والله يريد أن يتوب عليكم ابتداء وخبر . وأن في موضع نصب ب يريد وكذلك يريد الله أن يخفف عنكم ؛ ف ( أن ) يخفف في موضع نصب ب ( يريد ) والمعنى : يريد توبتكم ، أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم . قيل : هذا في جميع أحكام الشرع ، وهو الصحيح . وقيل : المراد بالتخفيف نكاح الأمة ، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ؛ قاله مجاهد وابن زيد وطاوس . قال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء . واختلف في تعيين المتبعين للشهوات ؛ فقال مجاهد : هم الزناة . السدي : هم اليهود والنصارى . وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ؛ لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب . وقال ابن زيد : ذلك على العموم ، وهو الأصح . والميل : العدول عن طريق الاستواء ؛ فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة .
وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا ٧٢
وقوله: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم. { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين. يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين.
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ٨٢
أي : في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ، ولهذا أباح [ نكاح ] الإماء بشروطه ، كما قال مجاهد وغيره : ( خلق الإنسان ضعيفا ) فناسبه التخفيف; لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل [ الأحمسي ] حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : ( خلق الإنسان ضعيفا ) أي : في أمر النساء ، وقال وكيع : يذهب عقله عندهن .
وقال موسى الكليم عليه الصلاة والسلام لنبينا صلوات الله وسلامه عليه ليلة الإسراء حين مر عليه راجعا من عند سدرة المنتهى ، فقال له : ماذا فرض عليكم ؟ فقال : " أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة " فقال له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف; فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا ، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا ، فرجع فوضع عشرا ، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسا [ قال الله عز وجل : " هن خمس وهن خمسون ، الحسنة بعشر أمثالها " ] الحديث .
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ٨٢
قوله تعالى : وخلق الإنسان ضعيفا نصب على الحال ؛ والمعنى أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه ، وهذا أشد الضعف فاحتاج إلى التخفيف . وقال طاوس : ذلك في أمر النساء خاصة . وروي عن ابن عباس أنه قرأ " وخلق الإنسان ضعيفا " أي وخلق الله الإنسان ضعيفا ، أي لا يصبر عن النساء . قال ابن المسيب : لقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من فتنة النساء . ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال عبادة : ألا تروني لا أقوم إلا رفدا ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى : يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي منذ زمان - قال يحيى : يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي ، وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي ، إنه لا سمع له ولا بصر .
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ٨٢
{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي: بسهولة ما أمركم به و [ما] نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٩٢
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما - قال : هو الذي قال الله عز وجل : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود الأودي عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله [ ( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) ] قال : إنها [ كلمة ] محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما أنزل الله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف للناس ! فأنزل الله بعد ذلك : ( ليس على الأعمى حرج ) [ النور : 61 ] الآية ، [ وكذا قال قتادة بن دعامة ] .
وقوله : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) قرئ : تجارة بالرفع وبالنصب ، وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال . كما قال [ الله ] تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) [ الأنعام : 151 ] ، وكقوله ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) [ الدخان : 56 ] .
ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [ رحمه الله ] على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول; لأنه يدل على التراضي نصا ، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد ، وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقرات ، وفيما يعده الناس بيعا ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم .
قال مجاهد : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) بيعا أو عطاء يعطيه أحد أحدا . ورواه ابن جرير [ ثم ] قال :
وحدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن سليمان الجعفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا يحل لمسلم أن يغش مسلما " . هذا حديث مرسل .
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ البخاري : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " .
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي ، وأحمد [ بن حنبل ] وأصحابهما ، وجمهور السلف والخلف . ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، [ كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام ] بحسب ما يتبين فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك ، رحمه الله . وصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب .
وقوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل ( إن الله كان بكم رحيما ) أي : فيما أمركم به ، ونهاكم عنه .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمت على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب! " قال : قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فذكرت قول الله [ عز وجل ] ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا .
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به . ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عنه ، فذكر نحوه . وهذا ، والله أعلم ، أشبه بالصواب .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جنب ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفت أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم [ إن الله كان بكم رحيما ] ) قال : فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم أورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده ، يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " .
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وعن أبي قلابة ، عن ثابت بن الضحاك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " . وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة وفي الصحيحين من حديث الحسن ، عن جندب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح ، فأخذ سكينا نحر بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات ، قال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه ، حرمت عليه الجنة " .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٩٢
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : بالباطل أي بغير حق . ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه ؛ وقد قدمنا معناه في البقرة . ومن أكل المال بالباطل بيع العربان ؛ وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك الدابة ويعطيك درهما فما فوقه ، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كراء الدابة ؛ وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك . فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين ، لأنه من باب بيع القمار والغرر والمخاطرة ، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة ، وذلك باطل بإجماع . وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده ، وترد السلعة إن كانت قائمة ، فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها . وقد روي عن قوم منهم ابن سيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا . وكان زيد بن أسلم يقول : أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر : هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح ، وإنما ذكره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا ؛ وهذا ومثله ليس حجة . ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه ؛ وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن إذا اختار تمام البيع . وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره ؛ وفي موطأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيع العربان ) . قال أبو عمر : قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع ، وأشبه ما قيل فيه : أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة ؛ لأن ابن لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه . حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره ، وابن لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال : إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه غلط . وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح . ومنهم من يضعف حديثه كله . ، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث ، إلا أن حاله عندهم كما وصفنا .
الثانية : قوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم هذا استثناء منقطع ، أي ولكن تجارة عن تراض . والتجارة هي البيع والشراء ؛ وهذا مثل قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا على ما تقدم . وقرئ " تجارة " ، بالرفع أي إلا أن تقع تجارة ؛ وعليه أنشد سيبويه :
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
وتسمى هذه كان التامة ؛ لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول . وقرئ " تجارة " بالنصب ؛ فتكون كان ناقصة ؛ لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر ، فاسمها مضمر فيها ، وإن شئت قدرته ، أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ؛ فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقد تقدم هذا ؛ ومنه قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة .
الثالثة : قوله تعالى : تجارة التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله ؛ قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . وقال تعالى : يرجون تجارة لن تبور . وقال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم الآية . فسمى ذلك كله بيعا وشراء على وجه المجاز ، تشبيها بعقود الأشربة والبياعات التي تحصل بها الأغراض ، وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر ، وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه أولو الأقدار ، وزهد فيه ذوو الأخطار . والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار ، فهذا أليق بأهل المروءة ، وأعم جدوى ومنفعة ، غير أنه أكثر خطرا وأعظم غررا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن المسافر وماله لعلى قلت إلا ما وقى الله . يعني على خطر . وقيل : في التوراة يا ابن آدم ، أحدث سفرا أحدث لك رزقا . الطبري : وهذه الآية أدل دليل على فساد قول : . . . . .
الرابعة : اعلم أن كل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض إلا أن قوله بالباطل أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك . وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه ؛ كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب . وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة في مواضعها . فهذان طرفان متفق عليهما . وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه . روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ؛ فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في " النور " ؛ فقال : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أشتاتا ؛ فكان الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى طعامه فيقول : إني لأجنح أن آكل منه - والتجنح الحرج ويقول : المسكين أحق به مني . فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، وأحل طعام أهل الكتاب .
الخامسة : لو اشتريت من السوق شيئا ؛ فقال لك صاحبه قبل الشراء : ذقه وأنت في حل ؛ فلا تأكل منه ؛ لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء ؛ فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة ، ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار .
السادسة : والجمهور على جواز الغبن في التجارة ؛ مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز ، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير ، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك ، كما تجوز الهبة لو وهب . واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك ؛ فقال قوم : عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا بالغا . وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ؛ وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . والأول أصح ؛ لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية . فليبعها ولو بضفير وقوله عليه السلام لعمر : لا تبتعه يعني الفرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد وقوله عليه السلام : دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وقوله عليه السلام : لا يبع حاضر لباد وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره .
السابعة : قوله تعالى : عن تراض منكم أي عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين . واختلف العلماء في التراضي ؛ فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر ؛ فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا ؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم . قال الأوزاعي : هما بالخيار ما لم يتفرقا ؛ إلا بيوعا ثلاثة : بيع السلطان المغانم ، والشركة في الميراث ، والشركة في التجارة ؛ فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه بالخيار . وقال : وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ؛ وهو قول أهل الشام . وقال الليث : التفرق أن يقوم أحدهما . وكان أحمد بن حنبل يقول : هما بالخيار أبدا ما لم يتفرقا بأبدانهما ، وسواء قالا : اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما من مكانهما ؛ وقاله الشافعي أيضا . وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك . وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء . وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار . قال محمد بن الحسن : معنى قوله في الحديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أن البائع إذا قال : قد بعتك ، فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت . وهو قول أبي حنيفة ، ونص مذهب مالك أيضا ، حكاه ابن خويز منداد . وقيل : ليس له أن يرجع . وقد مضى في " البقرة " . واحتج الأولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر . رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر ؛ فقوله عليه السلام في هذه الرواية : أو يقول أحدهما لصاحبه اختر هو معنى الرواية الأخرى إلا بيع الخيار وقوله : إلا أن يكون بيعهما عن خيار ونحوه . أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه : اختر إنفاذ البيع أو فسخه ؛ فإن اختار إمضاء البيع تم البيع بينهم وإن لم يتفرقا . وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع أحدا وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلا ثم رجع . وفي الأصول : إن من روى حديثا فهو أعلم بتأويله ، لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وروى أبو داود والدارقطني عن أبي الوضيء قال : كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل منا : أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال : نعم ؛ فباعه ثم بات معنا ، فلما أصبح قام إلى فرسه ، فقال له صاحبنا : ما لك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال : ما لي في هذا البيع من حاجة . فقال : ما لك ذلك ، لقد بعتني . فقال لهما القوم : هذا أبو برزة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه ؛ فقال لهما : أترضيان بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا : نعم . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وإني لا أراكما افترقتما . فهذان صحابيان قد علما مخرج الحديث وعملا بمقتضاه ، بل هذا كان عمل الصحابة . قال سالم : قال ابن عمر : كنا إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان . قال : فتبايعت أنا وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر ؛ قال : فلما بعته طفقت أنكص القهقرى ، خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه . أخرجه الدارقطني ثم قال : إن أهل اللغة فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا ؛ فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في الأبدان . قال أحمد بن يحيى ثعلب : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال فرقت بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشددا فتفرقا ؛ فجعل الافتراق في القول ، والتفرق في الأبدان . احتجت المالكية بما تقدم بيانه في آية الدين ، وبقوله تعالى : أوفوا بالعقود وهذان قد تعاقدا . وفي هذا الحديث إبطال الوفاء بالعقود . قالوا : وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه الله فراقا ؛ قال الله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا وقال عليه السلام : تفترق أمتي ولم يقل بأبدانها . وقد روى الدارقطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال : سمعت شعيبا يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله . قالوا : فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق ؛ لأن الإقالة لا تصح إلا فيما قد تم من البيوع . قالوا : ومعنى قوله المتبايعان بالخيار أي المتساومان بالخيار ما لم يعقدا فإذا عقدا بطل الخيار فيه . والجواب : أما ما اعتلوا به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان كما بيناه في " آل عمران " ، وإن كان صحيحا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح . وبيانه أن يقال : خبرونا عن الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع ، أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم غيره ؟ فإن قالوا : هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل ؛ لأنه ليس ثم كلام غير ذلك . وإن قالوا : هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم : كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به اجتمعا وتم به بيعهما ، به افترقا ، هذا عين المحال والفاسد من القول . وأما قوله : ولا يحل له أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله فمعناه - إن صح - على الندب ؛ بدليل قوله عليه السلام . من أقال مسلما أقاله الله عثرته وبإجماع المسلمين على أن ذلك يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث ، ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا يقيله إلا أن يشاء . وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى ( لا يحل ) فإن لم يكن وجه هذا الخبر الندب ، وإلا فهو باطل بالإجماع . وأما تأويل " المتبايعان " بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ ، وإنما معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه : اختر فيختار ؛ فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ؛ فإن فرض خيار فالمعنى : إلا بيع الخيار فإنه يبقى الخيار بعد التفرد بالأبدان . وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف . وفي قول عمرو بن شعيب " سمعت أبي يقول " دليل على صحة حديثه ؛ فإن الدارقطني قال حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال : قلت لأحمد بن حنبل : شعيب سمع من أبيه شيئا ؟ قال : يقول حدثني أبي . قال : فقلت : فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو ؟ قال : نعم ، أراه قد سمع منه . قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو .
الثامنة : روى الدارقطني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة . ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها ، أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته ؛ وهو أن يقول : صلى الله على محمد ! ما أجود هذا . ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض ؛ فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وسيأتي .
التاسعة : وفي هذه الآية مع الأحاديث التي ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة ؛ لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة ، وهذا بين .
قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن " تقتلوا " على التكثير . وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا . ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف . ويحتمل أن يقال : ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر أو غضب ؛ فهذا كله يتناوله النهي . وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل خوفا على نفسه منه ؛ فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم يقل شيئا . خرجه أبو داود وغيره ، وسيأتي .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٩٢
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة. بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف، لأن هذا من الباطل وليس من الحق. ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره. { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود. وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله: { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله: "لا يأكل بعضكم مال بعض" و "لا يقتل بعضكم بعضًا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط. مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية. ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم، على الآكل، ومن أخذ ماله، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات، وأنواع الحرف والإجارات، فقال: { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي: فإنها مباحة لكم. وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة، بل مخالف لمقصودها، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا. ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده. وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد. ثم ختم الآية بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها.
وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا ٠٣
ولهذا قال الله تعالى : ( ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ) أي : ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما في تعاطيه ، أي : عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه ( فسوف نصليه نارا [ وكان ذلك على الله يسيرا ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد .
وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا ٠٣
قوله تعالى : ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ذلك إشارة إلى القتل ؛ لأنه أقرب مذكور ؛ قاله عطاء . وقيل : هو عائد إلى أكل المال بالباطل وقتل النفس ؛ لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا ، ثم ورد الوعيد حسب النهي . وقيل : هو عام على كل ما نهى عنه من القضايا ، من أول السورة إلى قوله تعالى : ومن يفعل ذلك . وقال الطبري : ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد ، وذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد ، إلا من قوله : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : ومن يفعل ذلك عدوانا . والعدوان تجاوز الحد . والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وقد تقدم . وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط ، وذكر العدوان والظلم مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما ، وحسن ذلك في الكلام كما قال عدي بن زيد :
فقددت الأديم لراهشه وألفى قولها كذبا ومينا
وحسن العطف لاختلاف اللفظين ؛ يقال : بعدا وسحقا ؛ ومنه قول يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله . فحسن ذلك لاختلاف اللفظ . ونصليه معناه نمسه حرها . وقد بينا معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخدري في العصاة وأهل الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد ؛ فلا معنى لإعادة ذلك . وقرأ الأعمش والنخعي " نصليه " بفتح النون ، على أنه منقول من صلى نارا ، أي أصليته ؛ وفي الخبر " شاة مصلية " . ومن ضم النون منقول بالهمزة ، مثل طعمت وأطعمت .
وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا ٠٣
ثم قال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ } أي: أكل الأموال بالباطل وقتل النفوس { عُدْوَانًا وَظُلْمًا } أي: لا جهلا ونسيانا { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } أي: عظيمة كما يفيده التنكير { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا ١٣
وقوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ وندخلكم مدخلا كريما ] ) . أي : إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة; ولهذا قال : ( وندخلكم مدخلا كريما ) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا خالد بن أيوب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس [ يرفعه ] : " الذي بلغنا عن ربنا ، عز وجل ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر ، يقول الله [ تعالى ] ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ وندخلكم مدخلا كريما ] ) " .
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر :
قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، عن قرثع الضبي ، عن سلمان الفارسي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ " قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم . قال : " لكن أدري ما يوم الجمعة ، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته ، إلا كان كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ، ما اجتنبت المقتلة وقد روى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى [ بن إبراهيم ] حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر ، أخبرني صهيب مولى العتواري ، أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد يقولان : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " والذي نفسي بيده " - ثلاث مرات - ثم أكب ، فأكب كل رجل منا يبكي ، لا ندري على ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع ، إلا فتحت له أبواب الجنة ، ثم قيل له : ادخل بسلام " .
وهكذا رواه النسائي ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الليث بن سعد ، رواه الحاكم أيضا وابن حبان في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به . ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
تفسير هذه السبع :
وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " .
طريق أخرى عنه : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فهد بن عوف ، حدثنا أبو عوانة ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكبائر سبع ، أولها الإشراك بالله ، ثم قتل النفس بغير حقها ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم إلى أن يكبر ، والفرار من الزحف ، ورمي المحصنات ، والانقلاب إلى الأعراب بعد الهجرة " .
فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن ، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب ، وهو ضعيف عند عدم القرينة ، ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم ، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع ، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال :
حدثنا أحمد بن كامل القاضي ، إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد ، حدثنا معاذ بن هانئ ، حدثنا حرب بن شداد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الحميد بن سنان ، عن عبيد بن عمير ، عن أبيه - يعني عمير بن قتادة - رضي الله عنه أنه حدثه - وكانت له صحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتبت عليه ، ويصوم رمضان ويحتسب صومه ، يرى أنه عليه حق ، ويعطي زكاة ماله يحتسبها ، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها " . ثم إن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ فقال : " تسع : الشرك بالله ، وقتل نفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ، ثم قال : لا يموت رجل لا يعمل هؤلاء الكبائر ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب " .
وهكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا من حديث معاذ بن هانئ ، به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطا ثم قال الحاكم : رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان .
قلت : وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات ، وقال البخاري : في حديثه نظر .
وقد رواه ابن جرير ، عن سليمان بن ثابت الجحدري ، عن سلم بن سلام ، عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبيد بن عمير ، عن أبيه ، فذكره . ولم يذكر في الإسناد : عبد الحميد بن سنان ، فالله أعلم .
حديث آخر في معنى ما تقدم : قال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد ، عن المطلب عن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : " لا أقسم ، لا أقسم " . ثم نزل فقال : " أبشروا ، أبشروا ، من صلى الصلوات الخمس ، واجتنب الكبائر السبع ، نودي من أبواب الجنة : ادخل " . قال عبد العزيز : لا أعلمه إلا قال : " بسلام " . قال المطلب : سمعت من سأل عبد الله بن عمرو : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن ؟ قال : نعم : " عقوق الوالدين ، وإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا " .
حديث آخر في معناه : قال أبو جعفر بن جرير في التفسير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس قال : كنت مع النجدات ، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عمر فقلت له : إني أصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر قال : ما هي ؟ قلت : أصبت كذا وكذا . قال : ليس من الكبائر . قلت : وأصبت كذا وكذا . قال : ليس من الكبائر قال - بشيء لم يسمه طيسلة - قال : هي تسع وسأعدهن عليك : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر وبكاء الوالدين من العقوق . قال زياد : وقال طيسلة لما رأى ابن عمر : فرقي . قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم . قال : وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم . قال : أحي والداك ؟ قلت : عندي أمي . قال : فوالله لئن أنت ألنت لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا سليمان بن ثابت الجحدري الواسطي ، حدثنا سلم بن سلام ، حدثنا أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي النهدي قال : أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة ، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع . قلت : ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة - قال : قلت : قبل القتل ؟ قال : نعم ورغما - وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإلحاد بالبيت الحرام ، قبلتكم أحياء وأمواتا .
هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا ، وقد رواه علي بن الجعد ، عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي [ النهدي ] قال : أتيت ابن عمر عشية عرفة ، وهو تحت ظل أراكة ، وهو يصب الماء على رأسه ، فسألته عن الكبائر ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هن سبع " . قال : قلت : وما هن ؟ قال : " الإشراك بالله ، وقذف المحصنة - قال : قلت : قبل الدم ؟ قال : نعم ورغما - وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا " .
وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب ، عن أيوب بن عتبة اليماني - وفيه ضعف - والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا بقية ، عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان : أن أبا رهم السمعي حدثهم ، عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عبد الله لا يشرك به شيئا ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة " فسأله رجل : ما الكبائر ؟ فقال الشرك بالله ، وقتل نفس مسلمة ، والفرار يوم الزحف " .
ورواه أحمد أيضا والنسائي ، من غير وجه ، عن بقية .
حديث آخر : روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف - عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم ، قال : وكان في الكتاب : " إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق ، والفرار في سبيل الله يوم الزحف ، وعقوق الوالدين ، ورمي المحصنة ، وتعلم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم " .
حديث آخر : فيه ذكر شهادة الزور; قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر - أو سئل عن الكبائر - فقال : " الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين " . وقال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قال : " قول الزور - أو شهادة الزور " . قال شعبة : أكبر ظني أنه قال " " شهادة الزور " .
أخرجاه من حديث شعبة به . وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس ، بنحوه .
حديث آخر : أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس فقال : " ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور " . فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .
حديث آخر : فيه ذكر قتل الولد ، وهو ثابت في الصحيحين ، عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ - وفي رواية : أكبر - قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " . قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ثم قرأ : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ] ) إلى قوله : ( إلا من تاب ) [ الفرقان : 68 ] .
حديث ] آخر [ فيه ذكر شرب الخمر . قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن رجلا حدثه عن عمرة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكة وسئل عن الخمر ، فقال : والله إن عظيما عند الله الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب فسأله ثم رجع فقال : سألته عن الخمر فقال : " هي أكبر الكبائر ، وأم الفواحش ، من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته " غريب من هذا الوجه .
طريق أخرى : رواها الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن داود بن صالح ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، وعمر بن الخطاب وأناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم أجمعين ، جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا أعظم الكبائر ، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك ، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم ، فأنكروا ذلك ، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره ، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب خمرا أو يقتل نفسا ، أو يزاني أو يأكل لحم خنزير ، أو يقتله فاختار شرب الخمر وإنه لما شربها لم يمتنع من شيء أراده منه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا : " ما من أحد يشرب خمرا إلا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت أحد في مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا ، وداود بن صالح هو التمار المدني مولى الأنصار ، قال الإمام أحمد : لا أرى به بأسا . وذكره ابن حبان في الثقات ، ولم أر أحدا جرحه .
حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، أو قتل النفس - شعبة الشاك - واليمين الغموس " . ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة : زاد البخاري وشيبان ، كلاهما عن ، به .
حديث آخر : في اليمين الغموس : " قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا هشام بن سعد ، عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي ، عن أبي أمامة الأنصاري ، عن عبد الله بن أنيس الجهني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أكبر الكبائر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة ، إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة " . وهكذا رواه ] الإمام [ أحمد في مسنده ، وعبد بن حميد في تفسيره ، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب ، عن الليث بن سعد ، به . وأخرجه الترمذي ] في تفسيره [ عن عبد بن حميد ] به [ ثم قال : وهذا حديث حسن غريب ، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ، ولا يعرف اسمه . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، عن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي أمامة ، عن أبيه عن عبد الله بن أنيس . فزاد عبد الله بن أبي أمامة .
قلت : هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبان ، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق كما ذكره شيخنا ، فسح الله في أجله .
حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو ، في التسبب إلى شتم الوالدين . قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن مسعر وسفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو - رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو - قال : " من الكبائر أن يشتم الرجل والديه " : قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " .
وقد أخرج هذا الحديث البخاري عن أحمد بن يونس ، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " . قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ ! قال : " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه " .
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم ، به مرفوعا بنحوه . وقال الترمذي : صحيح .
وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
حديث آخر في ذلك : قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أكبر الكبائر عرض الرجل المسلم ، والسبتان والسبة " .
هكذا روي هذا الحديث ، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ، ومن الكبائر السبتان بالسبة " .
وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زير عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .
حديث آخر : في ذكر الجمع بين الصلاتين من غير عذر; قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حنش عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الصلاتين من غير عذر ، فقد أتى بابا من أبواب الكبائر " . وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف ، عن المعتمر بن سليمان ، به ثم قال : حنش هو أبو علي الرحبي ، وهو حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث ، ضعفه أحمد وغيره .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل بن علية ، عن خالد الحذاء ، عن حميد بن هلال ، عن أبي قتادة - يعني العدوي - قال : قرئ علينا كتاب عمر : من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير عذر - والفرار من الزحف ، والنهبة .
وهذا إسناد صحيح : والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرا ، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية ، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة ، فما ظنك بمن ترك الصلاة بالكلية ؟ ولهذا روى مسلم في صحيحه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " وفي السنن عنه ، عليه السلام ، أنه قال : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " وقال : " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " وقال : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " .
حديث آخر : فيه اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئا فدخل عليه رجل فقال : ما الكبائر ؟ فقال : " الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، وهذا أكبر الكبائر " .
وقد رواه البزار ، عن عبد الله بن إسحاق العطار ، عن أبي عاصم النبيل ، عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ; أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ قال : " الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله عز وجل " .
وفي إسناده نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا ، فقد روي عن ابن مسعود نحو ذلك قال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مطرف ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل قال : قال ابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله والإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله .
وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق ، عن وبرة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، به ثم رواه من طرق عدة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود . وهو صحيح إليه بلا شك .
حديث آخر : فيه سوء الظن بالله; قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم بن بندار ، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان ، حدثنا محمد بن مهاجر حدثنا أبو حذيفة البخاري ، عن محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ " أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل " . حديث غريب جدا .
حديث آخر : فيه التعرب بعد الهجرة ، قد تقدم في رواية عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عمرو بن خالد الحراني ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الكبائر سبع ، ألا تسألوني عنهن ؟ الشرك بالله ، وقتل النفس ، والفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، والتعرب بعد الهجرة " .
وفي إسناده نظر ، ورفعه غلط فاحش والصواب ما رواه ابن جرير : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهيل بن أبي حثمة عن أبيه قال : إني لفي هذا المسجد - مسجد الكوفة - وعلي ، رضي الله عنه ، يخطب الناس على المنبر ، فقال : يا أيها الناس ، الكبائر سبع فأصاخ الناس ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : لم لا تسألوني عنها ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة . فقلت لأبي : يا أبت ، التعرب بعد الهجرة ، كيف لحق هاهنا ؟ قال : يا بني ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان - عن منصور ، عن هلال بن يساف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " ألا إنما هن أربع : ألا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا " . قال : فما أنا بأشح عليهن مني ، إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه ، من حديث منصور ، بإسناده مثله .
حديث آخر : تقدم من رواية عمر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الإضرار في الوصية من الكبائر " . والصحيح ما رواه غيره ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قوله ] قال ابن أبي حاتم : وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله .
حديث آخر في ذلك : " قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ; أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغلول ، والسحر ، وأكل الربا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين تجعلون ( الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) [ آل عمران : 77 ] ؟ ! إلى آخر الآية . في إسناده ضعف ، وهو حسن .
ذكر أقوال السلف في ذلك :
قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي ، رضي الله عنهما ، في ضمن الأحاديث المذكورة . وقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن : أن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله ، أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك ؟ فقدم وقدموا معه ، فلقيه عمر ، رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله ، أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : اجمعهم لي . قال : فجمعتهم له - قال ابن عون : أظنه قال : في بهو - فأخذ أدناهم رجلا فقال : نشدتك بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال اللهم لا . قال : ولو قال : نعم لخصمه . قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم . قال : فثكلت عمر أمه . أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ ! قد علم ربنا أنه ستكون لنا سيئات . قال : وتلا ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ] ) ثم قال : هل علم أهل المدينة - أو قال : هل علم أحد - بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم .
إسناد حسن ومتن حسن ، وإن كان من رواية الحسن عن عمر ، وفيها انقطاع ، إلا أن مثل هذا اشتهر فتكفي شهرته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا علي بن صالح ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مالك بن جوين ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : الكبائر الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، والسحر ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، وفراق الجماعة ، ونكث الصفقة .
وتقدم عن ابن مسعود أنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، عز وجل .
وروى ابن جرير ، من حديث الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، كلاهما عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها . ومن حديث سفيان الثوري وشعبة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [ نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ] )
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا صالح بن حيان ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : أكبر الكبائر : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، ومنع فضول الماء بعد الري ، ومنع طروق الفحل إلا بجعل .
وفي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ " وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل " ، وذكر الحديث بتمامه .
وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : " من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة الواسطي ، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : ما أخذ على النساء من الكبائر . قال ابن أبي حاتم : يعني قوله : ( على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن [ ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك ] ) الآية [ الممتحنة : 12 ] .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا زياد بن مخراق ، عن معاوية بن قرة قال : أتينا أنس بن مالك ، فكان فيما حدثنا قال : لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال . ثم سكت هنية ثم قال : والله لما كلفنا ربنا أهون من ذلك ، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر ، فما لنا ولها ، ثم تلا ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [ نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ] ) .
أقوال ابن عباس في ذلك :
روى ابن جرير ، من حديث المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن طاوس قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع ، فقال : هي أكثر من سبع وسبع . قال سليمان : فما أدري كم قالها من مرة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس قال : قلت لابن عباس : ما السبع الكبائر ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع .
ورواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن ليث ، عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ؟ ما هن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن طاوس ، عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هن إلى السبعين أقرب ، وكذا قال أبو العالية الرياحي ، رحمه الله .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن قيس عن سعد ، عن سعيد بن جبير ; أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر ؟ سبع ؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث شبل ، به .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . ورواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الكبائر : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة . وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة . وقد ذكرت الطرفة [ فيه ] قال : هي النظرة .
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن حازم ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن معدان ، عن أبي الوليد قال : سألت ابن عباس عن الكبائر فقال هي كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة .
أقوال التابعين
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد قال : سألت عبيدة عن الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان . قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة . قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرا كبيرا .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق ، عن عبيد بن عمير قال : الكبائر سبع ، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله : الإشراك بالله منهن : ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح ) [ الحج : 31 ] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) [ النساء : 10 ] ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) [ البقرة : 275 ] و ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ) [ النور : 23 ] والفرار من الزحف : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا [ فلا تولوهم الأدبار ] ) [ الأنفال : 15 ] ، والتعرب بعد الهجرة : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ) [ محمد : 25 ] ، وقتل المؤمن : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) الآية [ النساء : 93 ] .
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق ، عن عبيد ، بنحوه .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء - يعني ابن أبي رباح - قال : الكبائر سبع : قتل النفس ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : كان يقال شتم أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، من الكبائر .
قلت : وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة ، وهو رواية عن مالك بن أنس ، رحمه الله : وقال محمد بن سيرين : ما أظن أحدا ينتقص أبا بكر ، وعمر ، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الترمذي .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم في قول الله عز وجل : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) من الكبائر : الشرك ، والكفر بآيات الله ورسوله ، والسحر ، وقتل الأولاد ، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة ، ومثل ذلك من الأعمال ، والقول الذي لا يصلح معه عمل ، وأما كل ذنب يصلح معه دين ، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) الآية : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا الكبائر ، وسددوا ، وأبشروا " .
وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس ، وعن جابر مرفوعا : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف ، إلا ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " . فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه ، عن عباس العنبري ، عن عبد الرزاق ثم قال : هذا حديث حسن صحيح وفي الصحيح شاهد لمعناه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة : " أترونها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين ال متلوثين " .
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل : هي ما عليه حد في الشرع .
ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة . وقيل غير ذلك . قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي ، في كتابه " الشرح الكبير " الشهير ، في كتاب الشهادات منه : ثم اختلف الصحابة ، رضي الله [ تعالى ] عنهم ، فمن بعدهم في الكبائر ، وفي الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه :
أحدها : أنها المعصية الموجبة للحد .
والثاني : أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة . وهذا أكثر ما يوجد لهم ، وهو وإلى الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر .
والثالث : قال إمام الحرمين في " الإرشاد " وغيره : كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة .
والرابع : ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة : كل فعل نص الكتاب على تحريمه ، وكل معصية توجب في جنسها حدا من قتل أو غيره ، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ، والكذب في الشهادة ، والرواية ، واليمين .
هذا ما ذكره على سبيل الضبط .
ثم قال : وفصل القاضي الروياني فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق ، والزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصبا ، والقذف . وزاد في " الشامل " على السبع المذكورة : شهادة الزور . وأضاف إليها صاحب العدة : أكل الربا ، والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها ، بلا عذر ، وضرب المسلم بلا حق ، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدا ، وسب أصحابه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ويقال : الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن . ومما يعد من الكبائر : الظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة .
ثم قال الرافعي : وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال .
قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات ، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة ، وإذا قيل : إن الكبيرة [ هى ] ما توعد الشارع عليها بالنار بخصوصها ، كما قال ابن عباس ، وغيره ، وتتبع ذلك ، اجتمع منه شيء كثير ، وإذا قيل : كل ما نهى الله [ تعالى ] عنه فكثير جدا ، والله [ تعالى ] أعلم .
إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا ١٣
قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما
فيه مسألتان :
الأولى : لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر ، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى : إنما التوبة على الله ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض . روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر . وروى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : والذي نفسي بيده ثلاث مرات ، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق ثم تلا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه . وبينت السنة أن المراد ب تجتنبوا ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم . وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة . ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة . ولا صغيرة عندنا . قال القشيري عبد الرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعا من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قلت : وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم ؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء واحتجوا بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه " على التوحيد ؛ وكبير الإثم الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك . فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية ؛ وتصديقه قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه . وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع ؛ غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربعة : اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشرك بالله ؛ دل عليها القرآن .
وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه - بأن يسب رجلا فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الأرض فسادا - ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملة وافرة .
وقد اختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ؛ والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله ؛ لأن فيه تكذيب القرآن ؛ إذ يقول وقوله الحق : ورحمتي وسعت كل شيء وهو يقول : لا يغفر له ؛ فقد حجر واسعا . هذا إذا كان معتقدا لذلك ؛ ولذلك قال الله تعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون . وبعده القنوط ؛ قال الله تعالى : ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل ؛ قال الله تعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . وقال تعالى : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين . وبعده القتل ؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود ، واللواط فيه قطع النسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه ترك إظهار شعائر الإسلام ، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر ؛ فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده ، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .
الثانية : قوله تعالى : وندخلكم مدخلا كريما قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين " مدخلا " بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل ؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا ، ودل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة ؛ فقلت له : وكيف ؟ قال : يقول الله عز وجل : إن تجتبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي . فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين .
وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم . وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والمراد بذلك من مات على الذنوب ؛ فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى ؛ إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له . وروي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعا ، قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر الآية ، وقوله تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه الآية ، وقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها ، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله . وقال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء ، هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : يريد الله ليبين لكم ، والله يريد أن يتوب عليكم ، يريد الله أن يخفف عنكم ، إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، الآية ، إن الله لا يغفر أن يشرك به ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ما يفعل الله بعذابكم الآية .
إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَئَِّاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا ١٣
وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" . وأحسن ما حُدت به الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه.
وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسَۡٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسَۡٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٢٣
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث . فأنزل الله عز وجل : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض )
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة أنها قالت : قلت : يا رسول الله . . . فذكره ، وقال : غريب ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أن أم سلمة قالت . . .
ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث! فنزلت : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) ثم نزلت : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) [ آل عمران : 195 ] .
ثم قال ابن أبي حاتم : وكذا روى سفيان بن عيينة ، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ . وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح ، عن الثوري ، وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله . . . وروي عن مقاتل بن حيان وخصيف نحو ذلك .
وروى ابن جرير من حديث ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن شيخ من أهل مكة قال : نزلت هذه الآية في قول النساء : ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في ] قوله [ ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) قال : أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، فنحن في العمل هكذا ، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة . فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تتمنوا ) فإنه عدل مني ، وأنا صنعته .
وقال السدي : قوله : في الآية ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان . وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي قال : ليس بعرض الدنيا .
وقد روي عن قتادة نحو ذلك . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) قال ولا يتمنى الرجل فيقول : " ليت لو أن لي مال فلان وأهله! " فنهى الله عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله .
وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله . فهما في الأجر سواء " فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه ، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا ، فقال : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) أي : في الأمور الدنيوية ، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة ، وابن عباس . وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان ، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون . رواه ابن جرير .
ثم قال : ( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) أي : كل له جزاء على عمله بحسبه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . وهو قول ابن جرير .
وقيل : المراد بذلك في الميراث ، أي : كل يرث بحسبه . رواه الترمذي عن ابن عباس :
ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال : ( واسألوا الله من فضله ) ] أي [ لا تتمنوا ما فضل به بعضكم على بعض ، فإن هذا أمر محتوم ، والتمني لا يجدي شيئا ، ولكن سلوني من فضلي أعطكم; فإني كريم وهاب .
وقد روى الترمذي ، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد : سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سلوا الله من فضله; فإن الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج " .
ثم قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ، وليس بالحافظ ، ورواه أبو نعيم ، عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع ، عن إسرائيل . ثم رواه من حديث قيس بن الربيع ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله : " سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أحب عباده إليه الذي يحب الفرج " .
ثم قال : ( إن الله كان بكل شيء عليما ) أي : هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه; ولهذا قال : ( إن الله كان بكل شيء عليما )
وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسَۡٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٢٣
قوله تعالى : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما
فيه أربع مسائل :
الأولى : روى الترمذي عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث ؛ فأنزل الله تعالى : ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . قال مجاهد : وأنزل فيها إن المسلمين والمسلمات ، وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة . قال أبو عيسى : هذا حديث مرسل ، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، مرسل أن أم سلمة قالت كذا . وقال قتادة : كان الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ؛ فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث ؛ فنزلت ، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض .
الثانية : قوله تعالى : " ولا تتمنوا " : التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي ؛ فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني ؛ لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل . وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة ، وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمن زوال حاله . والجمهور على إجازة ذلك : مالك وغيره ؛ وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه السلام لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار . فمعنى قوله : لا حسد أي : لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين . وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث ( باب الاغتباط في العلم والحكمة ) قال المهلب : بين الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنيه ، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها . قال ابن عطية : وأما التمني في الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن ، وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن أمنيته بشيء مما قدمنا ذكره فذلك جائز ؛ وذلك موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قول : وددت أن أحيا ثم أقتل .
قلت : هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري كتاب التمني في صحيحه ، وهو يدل على تمني الخير وأفعال البر والرغبة فيها ، وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر ؛ لأنه عليه السلام تمناها دون غيرها ، وذلك لرفيع منزلتها وكرامة أهلها ، فرزقه الله إياها ؛ لقوله : ما زالت أكلة خيبر تعاودني الآن أوان قطعت أبهري . وفي الصحيح : إن الشهيد يقال له تمن فيقول أتمنى أن أرجع إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى إيمان أبي طالب وإيمان أبي لهب وصناديد قريش مع علمه بأنه لا يكون ؛ وكان يقول : واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني . وهذا كله يدل على أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية إلى الحسد والتباغض ، والتمني المنهي عنه في الآية من هذا القبيل ؛ فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر ، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أو لا . وهذا هو الحسد بعينه ، وهو الذي ذمه الله تعالى بقوله : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ويدخل فيه أيضا خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه ؛ لأنه داعية الحسد والمقت . وقد كره بعض العلماء الغبطة وأنها داخلة في النهي ، والصحيح جوازها على ما بينا ، وبالله توفيقنا . وقال الضحاك : لا يحل لأحد أن يتمنى مال أحد ، ألم تسمع الذين قالوا : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إلى أن قال : وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس حين خسف به وبداره وبأمواله لولا أن من الله علينا لخسف بنا وقال الكلبي : لا يتمن الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته ؛ ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله . وهو كذلك في التوراة ، وكذلك قوله في القرآن واسألوا الله من فضله . وقال ابن عباس : نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله ، وأمر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله . ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله عليه وسلم : إنما الدنيا لأربعة نفر : رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء الحديث . . . وقد تقدم . خرجه الترمذي وصححه .
وقال الحسن : لا يتمن أحدكم المال وما يدريه لعل هلاكه فيه ؛ وهذا إنما يصح إذا تمناه للدنيا ، وأما إذا تمناه للخير فقد جوزه الشرع ، فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب ، ويفعل الله ما يشاء .
الثالثة : قوله تعالى : للرجال نصيب مما اكتسبوا يريد من الثواب والعقاب وللنساء كذلك ؛ قال قتادة . فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال . وقال ابن عباس : المراد بذلك الميراث . والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة ، للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ فنهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد ؛ ولأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم ؛ فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم .
الرابعة : قوله تعالى : واسألوا الله من فضله روى الترمذي عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج وخرج أيضا ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه . وهذا يدل على أن الأمر بالسؤال لله تعالى واجب ؛ وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال :
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال أحمد بن المعذل أبو الفضل الفقيه المالكي فأحسن :
التمس الأرزاق عند الذي ما دونه إن سيل من حاجب
من يبغض التارك تسآله جودا ومن يرضى عن الطالب
ومن إذا قال جرى قوله بغير توقيع إلى كاتب
وقد أشبعنا القول في هذا المعنى في كتاب " قمع الحرص بالزهد والقناعة " . وقال سعيد بن جبير : واسألوا الله من فضله العبادة ، ليس من أمر الدنيا . وقيل : سلوه التوفيق للعمل بما يرضيه . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سلوا ربكم حتى الشبع ؛ فإنه إن لم ييسره الله عز وجل لم يتيسر . وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي .
وقرأ الكسائي وابن كثير : " وسلوا الله من فضله " بغير همز في جميع القرآن . الباقون بالهمز . " واسألوا الله " . وأصله بالهمز إلا أنه حذفت الهمزة للتخفيف . والله أعلم .
وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبُواْۖ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا ٱكۡتَسَبۡنَۚ وَسَۡٔلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا ٢٣
ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها. ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب. وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه. ولهذا قال تعالى: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا } أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه. { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا. فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر. وقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } فيعطي من يعلمه أهلا لذلك، ويمنع من يعلمه غير مستحق.
وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فََٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فََٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٣٣
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في قوله : ( ولكل جعلنا موالي ) أي : ورثة . وعن ابن عباس في رواية : أي عصبة . قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى ، كما قال الفضل بن عباس :
مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تظهرن لنا ما كان مدفونا
قال : ويعني بقوله : ( مما ترك الوالدان والأقربون ) من تركة والديه وأقربيه من الميراث ، فتأويل الكلام : ولكلكم - أيها الناس - جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له .
وقوله : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) أي : والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة - أنتم وهم - فآتوهم نصيبهم من الميراث ، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة .
قال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا أبو أسامة ، عن إدريس ، عن طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ولكل جعلنا موالي ) قال : ورثة ، ( والذين عقدت أيمانكم ) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه; للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت ( ولكل جعلنا موالي ) نسخت ، ثم قال : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ويوصى له .
ثم قال البخاري : سمع أبو أسامة إدريس ، وسمع إدريس عن طلحة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأودي ، أخبرني طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( والذين عقدت أيمانكم [ فآتوهم نصيبهم ] ) الآية ، قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه; بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت هذه الآية : ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ) نسخت . ثم قال : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم )
وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج - وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ، يقول : ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل حلف كان في الجاهلية أو عقد أدركه الإسلام ، فلا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولا عقد ولا حلف في الإسلام " . فنسختها هذه الآية : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) [ الأنفال : 75 ] .
ثم قال : وروي عن سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وأبي صالح ، والشعبي ، وسليمان بن يسار ، وعكرمة ، والسدي ، والضحاك ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا : هم الحلفاء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - ورفعه - قال : " ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة وشدة " .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحدثنا أبو كريب ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل عن يونس ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الإسلام ، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة ، وما يسرني أن لي حمر النعم وإني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة " هذا لفظ ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " شهدت حلف المطيبين ، وأنا غلام مع عمومتي ، فما أحب أن لي حمر النعم وأنا أنكثه " . قال الزهري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يصب الإسلام حلفا إلا زاده شدة " . قال : " ولا حلف في الإسلام " . وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار .
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، بتمامه .
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أخبرني مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، قال : فقال : " ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ، ولا حلف في الإسلام " .
وكذا رواه أحمد عن هشيم .
وحدثنا أبو كريب حدثنا وكيع ، عن داود بن أبي عبد الله ، عن ابن جدعان ، عن جدته ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " .
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال : " يا أيها الناس ، ما كان من حلف في الجاهلية ، لم يزده الإسلام إلا شدة ، ولا حلف في الإسلام " .
ثم رواه من حديث حسين المعلم ، وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ، عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " .
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد ، وهو أبو بكر بن أبي شيبة ، بإسناده ، مثله . ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة ، ثلاثتهم عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة - بإسناده ، مثله .
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر ، به . ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، قال : مغيرة أخبرني ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، فقال : " ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ، ولا حلف في الإسلام " .
وكذا رواه شعبة ، عن مغيرة - وهو ابن مقسم - عن أبيه ، به .
وقال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع ، مع ابن ابنها موسى بن سعد - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر - فقرأت عليها ( والذين عقدت أيمانكم ) فقالت : لا ولكن : ( والذين عقدت أيمانكم ) قالت : إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن ، حين أبى أن يسلم ، فحلف أبو بكر أن لا يورثه ، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه .
رواه ابن أبي حاتم ، وهذا قول غريب ، والصحيح الأول ، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك ، وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعقود والعهود ، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة : لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .
وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، رحمه الله .
والصحيح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه; ولهذا قال تعالى : ( ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ) أي : ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه ، وهم يرثونه دون سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر " أي : اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العصبة ، وقوله : ( والذين عقدت أيمانكم ) أي : قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم ، أي من الميراث ، فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له .
وقد قيل : إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل ، وحكم الماضي أيضا ، فلا توارث به ، كما قال ابن أبي حاتم .
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأودي ، أخبرني طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : ( فآتوهم نصيبهم ) قال : من النصرة والنصيحة والرفادة ، ويوصى له ، وقد ذهب الميراث .
ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، نحو ذلك .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : ( والذين عقدت أيمانكم ) قال : كان الرجل يعاقد الرجل ، أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) [ الأحزاب : 6 ] . يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وذلك هو المعروف .
وهذا نص غير واحد من السلف : أنها منسوخة بقوله : ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا )
وقال سعيد بن جبير : ( فآتوهم نصيبهم ) أي : من الميراث . قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه . رواه ابن جرير .
وقال الزهري عن سعيد بن المسيب : أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ، يورثونهم ، فأنزل الله فيهم ، فجعل لهم نصيبا في الوصية ، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة وأبى الله للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم ، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية . رواه ابن جرير .
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : ( فآتوهم نصيبهم ) أي : من النصرة والنصيحة والمعونة ، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث - حتى تكون الآية منسوخة ، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط ، فهي محكمة لا منسوخة .
وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث ، كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه ، حتى نسخ ذلك ، فكيف يقول : إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ؟ ! والله أعلم .
وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فََٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٣٣
قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا
فيه خمس مسائل :
الأولى : بين تعالى أن لكل إنسان ورثة وموالي ؛ فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ، ولا يتمن مال غيره . وروى البخاري في كتاب الفرائض من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم " قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي قال : نسختها " والذين عاقدت أيمانكم " . قال أبو الحسن بن بطال : وقع في جميع النسخ ولكل جعلنا موالي قال : نسختها " والذين عاقدت أيمانكم " . والصواب أن الآية الناسخة ولكل جعلنا موالي والمنسوخة " والذين عاقدت أيمانكم " ، وكذا رواه الطبري في روايته . وروي عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله : " والذين عاقدت أيمانكم " قوله تعالى في " الأنفال " : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض . روي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري ؛ وهو الذي أثبته أبو عبيد في كتاب " الناسخ والمنسوخ " له . وفيها قول آخر رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال : أمر الله عز وجل الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة . وقالت طائفة : قوله تعالى : " والذين عاقدت أيمانكم " محكم وليس بمنسوخ ؛ وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك ؛ ذكره الطبري عن ابن عباس . " والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي لهم وقد ذهب الميراث ؛ وهو قول مجاهد والسدي .
قلت : واختاره النحاس ؛ ورواه عن سعيد بن جبير ، ولا يصح النسخ ؛ فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري ، ورواه البخاري عنه في كتاب التفسير . وسيأتي ميراث " ذوي الأرحام " في " الأنفال " إن شاء الله تعالى .
الثانية : " كل " في كلام العرب معناها الإحاطة والعموم . فإذا جاءت مفردة فلا بد أن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين ؛ حتى إن بعضهم أجاز مررت بكل ، مثل قبل وبعد . وتقدير الحذف : ولكل أحد جعلنا موالي ، يعني ورثة . " والذين عاقدت أيمانكم " يعني بالحلف ؛ عن قتادة . وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ؛ فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ .
الثالثة : قوله تعالى : " موالي " اعلم أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ؛ فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى . ويقال : المولى الأسفل والأعلى أيضا . ويسمى الناصر المولى ؛ ومنه قوله تعالى : وأن الكافرين لا مولى لهم . ويسمى ابن العم مولى والجار مولى . فأما قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي يريد عصبة ؛ لقوله عليه السلام : ما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر . ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل ، على قول أكثر العلماء ؛ لأن المفهوم في حق المعتق أنه المنعم على المعتق ، كالموجد له ؛ فاستحق ميراثه لهذا المعنى . وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أن المولى الأسفل يرث من الأعلى ؛ واحتج فيه بما روي أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق . قال الطحاوي : ولا معارض لهذا الحديث ، فوجب القول به ؛ ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق على تقدير أنه كان كالموجد له ، فهو شبيه بالأب ؛ والمولى الأسفل شبيه بالابن ؛ وذلك يقتضي التسوية بينهما في الميراث ، والأصل أن الاتصال يعم . وفي الخبر ( مولى القوم منهم ) . والذين خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا : الميراث . يستدعي القرابة ولا قرابة ، غير أنا أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق ؛ فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة ، وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل . وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه وقائما مقامه ، وليس المعتق صالحا لأن يقوم مقام معتقه ، وإنما المعتق قد أنعم عليه فقابله الشرع بأن جعله أحق بمولاه المعتق ، ولا يوجد هذا في المولى الأسفل ؛ فظهر الفرق بينهما والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : " والذين عاقدت أيمانكم " روى علي بن كبشة عن حمزة " عقدت " بتشديد القاف على التكثير . والمشهور عن حمزة " عقدت أيمانكم " مخففة القاف ، وهي قراءة عاصم والكسائي ، وهي قراءة بعيدة ؛ لأن المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا ، فبابها فاعل . قال أبو جعفر النحاس : وقراءة حمزة تجوز على غموض في العربية ، يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم الحلف ، وتعدى إلى مفعولين ؛ وتقديره : عقدت لهم أيمانكم الحلف ، ثم حذفت اللام مثل قوله تعالى : وإذا كالوهم أي كالوا لهم . وحذف المفعول الثاني ، كما يقال : كلتك أي كلت لك برا . وحذف المفعول الأول لأنه متصل في الصلة .
الخامسة : قوله تعالى : إن الله كان على كل شيء شهيدا أي قد شهد معاقدتكم إياهم ، وهو عز وجل يحب الوفاء .
وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فََٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا ٣٣
أي: { وَلِكُلٍّ } من الناس { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي: يتولونه ويتولاهم بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور. { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، هؤلاء الموالي من القرابة. ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال: { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي: حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك. وكل هذا من نعم الله على عباده، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا. قال تعالى: { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي: آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله. والميراث للأقارب الأدنين من الموالي. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } أي: مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده، وسمعه لجميع أصواتهم.
ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا ٤٣
يقول تعالى : ( الرجال قوامون على النساء ) أي : الرجل قيم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ( بما فضل الله بعضهم على بعض ) أي : لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة; ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم; لقوله صلى الله عليه وسلم : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك .
( وبما أنفقوا من أموالهم ) أي : من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه ، وله الفضل عليها والإفضال ، فناسب أن يكون قيما عليها ، كما قال ] الله [ تعالى : ( وللرجال عليهن درجة ) الآية [ البقرة : 228 ] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( الرجال قوامون على النساء ) يعني : أمراء عليها أي تطيعه فيما أمرها به من طاعته ، وطاعته : أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله . وكذا قال مقاتل ، والسدي ، والضحاك .
وقال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعديه على زوجها أنه لطمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القصاص " ، فأنزل الله عز وجل : ( الرجال قوامون على النساء ) الآية ، فرجعت بغير قصاص .
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من طرق ، عنه . وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة ، وابن جريج والسدي ، أورد ذلك كله ابن جرير . وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال :
حدثنا أحمد بن علي النسائي ، حدثنا محمد بن عبد الله الهاشمي ، حدثنا محمد بن محمد الأشعث ، حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ، حدثني أبي ، عن جدي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : أتى النبي رجل من الأنصار بامرأة له ، فقالت : يا رسول الله ، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري ، وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس ذلك له " . فأنزل الله : ( الرجال قوامون على النساء [ بما فضل الله بعضهم على بعض ] ) أي : قوامون على النساء في الأدب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أردت أمرا وأراد الله غيره " .
وقال الشعبي في هذه الآية : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) قال : الصداق الذي أعطاها ، ألا ترى أنه لو قذفها لاعنها ، ولو قذفته جلدت .
وقوله : ( فالصالحات ) أي : من النساء ( قانتات ) قال ابن عباس وغير واحد : يعني مطيعات لأزواجهن ( حافظات للغيب ) .
قال السدي وغيره : أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله .
وقوله : ( بما حفظ الله ) أي : المحفوظ من حفظه .
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا أبو معشر ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك " . قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( الرجال قوامون على النساء ) إلى آخرها .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن يونس بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، به مثله سواء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر : أن ابن قارظ أخبره : أن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها وحفظت فرجها; وأطاعت زوجها قيل لها : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " .
تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف .
وقوله تعالى ( واللاتي تخافون نشوزهن ) أي : والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن . والنشوز : هو الارتفاع ، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المعرضة عنه ، المبغضة له . فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، من عظم حقه عليها " وروى البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه ، لعنتها الملائكة حتى تصبح " ورواه مسلم ، ولفظه : " إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح " ; ولهذا قال تعالى : ( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ) .
وقوله : ( واهجروهن في المضاجع ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الهجران هو أن لا يجامعها ، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره . وكذا قال غير واحد ، وزاد آخرون - منهم : السدي ، والضحاك ، وعكرمة ، وابن عباس في رواية - : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها .
وقال علي بن أبي طلحة أيضا ، عن ابن عباس : يعظها ، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها شديد .
وقال مجاهد ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومحمد بن كعب ، ومقسم ، وقتادة : الهجر : هو أن لا يضاجعها .
وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي حرة الرقاشي ، عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع " قال حماد : يعني النكاح .
وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ، ما حق امرأة أحدنا ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ، ولا تهجر إلا في البيت " .
وقوله : ( واضربوهن ) أي : إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران ، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال في حجة الوداع : " واتقوا الله في النساء ، فإنهن عندكم عوان ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " .
وكذا قال ابن عباس وغير واحد : ضربا غير مبرح . قال الحسن البصري : يعني غير مؤثر . قال الفقهاء : هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضرب ضربا غير مبرح ، ولا تكسر لها عظما ، فإن أقبلت وإلا فقد حل لك منها الفدية .
وقال سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تضربوا إماء الله " . فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ذئرت النساء على أزواجهن . فرخص في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود - يعني أبا داود الطيالسي - حدثنا أبو عوانة ، عن داود الأودي ، عن عبد الرحمن المسلي عن الأشعث بن قيس ، قال ضفت عمر ، فتناول امرأته فضربها ، وقال : يا أشعث ، احفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسأل الرجل فيم ضرب امرأته ، ولا تنم إلا على وتر . . . ونسي الثالثة .
وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن مهدي ، عن أبي عوانة ، عن داود الأودي ، به .
وقوله : ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ) أي : فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها ، مما أباحه الله له منها ، فلا سبيل له عليها بعد ذلك ، وليس له ضربها ولا هجرانها .
وقوله : ( إن الله كان عليا كبيرا ) تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن .
ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا ٤٣
قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء ابتداء وخبر ، أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن ؛ وأيضا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو ، وليس ذلك في النساء . يقال : قوام وقيم . والآية نزلت في سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير فلطمها ؛ فقال أبوها : يا رسول الله ، أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام : لتقتص من زوجها . فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ، فقال عليه السلام : ارجعوا هذا جبريل أتاني فأنزل الله هذه الآية ؛ فقال عليه السلام : أردنا أمرا وأراد الله غيره . وفي رواية أخرى : أردت شيئا وما أراد الله خير . ونقض الحكم الأول . وقد قيل : إن في هذا الحكم المردود نزل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ لحجاج - قال حدثنا جرير بن حازم قال : سمعت الحسن يقول : إن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي لطم وجهي . فقال : بينكما القصاص ، فأنزل الله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل : الرجال قوامون على النساء . وقال أبو روق : نزلت في جميلة بنت أبي وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس . وقال الكلبي : نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع . وقيل : سببها قول أم سلمة المتقدم . ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث ، فنزلت ولا تتمنوا الآية . ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق ؛ ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن . ويقال : إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير ؛ فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك . وقيل : للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء ؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة ، فيكون فيه قوة وشدة ، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة ، فيكون فيه معنى اللين والضعف ؛ فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك ، وبقوله تعالى : وبما أنفقوا من أموالهم .
الثانية : ودلت هذه الآية على تأديب الرجال نساءهم ، فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها . و " قوام " فعال للمبالغة ؛ من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد . فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد ؛ وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في بيتها ومنعها من البروز ، وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ؛ وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد راعى بعضهم في التفضيل اللحية - وليس بشيء ؛ فإن اللحية قد تكون وليس معها شيء مما ذكرنا . وقد مضى الرد على هذا في " البقرة " .
الثالثة : قوله تعالى : وبما أنفقوا من أموالهم أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها ، وإذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد ؛ لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح . وفيه دلالة واضحة من هذا الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ؛ وهو مذهب مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يفسخ ؛ لقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وقد تقدم القول في هذا في هذه السورة .
الرابعة : قوله تعالى : فالصالحات قانتات حافظات للغيب هذا كله خبر ، ومقصوده الأمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج . وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك قال : وتلا هذه الآية الرجال قوامون على النساء إلى آخر الآية . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته أخرجه أبو داود . وفي مصحف ابن مسعود " فالصوالح قوانت حوافظ " . وهذا بناء يختص بالمؤنث . قال ابن جني : والتكسير أشبه لفظا بالمعنى ؛ إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هاهنا . وما في قوله : بما حفظ الله مصدرية ، أي بحفظ الله لهن . ويصح أن تكون بمعنى الذي ، ويكون العائد في حفظ ضمير نصب . وفي قراءة أبي جعفر " بما حفظ الله " بالنصب . قال النحاس : الرفع أبين ؛ أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته وتسديده . وقيل : بما حفظهن الله في مهورهن وعشرتهن . وقيل : بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن . ومعنى قراءة النصب : بحفظهن الله ؛ أي بحفظهن أمره أو دينه . وقيل في التقدير : بما حفظن الله ، ثم وحد الفعل ؛ كما قيل :
فإن الحوادث أودى بها
وقيل : المعنى بحفظ الله ؛ مثل حفظت الله .
الخامسة : قوله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن اللاتي جمع التي وقد تقدم . قال ابن عباس : تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون . وقيل هو على بابه . والنشوز العصيان ؛ مأخوذ من النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض . يقال : نشز الرجل ينشز وينشز إذا كان قاعدا فنهض قائما ؛ ومنه قوله عز وجل : وإذا قيل انشزوا فانشزوا أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى . فالمعنى : أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج . وقال أبو منصور اللغوي : النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه ؛ يقال : نشزت تنشز فهي ناشز بغير هاء . ونشصت تنشص ، وهي السيئة للعشرة . وقال ابن فارس : ونشزت المرأة استصعبت على بعلها ، ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها . قال ابن دريد : نشزت المرأة ونشست ونشصت بمعنى واحد .
السادسة : قوله تعالى : فعظوهن أي بكتاب الله ؛ أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج ، والاعتراف بالدرجة التي له عليها ، ويقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها . وقال : لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب . وقال : أيما امرأة باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح في رواية حتى تراجع وتضع يدها في يده . وما كان مثل هذا .
السابعة : قوله تعالى : واهجروهن في المضاجع وقرأ ابن مسعود والنخعي وغيرهما " في المضجع " على الإفراد ؛ كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع . والهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها ؛ عن ابن عباس وغيره . وقال مجاهد : جنبوا مضاجعهن ؛ فيتقدر على هذا الكلام حذف ، ويعضده اهجروهن من الهجران ، وهو البعد ؛ يقال : هجره أي تباعد ونأى عنه . ولا يمكن بعدها إلا بترك مضاجعتها . وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك ، واختاره ابن العربي وقال : حملوا الأمر على الأكثر الموفي . ويكون هذا القول كما تقول : اهجره في الله . وهذا أصل مالك .
قلت : هذا قول حسن ؛ فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح ، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها ؛ فيتبين أن النشوز من قبلها . وقيل : اهجروهن من الهجر وهو القبيح من الكلام ، أي غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره ؛ قال معناه سفيان ، وروي عن ابن عباس . وقيل : أي شدوهن وثاقا في بيوتهن ؛ من قولهم : هجر البعير أي ربطه بالهجار ، وهو حبل يشد به البعير ، وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال . وفي كلامه في هذا الموضع نظر . وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه فقال : يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك . قال : وعتب عليها وعلى ضرتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر ؛ فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها : أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة ؛ ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة . فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير فأقدم على هذا التفسير . وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر ؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة ، وتظاهرتا عليه . ولا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولى .
الثامنة : قوله تعالى : واضربوهن أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران ، فإن لم يتجعا فالضرب ؛ فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه . والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها ؛ فإن المقصود منه الصلاح لا غير . فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان ، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه لتعليم القرآن والأدب . وفي صحيح مسلم : اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح الحديث . أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج ، أي لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب . وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال : ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن . وقال : هذا حديث حسن صحيح . فقوله : بفاحشة مبينة يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم . وليس المراد بذلك الزنى ؛ فإن ذلك محرم ويلزم عليه الحد . وقد قال عليه الصلاة والسلام : اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح . قال عطاء : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه . وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله .
التاسعة : قوله تعالى : فإن أطعنكم أي تركوا النشوز . فلا تبغوا عليهن سبيلا أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل . وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن . وقيل : المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن .
العاشرة : قوله تعالى : إن الله كان عليا كبيرا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ؛ أي إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله ؛ فيده بالقدرة فوق كل يد . فلا يستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف ، هنا بالعلو والكبر .
الحادية عشرة : وإذا ثبت هذا فاعلم . أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا إلا هنا وفي الحدود العظام ؛ فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر ، وولى الأزواج ذلك دون الأئمة ، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء . قال المهلب : إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة . واختلف في وجوب ضربها في الخدمة ، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف . وقال ابن خويز منداد . والنشوز يسقط النفقة وجميع الحقوق الزوجية ، ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح ، والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها ، فإذا رجعت عادت حقوقها ؛ وكذلك كل ما اقتضى الأدب فجائز للزوج تأديبها . ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة ؛ فأدب الرفيعة العذل ، وأدب الدنيئة السوط . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : رحم الله امرأ علق سوطه وأدب أهله . وقال : إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه . وقال بشار :
الحر يلحى والعصا للعبد
يلحى أي يلام ؛ وقال ابن دريد :
واللوم للحر مقيم رادع والعبد لا يردعه إلا العصا
قال ابن المنذر : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة . وقال أبو عمر : من نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا . وخالف ابن القاسم جماعة الفقهاء في نفقة الناشز فأوجبها . وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل نفقتها . ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز ؛ لا من مرض ولا حيض ولا نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا . والله أعلم .
ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا ٤٣
يخبر تعالى أن الرِّجَال { قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن، والكسوة والمسكن، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال: { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي: بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال، والنبوة، والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع. وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله. وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء. ولعل هذا سر قوله: { وَبِمَا أَنْفَقُوا } وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة. فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته، وهي عنده عانية أسيرة خادمة،فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به. ووظيفتها: القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال: { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ } أي: مطيعات لله تعالى { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ } أي: مطيعات لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله، وذلك بحفظ الله لهن وتوفيقه لهن، لا من أنفسهن، فإن النفس أمارة بالسوء، ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه. ثم قال: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي: ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، { فَعِظُوهُنَّ } أي: ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة، والترهيب من معصيته، فإن انتهت فذلك المطلوب، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم { فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } أي: له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات والصفات.
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا ٥٣
ذكر [ تعالى ] الحال الأول ، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة ، ثم ذكر الحال الثاني وهو : إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها )
قال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين ، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ، ينظر في أمرهما ، ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة ، وثقة من قوم الرجل ، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق ، وتشوف الشارع إلى التوفيق; ولهذا قال : ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما )
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله عز وجل ، أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء ، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة ، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة . فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز . فإن رأيا أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ، ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما ، وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما .
وقال : أنبأنا ابن جريج ، حدثني ابن أبي مليكة ، أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : تصير إلي وأنفق عليك . فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ قال : على يسارك في النار إذا دخلت . فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان ، فذكرت له ذلك فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما . فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها ، مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما ، فقال علي للحكمين : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا ، جمعتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله ، عز وجل ، لك وعليك .
رواه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير ، عن يعقوب ، عن ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، مثله . ورواه من وجه آخر ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، به .
وهذا مذهب جمهور العلماء : أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة ، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا . وهو رواية عن مالك .
وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق ، وكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم . وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود ، ومأخذهم قوله تعالى : ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) ولم يذكر التفريق .
وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين ، فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف .
وقد اختلف الأئمة في الحكمين : هل هما منصوبان من عند الحاكم ، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان ، أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين : فالجمهور على الأول; لقوله تعالى : ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) فسماهما حكمين ، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا ظاهر الآية ، والجديد من مذهب الشافعي ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
الثاني منهما ، بقول علي ، رضي الله عنه ، للزوج - حين قال : أما الفرقة فلا - قال : كذبت ، حتى تقر بما أقرت به ، قالوا : فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج ، والله أعلم .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وأجمع العلماء على أن الحكمين - إذا اختلف قولهما - فلا عبرة بقول الآخر ، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان ، واختلفوا : هل ينفذ قولهما في التفرقة ؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا .
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا ٥٣
قوله تعالى : وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما قد تقدم معنى الشقاق في " البقرة " . فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق صاحبه ، أي ناحية غير ناحية صاحبه . والمراد إن خفتم شقاقا بينهما ؛ فأضيف المصدر إلى الظرف كقولك : يعجبني سير الليلة المقمرة ، وصوم يوم عرفة . وفي التنزيل : بل مكر الليل والنهار . وقيل : إن " بين " أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه الظرفية ؛ إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما ، أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبتهما فابعثوا . وخفتم على الخلاف المتقدم . قال سعيد بن جبير : الحكم أن يعظها أولا ، فإن قبلت وإلا هجرها ، فإن هي قبلت وإلا ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ، فينظران ممن الضرر ، وعند ذلك يكون الخلع . وقد قيل : له أن يضرب قبل الوعظ . والأول أصح لترتيب ذلك في الآية .
الثانية : والجمهور من العلماء على أن المخاطب بقوله : " وإن خفتم " الحكام والأمراء . وأن قوله : إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما يعني الحكمين ؛ في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما . أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . وقيل : المراد الزوجان ؛ أي إن يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين يوفق الله بينهما . وقيل : الخطاب للأولياء . يقول : إن خفتم أي علمتم خلافا بين الزوجين فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة ؛ إذ هما أقعد بأحوال الزوجين ، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه . فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين ؛ وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر ممن الإساءة منهما . فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق لصاحبه ويجبر على إزالة الضرر . ويقال : إن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له : أخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال : لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها ، فيعرف أن من قبله النشوز . وإن قال : إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها ، فيعلم أنه ليس بناشز . ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة ويقول لها : أتهوين زوجك أم لا ؛ فإن قالت : فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد ؛ فيعلم أن النشوز من قبلها . وإن قالت : لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في نفقتي ويحسن إلي ، علم أن النشوز ليس من قبلها . فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي ؛ فذلك قوله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها .
الثالثة : قال العلماء : قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا ؛ لأنهن إما طائعة وإما ناشز ؛ والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا . فإن كان الأول تركا ؛ لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول : يا بني هاشم ، والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم ، أين عتبة بن ربيعة ، أين شيبة بن ربيعة ؛ فيسكت عنها ، حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟ فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ؛ فنشرت عليها ثيابها ، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ؛ وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما . فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة جهدهما ، وذكرا بالله وبالصحبة . فإن أنابا ورجعا تركاهما ، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرقا بينهما . وتفريقهما جائز على الزوجين ؛ وسواء وافق حكم قاضي البلد أو خالفه ، وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما . والفراق في ذلك طلاق بائن . وقال قوم : ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك ، وليعرفا الإمام ؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان . ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق . وهذا أحد قولي الشافعي ؛ وبه قال الكوفيون ، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن ، وبه قال أبو ثور . والصحيح الأول ، لأن للحكمين التطليق دون توكيل ؛ وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق وروي عن عثمان وعلي وابن عباس ، وعن الشعبي والنخعي ، وهو قول الشافعي ؛ لأن الله تعالى قال : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان . وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ؛ فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن يركب معنى أحدهما على الآخر ! . وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها قال : جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي . وقال الزوج : أما الفرقة فلا . فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به . وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة ؛ قاله أبو عمر . فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما وكلتما ؟ وهذا بين . احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج : لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به . فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج ، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه . وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المولى والعنين .
الرابعة : فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه . وكذلك كل حكمين حكما في أمر ؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر ، أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى يتفقا . وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال : تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة ؛ وهو قول ابن القاسم . وقال ابن القاسم أيضا : تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها ؛ وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ . وقال ابن المواز : إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة . وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء .
الخامسة : ويجزئ إرسال الواحد ؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود ، ثم قد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له : إن اعترفت فارجمها وكذلك قال عبد الملك في المدونة .
قلت : وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ ، وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك ، وإنما خاطب الله بالإرسال الحكام دون الزوجين . فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما ؛ لأن التحكيم عندنا جائز ، وينفذ فعل الحكم في كل مسألة . هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا ، ولو كان غير عدل قال عبد الملك : حكمه منقوض ؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغرر . قال ابن العربي : والصحيح نفوذه ؛ لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ ، وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل ، وباب القضاء مبني على الغرر كله ، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يئول إليه الحكم . قال ابن العربي : مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين ، واختلاف ما بينهما . وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها في البعث ، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه . وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا : يجعلان على يدي أمين ؛ وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم ، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزءوا . وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد ، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر ، فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي . ولا تعجب لأهل بلدنا لما غمرهم من الجهالة ، ولكن اعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر ، بل اعجب مرتين للشافعي فإنه قال : الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه فيه حالاهما . قال : وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة . وحظر أن يأخذ الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ؛ فلما أمر فيمن خفنا الشقاق بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج ، فإذا كان كذلك بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك . وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين . قال ابن العربي : هذا منتهى كلام الشافعي ، وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا يشبه نصابه في العلم ، وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر . أما قوله : " الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين " فليس بصحيح بل هو نصه ، وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ؛ فإن الله تعالى قال : الرجال قوامون على النساء - ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها ، فإن أنابت وإلا هجرها في المضجع ، فإن ارعوت وإلا ضربها ، فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما . وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان . ودعه لا يكون نصا ، يكون ظاهرا ؛ فأما أن يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر ؟ . ثم قال : " وأذن في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة ، بل يجب أن يكون كذلك وهو نصه " . ثم قال : " فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ، ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية . فأما إذا أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية " . وأما قوله " برضى الزوجين وتوكيلهما " فخطأ صراح ؛ فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين ، وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك بتوكيلهما ، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه . هذا وجه الإنصاف والتحقيق في الرد عليه . وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم ، وليس كما تقول الخوارج إنه ليس التحكيم لأحد سوى الله تعالى . وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل .
وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمٗا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحٗا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرٗا ٥٣
أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } أي: رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك الصفات. فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب، فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه. فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج، كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه، ولهذا قال: { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } أي: عالمًا بجميع الظواهر والبواطن، مطلعا على خفايا الأمور وأسرارها. فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة والشرائع الجميلة.
۞ وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا ٦٣
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له; فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " أتدري ما حق الله على العباد ؟ " قال : الله ورسوله أعلم . قال : " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " ، ثم قال : " أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ألا يعذبهم " ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله ، سبحانه ، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود ، وكثيرا ما يقرن الله ، سبحانه ، بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله : ( أن اشكر لي ولوالديك ) [ لقمان : 14 ] وكقوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء : 23 ] .
ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء ، كما جاء في الحديث : " الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة " .
ثم قال : ( واليتامى ) وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم ، ومن ينفق عليهم ، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم .
ثم قال : ( والمساكين ) وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم . وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة .
وقوله : ( والجار ذي القربى والجار الجنب ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( والجار ذي القربى ) يعني الذي بينك وبينه قرابة ، ( والجار الجنب ) الذي ليس بينك وبينه قرابة . وكذا روي عن عكرمة ، ومجاهد ، وميمون بن مهران ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة .
وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي في قوله : ( والجار ذي القربى ) يعني المسلم ( والجار الجنب ) يعني اليهودي والنصراني رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وقال جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علي وابن مسعود : ( والجار ذي القربى ) يعني المرأة . وقال مجاهد أيضا في قوله : ( والجار الجنب ) يعني الرفيق في السفر .
وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار ، فنذكر منها ما تيسر ، والله المستعان :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمر بن محمد بن زيد : أنه سمع أباه محمدا يحدث ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .
أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، به .
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن داود بن شابور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " .
وروى أبو داود والترمذي نحوه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن بشير أبي إسماعيل - زاد الترمذي : وداود بن شابور - كلاهما عن مجاهد ، به ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه وقد روي عن مجاهد عن عائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الحديث الثالث عنه : قال أحمد أيضا : حدثنا عبد الله بن يزيد ، أخبرنا حيوة ، أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره " .
ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح - به ، وقال : [ حديث ] حسن غريب .
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عباية بن رفاعة عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يشبع الرجل دون جاره " . تفرد به أحمد .
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري ، سمعت أبا ظبية الكلاعي ، سمعت المقداد بن الأسود يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : [ " ما تقولون في الزنا ؟ " قالوا : حرام حرمه الله ورسوله ، فهو حرام إلى يوم القيامة . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ] لأن يزني الرجل بعشر نسوة ، أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره " . قال : ما تقولون في السرقة ؟ قالوا : حرمها الله ورسوله فهي حرام . قال " لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات ، أيسر عليه من أن يسرق من جاره " .
تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " . قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " . قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " .
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام ، عن حفصة ، عن أبي العالية ، عن رجل من الأنصار قال : خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه ، فظننت أن لهما حاجة - قال الأنصاري : لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام . قال : " ولقد رأيته ؟ " قلت : نعم . قال : " أتدري من هو ؟ " قلت : لا . قال : " ذاك جبريل ، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه . ثم قال : أما إنك لو سلمت عليه ، رد عليك السلام " .
الحديث السابع : قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا أبو بكر - يعني المدني - عن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز ، فلما انصرف قال الرجل : يا رسول الله ، من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال : " وقد رأيته ؟ " قال : نعم . قال : " لقد رأيت خيرا كثيرا ، هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رئيت أنه سيورثه " .
تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله .
الحديث الثامن : قال أبو بكر البزار : حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع الحارثي ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجيران ثلاثة : جار له حق واحد ، وهو أدنى الجيران حقا ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، وهو أفضل الجيران حقا ، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له ، له حق الجوار . وأما الذي له حقان فجار مسلم ، له حق الإسلام وحق الجوار ، وأما الذي له ثلاثة حقوق ، فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم " .
قال البزار : لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضيل إلا ابن أبي فديك .
الحديث التاسع : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي عمران ، عن طلحة بن عبد الله ، عن عائشة; أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال : " إلى أقربهما منك بابا " .
ورواه البخاري من حديث شعبة ، به .
وقوله : ( والصاحب بالجنب ) قال الثوري ، عن جابر الجعفي ، عن الشعبي ، عن علي وابن مسعود قالا هي المرأة .
وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وسعيد بن جبير - في إحدى الروايات - نحو ذلك .
وقال ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة : هو الرفيق في السفر . وقال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح . وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر .
وأما ) ابن السبيل ) فعن ابن عباس وجماعة هو : الضيف .
4
وقال مجاهد ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، والضحاك ، ومقاتل : هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر .
وهذا أظهر ، وإن كان مراد القائل بالضيف : المار في الطريق ، فهما سواء . وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة ، وبالله الثقة وعليه التكلان .
وقوله : ( وما ملكت أيمانكم ) وصية بالأرقاء ; لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس ، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول : " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم " . فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بقية ، حدثنا بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقه " .
ورواه النسائي من حديث بقية ، وإسناده صحيح ولله الحمد .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال : لا . قال : فانطلق فأعطهم ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم " رواه مسلم .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق " . رواه مسلم أيضا .
وعنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ، فإنه ولي حره وعلاجه " .
أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده أكلة أو أكلتين " .
وعن أبي ذر ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هم إخوانكم خولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم ، فأعينوهم " . أخرجاه .
وقوله : ( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) أي : مختالا في نفسه ، معجبا متكبرا ، فخورا على الناس ، يرى أنه خير منهم ، فهو في نفسه كبير ، وهو عند الله حقير ، وعند الناس بغيض .
قال مجاهد في قوله : ( إن الله لا يحب من كان مختالا ) يعني : متكبرا ( فخورا ) يعني : يعد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله ، عز وجل . يعني : يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه ، وهو قليل الشكر لله على ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال : لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا - وتلا ( وما ملكت أيمانكم [ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ] ) ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا - وتلا ( وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) [ مريم : 32 ] .
وروى ابن أبي حاتم ، عن العوام بن حوشب ، مثله في المختال الفخور . وقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير قال : قال مطرف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر ، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم : " إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة " ؟ قال : أجل ، فلا إخالني أكذب على خليلي ، ثلاثا . قلت : من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال : المختال الفخور ، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ؟ ثم قرأ الآية : ( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) [ النساء : 36 ] .
وحدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب عن خالد ، عن أبي تميمة عن رجل من بلهجيم قال : قلت يا رسول الله ، أوصني . قال : " إياك وإسبال الإزار ، فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة " .
وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا ٦٣
قوله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
فيه ثمان عشرة مسألة :
الأولى : أجمع العلماء على أن هذه الآية من المحكم المتفق عليه ، ليس منها شيء منسوخ . وكذلك هي في جميع الكتب . ولو لم يكن كذلك لعرف ذلك من جهة العقل ، وإن لم ينزل به الكتاب . وقد مضى معنى العبودية وهي التذلل والافتقار ، لمن له الحكم والاختيار ؛ فأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص فيه ، فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره ؛ قال الله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا حتى لقد قال بعض علمائنا : إنه من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه ؛ لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية وليس لله إلا العمل الخالص ؛ كما قال تعالى : ألا لله الدين الخالص . وقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره ؛ لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه . وروى الدارقطني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة : ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة : وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل - وهو أعلم - : إن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي . وروي أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي ، يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء .
مسألة : إذا ثبت هذا فاعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا : الشرك على ثلاث مراتب وكله محرم .
وأصله اعتقاد شريك لله في ألوهيته ، وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية ، وهو المراد بقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل ، وهو قول من قال : إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده وإن لم يعتقد كونه إلها كالقدرية مجوس هذه الأمة ، وقد تبرأ منهم ابن عمر كما في حديث جبريل عليه السلام . ويلي هذه الرتبة الإشراك في العبادة وهو الرياء ؛ وهو أن يفعل شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره . وهذا هو الذي سيقت الآيات والأحاديث لبيان تحريمه ، وهو مبطل للأعمال وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي . ورضي الله عن المحاسبي فقد أوضحه في كتابه " الرعاية " وبين إفساده للأعمال . وفي سنن ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك . وفيه عن أبي سعيد الخدري قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قال : فقلنا بلى يا رسول الله ؛ فقال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل . وفيه عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله أما إني لست أقول يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية خرجه الترمذي الحكيم . وسيأتي في آخر الكهف ، وفيه بيان الشهوة الخفية . وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهوة الخفية فقال : هو الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه . قال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه : الرياء على ثلاثة وجوه ؛ أحدها : أن يعقد في أصل فعله لغير الله ويريد به أن يعرف أنه لله ، فهذا صنف من النفاق وتشكك في الإيمان . والآخر : يدخل في الشيء لله فإذا اطلع عليه غير الله نشط ، فهذا إذا تاب يزيد أن يعيد جميع ما عمل . والثالث : دخل في العمل بالإخلاص وخرج به لله فعرف بذلك ومدح عليه وسكن إلى مدحهم ؛ فهذا الرياء الذي نهى الله عنه . قال سهل : قال لقمان لابنه : الرياء أن تطلب ثواب عملك في دار الدنيا ، وإنما عمل القوم للآخرة . قيل له : فما دواء الرياء ؟ قال كتمان العمل ، قيل له : فكيف يكتم العمل ؟ قال : ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص ، وما لم تكلف إظهاره أحب ألا يطلع عليه إلا الله . قال : وكل عمل اطلع عليه الخلق فلا تعده من العمل . وقال أيوب السختياني : ما هو بعاقل من أحب أن يعرف مكانه من عمله .
قلت : قول سهل " والثالث دخل في العمل بالإخلاص " إلى آخره ، إن كان سكونه وسروره إليهم لتحصل منزلته في قلوبهم فيحمدوه ويجلوه ويبروه وينال ما يريده منهم من مال أو غيره فهذا مذموم ؛ لأن قلبه مغمور فرحا باطلاعهم عليه ، وإن كانوا قد اطلعوا عليه بعد الفراغ . فأما من أطلع الله عليه خلقه وهو لا يحب اطلاعهم عليه فيسر بصنع الله وبفضله عليه فسروره بفضل الله طاعة ؛ كما قال تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون . وبسط هذا وتتميمه في كتاب " الرعاية للمحاسبي " ، فمن أراده فليقف عليه هناك . وقد سئل سهل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أني أسر العمل فيطلع عليه فيعجبني قال : يعجبه من جهة الشكر لله الذي أظهره الله عليه أو نحو هذا . فهذه جملة كافية في الرياء وخلوص الأعمال . وقد مضى في " البقرة " . حقيقة الإخلاص . والحمد لله .
الثانية : قوله تعالى : وبالوالدين إحسانا قد تقدم في صدر هذه السورة أن من الإحسان إليهما عتقهما ، ويأتي في " سبحان " حكم برهما معنى مستوفى . وقرأ ابن أبي عبلة " إحسان " بالرفع أي واجب الإحسان إليهما . الباقون بالنصب ، على معنى أحسنوا إليهما إحسانا . قال العلماء : فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة له والإذعان من قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته وشكره بشكره وهما الوالدان ؛ فقال تعالى : أن اشكر لي ولوالديك . وروى شعبة وهشيم الواسطيان عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين .
الثالثة : قوله تعالى : وبذي القربى واليتامى والمساكين وقد مضى الكلام فيه في البقرة
الرابعة : قوله تعالى : والجار ذي القربى والجار الجنب أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه . ألا تراه سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى : والجار ذي القربى أي القريب . والجار الجنب أي الغريب ؛ قاله ابن عباس ، وكذلك هو في اللغة . ومنه فلان أجنبي ، وكذلك الجنابة البعد . وأنشد أهل اللغة :
فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
وقال الأعشى :
أتيت حريثا زائرا عن جنابة فكان حريث عن عطائي جامدا
وقرأ الأعمش والمفضل " والجار الجنب " بفتح الجيم وسكون النون وهما لغتان ؛ يقال : جنب وجنب وأجنب وأجنبي إذا لم يكن بينهما قرابة ، وجمعه أجانب . وقيل : على تقدير حذف المضاف ، أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية . وقال نوف الشامي : الجار ذي القربى المسلم والجار الجنب اليهودي والنصراني .
قلت : وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلما كان أو كافرا ، وهو الصحيح . والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه . روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه . وروي عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) قيل : يا رسول الله ومن ؟ قال : ( الذي لا يأمن جاره بوائقه وهذا عام في كل جار . وقد أكد عليه السلام ترك إذايته بقسمه ثلاث مرات ، وأنه لا يؤمن الإيمان الكامل من آذى جاره . فينبغي للمؤمن أن يحذر أذى جاره ، وينتهي عما نهى الله ورسوله عنه ، ويرغب فيما رضياه وحضا العباد عليه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار .
الخامسة : روى البخاري عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ، قال : إلى أقربهما منك بابا . فذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا الحديث يفسر المراد من قوله تعالى : والجار ذي القربى وأنه القريب المسكن منك . والجار الجنب هو البعيد المسكن منك . واحتجوا بهذا على إيجاب الشفعة للجار ، وعضدوه وبقوله عليه السلام : الجار أحق بصقبه . ولا حجة في ذلك ، فإن عائشة رضي الله عنها إنما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عمن تبدأ به من جيرانها في الهدية فأخبرها أن من قرب بابه فإنه أولى بها من غيره . قال ابن المنذر : فدل هذا الحديث على أن الجار يقع على غير اللصيق . وقد خرج أبو حنيفة عن ظاهر هذا الحديث فقال : إن الجار اللصيق إذا ترك الشفعة وطلبها الذي يليه وليس له جدار إلى الدار ولا طريق لا شفعة فيه له . وعوام العلماء يقولون : إن أوصى الرجل لجيرانه أعطي اللصيق وغيره ؛ إلا أبا حنيفة فإنه فارق عوام العلماء وقال : لا يعطى إلا اللصيق وحده .
السادسة : واختلف الناس في حد الجيرة ؛ فكان الأوزاعي يقول : أربعون دارا من كل ناحية ؛ وقاله ابن شهاب . وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوارا أشدهم لي أذى ؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد : ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه . وقال علي بن أبي طالب : من سمع النداء فهو جار . وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد . وقالت فرقة : من ساكن رجلا في محلة أو مدينة فهو جار . قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون إلى قوله : ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا فجعل تعالى اجتماعهم في المدينة جوارا . والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض ، أدناها الزوجة ؛ كما قال :
أيا جارتا بيني فإنك طالقه
السابعة : ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك . فحض عليه السلام على مكارم الأخلاق ؛ لما رتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة ؛ فإن الجار قد يتأذى بقتار قدر جاره ، وربما تكون له ذرية فتهيج من ضعفائهم الشهوة ، ويعظم على القائم عليهم الألم والكلفة ، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة فتعظم المشقة ويشتد منهم الألم والحسرة . وهذه كانت عقوبة يعقوب في فراق يوسف عليهما السلام فيما قيل . وكل هذا يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يدفع إليهم ، ولهذا المعنى حض عليه السلام الجار القريب بالهدية ؛ لأنه ينظر إلى ما يدخل دار جاره وما يخرج منها ، فإذا رأى ذلك أحب أن يشارك فيه ؛ وأيضا فإنه أسرع إجابة لجاره عندما ينوبه من حاجة في أوقات الغفلة والغرة ؛ فلذلك بدأ به على من بعد بابه وإن كانت داره أقرب . والله أعلم .
الثامنة : قال العلماء : لما قال عليه السلام فأكثر ماءها نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا ، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء ؛ ولذلك لم يقل : إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها ؛ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد . ولقد أحسن القائل :
قدري وقدر الجار واحدة وإليه قبلي ترفع القدر
ولا يهدي النزر اليسير المحتقر ؛ لقوله عليه السلام : ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف أي بشيء يهدى عرفا ؛ فإن القليل وإن كان مما يهدى فقد لا يقع ذلك الموقع ، فلو لم يتيسر إلا القليل فليهده ولا يحتقر ، وعلى المهدى إليه قبوله ؛ لقوله عليه السلام :يا نساء المؤمنات لا تحتقرن إحداكن لجارتها ولو كراع شاة محرقا أخرجه مالك في موطئه . وكذا قيدناه ( يا نساء المؤمنات ) بالرفع على غير الإضافة ، والتقدير : يا أيها النساء المؤمنات ؛ كما تقول يا رجال الكرام ؛ فالمنادى محذوف وهو يا أيها ، والنساء في التقدير النعت لأيها ، والمؤمنات نعت للنساء . قد قيل : فيه : يا نساء المؤمنات بالإضافة ، والأول أكثر .
التاسعة : من إكرام الجار ألا يمنع من غرز خشبة له إرفاقا به ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره . ثم يقول أبو هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين ، والله لأرمين بها بين أكنافكم . روي " خشبه وخشبة " على الجمع والإفراد . وروي " أكتافهم " بالتاء و " أكنافهم " بالنون . ومعنى " لأرمين بها " أي بالكلمة والقصة . وهل يقضى بهذا على الوجوب أو الندب ؟ فيه خلاف بين العلماء . فذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابهما إلى أن معناه الندب إلى بر الجار والتجاوز له والإحسان إليه ، وليس ذلك على الوجوب ؛ بدليل قوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه . قالوا : ومعنى قوله ( لا يمنع أحدكم جاره ) هو مثل معنى قوله عليه السلام : إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها . وهذا معناه عند الجميع الندب ، على ما يراه الرجل من الصلاح والخير في ذلك . وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود بن علي وجماعة أهل الحديث : إلى أن ذلك على الوجوب . قالوا : ولولا أن أبا هريرة فهم فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم معنى الوجوب ما كان ليوجب عليهم غير واجب . وهو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ فإنه قضى على محمد بن مسلمة للضحاك بن خليفة في الخليج أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة ، فقال محمد بن مسلمة : لا والله . فقال عمر : والله ليمرن به ولو على بطنك . فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك ؛ رواه مالك في الموطأ . وزعم الشافعي في كتاب " الرد " أن مالكا لم يرو عن أحد من الصحابة خلاف عمر في هذا الباب ؛ وأنكر على مالك أنه رواه وأدخله في كتابه ولم يأخذ به ورده برأيه . قال أبو عمر : ليس كما زعم الشافعي ؛ لأن محمد بن مسلمة كان رأيه في ذلك خلاف رأي عمر ، ورأي الأنصار أيضا كان خلافا لرأي عمر ، وعبد الرحمن بن عوف في قصة الربيع وتحويله - والربيع الساقية - وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى النظر ، والنظر يدل على أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم بعضهم على بعض حرام إلا ما تطيب به النفس خاصة ؛ فهذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل على الخلاف في ذلك قول أبي هريرة : ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمينكم بها ؛ هذا أو نحوه . أجاب الأولون فقالوا : القضاء بالمرفق خارج بالسنة عن معنى قوله عليه السلام : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه لأن هذا معناه التمليك والاستهلاك وليس المرفق من ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما في الحكم . فغير واجب أن يجمع بين ما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكى مالك أنه كان بالمدينة قاض يقضي به يسمى أبو المطلب . واحتجوا من الأثر بحديث الأعمش عن أنس قال : استشهد منا غلام يوم أحد فجعلت أمه تمسح التراب عن وجهه وتقول : أبشر هنيئا لك الجنة ؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره . والأعمش لا يصح له سماع من أنس ، والله أعلم . قاله أبو عمر .
العاشرة : ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار ، وهو حديث معاذ بن جبل قال : قلنا يا رسول الله ، ما حق الجار ؟ قال : إن استقرضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك وهنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله أو كلمة نحوها . هذا حديث جامع وهو حديث حسن ، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي .
الحادية عشرة : قال العلماء : الأحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا . وفي الخبر قالوا : يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال : لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين . ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء ؛ فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة . قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية : ابدئي بجارنا اليهودي . وروي أن شاة ذبحت في أهل عبد الله بن عمرو فلما جاء قال : أهديتم لجارنا اليهودي ؟ - ثلاث مرات - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه .
الثانية عشرة : قوله تعالى : والصاحب بالجنب أي الرفيق في السفر . وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة ، فقطع قضيبين أحدهما معوج ، فخرج وأعطى لصاحبه القويم ؛ فقال : كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال : يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار . وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : للسفر مروءة وللحضر مروءة ؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب ، وكثرة المزاح في غير مساخط الله . وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد ، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل . ولبعض بني أسد - وقيل إنها لحاتم الطائي :
إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي له مركب فضلا فلا حملت رجلي
ولم يك من زادي له شطر مزودي فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل
شريكان فيما نحن فيه وقد أرى علي له فضلا بما نال من فضلي
وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى : الصاحب بالجنب الزوجة . ابن جريج : هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك . والأول أصح ؛ وهو قول ابن عباس وابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك . وقد تتناول الآية الجميع بالعموم . والله أعلم .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : وابن السبيل قال مجاهد : هو الذي يجتاز بك مارا . والسبيل الطريق ؛ فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه . ومن الإحسان إليه إعطاؤه وإرفاقه وهدايته ورشده .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : وما ملكت أيمانكم أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك ، وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فروى مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال : مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله ، فقلنا : يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة ؛ فقال : إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام ، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية قلت : يا رسول الله ، من سب الرجال سبوا أباه وأمه . قال : يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم . وروي عن أبي هريرة أنه ركب بغلة ذات يوم فأردف غلامه خلفه ، فقال له قائل : لو أنزلته يسعى خلف دابتك ؛ فقال أبو هريرة : لأن يسعى معي ضغثان من نار يحرقان مني ما أحرقا أحب إلي من أن يسعى غلامي خلفي . وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكتسون ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله . لايمكم وافقكم . والملايمة الموافقة . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق وقال عليه السلام : لا يقل أحدكم عبدي وأمتي بل ليقل فتاي وفتاتي وسيأتي بيانه في سورة يوسف عليه السلام . فندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضهم عليها وأرشدهم إلى الإحسان وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزية على عبيدهم ، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله ، لكن سخر بعضهم لبعض ، وملك بعضهم بعضا إتماما للنعمة وتنفيذا للحكمة ؛ فإن أطعموهم أقل مما يأكلون ، وألبسوهم أقل مما يلبسون صفة ومقدارا جاز إذا قام بواجبه عليه . ولا خلاف في ذلك والله أعلم . وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو إذ جاءه قهرمان له فدخل فقال : أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال لا . قال : فانطلق فأعطهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم .
الخامسة عشرة : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من ضرب عبده حدا لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه . ومعناه أن يضربه قدر الحد ولم يكن عليه حد . وجاء عن نفر من الصحابة أنهم اقتصوا للخادم من الولد في الضرب وأعتقوا الخادم لما لم يرد القصاص وقال عليه السلام : من قذف مملوكه بالزنى أقام عليه الحد يوم القيامة ثمانين . وقال عليه السلام : لا يدخل الجنة سيئ الملكة . وقال عليه السلام : سوء الخلق شؤم وحسن الملكة نماء وصلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع ميتة السوء .
السادسة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب أيهما أفضل الحر أو العبد ؛ فروى مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للعبد المملوك المصلح أجران والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك . وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين . فاستدل بهذا وما كان مثله من فضل العبد ؛ لأنه مخاطب من جهتين : مطالب بعبادة الله ، مطالب بخدمة سيده . وإلى هذا ذهب أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري وأبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد العامري البغدادي الحافظ .
استدل من فضل الحر بأن قال : الاستقلال بأمور الدين والدنيا إنما يحصل بالأحرار والعبد كالمفقود لعدم استقلاله ، وكالآلة المصرفة بالقهر ، وكالبهيمة المسخرة بالجبر ؛ ولذلك سلب مناصب الشهادات ومعظم الولايات ، ونقصت حدوده عن حدود الأحرار إشعارا بخسة المقدار ، والحر وإن طولب من جهة واحدة فوظائفه فيها أكثر ، وعناؤه أعظم فثوابه أكثر . وقد أشار إلى هذا أبو هريرة بقوله : لولا الجهاد والحج ؛ أي لولا النقص الذي يلحق العبد لفوت هذه الأمور . والله أعلم .
السابعة عشرة : روى أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، وما زال يوصيني بالنساء حتى ظننت أنه سيحرم طلاقهن ، وما زال يوصيني بالمماليك حتى ظننت أنه سيجعل لهم مدة إذا انتهوا إليها عتقوا ، وما زال يوصيني بالسواك حتى خشيت أن يحفي فمي - وروي حتى كاد - وما زال يوصيني بقيام الليل حتى ظننت أن خيار أمتي لا ينامون ليلا . ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : إن الله لا يحب - أي لا يرضى - من كان مختالا فخورا . فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته ؛ أي لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة . وفي هذا ضرب من التوعد . والمختال ذو الخيلاء أي الكبر . والفخور : الذي يعدد مناقبه كبرا . والفخر : البذخ والتطاول . وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم . وقرأ عاصم فيما ذكر المفضل عنه " والجار الجنب " بفتح الجيم وسكون النون . قال المهدوي : هو على تقدير حذف المضاف ؛ أي والجار ذي الجنب أي ذي الناحية . وأنشد الأخفش :
الناس جنب والأمير جنب
والجنب الناحية ، أي المتنحي عن القرابة . والله أعلم .
وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا ٦٣
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رق عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة. وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد. ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب. فقال: { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما. وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ الإحسان. وكلاهما منهي عنه. { وَبِذِي الْقُرْبَى } أيضا إحسانا، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله. { وَالْيَتَامَى } أي: الذين فقدوا آباءهم وهم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم. { وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر، فلم يحصلوا على كفايتهم، ولا كفاية من يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه. { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي: الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف. { و } كذلك { الْجَارِ الْجُنُبِ } أي: الذي ليس له قرابة. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل. { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل الصاحب مطلقا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة. فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد. { وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو: الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [وبإكرامه وتأنيسه] { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أي: من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم. فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلق، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا } أي: معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { فَخُورًا } يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله، فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق.
ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٣
يقول تعالى ذاما الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين ، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء - ولا يدفعون حق الله فيها ، ويأمرون الناس بالبخل أيضا . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأي داء أدوأ من البخل ؟ " . وقال : " إياكم والشح ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا " .
وقوله : ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) فالبخيل جحود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين ، لا في أكله ولا في ملبسه ، ولا في إعطائه وبذله ، كما قال تعالى : ( إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد ) [ العاديات : 6 ، 7 ] أي : بحاله وشمائله ، ( وإنه لحب الخير لشديد ) [ العاديات : 8 ] وقال هاهنا : ( ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ) ولهذا توعدهم بقوله : ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) والكفر هو الستر والتغطية ، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها ، فهو كافر لنعم الله عليه .
وفي الحديث : " إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه " وفي الدعاء النبوي : " واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك قابليها - ويروى : قائليها - وأتممها علينا " .
وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم ، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك ; ولهذا قال : ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وقاله مجاهد وغير واحد .
ولا شك أن الآية محتملة لذلك ، والظاهر أن السياق في البخل بالمال ، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى ; فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء ،وكذا الآية التي بعدها ، وهي قوله :
ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٣
قوله تعالى : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
قوله تعالى : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : الذين يبخلون الذين في موضع نصب على البدل من " من " في قوله : من كان ولا يكون صفة ؛ لأن " من " و " ما " لا يوصفان ولا يوصف بهما . ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلا من المضمر الذي في فخور . ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه . ويجوز أن يكون ابتداء والخبر محذوف ، أي الذين يبخلون ، لهم كذا ، أو يكون الخبر إن الله لا يظلم مثقال ذرة . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني ، فتكون الآية في المؤمنين ؛ فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله ، فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من الإحسان .
الثانية : قوله تعالى : يبخلون ويأمرون الناس بالبخل البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه . وهو مثل قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله الآية . وقد مضى في " آل عمران " القول في البخل وحقيقته ، والفرق بينه وبين الشح مستوفى . والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود ؛ فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية ، والمعنى إن الله لا يحب كل مختال فخور ، ولا الذين يبخلون ؛ على ما ذكرنا من إعرابه .
قوله تعالى : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا .
ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ وَيَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبُخۡلِ وَيَكۡتُمُونَ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٧٣
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } بأقوالهم وأفعالهم { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق. فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين، فلهذا قال تعالى: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } أي: كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم الاهتداء، أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم. فعياذًا بك اللهم من كل سوء.
وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا ٨٣
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ) فذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ، ولا يريدون بذلك وجه الله ، وفي الحديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار ، وهم : العالم والغازي والمنفق ، والمراءون بأعمالهم ، يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك . فيقول الله : كذبت ; إنما أردت أن يقال : جواد فقد قيل . أي : فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك .
وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي : " إن أباك رام أمرا فبلغه " .
وفي حديث آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان : هل ينفعه إنفاقه ، وإعتاقه ؟ فقال : " لا إنه لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " .
ولهذا قال : ( ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر [ ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ] ) أي : إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان ; فإنه سول لهم وأملى لهم ، وقارنهم فحسن لهم القبائح ( ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) ولهذا قال الشاعر
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا ٨٣
قوله تعالى : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس الآية . عطف تعالى على الذين يبخلون : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس . وقيل : هو عطف على الكافرين ، فيكون في موضع خفض . ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني عنده خبرا للأول . قال الجمهور نزلت في المنافقين : لقوله تعالى : رئاء الناس والرئاء من النفاق . مجاهد : في اليهود . وضعفه الطبري ؛ لأنه تعالى نفى عن هذه الصنفة الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود ليس كذلك . قال ابن عطية : وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام ؛ إذ إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان من حيث لا ينفعهم . وقيل : نزلت في مطعمي يوم بدر ، وهم رؤساء مكة ، الأنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر . قال ابن العربي : ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ .
قلت : ويدل على ذلك من الكتاب قوله تعالى : قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم وسيأتي .
الثانية : قوله تعالى : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا في الكلام إضمار تقديره ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا . والقرين : المقارن ، أي الصاحب والخليل وهو فعيل من الإقران ؛ قال عدي بن زيد :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والمعنى : من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه . ويجوز أن يكون المعنى من قرن به الشيطان في النار فساء قرينا أي فبئس الشيطان قرينا ، وهو نصب على التمييز .
وَٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَهُۥ قَرِينٗا فَسَآءَ قَرِينٗا ٨٣
ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال: { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } أي: ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم { وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } أي: ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه. أي: فهذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير. وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال: { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } أي: بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي. فكما أن من بخل بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاص آثم مخالف لربه، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص، كما قال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه
وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا ٩٣
ثم قال تعالى : ( وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله [ وكان الله بهم عليما ] ) أي : وأي شيء يكرثهم لو سلكوا الطريق الحميدة ، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها .
وقوله : ( وكان الله بهم عليما ) أي : وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة ، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه ، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي ، الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة ، عياذا بالله من ذلك [ بلطفه الجزيل ] .
وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا ٩٣
قوله تعالى : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما
" ما " في موضع رفع بالابتداء و " ذا " خبره ، وذا بمعنى الذي . ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا . فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم ، وعلى الثاني تقديره وأي شيء عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، أي صدقوا بواجب الوجود ، وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة ، وأنفقوا مما رزقهم الله . وكان الله بهم عليما تقدم معناه في غير موضع
وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ ٱللَّهُۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِهِمۡ عَلِيمًا ٩٣
أي: أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم الإيمان بالله الذي هو الإخلاص، وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الإخلاص والإنفاق، ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا }
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٠٤
يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة ، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى ( ونضع الموازين القسط [ ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ] ) [ الأنبياء : 47 ] وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال : ( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله [ إن الله لطيف خبير ] ) [ لقمان : 16 ] وقال تعالى : ( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم . فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )
وفي الصحيحين ، من حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل ، وفيه : فيقول الله عز وجل : " ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فأخرجوه من النار " . وفي لفظ : " أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقا كثيرا " ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة [ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ] ) .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن هارون بن عنترة عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان قال : قال عبد الله بن مسعود : يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة ، فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه . فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها . ثم قرأ : ( فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) [ المؤمنون : 101 ] فيغفر الله من حقه ما يشاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصب للناس فينادى : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه . فيقول : رب ، فنيت الدنيا ، من أين أوتيهم حقوقهم ؟ قال : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليا لله ففضل له مثقال ذرة ، ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ علينا : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) قال : ادخل الجنة ; وإن كان عبدا شقيا قال الملك : رب فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير ؟ فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صكوا له صكا إلى النار .
ورواه ابن جرير من وجه آخر ، عن زاذان - به نحوه . ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا فضيل - يعني ابن مرزوق - عن عطية العوفي ، حدثني عبد الله بن عمر قال : نزلت هذه الآية في الأعراب : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) [ الأنعام : 160 ] قال رجل : فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ما هو أفضل من ذلك : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) .
وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير في قوله ( وإن تك حسنة يضاعفها ) فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ، ولا يخرج من النار أبدا . وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء ؟ قال : " نعم هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك من النار " .
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار ، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في سننه حدثنا عمران ، حدثنا قتادة ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " .
وقال أبو هريرة ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن وقتادة والضحاك ، في قوله : ( ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) يعني : الجنة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا سليمان - يعني ابن المغيرة - عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة . قال : فقضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا ، فلقيته فقلت : بلغني عنك حديث أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة " قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة " ثم تلا ( يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) فمن يقدره قدره .
رواه الإمام أحمد فقال : حدثنا يزيد ، حدثنا مبارك بن فضالة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : بلغني أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ؟ قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - كذا قال أبي - يقول : " إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " .
علي بن زيد في أحاديثه نكارة ، فالله أعلم .
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٠٤
قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
قوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها . والمراد من الكلام أن الله تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيرا ؛ كما قال تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا . والذرة : النملة الحمراء ؛ عن ابن عباس وغيره ، وهي أصغر النمل . وعنه أيضا رأس النملة . وقال يزيد بن هارون : زعموا أن الذرة ليس لها وزن . ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا .
قلت : والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا ؛ كما أن للدينار ونصفه وزنا . والله أعلم . وقيل : الذرة الخردلة ؛ كما قال تعالى : فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها . وقيل غير هذا ، وهي في الجملة عبارة عن أقل الأشياء وأصغرها . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها .
قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها أي يكثر ثوابها . وقرأ أهل الحجاز " حسنة " بالرفع ، والعامة بالنصب ؛ فعلى الأول " تك " بمعنى تحدث ، فهي تامة . وعلى الثاني هي الناقصة ، أي إن تك فعلته حسنة . وقرأ الحسن " نضاعفها " بنون العظمة . والباقون بالياء ، وهي أصح ؛ لقوله ويؤت . وقرأ أبو رجاء " يضعفها " ، والباقون " يضاعفها " وهما لغتان معناهما التكثير . وقال أبو عبيدة : " يضاعفها " معناه يجعله أضعافا كثيرة ، " ويضعفها " بالتشديد يجعلها ضعفين . من لدنه من عنده . وفيه أربع لغات : لدن ولدن ولد ولدى ؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم شددوا النون ، ودخلت عليه " من " حيث كانت " من " الداخلة لابتداء الغاية و " لدن " كذلك ، فلما تشاكلا حسن دخول " من " عليها ؛ ولذلك قال سيبويه في لدن : إنه الموضع الذي هو أول الغاية . أجرا عظيما يعني الجنة . وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا . وكان أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما وذكر الحديث . وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطي لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " - وإن كان عبدا شقيا قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار . فالآية على هذا التأويل في الخصوم ، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه ، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له ؛ فذلك قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها . وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة وتلا إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما . قال عبيدة : قال أبو هريرة : وإذا قال الله أجرا عظيما فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن عباس وابن مسعود : أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس .
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةٗ يُضَٰعِفۡهَا وَيُؤۡتِ مِن لَّدُنۡهُ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٠٤
يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير فقال: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي: ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في سيئاته، كما قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أي: إلى عشرة أمثالها، إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها، إخلاصا ومحبة وكمالا. { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } أي: زيادة على ثواب العمل بنفسه من التوفيق لأعمال أخر، وإعطاء البر الكثير والخير الغزير.
فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ١٤
نسخ
مشاركة
التفسير
فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ١٤
وقوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) يقول تعالى - مخبرا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه : فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء [ وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ] ) [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : ( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ] ) [ النحل : 89 ] .
قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال : " حسبك الآن " فإذا عيناه تذرفان .
ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش ، به وقد روي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه . ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رزين ، عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنباه ، فقال : " يا رب هذا شهدت على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟ " .
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " .
وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي في " التذكرة " حيث قال : باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته : قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المنهال بن عمرو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية ، فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه . وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : [ قد تقدم ] أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة . قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام .
وقوله ( يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ) أي : لو انشقت وبلعتهم ، مما يرون من أهوال الموقف ، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله : ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ] ) وقوله ( ولا يكتمون الله حديثا ) أخبر عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ، ولا يكتمون منه شيئا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام ، حدثنا عمرو ، عن مطرف ، عن بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : أتى رجل ابن عباس فقال : سمعت الله ، عز وجل ، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا - : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] وقال في الآية الأخرى : ( ولا يكتمون الله حديثا ) فقال ابن العباس : أما قوله : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنجحد ، فقالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم ( ولا يكتمون الله حديثا )
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف علي في القرآن . قال : ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال : ليس هو بالشك . ولكن اختلاف . قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك . قال : أسمع الله يقول : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) [ الأنعام : 23 ] وقال ( ولا يكتمون الله حديثا ) ; فقد كتموا ! فقال ابن عباس : أما قوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، جحد المشركون ، فقالوا : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) ; رجاء أن يغفر لهم . فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك : ( يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا )
فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ١٤
قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
فتحت الفاء لالتقاء الساكنين وإذا ظرف زمان والعامل فيه جئنا ذكر أبو الليث السمرقندي : حدثنا الخليل بن أحمد قال : حدثنا ابن منيع قال : حدثنا أبو كامل قال : حدثنا فضيل ، عن يونس بن محمد بن فضالة ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر ومعه ابن مسعود ومعاذ وناس من أصحابه فأمر قارئا يقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه ؛ فقال : يا رب هذا على من أنا بين ظهرانيهم فكيف من لم أرهم . وروى البخاري ، عن عبد الله قال . قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت عليه سورة " النساء " حتى بلغت فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال : أمسك فإذا عيناه تذرفان . وأخرجه مسلم وقال بدل قوله ( أمسك ) : فرفعت رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي - فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل . قال علماؤنا : بكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لعظيم ما تضمنته هذه الآية من هول المطلع وشدة الأمر ؛ إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب ، ويؤتى به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيدا . والإشارة بقوله على هؤلاء إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار ؛ وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وظيفة العذاب أشد عليهم منها على غيرهم ؛ لعنادهم عند رؤية المعجزات ، وما أظهره الله على يديه من خوارق العادات . والمعنى فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا أمعذبين أم منعمين ؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ . وقيل : الإشارة إلى جميع أمته .
ذكر ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار ، عن المنهال بن عمر ، وحدثه أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم ؛ يقول الله تبارك وتعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد يعني بنبيها وجئنا بك على هؤلاء شهيدا . وموضع كيف نصب بفعل مضمر ، التقدير فكيف يكون حالهم ؛ كما ذكرنا . والفعل المضمر قد يسد مسد إذا ، والعامل في إذا جئنا . وشهيدا حال . وفي الحديث من الفقه جواز قراءة الطالب على الشيخ والعرض عليه ، ويجوز عكسه . وسيأتي بيانه في حديث أبي في سورة لم يكن ، إن شاء الله تعالى . وشهيدا نصب على الحال .
فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا ١٤
ثم قال تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } أي: كيف تكون تلك الأحوال، وكيف يكون ذلك الحكم العظيم، الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم، كاملُ العدل، كامل الحكمة، بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه؟" فهذا -والله- الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها. وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل، والحمد والثناء. وهناك يسعد أقوام بالفوز والفلاح والعز والنجاح. ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة والعذاب المهين.
يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا يَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثٗا ٢٤
نسخ
مشاركة
التفسير
يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا يَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثٗا ٢٤
وقال جويبر عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال يا ابن عباس قول الله تعالى "يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا" وقوله والله ربنا ما كنا مشركين فقال له ابن عباس إنى أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألقى على ابن عباس متشابه القرآن فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد فيقول المشركون إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده فيقولون تعالوا نجحد فيسألهم فيقولون "والله ربنا ما كنا مشركين" قال فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم وتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين.
فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم "ولا يكتمون الله حديثا" رواه ابن جرير.
يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا يَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثٗا ٢٤
قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا
ضمت الواو في عصوا . لالتقاء الساكنين ، ويجوز كسرها . وقرأ نافع وابن عامر " تسوى " بفتح التاء والتشديد في السين . وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا السين . والباقون ضموا التاء وخففوا السين ، مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى . والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض . أي يجعلهم والأرض سواء . ومعنى آخر : تمنوا لو لم يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم ؛ لأنهم من التراب نقلوا . وعلى القراءة الأولى والثانية فالأرض فاعلة ، والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها ؛ قاله قتادة . وقيل : الباء بمعنى على ، أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم ؛ عن الحسن . فقراءة التشديد على الإدغام ، والتخفيف على حذف التاء . وقيل : إنما تمنوا هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار ؛ وهذا معنى قوله تعالى : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا . وقيل : إنما تمنوا هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في " البقرة " عند قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية . فتقول الأمم الخالية : إن فيهم الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول المشركون : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم على أفواههم وتشهد أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون ؛ فذلك قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض يعني تخسف بهم . والله أعلم .
قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا قال الزجاج : قال بعضهم : ولا يكتمون الله حديثا مستأنف ؛ لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو معطوف ، والمعنى يود لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا ؛ لأنه ظهر كذبهم . وسئل ابن عباس عن هذه الآية ، وعن قوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين فقال : لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا . وقال الحسن وقتادة : الآخرة مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها . ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم يكتموا . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الأنعام " إن شاء الله تعالى .
يَوۡمَئِذٖ يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ٱلرَّسُولَ لَوۡ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضُ وَلَا يَكۡتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثٗا ٢٤
{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ } أي: جمعوا بين الكفر بالله وبرسوله، ومعصيةِ الرسول { لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } أي: تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما، كما قال تعالى: { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا }. { وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أي: بل يقرون له بما عملوا، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله جزاءهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين. فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم، فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله، فإذا عرفوا الحقائق وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي الأمر، ولا يبقى للكتمان موضع، ولا نفع ولا فائدة.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٣٤
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٣٤
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان محلها - وهي المساجد - للجنب ، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مكث وقد كان هذا قبل تحريم الخمر ، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة ، عند قوله [ تعالى ] ( يسألونك عن الخمر والميسر [ قل فيهما إثم كبير ] ) الآية [ البقرة : 219 ] ; فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فلما نزلت هذه الآية ، تلاها عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات فلما نزل قوله [ تعالى ] ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) إلى قوله : ( فهل أنتم منتهون ) [ المائدة : 90 ، 91 ] فقال عمر : انتهينا ، انتهينا .
وفي رواية إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو - وهو ابن شرحبيل - عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر ، فذكر الحديث وفيه : فنزلت الآية التي في [ سورة ] النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي : ألا يقربن الصلاة سكران . لفظ أبي داود .
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم .
حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، أخبرني سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار ، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا ، ثم افتخرنا فرفع رجل لحي بعير ففزر بها أنف سعد ، فكان سعد مفزور الأنف ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) الآية .
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة . ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه ، من طرق عن سماك به .
سبب آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي ، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموا فلانا - قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، ما أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون . [ قال ] فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون )
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن عبد الرحمن الدشتكي ، به ، وقال : حسن صحيح .
وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ; أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : ( قل [ يا ] أيها الكافرون ) فخلط فيها ، فنزلت : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث الثوري ، به .
ورواه ابن جرير أيضا ، عن ابن حميد ، عن جرير ، عن عطاء ، عن أبي عبد الله السلمي قال : كان علي في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف ، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها ، وذلك قبل أن يحرم الخمر ، فحضرت الصلاة فقدموا عليا فقرأ بهم : ( قل يا أيها الكافرون ) فلم يقرأها كما ينبغي ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى )
ثم قال : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب - وهو أبو عبد الرحمن السلمي ; أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون . أعبد ما تعبدون . وأنتم عابدون ما أعبد . وأنا عابد ما عبدتم . لكم دينكم ولي دين . فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) .
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ حتى تعلموا ما تقولون ] ) وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى ، قبل أن تحرم الخمر ، فقال الله : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) الآية . رواه ابن جرير . وكذا قال أبو رزين ومجاهد . وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة : كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر .
وقال الضحاك في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب . قال : ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب ; لأن ذاك في حكم المجنون ، وإنما خوطب بالنهي الثمل الذي يفهم التكليف .
وهذا حاصل ما قاله . وقد ذكره غير واحد من الأصوليين ، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام ، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له ; فإن الفهم شرط التكليف . وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية ; لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما ، والله أعلم . وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ آل عمران : 102 ] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك .
وقوله : ( حتى تعلموا ما تقولون ) هذا أحسن ما يقال في حد السكران : إنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي ، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول . انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب ، به وفي بعض ألفاظ الحديث فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه .
وقوله : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدشتكي ، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر به مرا ولا تجلس . ثم قال : وروي عن عبد الله بن مسعود ، وأنس ، وأبي عبيدة ، وسعيد بن المسيب ، وأبي الضحى ، وعطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، وإبراهيم النخعي ، وزيد بن أسلم ، وأبي مالك ، وعمرو بن دينار ، والحكم بن عتيبة وعكرمة ، والحسن البصري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن شهاب ، وقتادة ، نحو ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فأنزل الله : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل )
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب ، رحمه الله ، ما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر " .
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، علما منه أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، سيلي الأمر بعده ، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه ، رضي الله عنه . ومن روى : " إلا باب علي " كما وقع في بعض السنن ، فهو خطأ ، والصحيح . ما ثبت في الصحيح . ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضا في معناه ; إلا أن بعضهم قال : يمنع مرورهما لاحتمال التلويث . ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا .
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ناوليني الخمرة من المسجد " فقلت : إني حائض . فقال : " إن حيضتك ليست في يدك " . وله عن أبي هريرة مثله ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد ، والنفساء في معناها والله أعلم .
وروى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة العامري ، عن جسرة بنت دجاجة ، عن عائشة ] رضي الله عنها [ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " قال أبو مسلم الخطابي : ضعف هذا الحديث جماعة وقالوا : أفلت مجهول . لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهجري ، عن محدوج الذهلي ، عن جسرة ، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به . قال أبو زرعة الرازي : يقولون : جسرة عن أم سلمة . والصحيح جسرة عن عائشة .
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي ، من حديث سالم بن أبي حفصة ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي ، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك . إنه حديث ضعيف لا يثبت ; فإن سالما هذا متروك ، وشيخه عطية ضعيف والله أعلم .
قول آخر في معنى الآية : قال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرني ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن زر بن حبيش ، عن علي : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) قال : لا يقرب الصلاة ، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء .
ثم رواه من وجه آخر ، عن المنهال بن عمرو ، عن زر ، عن علي بن أبي طالب ، فذكره . قال : وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير ، والضحاك ، نحو ذلك .
وقد روى ابن جرير من حديث وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن عباد بن عبد الله أو عن زر بن حبيش - عن علي فذكره . ورواه من طريق العوفي وأبي مجلز ، عن ابن عباس ، فذكره . ورواه عن سعيد بن جبير ، وعن مجاهد ، والحسن بن مسلم ، والحكم بن عتيبة وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن ، مثل ذلك ، وروي من طريق ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : كنا نسمع أنه في السفر .
ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم تجد الماء عشر حجج ، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك فإن ذلك خير " .
ثم قال ابن جرير - بعد حكايته القولين - : والأولى قول من قال : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل ) إلا مجتازي طريق فيه . وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : أو ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) [ المائدة : 6 ] إلى آخره . فكان معلوما بذلك أن قوله : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) لو كان معنيا به المسافر ، لم يكن لإعادة ذكره في قوله : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر ) معنى مفهوم ، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل . قال : والعابر السبيل : المجتاز مرا وقطعا . يقال منه : " عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا " ومنه قيل : " عبر فلان النهر " إذا قطعه وجاوزه . ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : هي عبر أسفار وعبر أسفار ; لقوتها على قطع الأسفار .
وهذا الذي نصره هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة ، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا ، والله أعلم .
وقوله : ( حتى تغتسلوا ) دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعي : أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم ، إن عدم الماء ، أو لم يقدر على استعماله بطريقة . وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد ، لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك ; قال سعيد بن منصور :
حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة ، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم ، فالله أعلم .
وقوله : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) أما المرض المبيح للتيمم ، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء . ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس عن خصيف عن مجاهد في قوله : ( وإن كنتم مرضى ) قال : نزلت في رجل من الأنصار ، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
هذا مرسل . والسفر معروف ، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير .
وقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) الغائط : هو المكان المطمئن من الأرض ، كنى بذلك عن التغوط ، وهو الحدث الأصغر .
وأما قوله : ( أو لامستم النساء ) فقرئ : " لمستم " و " لامستم " واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك ، على قولين :
أحدهما : " أن ذلك كناية عن الجماع ; لقوله ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) [ البقرة : 237 ] وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) [ الأحزاب : 49 ] .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( أو لامستم النساء ) قال : الجماع . وروي عن علي ، وأبي بن كعب ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان - نحو ذلك .
وقال ابن جرير : حدثني حميد بن مسعدة ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع . وقال ناس من العرب : اللمس الجماع : قال : فأتيت ابن عباس فقلت له : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي . ليس بالجماع . وقالت العرب : الجماع . قال : من أي الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي . قال : غلب فريق الموالي . إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء .
ثم رواه عن ابن بشار ، عن غندر ، عن شعبة - به نحوه . ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير ، نحوه .
ومثله قال : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو بشر ، أخبرنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني بما يشاء .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، أنبأنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الملامسة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني بما يشاء .
وقد صح من غير وجه ، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك . ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم .
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان ، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه .
ثم قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن مخارق ، عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال : اللمس ما دون الجماع .
وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله . وروي من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة من المس ، وفيها الوضوء .
وقال : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبيد الله بن عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللماس .
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة ، عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله قال : اللمس ما دون الجماع .
ثم قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، وعبيدة ، وأبي عثمان النهدي وأبي عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود - وعامر الشعبي ، وثابت بن الحجاج ، وإبراهيم النخعي ، وزيد بن أسلم نحو ذلك .
قلت : وروى مالك ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة ، فمن قبل امرأته أو جسها بيده ، فعليه الوضوء .
وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني [ في سننه ] عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك . ولكن روينا عنه من وجه آخر : أنه كان يقبل امرأته ، ثم يصلي ولا يتوضأ . فالرواية عنه مختلفة ، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب ، والله أعلم .
والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل ، رحمهم الله ، قال ناصر هذه المقالة : قد قرئ في هذه الآية ) لامستم ) ) ولمستم ) واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال ] الله [ تعالى : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ) [ الأنعام : 7 ] ، أي جسوه وقال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم لماعز - حين أقر بالزنا يعرض له بالرجوع عن الإقرار - : " لعلك قبلت أو لمست " وفي الحديث الصحيح : " واليد زناها اللمس " وقالت عائشة ، رضي الله عنها : قل يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا ، فيقبل ويلمس . ومنه ما ثبت في الصحيحين : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة وهو يرجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد ، كما يطلق على الجماع ، قال الشاعر :
وألمست كفي كفه أطلب الغنى
واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير - وقال أبو سعيد : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها ، غير أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله عز وجل هذه الآية : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) [ هود : 114 ] قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توضأ ثم صل " . قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ، أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ قال : " بل للمؤمنين عامة " .
ورواه الترمذي من حديث زائدة به ، وقال : ليس بمتصل . وأخرجه النسائي من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا .
قالوا : فأمره بالوضوء ; لأنه لمس المرأة ولم يجامعها . وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة ، كما تقدم في حديث الصديق [ رضي الله عنه ] ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له " الحديث ، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله : ( ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ ومن يغفر الذنوب إلا الله ] ) الآية [ آل عمران : 135 ] .
ثم قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : ( أو لامستم النساء ) الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم قال : حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ .
ثم قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن عروة ، عن عائشة ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت .
وهكذا رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم ، عن وكيع ، به .
ثم قال أبو داود : روي عن الثوري أنه قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني ، وقال يحيى القطان لرجل : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء .
وقال الترمذي : سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة .
وقد وقع في رواية ابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة .
وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ، ويشهد له قوله : من هي إلا أنت ، فضحكت .
لكن روى أبو داود ، عن إبراهيم بن مخلد الطالقاني ، عن عبد الرحمن بن مغراء ، عن الأعمش قال : حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة فذكره ، والله أعلم .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو زيد عمر بن شبة ، عن شهاب بن عباد ، حدثنا مندل بن علي ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة - وعن أبي روق ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلة بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن أبي روق الهمداني ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ .
[ و ] رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان - زاد أبو داود : وابن مهدي - كلاهما عن سفيان الثوري به . ثم قال أبو داود ، والنسائي : لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن سنان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ، ولا يحدث وضوءا .
وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ .
وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن فضيل ، عن حجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به .
وقوله : ( فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية : أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه ، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم . وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ، كما هو مقرر في موضعه ، كما هو في الصحيحين ، من حديث عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم ، فقال : " يا فلان ، ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ ألست برجل مسلم ؟ " قال : بلى يا رسول الله ، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء . قال : " عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك " .
ولهذا قال تعالى : ( فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) فالتيمم في اللغة هو : القصد . تقول العرب : تيممك الله بحفظه ، أي : قصدك . ومنه قول امرئ القيس
ولما رأت أن المنية وردها وأن الحصى من تحت أقدامها دام
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الفيء عرمضها طام
والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض ، فيدخل فيه التراب ، والرمل ، والشجر ، والحجر ، والنبات ، وهو قول مالك . وقيل : ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ ، والنورة ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وقيل : هو التراب فقط ، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما ، واحتجوا بقوله تعالى : ( فتصبح صعيدا زلقا ) [ الكهف : 40 ] أي : ترابا أملس طيبا ، وبما ثبت في صحيح مسلم ، عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " وفي لفظ : " وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " . قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه .
والطيب هاهنا قيل : الحلال . وقيل : الذي ليس بنجس . كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث أبي عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر حجج ، فإذا وجده ، فليمسه بشرته ، فإن ذلك خير " .
وقال الترمذي : حسن صحيح : وصححه ابن حبان أيضا ورواه الحافظ أبو بكر البزار في عن أبي هريرة وصححه الحافظ أبو الحسن القطان . وقال ابن عباس : أطيب الصعيد تراب الحرث . رواه ابن أبي حاتم ، ورفعه ابن مردويه في تفسيره .
وقوله : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) التيمم بدل عن الوضوء في التطهر به ، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه ، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال .
أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - : أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين ; لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين ، وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين ، كما في آية السرقة : ( فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة : 38 ] قالوا : وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية . وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " . ولكن لا يصح ; لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم وروى أبو داود عن ابن عمر - في حديث - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه .
ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عدي : هو الصواب . وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر .
واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، عن الأعرج ، عن ابن الصمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه .
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا خارجة بن مصعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي جهيم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى فرغ ، ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين ، ثم رد علي السلام .
والقول الثاني : إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين ، وهو القول القديم للشافعي .
والثالث : أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة ; قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن ذر ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ; أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء ؟ فقال عمر : لا تصل . فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : " إنما كان يكفيك " . وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ، ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه .
وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن عمار ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم : " ضربة للوجه والكفين " .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا سليمان الأعمش ، حدثنا شقيق قال : كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله : لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله : لا . فقال أبو موسى : أما تذكر إذ قال عمار : ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل ، فأصابتني جنابة ، فتمرغت في التراب ؟ فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته ، فضحك وقال : " إنما كان يكفيك أن تقول هكذا " ، وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعا ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة ؟ فقال عبد الله : لا جرم ، ما رأيت عمر قنع بذاك قال : فقال له أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة النساء : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول ، وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم .
وقال تعالى في آية المائدة : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) [ المائدة : 6 ] ، استدل بذلك الشافعي ، رحمه الله تعالى ، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء ، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة : أنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه .
وقوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي : في الدين الذي شرعه لكم ( ولكن يريد ليطهركم ) فلهذا أباح لكم إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد ( وليتم نعمتة عليكم لعلكم تشكرون )
ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم ، كما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ : فعنده طهوره ومسجده - وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة " .
وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء " .
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ) أي : ومن عفوه عنكم وغفره لكم أن شرع التيمم ، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء توسعة عليكم ورخصة لكم ، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول ، أو جنابة حتى يغتسل ، أو حدث حتى يتوضأ ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء ، فإن الله ، عز وجل ، قد أرخص في التيمم والحالة هذه ، رحمة بعباده ورأفة بهم ، وتوسعة عليهم ، ولله الحمد والمنة .
ذكر سبب نزول مشروعية التيمم :
وإنما ذكرنا ذلك هاهنا ; لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أحد ، يقال : في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير ، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ، ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هاهنا ، وبالله الثقة .
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوها بغير وضوء ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا .
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا في البيداء - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ! قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا ، فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته .
وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة وإسماعيل . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح قال : قال ابن شهاب : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ، وذلك حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله ، عز وجل ، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط .
وقد رواه ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا صيفي ، عن ابن أبي ذئب ، ] عن الزهري [ عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي اليقظان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلك عقد لعائشة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر فتغيظ أبو بكر على عائشة ] رضي الله عنها [ فنزلت عليه الرخصة : المسح بالصعيد الطيب . فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ! نزلت فيك رخصة ! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا العلاء بن أبي سوية ، حدثني الهيثم عن زريق المالكي - من بني مالك بن كعب بن سعد ، وعاش مائة وسبع عشرة سنة - عن أبيه ، عن الأسلع بن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقته وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت . ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : " يا أسلع ، مالي أرى رحلتك تغيرت ؟ " قلت : يا رسول الله ، لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : " ولم ؟ " قلت : إني أصابتني جنابة ، فخشيت القر على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله تعالى : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ] إن الله كان عفوا غفورا ) وقد روي من وجه آخر عنه .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٣٤
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا
فيه أربعة وأربعون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى خص الله سبحانه وتعالى بهذا الخطاب المؤمنين ؛ لأنهم كانوا يقيمون الصلاة وقد أخذوا من الخمر وأتلفت عليهم أذهانهم فخصوا بهذا الخطاب ؛ إذ كان الكفار لا يفعلونها صحاة ولا سكارى . روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في البقرة يسألونك عن الخمر والميسر قال : فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت الآية التي في النساء يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة ينادي : ألا لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت هذه الآية : فهل أنتم منتهون قال عمر : انتهينا . وقال سعيد بن جبير : كان الناس على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا ؛ فكانوا يشربونها أول الإسلام حتى نزلت : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس . قالوا : نشربها للمنفعة لا للإثم ؛ فشربها رجل فتقدم يصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ؛ فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . فقالوا : في غير عين الصلاة . فقال عمر : اللهم أنزل علينا في الخمر بيانا شافيا ؛ فنزلت : إنما يريد الشيطان الآية . فقال عمر : انتهينا ، انتهينا . ثم طاف منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الخمر قد حرمت ؛ على ما يأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى : وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون . قال : فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . ووجه الاتصال والنظم بما قبله أنه قال سبحانه وتعالى : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . ثم ذكر بعد الإيمان الصلاة التي هي رأس العبادات ؛ ولذلك يقتل تاركها ولا يسقط فرضها ، وانجر الكلام إلى ذكر شروطها التي لا تصح إلا بها .
الثانية : والجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء على أن المراد بالسكر سكر الخمر ؛ إلا الضحاك فإنه قال : المراد سكر النوم ؛ لقوله عليه السلام : إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنه لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه . وقال عبيدة السلماني : وأنتم سكارى يعني إذا كنت حاقنا ؛ لقوله عليه السلام : لا يصلين أحدكم وهو حاقن في رواية وهو ضام بين فخذيه .
قلت : وقول الضحاك وعبيدة صحيح المعنى ؛ فإن المطلوب من المصلي الإقبال على الله تعالى بقلبه وترك الالتفات إلى غيره ، والخلو عن كل ما يشوش عليه من نوم وحقنة وجوع ، وكل ما يشغل البال ويغير الحال . قال صلى الله عليه وسلم : إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء . فراعى صلى الله عليه وسلم زوال كل مشوش يتعلق به الخاطر ، حتى يقبل على عبادة ربه بفراغ قلبه وخالص لبه ، فيخشع في صلاته . ويدخل في هذه الآية : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون على ما يأتي بيانه . وقال ابن عباس : إن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بآية المائدة : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الآية . فأمروا على هذا القول بألا يصلوا سكارى ؛ ثم أمروا بأن يصلوا على كل حال ؛ وهذا قبل التحريم . وقال مجاهد : نسخت بتحريم الخمر . وكذلك قال عكرمة وقتادة ، وهو الصحيح في الباب لحديث علي المذكور . وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أقيمت الصلاة فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقربن الصلاة سكران ؛ ذكره النحاس . وعلى قول الضحاك وعبيدة الآية محكمة لا نسخ فيها .
الثالثة : قوله تعالى : لا تقربوا إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه . والخطاب لجماعة الأمة الصاحين . وأما السكران إذا عدم الميز لسكره فليس بمخاطب في ذلك الوقت لذهاب عقله ؛ وإنما هو مخاطب بامتثال ما يجب عليه ، وبتكفير ما ضيع في وقت سكره من الأحكام التي تقرر تكليفه إياها قبل السكر .
الرابعة : قوله تعالى : الصلاة اختلف العلماء في المراد بالصلاة هنا ؛ فقالت طائفة : هي العبادة المعروفة نفسها ؛ وهو قول أبي حنيفة ؛ ولذلك قال حتى تعلموا ما تقولون . وقالت طائفة : المراد مواضع الصلاة ؛ وهو قول الشافعي ، فحذف المضاف . وقد قال تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات الحج : فسمى مواضع الصلاة صلاة . ويدل على هذا التأويل قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل وهذا يقتضي جواز العبور للجنب في المسجد لا الصلاة فيه . وقال أبو حنيفة : المراد بقوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل المسافر إذا لم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي ؛ وسيأتي بيانه . وقالت طائفة : المراد الموضع والصلاة معا ؛ لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين ، فكانا متلازمين .
الخامسة : قوله تعالى : وأنتم سكارى ابتداء وخبر ، جملة في موضع الحال من تقربوا . وسكارى جمع سكران ؛ مثل كسلان وكسالى . وقرأ النخعي " سكرى " بفتح السين على مثال فعلى ، وهو تكسير سكران ؛ وإنما كسر على سكرى لأن السكر آفة تلحق العقل فجرى مجرى صرعى وبابه . وقرأ الأعمش " سكرى " كحبلى فهو صفة مفردة ؛ وجاز الإخبار بالصفة المفردة عن الجماعة على ما يستعملونه من الإخبار عن الجماعة بالواحد . والسكر : نقيض الصحو ؛ يقال : سكر يسكر سكرا ، من باب حمد يحمد . وسكرت عينه تسكر أي تحيرت ؛ ومنه قوله تعالى : إنما سكرت أبصارنا . وسكرت الشق سددته . فالسكران قد انقطع عما كان عليه من العقل .
السادسة : وفي هذه الآية دليل بل نص على أن الشرب كان مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر . وقال قوم : السكر محرم في العقل وما أبيح في شيء من الأديان ؛ وحملوا السكر في هذه الآية على النوم . وقال القفال : يحتمل أنه كان أبيح لهم من الشراب ما يحرك الطبع إلى السخاء والشجاعة والحمية .
قلت : وهذا المعنى موجود في أشعارهم ؛ وقد قال حسان :
ونشربها فتتركنا ملوكا
وقد أشبعنا هذا المعنى في " البقرة " . قال القفال : فأما ما يزيل العقل حتى يصير صاحبه في حد الجنون والإغماء فما أبيح قصده ، بل لو اتفق من غير قصد فيكون مرفوعا عن صاحبه .
قلت : هذا صحيح ، وسيأتي بيانه في " المائدة " إن شاء الله تعالى في قصة حمزة . وكان المسلمون لما نزلت هذه الآية يجتنبون الشرب أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ؛ فلم يزالوا على ذلك حتى نزل تحريمها في " المائدة " في قوله تعالى : فهل أنتم منتهون .
السابعة : قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط . والسكران لا يعلم ما يقول ؛ ولذلك قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : إن السكران لا يلزمه طلاقه . وروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة ، وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني ؛ واختاره الطحاوي وقال : أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز ، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس . ولا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز ؛ فكذلك من سكر من الشراب . وأجازت طائفة طلاقه ؛ وروي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين ، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ، واختلف فيه قول الشافعي . وألزمه مالك الطلاق والقود في الجراح والقتل ، ولم يلزمه النكاح والبيع . وقال أبو حنيفة : أفعال السكران وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي ، إلا الردة فإنه إذا ارتد فإنه لا تبين منه امرأته إلا استحسانا . وقال أبو يوسف : يكون مرتدا في حال سكره ؛ وهو قول الشافعي إلا أنه لا يقتله في حال سكره ولا يستتيبه . وقال الإمام أبو عبد الله المازري : وقد رويت عندنا رواية شاذة أنه لا يلزم طلاق السكران . وقال محمد بن عبد الحكم : لا يلزمه طلاق ولا عتاق . قال ابن شاس : ونزل الشيخ أبو الوليد الخلاف على المخلط الذي معه بقية من عقله إلا أنه لا يملك الاختلاط من نفسه فيخطئ ويصيب . قال : فأما السكران الذي لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من المرأة ، فلا اختلاف في أنه كالمجنون في جميع أفعاله وأحواله فيما بينه وبين الناس ، وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا ؛ إلا فيما ذهب وقته من الصلوات ، فقيل : إنها لا تسقط عنه بخلاف المجنون ؛ من أجل أنه بإدخاله السكر على نفسه كالمتعمد لتركها حتى خرج وقتها . وقال سفيان الثوري : حد السكر اختلال العقل ؛ فإذا استقرئ فخلط في قراءته وتكلم بما لا يعرف جلد . وقال أحمد : إذا تغير عقله عن حال الصحة فهو سكران ؛ وحكي عن مالك نحوه . قال ابن المنذر : إذا خلط في قراءته فهو سكران ؛ استدلالا بقول الله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون . فإذا كان بحيث لا يعلم ما يقول تجنب المسجد مخافة التلويث ؛ ولا تصح صلاته وإن صلى قضى . وإن كان بحيث يعلم ما يقول فأتى بالصلاة فحكمه حكم الصاحي .
الثامنة : قوله تعالى : ولا جنبا عطف على موضع الجملة المنصوبة في قوله : حتى تعلموا أي لا تصلوا وقد أجنبتم . ويقال : تجنبتم وأجنبتم وجنبتم بمعنى . ولفظ الجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه على وزن المصدر كالبعد والقرب . وربما خففوه فقالوا : جنب ؛ وقد قرأه كذلك قوم . وقال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة . وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ؛ مثل عنق وأعناق ، وطنب وأطناب . ومن قال للواحد جانب قال في الجمع : جناب ؛ كقولك : راكب وركاب . والأصل البعد ؛ كأن الجنب بعد بخروج الماء الدافق عن حال الصلاة ؛ قال :
فلا تحرمني نائلا عن جنابة فإني امرؤ وسط القباب غريب
ورجل جنب : غريب . والجنابة مخالطة الرجل المرأة .
التاسعة : والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان . وروي عن بعض الصحابة ألا غسل إلا من إنزال ؛ لقوله عليه السلام : إنما الماء من الماء أخرجه مسلم . وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال : يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي . قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ؛ وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم . وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه ، وقال في آخره : قال أبو العلاء بن الشخير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا . قال أبو إسحاق : هذا منسوخ . وقال الترمذي : كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ .
قلت : على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين . وقد كان فيه خلاف بين الصحابة ثم رجعوا فيه إلى رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان منه وجب الغسل . أخرجه مسلم . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل . زاد مسلم ( وإن لم ينزل ) . وقال ابن القصار : وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف من قبلهم على الأخذ بحديث ( إذا التقى الختانان ) وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف . قال القاضي عياض : لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني . وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث ( الماء من الماء ) لما اختلفوا . وتأوله ابن عباس على الاحتلام ؛ أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام . ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل . وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء .
العاشرة : قوله تعالى : إلا عابري سبيل يقال : عبرت الطريق أي قطعته من جانب إلى جانب . وعبرت النهر عبورا ، وهذا عبر النهر أي شطه ، ويقال : عبر بالضم . والمعبر ما يعبر عليه من سفينة أو قنطرة . وهذا عابر السبيل أي مار الطريق . وناقة عبر أسفار : لا تزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة والهاجرة لسرعة مشيها . قال الشاعر :
عيرانة سرح اليدين شملة عبر الهواجر كالهزف الخاضب
وعبر القوم ماتوا . وأنشد :
قضاء الله يغلب كل شيء ويلعب بالجزوع وبالصبور
فإن نعبر فإن لنا لمات وإن نغبر فنحن على نذور
يقول : إن متنا فلنا أقران ، وإن بقينا فلا بد لنا من الموت ؛ حتى كأن علينا في إتيانه نذورا .
الحادية عشرة : واختلف العلماء في قوله : إلا عابري سبيل فقال علي رضي الله عنه وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم : عابر السبيل المسافر . ولا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ؛ وهذا قول أبي حنيفة ؛ لأن الغالب في الماء لا يعدم في الحضر ؛ فالحاضر يغتسل لوجود الماء ، والمسافر يتيمم إذا لم يجده . قال ابن المنذر : وقال أصحاب الرأي في الجنب المسافر يمر على مسجد فيه عين ماء يتيمم الصعيد ويدخل المسجد ويستقي منها ثم يخرج الماء من المسجد . ورخصت طائفة في دخول الجنب المسجد . واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : المؤمن ليس بنجس . قال ابن المنذر : وبه نقول . وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود وعكرمة والنخعي : عابر السبيل الخاطر المجتاز ؛ وهو قول عمرو بن دينار ومالك والشافعي . وقالت طائفة : لا يمر الجنب في المسجد إلا ألا يجد بدا فيتيمم ويمر فيه ؛ هكذا قال الثوري وإسحاق بن راهويه . وقال أحمد وإسحاق في الجنب : إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد حكاه ابن المنذر . وروى بعضهم في سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد ، فإذا أصاب أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد .
قلت : وهذا صحيح ؛ يعضده ما رواه أبو داود عن جسرة بنت دجاجة قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ؛ فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد . ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم فقال : وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب . وفي صحيح مسلم : لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر . فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب لما كان يؤدي ذلك إلى اتخاذ المسجد طريقا والعبور فيه . واستثنى خوخة أبي بكر إكراما له وخصوصية ؛ لأنهما كانا لا يفترقان غالبا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ورواه عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لمسلم ولا يصلح أن يجنب في المسجد إلا أنا وعلي . قال علماؤنا : وهذا يجوز أن يكون ذلك ؛ لأن بيت علي كان في المسجد ، كما كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وإن كان البيتان لم يكونا في المسجد ولكن كانا متصلين بالمسجد وأبوابهما كانت في المسجد فجعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد فقال : ما ينبغي لمسلم . . الحديث . والذي يدل على أن بيت علي كان في المسجد ما رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله قال : سأل رجل أبي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أيهما كان خيرا ؟ فقال له عبد الله بن عمر : هذا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وأشار إلى بيت علي إلى جنبه ، لم يكن في المسجد غيرهما ؛ وذكر الحديث . فلم يكونا يجنبان في المسجد وإنما كانا يجنبان في بيوتهما ، وبيوتهما من المسجد إذ كان أبوابهما فيه ؛ فكانا يستطرقانه في حال الجنابة إذا خرجا من بيوتهما . ويجوز أن يكون ذلك تخصيصا لهما ؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خص بأشياء ، فيكون هذا مما خص به ، ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام فرخص له في ما لم يرخص فيه لغيره . وإن كانت أبواب بيوتهم في المسجد ، فإنه كان في المسجد أبواب بيوت غير بيتيهما ؛ حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدها إلا باب علي . وروى عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سدوا الأبواب إلا باب علي فخصه عليه السلام بأن ترك بابه في المسجد ، وكان يجنب في بيته وبيته في المسجد . وأما قوله : لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر فإن ذلك كانت - والله أعلم - أبوابا تطلع إلى المسجد خوخات ، وأبواب البيوت خارجة من المسجد ؛ فأمر عليه السلام بسد تلك الخوخات وترك خوخة أبي بكر إكراما له . والخوخات كالكوى والمشاكي ، وباب علي كان باب البيت الذي كان يدخل منه ويخرج . وقد فسر ابن عمر ذلك بقوله : ولم يكن في المسجد غيرهما .
فإن قيل : فقد ثبت عن عطاء بن يسار أنه قال : كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه . وهذا يدل على أن اللبث في المسجد للجنب جائز إذا توضأ ؛ وهو مذهب أحمد وإسحاق كما ذكرنا . فالجواب أن الوضوء لا يرفع حدث الجنابة ، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عن النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يرضى لتلك العبادة ، ولا يصح له أن يتلبس بها . والغالب من أحوالهم المنقولة أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم . فإن قيل : يبطل بالمحدث . قلنا : ذلك يكثر وقوعه فيشق الوضوء منه ؛ وفي قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل ما يغني ويكفي . وإذا كان لا يجوز له اللبث في المسجد فأحرى ألا يجوز له مس المصحف ولا القراءة فيه ؛ إذ هو أعظم حرمة . وسيأتي بيانه في " الواقعة " إن شاء الله تعالى .
الثانية عشرة : ويمنع الجنب عند علمائنا من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ . وقد روى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن أخرجه ابن ماجه . وأخرج الدارقطني من حديث سفيان عن مسعر ، وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنبا . قال سفيان : قال لي شعبة : ما أحدث بحديث أحسن منه . وأخرجه ابن ماجه قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ فذكره بمعناه ، وهذا إسناد صحيح . وعن ابن عباس ، عن عبد الله بن رواحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب ؛ أخرجه الدارقطني . وروى عن عكرمة قال : كان ابن رواحة مضطجعا إلى جنب امرأته فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها ؛ وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه ، فقامت فخرجت فرأته على جاريته ، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت ، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة فقال مهيم ؟ قالت : مهيم ! لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة . قال : وأين رأيتني ؟ قالت : رأيتك على الجارية ؛ فقال : ما رأيتني ؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب . قالت : فاقرأ ، وكانت لا تقرأ القرآن ، فقال :
أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت : آمنت بالله وكذبت البصر . ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ؛ فضحك حتى بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم .
الثالثة عشرة : حتى تغتسلوا نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال ؛ والاغتسال معنى معقول ، ولفظه عند العرب معلوم ، يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول ؛ ولذلك فرقت العرب بين قولهم : غسلت الثوب ، وبين قولهم : أفضت عليه الماء وغمسته في الماء . إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في الجنب يصب على جسده الماء أو ينغمس فيه ولا يتدلك ؛ فالمشهور من مذهب مالك أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر الجنب بالاغتسال ، كما أمر المتوضئ بغسل وجهه ويديه ؛ ولم يكن للمتوضئ بد من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه ، فكذلك جميع جسد الجنب ورأسه في حكم وجه المتوضئ ويديه . وهذا قول المزني واختياره . قال أبو الفرج عمرو بن محمد المالكي : وهذا هو المعقول من لفظ الغسل ؛ لأن الاغتسال في اللغة هو الافتعال ، ومن لم يمر فلم يفعل غير صب الماء لا يسميه أهل اللسان غاسلا ، بل يسمونه صابا للماء ومنغمسا فيه . قال : وعلى نحو هذا جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة قال : وإنقاؤه - والله أعلم - لا يكون إلا بتتبعه ؛ على حد ما ذكرنا .
قلت : لا حجة فيما استدل به من الحديث لوجهين : أحدهما : أنه قد خولف في تأويله ؛ قال سفيان بن عيينة : المراد بقوله عليه السلام وأنقوا البشرة أراد غسل الفرج وتنظيفه ، وأنه كنى بالبشرة عن الفرج . قالابن وهب : ما رأيت أحدا أعلم بتفسير الأحاديث من ابن عيينة .
الثاني : أن الحديث أخرجه أبو داود في سننه وقال فيه : وهذا الحديث ضعيف ؛ كذا في رواية ابن داسة . وفي رواية اللؤلئي عنه : الحارث بن وجيه ضعيف ، حديثه منكر ؛ فسقط الاستدلال بالحديث ، وبقي المعول على اللسان كما بينا . ويعضده ما ثبت في صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فبال عليه ، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله ؛ روته عائشة ، ونحوه عن أم قيس بنت محصن ؛ أخرجهما مسلم . وقال الجمهور من العلماء وجماعة الفقهاء : يجزئ الجنب صب الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعم وإن لم يتدلك ؛ على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم . رواهما الأئمة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض الماء على جسده ؛ وبه قال محمد بن عبد الحكم ، وإليه رجع أبو الفرج ورواه عن مالك ؛ قال : وإنما أمر بإمرار اليدين في الغسل لأنه لا يكاد من لم يمر يديه عليه يسلم من تنكب الماء عن بعض ما يجب عليه من جسده . وقال ابن العربي : وأعجب لأبي الفرج الذي روى وحكى عن صاحب المذهب أن الغسل دون ذلك يجزئ ! وما قاله قط مالك نصا ولا تخريجا ، وإنما هي من أوهامه .
قلت : قد روي هذا عن مالك نصا ؛ قال مروان بن محمد الظاهري وهو ثقة من ثقات الشاميين : سألت مالك بن أنس عن رجل انغمس في ماء وهو جنب ولم يتوضأ ، قال : مضت صلاته .
قال أبو عمر : فهذه الرواية فيها لم يتدلك ولا توضأ ، وقد أجزأه عند مالك . والمشهور من مذهبه أنه لا يجزئه حتى يتدلك ؛ قياسا على غسل الوجه واليدين . وحجة الجماعة أن كل من صب عليه الماء فقد اغتسل . والعرب تقول : غسلتني السماء . وقد حكت عائشة وميمونة صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا تدلكا ، ولو كان واجبا ما تركه ؛ لأنه المبين عن الله مراده ، ولو فعله لنقل عنه ؛ كما نقل تخليل أصول شعره بالماء وغرفه على رأسه ، وغير ذلك من صفة غسله ووضوئه عليه السلام . قال أبو عمر : وغير نكير أن يكون الغسل في لسان العرب مرة بالعرك ومرة بالصب والإفاضة ؛ وإذا كان هذا فلا يمتنع أن يكون الله جل وعز تعبد عباده في الوضوء بإمرار أيديهم على وجوههم مع الماء ويكون ذلك غسلا ، وأن يفيضوا الماء على أنفسهم في غسل الجنابة والحيض ، ويكون ذلك غسلا موافقا للسنة غير خارج من اللغة ، ويكون كل واحد من الأمرين أصلا في نفسه ، لا يجب أن يرد أحدهما إلى صاحبه ؛ لأن الأصول لا يرد بعضها إلى بعض قياسا - وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء الأمة . وإنما ترد الفروع قياسا على الأصول . وبالله التوفيق .
الرابعة عشرة : حديث ميمونة وعائشة يرد ما رواه شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه سبعا وفرجه سبعا . وقد روي عن ابن عمر قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرار ، وغسل البول من الثوب سبع مرار ؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من الجنابة مرة ، والغسل من البول مرة . قال ابن عبد البر : وإسناد هذا الحديث عن ابن عمر فيه ضعف ولين ، وإن كان أبو داود قد خرجه والذي قبله عن شعبة مولى ابن عباس ، وشعبة هذا ليس بالقوي ، ويردهما حديث عائشة وميمونة .
الخامسة عشرة : ومن لم يستطع إمرار يده على جسده فقد قال سحنون : يجعل من يلي ذلك منه ، أو يعالجه بخرقة . وفي الواضحة : يمر يديه على ما يدركه من جسده ، ثم يفيض الماء حتى يعم ما لم تبلغه يداه .
السادسة عشرة : واختلف قول مالك في تخليل الجنب لحيته ؛ فروى ابن القاسم عنه أنه قال : ليس عليه ذلك . وروى أشهب عنه أن عليه ذلك . قال ابن عبد الحكم : ذلك هو أحب إلينا ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخلل شعره في غسل الجنابة ، وذلك عام وإن كان الأظهر فيه شعر رأسه ؛ وعلى هذين القولين العلماء . ومن جهة المعنى أن استيعاب جميع الجسد في الغسل واجب ، والبشرة التي تحت اللحية من جملته ؛ فوجب إيصال الماء إليها ومباشرتها باليد . وإنما انتقل الفرض إلى الشعر في الطهارة الصغرى لأنها مبنية على التخفيف ، ونيابة الأبدال فيها من غير ضرورة ؛ ولذلك جاز فيها المسح على الخفين ولم يجز في الغسل .
قلت : ويعضد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : تحت كل شعرة جنابة .
السابعة عشرة : وقد بالغ قوم فأوجبوا المضمضة والاستنشاق ؛ لقوله تعالى : حتى تغتسلوا منهم أبو حنيفة ؛ ولأنهما من جملة الوجه وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين ، فمن تركهما وصلى أعاد كمن ترك لمعة ، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه . وقال مالك : ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء ؛ لأنهما باطنان فلا يجب كداخل الجسد . وبذلك قال محمد بن جرير الطبري والليث بن سعد والأوزاعي وجماعة من التابعين . وقال ابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان : هما فرض في الوضوء والغسل جميعا ؛ وهو قول إسحاق وأحمد بن حنبل وبعض أصحاب داود . وروي عن الزهري وعطاء مثل هذا القول . وروي عن أحمد أيضا أن المضمضة سنة والاستنشاق فرض ؛ وقال به بعض أصحاب داود . وحجة من لم يوجبهما أن الله سبحانه لم يذكرهما في كتابه ، ولا أوجبهما رسوله ولا اتفق الجميع عليه ؛ والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه . احتج من أوجبهما بالآية ، وقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم فما وجب في الواحد من الغسل وجب في الآخر ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه ترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة ؛ وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا . احتج من فرق بينهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل المضمضة ولم يأمر بها ، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل ، وفعل الاستنشاق وأمر به ؛ وأمره على الوجوب أبدا .
الثامنة عشرة : قال علماؤنا : ولا بد في غسل الجنابة من النية ؛ لقوله تعالى : حتى تغتسلوا وذلك يقتضي النية ؛ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وكذلك الوضوء والتيمم . وعضدوا هذا بقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص النية في التقرب إلى الله تعالى ، والقصد له بأداء ما افترض على عباده المؤمنين ، وقال عليه السلام : إنما الأعمال بالنيات وهذا عمل . وقال الأوزاعي والحسن : يجزئ الوضوء والتيمم بغير نية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : كل طهارة بالماء فإنها تجزئ بغير نية ، ولا يجزئ التيمم إلا بنية ؛ قياسا على إزالة النجاسة بالإجماع من الأبدان والثياب بغير نية . ورواه الوليد بن مسلم عن مالك .
التاسعة عشرة : وأما قدر الماء الذي يغتسل به ؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة . " الفرق " تحرك راؤه وتسكن . قال ابن وهب : " الفرق " مكيال من الخشب ، كان ابن شهاب يقول : إنه يسع خمسة أقساط بأقساط بني أمية . وقد فسر محمد بن عيسى الأعشى " الفرق " فقال : ثلاثة آصع ، قال : وهي خمسة أقساط ، قال : وفي الخمسة أقساط اثنا عشر مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم قال سفيان : " الفرق " ثلاثة آصع . وعن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد . وفي رواية : يغتسل بخمسة مكاكيك ويتوضأ بمكوك . وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن ، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي ولا يكثر منه ، فإن الإكثار منه سرف والسرف مذموم . ومذهب الإباضية الإكثار من الماء ، وذلك من الشيطان .
الموفية عشرين : قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم
هذه آية التيمم ، نزلت في عبد الرحمن بن عوف أصابته جنابة وهو جريح ؛ فرخص له في أن يتيمم ، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس . وقيل : نزلت بسبب عدم الصحابة الماء في غزوة " المريسيع " حين انقطع العقد لعائشة . أخرج الحديث مالك من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة . وترجم البخاري هذه الآية في كتاب التفسير : حدثنا محمد قال : أخبرنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا ، فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ولم يجدوا ماء فصلوا وهم على غير وضوء ؛ فأنزل الله تعالى آية التيمم .
قلت : وهذه الرواية ليس فيها ذكر للموضع ، وفيها أن القلادة كانت لأسماء ؛ خلاف حديث مالك . وذكر النسائي من رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة لها وهي في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانسلت منها وكان ذلك المكان يقال له الصلصل ؛ وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أن القلادة كانت لأسماء ، وأن عائشة استعارتها من أسماء . وهذا بيان لحديث مالك إذا قال : انقطع عقد لعائشة ، ولحديث البخاري إذ قال : هلكت قلادة لأسماء . وفيه أن المكان يقال له الصلصل . وأخرجه الترمذي حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة أنها سقطت قلادتها ليلة الأبواء ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين في طلبها ، وذكر الحديث . ففي هذه الرواية عن هشام أيضا إضافة القلادة إليها ، لكن إضافة مستعير بدليل حديث النسائي . وقال في المكان : " الأبواء " كما قال مالك ، إلا أنه من غير شك . وفي حديث مالك قال : وبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته . وجاء في البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده . وهذا كله صحيح المعنى ، وليس اختلاف النقلة في العقد والقلادة ولا في الموضع ما يقدح في الحديث ولا يوهن شيئا منه ؛ لأن المعنى المراد من الحديث والمقصود به إليه هو نزول التيمم ، وقد ثبتت الروايات في أمر القلادة . وأما قوله في حديث الترمذي : فأرسل رجلين قيل : أحدهما أسيد بن حضير . ولعلهما المراد بالرجال في حديث البخاري فعبر عنهما بلفظ الجمع ، إذ أقل الجمع اثنان ، أو أردف في أثرهما غيرهما فصح إطلاق اللفظ والله أعلم . فبعثوا في طلبها فطلبوا فلم يجدوا شيئا في وجهتهم ، فلما رجعوا أثاروا البعير فوجدوه تحته . وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . وهذا أيضا ليس بخلاف لما ذكرنا ؛ فإنهم ربما أصابتهم الجراحة في غزوتهم تلك التي قفلوا منها إذ كان فيها قتال فشكوا ، وضاع العقد ونزلت الآية . وقد قيل : إن ضياع العقد كان في غزاة بني المصطلق . وهذا أيضا ليس بخلاف لقول من قال في غزاة المريسيع ، إذ هي غزاة واحدة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة ، على ما قال خليفة بن خياط وأبو عمر بن عبد البر ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري . وقيل : بل نميلة بن عبد الله الليثي . وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ، وهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل فقتل من قتل وسبى من سبى من النساء والذرية وكان شعارهم يومئذ : أمت أمت . وقد قيل : إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوه ، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء . فهذا ما جاء في بدء التيمم والسبب فيه . وقد قيل : إن آية المائدة آية التيمم ، على ما يأتي بيانه هناك . قال أبو عمر : فأنزل الله تعالى آية التيمم ، وهي آية الوضوء المذكورة في سورة " المائدة " ، أو الآية التي في سورة " النساء " . ليس التيمم مذكورا في غير هاتين الآيتين وهما مدنيتان .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : مرضى المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد ، إلى الاعوجاج والشذوذ . وهو على ضربين : كثير ويسير ؛ فإذا كان كثيرا بحيث يخاف الموت لبرد الماء ، أو للعلة التي به ، أو يخاف فوت بعض الأعضاء ، فهذا يتيمم بإجماع ؛ إلا ما روي عن الحسن وعطاء أنه يتطهر وإن مات . وهذا مردود بقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم . وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر قال : إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فخاف أن يموت إن اغتسل ، تيمم . وعن سعد بن جبير أيضا عن ابن عباس قال : رخص للمريض في التيمم بالصعيد . وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بغسل ولا إعادة . فإن كان يسيرا إلا أنه يخاف معه حدوث علة أو زيادتها أو بطء برء فهؤلاء يتيممون بإجماع من المذهب . قال ابن عطية : فيما حفظت .
قلت : قد ذكر الباجي فيه خلافا ؛ قال القاضي أبو الحسن : مثل أن يخاف الصحيح نزلة أو حمى ، وكذلك إن كان المريض يخاف زيادة مرض ؛ وبنحو ذلك قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : لا يجوز له التيمم مع وجود الماء إلا أن يخاف التلف ؛ ورواه القاضي أبو الحسن عن مالك . قال ابن العربي : " قال الشافعي لا يباح التيمم للمريض إلا إذا خاف التلف ؛ لأن زيادة المرض غير متحققة ؛ لأنها قد تكون وقد لا تكون ، ولا يجوز ترك الفرض المتيقن للخوف المشكوك . قلنا : قد ناقضت ؛ فإنك قلت إذا خاف التلف من البرد تيمم ؛ فكما يبيح التيمم خوف التلف كذلك يبيحه خوف المرض ؛ لأن المرض محذور كما أن التلف محذور . قال : وعجبا للشافعي يقول : لو زاد الماء على قدر قيمته حبة لم يلزمه شراؤه صيانة للمال ويلزمه التيمم ، وهو يخاف على بدنه المرض ! وليس لهم عليه كلام يساوي سماعه " .
قلت : الصحيح من قول الشافعي فيما قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره : والمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يخاف فيه فوت الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء . فإن خاف طول المرض فالقول الصحيح للشافعي : جواز التيمم . روى أبو داود والدارقطني ، عن يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ؛ فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو : صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا . فدل هذا الحديث على إباحة التيمم مع الخوف لا مع اليقين ، وفيه إطلاق اسم الجنب على المتيمم وجواز صلاة المتيمم بالمتوضئين ؛ وهذا أحد القولين عندنا ؛ وهو الصحيح وهو الذي أقرأه مالك في موطئه وقرئ عليه إلى أن مات .
والقول الثاني : أنه لا يصلي ؛ لأنه أنقص فضيلة من المتوضئ ، وحكم الإمام أن يكون أعلى رتبة ؛ وقد روى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يؤم المتيمم المتوضئين إسناده ضعيف . وروى أبو داود والدارقطني عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم ، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ؛ فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده . قال الدارقطني : " قال أبو بكر هذه سنة تفرد بها أهل مكة وحملها أهل الجزيرة ، ولم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خريق ، وليس بالقوي ، وخالفه الأوزاعي فرواه عن عطاء عن ابن عباس وهو الصواب . واختلف عن الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء ، وقيل عنه : بلغني عن عطاء ، وأرسل الأوزاعي آخره عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب . وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي وأبا زرعة عنه فقالا : رواه ابن أبي العشرين ، عن الأوزاعي ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وأسند الحديث " . وقال داود : كل من انطلق عليه اسم المريض فجائز له التيمم ؛ لقوله تعالى : وإن كنتم مرضى . قال ابن عطية : وهذا قول خلف ، وإنما هو عند علماء الأمة لمن خاف من استعمال الماء أو تأذيه به كالمجدور والمحصوب ، والعلل المخوف عليها من الماء ؛ كما تقدم عن ابن عباس .
الثانية والعشرون : أو على سفر يجوز التيمم بسبب السفر طال أو قصر عند عدم الماء ، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة ؛ هذا مذهب مالك وجمهور العلماء . وقال قوم : لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة . واشترط آخرون أن يكون سفر طاعة . وهذا كله ضعيف . والله أعلم .
الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على جواز التيمم في السفر حسبما ذكرنا ، واختلفوا فيه في الحضر ؛ فذهبمالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز ؛ وهو قول أبي حنيفة ومحمد . وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف ؛ وهو قول الطبري . وقال الشافعي أيضا والليث والطبري : إذا عدم الماء في الحضر مع خوف الوقت الصحيح والسقيم تيمم وصلى ثم أعاد . وقال أبو يوسف وزفر : لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت وقال الحسن وعطاء : لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ، ولا غير المريض . وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الآية ؛ فقال مالك ومن تابعه : ذكر الله تعالى المرضى والمسافرين في شرط التيمم خرج على الأغلب فيمن لا يجد الماء ، والحاضرون الأغلب عليهم وجوده فلذلك لم ينص عليهم . فكل من لم يجد الماء أو منعه منه مانع أو خاف فوات وقت الصلاة ، تيمم المسافر بالنص ، والحاضر بالمعنى . وكذلك المريض بالنص والصحيح بالمعنى . وأما من منعه في الحضر فقال : إن الله تعالى جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر ؛ كالفطر وقصر الصلاة ، ولم يبح التيمم إلا بشرطين ، وهما المرض والسفر ؛ فلا دخول للحاضر الصحيح في ذلك لخروجه من شرط الله تعالى . وأما قول الحسن وعطاء الذي منعه جملة مع وجود الماء فقال : إنما شرطه الله تعالى مع عدم الماء ، لقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فلم يبح التيمم لأحد إلا عند فقد الماء . وقال أبو عمر : ولولا قول الجمهور وما روي من الأثر لكان قول الحسن وعطاء صحيحا ؛ والله أعلم . وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم لعمرو بن العاص وهو مسافر إذ خاف الهلاك إن اغتسل بالماء ، فالمريض أحرى بذلك .
قلت : ومن الدليل على جواز التيمم في الحضر إذا خاف فوات الصلاة إن ذهب إلى الماء الكتاب والسنة :
أما الكتاب فقوله سبحانه : أو جاء أحد منكم من الغائط يعني المقيم إذا عدم الماء تيمم . نص عليه القشيري عبد الرحيم قال : ثم يقطع النظر في وجوب القضاء ؛ لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر وفي القضاء قولان :
قلت : وهكذا نص أصحابنا فيمن تيمم في الحضر ، فهل يعيد إذا وجد الماء أم لا ؛ المشهور من مذهب مالك أنه لا يعيد وهو الصحيح . وقال ابن حبيب ومحمد بن عبد الحكم . يعيد أبدا ؛ ورواه ابن المنذر عن مالك . وقال الوليد عنه : يغتسل وإن طلعت الشمس .
وأما السنة فما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري قال : أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو " بئر جمل " فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام . وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ " بئر " . وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر وفيه " ثم رد على الرجل السلام وقال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر .
الرابعة والعشرون : أو جاء أحد منكم من الغائط الغائط أصله ما انخفض من الأرض ، والجمع الغيطان أو الأغواط ؛ وبه سمي غوطة دمشق . وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء حاجتها تسترا عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا للمقارنة . وغاط في الأرض يغوط إذا غاب .
وقرأ الزهري : " من الغيط " فيحتمل أن يكون أصله الغيط فخفف ، كهين وميت وشبهه . ويحتمل أن يكون من الغوط ؛ بدلالة قولهم تغوط إذا أتى الغائط ، فقلبت واو الغوط ياء ؛ كما قالوا في لا حول لا حيل . وأو بمعنى الواو ، أي إن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحدث لا المرض والسفر ؛ فدل على جواز التيمم في الحضر كما بيناه . والصحيح في أو أنها على بابها عند أهل النظر . فلأو معناها ، وللواو معناها . وهذا عندهم على الحذف ، والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مس الماء أو على سفر ولم تجدوا ماء واحتجتم إلى الماء . والله أعلم .
الخامسة والعشرون : لفظ الغائط يجمع بالمعنى جميع الأحداث الناقضة للطهارة الصغرى . وقد اختلف الناس في حصرها ، وأنبل ما قيل في ذلك أنها ثلاثة أنواع ، لا خلاف فيها في مذهبنا : زوال العقل ، خارج معتاد ، ملامسة . وعلى مذهب أبي حنيفة ما خرج من الجسد من النجاسات ، ولا يراعى المخرج ولا يعد اللمس . وعلى مذهب الشافعي ومحمد بن عبد الحكم ما خرج من السبيلين ، ولا يراعى الاعتياد ، ويعد اللمس . وإذا تقرر هذا فاعلم أن المسلمين أجمعوا على أن من زال عقله بإغماء أو جنون أو سكر فعليه الوضوء ، واختلفوا في النوم هل هو حدث كسائر الأحداث ؟ أو ليس بحدث أو مظنة حدث ؛ ثلاثة أقوال : طرفان وواسطة .
الطرف الأول : ذهب المزني أبو إبراهيم إسماعيل إلى أنه حدث ، وأن الوضوء يجب بقليله وكثيره كسائر الأحداث ؛ وهو مقتضى قول مالك في الموطأ لقوله : ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم . ومقتضى حديث صفوان بن عسال أخرجه النسائي والدارقطني والترمذي وصححه . رووه جميعا من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش فقال : أتيت صفوان بن عسال المرادي فقلت : جئتك أسألك عن المسح على الخفين ؛ قال : نعم كنت في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ، ويوما وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من بول ولا غائط ولا نوم ولا نخلعهما إلا من جنابة . ففي هذا الحديث وقول مالك التسوية بين الغائط والبول والنوم . قالوا : والقياس أنه لما كان كثيره وما غلب على العقل منه حدثا وجب أن يكون قليله كذلك . وقد روي عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكاء السه العينان فمن نام فليتوضأ وهذا عام . أخرجه أبو داود ، وأخرجه الدارقطني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما الطرف الآخر فروي عن أبي موسى الأشعري ما يدل على أن النوم عنده ليس بحدث على أي حال كان ، حتى يحدث النائم حدثا غير النوم ؛ لأنه كان يوكل من يحرسه إذا نام . فإن لم يخرج منه حدث قام من نومه وصلى ؛ وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والأوزاعي في رواية محمود بن خالد . والجمهور على خلاف هذين الطرفين . فأما جملة مذهب مالك فإن كل نائم استثقل نوما ، وطال نومه على أي حال كان ، فقد وجب عليه الوضوء ؛ وهو قول الزهري وربيعة والأوزاعي في رواية الوليد بن مسلم . قال أحمد بن حنبل : فإن كان النوم خفيفا لا يخامر القلب ولا يغمره لم يضر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا وضوء إلا على من نام مضطجعا أو متوركا . وقال الشافعي : من نام جالسا فلا وضوء عليه ؛ ورواه ابن وهب عن مالك . والصحيح من هذه الأقوال مشهور مذهب مالك ؛ لحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عنها ليلة يعني العشاء فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا ثم رقدنا ثم استيقظنا ثم خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم رواه الأئمة واللفظ للبخاري ؛ وهو أصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد والعمل .
وأما ما قاله مالك في موطئه وصفوان بن عسال في حديثه فمعناه : ونوم ثقيل غالب على النفس ؛ بدليل هذا الحديث وما كان في معناه . وأيضا فقد روى حديث صفوان وكيع عن مسعر عن عاصم بن أبي النجود فقال : ( أو ريح ) بدل ( أو نوم ) ، فقال الدارقطني : لم يقل في هذا الحديث ( أو ريح ) غير وكيع عن مسعر .
قلت : وكيع ثقة إمام أخرج له البخاري ومسلم
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغۡتَسِلُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ٣٤
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون، وهذا شامل لقربان مواضع الصلاة، كالمسجد، فإنه لا يمكَّن السكران من دخوله. وشامل لنفس الصلاة، فإنه لا يجوز للسكران صلاة ولا عبادة، لاختلاط عقله وعدم علمه بما يقول، ولهذا حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران. وهذه الآية الكريمة منسوخة بتحريم الخمر مطلقا، فإن الخمر -في أول الأمر- كان غير محرم، ثم إن الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } الآية. ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة، بعد حصول مقصود الصلاة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب، فإن الخمر يسكر القلب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في حال النعاس المفرط، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل، بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره، كمدافعة الأخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح. ثم قال: { وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } أي: لا تقربوا الصلاة حالة كون أحدكم جنبا، إلا في هذه الحال وهو عابر السبيل أي: تمرون في المسجد ولا تمكثون فيه، { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } أي: فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من قربان الصلاة للجنب، فيحل للجنب المرور في المسجد فقط. { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه، والعلة المرض الذي يشق معه استعمال الماء، وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه، جاز له التيمم. وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائط أو ملامسة النساء، فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد الماء، حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم الآية. والحاصل: أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين: حال عدم الماء، وهذا مطلقا في الحضر والسفر، وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه. واختلف المفسرون في معنى قوله: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } هل المراد بذلك: الجماع فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب، كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي، وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الآية دالة على نقض الوضوء بذلك؟ واستدل الفقهاء بقوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت، قالوا: لأنه لا يقال: "لم يجد" لمن لم يطلب، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب، واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وهذا ماء. ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر. وفي هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة، وهو مشروعية التيمم، وقد أجمع على ذلك العلماء ولله الحمد، وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا، ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لأن الله قال: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وما لا غبار له لا يمسح به. وقوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } هذا محل المسح في التيمم: الوجه جميعه واليدان إلى الكوعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة، كما دل على ذلك حديث عمار، وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره، بالوجه واليدين. فائدة اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلاث قواعد: حفظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحمية عنها. وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز. أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي، فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك، وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظا لصتحهما، باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل، وحماية للمريض عما يضره. وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للمحْرِم المتأذي برأسه أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه، ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمني والدم، وغير ذلك، نبه على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى. وفي الآية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين، وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت، وأنه لا يخاطب بطلب الماء إلا بعد وجود سبب الوجوب والله أعلم. ثم ختم الآية بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي: كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين، بتيسير ما أمرهم به، وتسهيله غاية التسهيل، بحيث لا يشق على العبد امتثاله، فيحرج بذلك. ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه الأمة بشرع طهارة التراب بدل الماء، عند تعذر استعماله. ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم. ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة.
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ٤٤
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ٤٤
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا ( ويريدون أن تضلوا السبيل ) أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ٤٤
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله تعالى : فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه الآية .
نزلت في يهود المدينة وما والاها . قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود ، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله قليلا . ومعنى يشترون يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال ، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى ؛ كما قال تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى قاله القتبي وغيره .
ويريدون أن تضلوا السبيل عطف عليه ، والمعنى تضلوا طريق الحق . وقرأ الحسن : " تضلوا " بفتح الضاد أي عن السبيل .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ ٤٤
هذا ذم لمن { أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم، والوقوع في أشراكهم، فأخبر أنهم في أنفسهم { يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } أي: يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان، والشقاء على السعادة، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } . فهم حريصون على إضلالكم غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك .ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر.
وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّٗا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرٗا ٥٤
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّٗا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرٗا ٥٤
( والله أعلم بأعدائكم ) أي : هو يعلم بهم ويحذركم منهم ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) أي : كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن استنصره .
وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّٗا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرٗا ٥٤
قوله تعالى : والله أعلم بأعدائكم يريد منكم ؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم . ويجوز أن يكون أعلم بمعنى عليم ؛ كقوله تعالى : وهو أهون عليه أي هين . وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا الباء زائدة ؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم . ووليا ونصيرا نصب على البيان ، وإن شئت على الحال .
وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّٗا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرٗا ٥٤
.ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر.
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٤
نسخ
مشاركة
التفسير
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٤
ثم قال تعالى : ( من الذين هادوا ) " من " هذه لبيان الجنس كقوله : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان )
وقوله : ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) أي : يتأولون على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله ، عز وجل ، قصدا منهم وافتراء ( ويقولون سمعنا وعصينا ) أي يقولون سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه . هكذا فسره مجاهد وابن زيد ، وهو المراد ، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم ، أنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة .
وقوله ( واسمع غير مسمع ) أي : اسمع ما نقول ، لا سمعت . رواه الضحاك عن ابن عباس . وقال مجاهد والحسن : واسمع غير مقبول منك .
قال ابن جرير : والأول أصح . وهو كما قال . وهذا استهزاء منهم واستهتار ، عليهم لعنة الله [ والملائكة والناس أجمعين ] .
( وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) أي : يوهمون أنهم يقولون : راعنا سمعك بقولهم : " راعنا " وإنما يريدون الرعونة . وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) [ البقرة : 104 ] .
ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه : ( ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) يعني : بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم قال تعالى : ( ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) أي : قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه ، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : ( فقليلا ما يؤمنون ) [ البقرة : 88 ] والمقصود : أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا .
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٤
قوله تعالى : من الذين هادوا قال الزجاج : إن جعلت من متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله نصيرا ، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على نصيرا والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ؛ ثم حذف . وهذا مذهب سيبويه ، وأنشد النحويون :
لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم
قالوا : المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ؛ ثم حذف . وقال الفراء : المحذوف " من " المعنى : من الذين هادوا من يحرفون . وهذا كقوله تعالى : وما منا إلا له مقام معلوم أي من له . وقال ذو الرمة :
فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يذري عبرة العين بالهمل
يريد ومنهم من دمعه ، فحذف الموصول . وأنكره المبرد والزجاج ؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي " الكلام " . قال النحاس : و " الكلم " في هذا أولى ؛ لأنهم إنما يحرفون كلم النبي صلى الله عليه وسلم ، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام ، ومعنى يحرفون يتأولونه على غير تأويله . وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين . عن مواضعه يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم . ويقولون سمعنا وعصينا أي سمعنا قولك وعصينا أمرك . واسمع غير مسمع قال ابن عباس : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : اسمع لا سمعت ، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى . وقال الحسن ومجاهد . معناه غير مسمع منك ، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول . قال النحاس : ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك . وتقدم القول في وراعنا ومعنى ليا بألسنتهم أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم . وأصل اللي الفتل ، وهو نصب على المصدر ، وإن شئت كان مفعولا من أجله . وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء . وطعنا معطوف عليه أي يطعنون في الدين ، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه ، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته ، ونهاهم عن هذا القول . ومعنى وأقوم أصوب لهم في الرأي . فلا يؤمنون إلا قليلا أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان . وقيل : معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم ؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم .
مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ وَرَٰعِنَا لَيَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنٗا فِي ٱلدِّينِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٦٤
ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال: { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أي: اليهود وهم علماء الضلال منهم. { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك. فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم { يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: { اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره، { وَرَاعِنَا } قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ } وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: { وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا ٧٤
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا ٧٤
يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم أن يفعلوا ، بقوله : ( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) قال بعضهم : معناه : من قبل أن نطمس وجوها . طمسها هو ردها إلى الأدبار ، وجعل أبصارهم من ورائهم . ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقى لها سمع ولا بصر ولا أثر ، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار .
قال العوفي عن ابن عباس : ( من قبل أن نطمس وجوها ) وطمسها أن تعمى ( فنردها على أدبارها ) يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه .
وكذا قال قتادة ، وعطية العوفي . وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . وجعلنا من بين أيديهم سدا ) [ ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ] ) [ يس 8 ، 9 ] إن هذا مثل [ سوء ] ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى .
قال مجاهد : ( من قبل أن نطمس وجوها ) يقول : عن صراط الحق ، ( فنردها على أدبارها ) أي : في الضلالة .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، والحسن نحو هذا .
قال السدي : ( فنردها على أدبارها ) فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة .
وقال ابن زيد نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز .
وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية ، قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ، قال : ألستم تقرؤون في كتابكم ( مثل الذين حملوا التوراة [ ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل ] أسفارا ) وأنا قد حملت التوراة . قال : فتركه عمر . ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا ، وهو يقول : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) الآية . قال كعب : يا رب آمنت ، يا رب ، أسلمت ، مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثه إليه لينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ) فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت .
وقوله : ( أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ) يعني : الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد ، وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف .
وقوله : ( وكان أمر الله مفعولا ) أي : إذا أمر بأمر ، فإنه لا يخالف ولا يمانع .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا ٧٤
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
قوله تعالى : ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا قال ابن إسحاق : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ؛ فأنزل الله عز وجل فيهم يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها إلى آخر الآية .
قوله تعالى : مصدقا لما معكم نصب على الحال . من قبل أن نطمس وجوها الطمس استئصال أثر الشيء ؛ ومنه قوله تعالى : فإذا النجوم طمست . ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان . ويقال في الكلام : طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس ؛ يقال : طمس الأثر وطسم أي امحى ، كله لغات ؛ ومنه قوله تعالى : ربنا اطمس على أموالهم أي أهلكها ؛ عن ابن عرفة . ويقال : طمسته فطمس لازم ومتعد . وطمس الله بصره ، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين ؛ ومنه قوله تعالى : ولو نشاء لطمسنا على أعينهم يقول أعميناهم .
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين . أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟ قولان . روي عن أبي بن كعب أنه قال : من قبل أن نطمس من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده . يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة . وقال قتادة : معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء . أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ؛ هذا معناه عند أهل اللغة . وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا ؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى . وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وكذلك فعل عبد الله بن سلام ، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال : يا رسول الله ، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي . فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم ؛ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد : الوعيد باق منتظر . وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة .
قوله تعالى : ( أو نلعنهم ) أي أصحاب الوجوه كما لعنا أصحاب السبت أي نمسخهم قردة وخنازير ؛ عن الحسن وقتادة . وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة وكان أمر الله مفعولا أي كائنا موجودا . ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول ؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده . وقيل : معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلۡنَا مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبۡلِ أَن نَّطۡمِسَ وُجُوهٗا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰٓ أَدۡبَارِهَآ أَوۡ نَلۡعَنَهُمۡ كَمَا لَعَنَّآ أَصۡحَٰبَ ٱلسَّبۡتِۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولًا ٧٤
يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر. وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا، ويوافق بعضها بعضًا. فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها. وفي قوله: { آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } وهذا جزاء من جنس ما عملوا، كما تركوا الحق، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } بأن يطردهم من رحمته، ويعاقبهم بجعلهم قردة، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } كقوله: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٨٤
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٨٤
ثم أخبر تعالى : أنه ( لا يغفر أن يشرك به ) أي : لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ( ويغفر ما دون ذلك ) أي : من الذنوب ( لمن يشاء ) أي : من عباده .
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة ، فلنذكر منها ما تيسر :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن يزيد بن بابنوس عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدواوين عند الله ثلاثة ; ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله . فأما الديوان الذي لا يغفره الله ، فالشرك بالله ، قال الله عز وجل : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ) [ المائدة : 72 ] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ; فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء . وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا ، فظلم العباد بعضهم بعضا ; القصاص لا محالة " .
تفرد به أحمد .
الحديث الثاني : قال الحافظ أبو بكر البزار في : حدثنا أحمد بن مالك ، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد ، عن زياد النميري ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الظلم ثلاثة ، فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره الله ، وظلم لا يتركه الله : فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وقال ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا ، حتى يدين لبعضهم من بعض " .
الحديث الثالث : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره ، إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " .
رواه النسائي ، عن محمد بن مثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به .
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثنا ابن غنم أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يقول : يا عبدي ، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، يا عبدي ، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه .
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حسين ، عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه ، أن أبا الأسود الديلي حدثه ، أن أبا ذر حدثه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما من عبد قال : لا إله إلا الله . ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " . ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : " على رغم أنف أبي ذر " ! قال : فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر " . وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر .
أخرجاه من حديث حسين ، به .
طريق أخرى عنه : قال [ الإمام ] أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر قال : " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ، ونحن ننظر إلى أحد ، فقال : " يا أبا ذر " . فقلت : لبيك يا رسول الله ، [ قال ] ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده - يعني لدين - إلا أن أقول به في عباد الله هكذا " . وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره . قال : ثم مشينا فقال : " يا أبا ذر ، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا " . فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره . قال : ثم مشينا فقال : " يا أبا ذر ، كما أنت حتى آتيك " . قال : فانطلق حتى توارى عني . قال : فسمعت لغطا فقلت : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له . قال فهممت أن أتبعه ، ثم ذكرت قوله : " لا تبرح حتى آتيك " فانتظرته حتى جاء ، فذكرت له الذي سمعت ، فقال : " ذاك جبريل أتاني فقال : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : " وإن زنى وإن سرق " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به .
وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما ، عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ، ليس معه إنسان ، قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد . قال : فجعلت أمشي في ظل القمر ، فالتفت فرآني ، فقال : " من هذا ؟ " فقلت : أبو ذر ، جعلني الله فداك . قال : " يا أبا ذر ، تعال " . قال : فمشيت معه ساعة فقال : " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفح فيه عن يمينه وشماله ، وبين يديه وورائه ، وعمل فيه خيرا " . قال : فمشيت معه ساعة فقال لي : " اجلس هاهنا " ، قال : فأجلسني في قاع حوله حجارة ، فقال لي : " اجلس هاهنا حتى أرجع إليك " . قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه ، فلبث عني فأطال اللبث ، ثم إني سمعته وهو مقبل ، وهو يقول : " وإن سرق وإن زنى " . قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله ، جعلني الله فداءك ، من تكلم في جانب الحرة ؟ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا . قال : " ذاك جبريل ، عرض لي من جانب الحرة فقال : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : يا جبريل ، وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم . قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، وإن شرب الخمر " .
الحديث السادس : قال عبد بن حميد في : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الموجبتان ؟ قال : " من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار " . وذكر تمام الحديث . تفرد به من هذا الوجه .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني ، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي ، حدثنا موسى بن عبيدة ، الربذي ، أخبر عبد الله بن عبيدة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من نفس تموت ، لا تشرك بالله شيئا ، إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها ، وإن شاء غفر لها : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .
ورواه الحافظ أبو يعلى في ، من حديث موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن جابر ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب " . قيل : يا نبي الله ، وما الحجاب ؟ قال : " الإشراك بالله " . قال : " ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى ، إن يشأ أن يعذبها ، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها " . ثم قرأ نبي الله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .
الحديث السابع : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكريا ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " .
تفرد به من هذا الوجه .
الحديث الثامن : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل ، عن عبد الله بن ناشر من بني سريع قال : سمعت أبا رهم قاص أهل الشام يقول : سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم ، فقال لهم : " إن ربكم ، عز وجل ، خيرني بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا بغير حساب ، وبين الخبيئة عنده لأمتي " . فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله ، أيخبئ ذلك ربك ؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر ، فقال : " إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده " قال أبو رهم : يا أبا أيوب ، وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأكله الناس بأفواههم فقالوا : وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال أبو أيوب : دعوا الرجل عنكم ، أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن ، بل كالمستيقن . إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله الجنة " .
الحديث التاسع : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى بن يونس ( ح ) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني - فيما كتب إلي - قال : حدثنا عيسى بن يونس نفسه ، عن واصل بن السائب الرقاشي ، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام . قال : " وما دينه ؟ " قال : يصلي ويوحد الله تعالى . قال " استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه " . فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا في دينه . قال : فنزلت : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .
الحديث العاشر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك ، حدثنا أبي ، حدثنا مستور أبو همام الهنائي ، حدثنا ثابت عن أنس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت . قال : " أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ " ثلاث مرات . قال : نعم . قال : " فإن ذلك يأتي على ذلك كله " .
الحديث الحادي عشر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن ضمضم بن جوس اليمامي قال : قال لي أبو هريرة : يا يمامي لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك . أو لا يدخلك الجنة أبدا . قلت : يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال : لا تقلها ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة ، وكان الآخر مسرفا على نفسه ، وكانا متآخيين وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب ، فيقول : يا هذا أقصر . فيقول : خلني وربي ! أبعثت علي رقيبا ؟ قال : إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك ! أقصر ! قال : خلني وربي ! أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك - أو لا يدخلك الجنة أبدا - قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي . وقال للآخر : أكنت بي عالما ؟ أكنت على ما في يدي قادرا ؟ اذهبوا به إلى النار . قال : فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته " .
ورواه أبو داود ، من حديث عكرمة بن عمار ، حدثني ضمضم بن جوس ، به .
الحديث الثاني عشر : قال الطبراني : حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئا " .
الحديث الثالث عشر : قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى [ الموصلي ] حدثنا هدبة - هو ابن خالد - حدثنا سهيل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ، ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار " . تفردا به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بحر بن نصر الخولاني ، حدثنا خالد - يعني ابن عبد الرحمن الخراساني - حدثنا الهيثم بن جماز عن سلام بن أبي مطيع ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر قال : كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وقاذف المحصنات ، وشاهد الزور ، حتى نزلت هذه الآية : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة .
ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري حدثنا عبد الله بن عاصم ، حدثنا صالح - يعني المري أبو بشر - عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب ، حتى نزلت علينا هذه الآية : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) قال : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة ، وأرجينا الأمور إلى الله ، عز وجل .
وقال البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا شيبان بن أبي شيبة ، حدثنا حرب بن سريج ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر ، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقال : " أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة " .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، أخبرني مجبر ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما نزلت : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) [ إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ] ) [ الزمر : 53 ] ، قام رجل فقال : والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )
رواه ابن جرير . وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر .
وهذه الآية التي في سورة " تنزيل " مشروطة بالتوبة ، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه ; ولهذا قال : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [ الزمر : 53 ] أي : بشرط التوبة ، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه ، ولا يصح ذلك ، لأنه تعالى ، قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك ، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء ، أي : وإن لم يتب صاحبه ، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه ، والله أعلم .
وقوله : ( ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) كقوله ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] ، وثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . " وذكر تمام الحديث .
وقال ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا معن ، حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ; أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخبركم بأكبر الكبائر : الشرك بالله " ثم قرأ : ( ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) وعقوق الوالدين " . ثم قرأ : ( أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) .
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٨٤
قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : إن الله يغفر الذنوب جميعا فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة . ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه . فقال محمد بن جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه ، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى . وقال بعضهم : قد بين الله تعالى ذلك بقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر " الفرقان " . قال زيد بن ثابت : نزلت سورة " النساء " بعد " الفرقان " بستة أشهر ، والصحيح أن لا نسخ ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل . وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي " الفرقان " إن شاء الله تعالى . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال : هذا حديث حسن غريب .
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٨٤
يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه. فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة، كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين. ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد. وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا، وما لهم يوم القيامة { مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } ولهذا قال تعالى: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } أي: افترى جرما كبيرا، وأي: ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الفقير بذاته من كل وجه، الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب، وأما التائب، فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أي: لمن تاب إليه وأناب.
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٩٤
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٩٤
قال الحسن وقتادة : نزلت هذه الآية ، وهي قوله : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) في اليهود والنصارى ، حين قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه )
وقال ابن زيد : نزلت في قولهم : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) [ المائدة : 18 ] ، وفي قولهم : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] .
وقال مجاهد : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ، ويزعمون أنهم لا ذنب لهم .
وكذا قال عكرمة ، وأبو مالك . روى ذلك ابن جرير .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ، وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فأنزل الله على محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا ابن حمير ، عن ابن لهيعة ، عن بشر بن أبي عمرو عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب . وكذبوا . قال الله [ تعالى ] إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له " وأنزل الله : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم )
ثم قال : وروي عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، وعكرمة ، والضحاك - نحو ذلك .
وقال الضحاك : قالوا : ليس لنا ذنوب ، كما ليس لأبنائنا ذنوب . فأنزل الله ذلك فيهم .
وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية .
وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم ، عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب .
وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل ، فقال : " ويحك . قطعت عنق صاحبك " . ثم قال : " إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر بن الخطاب : من قال : أنا مؤمن ، فهو كافر . ومن قال : هو عالم ، فهو جاهل . ومن قال : هو في الجنة ، فهو في النار .
ورواه ابن مردويه ، من طريق موسى بن عبيدة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، فمن قال : إنه مؤمن ، فهو كافر ، ومن قال : إنه عالم فهو جاهل ، ومن قال : إنه في الجنة ، فهو في النار .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، أنبأنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن معبد الجهني قال : كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح " .
وروى ابن ماجه منه : " إياكم والتمادح فإنه الذبح " عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن غندر ، عن شعبة به .
ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري .
وقال ابن جرير : حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له : والله إنك كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله . ثم قرأ ) ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) الآية .
وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى : ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) [ النجم : 32 ] . ولهذا قال تعالى : ( بل الله يزكي من يشاء ) أي : المرجع في ذلك إلى الله ، عز وجل لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامضها .
ثم قال تعالى : ( ولا يظلمون فتيلا ) أي : ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف : هو ما يكون في شق النواة .
وعن ابن عباس أيضا : هو ما فتلت بين أصابعك . وكلا القولين متقارب .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٩٤
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود . واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ؛ فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقال الضحاك والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا ، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب . وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم الصغار للصلاة ؛ لأنهم لا ذنوب عليهم . وهذا يبعد من مقصد الآية . وقال ابن عباس : ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا . وقال عبد الله بن مسعود : ذلك ثناء بعضهم على بعض . وهذا أحسن ما قيل ؛ فإنه الظاهر من معنى الآية ، والتزكية : التطهير والتبرية من الذنوب .
الثانية : هذه الآية وقوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه ، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه ، وإنما العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة ؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : سموها زينب . فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه ، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية ؛ كزكي الدين ومحيي الدين وما أشبه ذلك ، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا .
الثالثة : فأما تزكية الغير ومدحه له ؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر ، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ويحك قطعت عنق صاحبك . وفي الحديث الآخر قطعتم ظهر الرجل حين وصفوه بما ليس فيه . وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : احثوا التراب في وجوه المداحين إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم ، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح ، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه . وهذا راجع إلى النيات والله يعلم المفسد من المصلح . وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب ، ولا أمر بذلك . كقول أبي طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وكمدح العباس وحسان له في شعرهما ، ومدحه كعب بن زهير ، ومدح هو أيضا أصحابه فقال : ( إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ) . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي ، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا . وهذا يقتضي أن من رفع امرأ فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم ؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولا يظلمون فتيلا الضمير في " يظلمون " عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل . وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية . والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة ؛ قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ؛ فهو فعيل بمعنى مفعول . وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره ، وأن الله لا يظلمه شيئا . ومثل هذا في التحقير قوله تعالى : ولا يظلمون نقيرا وهو النكتة التي في ظهر النواة ، ومنه تنبت النخلة ، وسيأتي . قال الشاعر يذم بعض الملوك :
تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٩٤
هذا تعجيب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود والنصارى، ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود والنصارى يقولون: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } ويقولون: { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } وهذا مجرد دعوى لا برهان عليها، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا: { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي: بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات الجميلة. وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء، وأن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب ظلمهم وكفرهم لا بظلم من الله لهم، ولهذا قال: { وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } وهذا لتحقيق العموم أي: لا يظلمون شيئا ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها.
ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمٗا مُّبِينًا ٠٥
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمٗا مُّبِينًا ٠٥
وقوله : ( انظر كيف يفترون على الله الكذب ) أي : في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] وقولهم : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) [ البقرة : 80 ] واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة ، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا ، في قوله : ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم [ ولا تسألون عما كانوا يعملون ] ) [ البقرة : 141 ] .
ثم قال : ( وكفى به إثما مبينا ) أي : وكفى بصنعهم هذا كذبا وافتراء ظاهرا .
ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمٗا مُّبِينًا ٠٥
انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا
ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : انظر كيف يفترون على الله الكذب في قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه . وقيل : تزكيتهم لأنفسهم ؛ عن ابن جريج . وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد . والافتراء الاختلاق ؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه . وفريت الشيء قطعته . وكفى به إثما مبينا نصب على البيان . والمعنى تعظيم الذنب وذمه . العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم .
ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمٗا مُّبِينًا ٠٥
{ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } أي: بتزكيتهم أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على الله. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا. وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا، والباطلِ حقًّا. ولهذا قال: { وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } أي: ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة والعذاب الأليم.
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ١٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ١٥
وقوله : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) أما " الجبت " فقال محمد بن إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : " الجبت " : السحر ، و " الطاغوت " : الشيطان .
وهكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، والضحاك ، والسدي .
وعن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، [ وأبي مالك ] وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، وعطية : " الجبت " الشيطان - زاد ابن عباس : بالحبشية . وعن ابن عباس أيضا : " الجبت " : الشرك . وعنه : " الجبت " : الأصنام .
وعن الشعبي : " الجبت " : الكاهن . وعن ابن عباس : " الجبت " : حيي بن أخطب . وعن مجاهد : " الجبت " : كعب بن الأشرف .
وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه " الصحاح " : " الجبت " كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك ، وفي الحديث : " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " قال : وهذا ليس من محض العربية ، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذولقي .
وهذا الحديث الذي ذكره ، رواه الإمام أحمد في فقال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا ، عوف عن حيان أبي العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه - وهو قبيصة بن مخارق - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " وقال عوف : " العيافة " : زجر الطير ، و " الطرق " : الخط ، يخط في الأرض ، و " الجبت " قال الحسن : إنه الشيطان .
وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي ، به
وقد تقدم الكلام على " الطاغوت " في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن " الطواغيت " فقال : هم كهان تنزل عليهم الشياطين .
وقال مجاهد : " الطاغوت " : الشيطان في صورة إنسان ، يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم .
وقال الإمام مالك : " الطاغوت " : هو كل ما يعبد من دون الله ، عز وجل .
وقوله : ( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) أي : يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم ، وقلة دينهم ، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة ، فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا : ما أنتم وما محمد . فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج - ومحمد صنبور ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار ، فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلا . فأنزل الله ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من [ الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ] ) .
وقد روي هذا من غير وجه ، عن ابن عباس وجماعة من السلف .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه ؟ يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية ! قال : أنتم خير . قال فنزلت ( إن شانئك هو الأبتر ) [ الكوثر : 3 ] ونزل : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) إلى ( نصيرا ) .
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأبو عمار ، ووحوح بن عامر ، وهوذة بن قيس . فأما وحوح وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول فسلوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله عز وجل : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من [ الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا . أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ] ) إلى قوله عز وجل : ( وآتيناهم ملكا عظيما ) .
وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم ، وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب ، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق ، فكفى الله شرهم ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) [ الأحزاب : 25 ] .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ١٥
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يعني اليهود . يؤمنون بالجبت والطاغوت اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت ؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت الكاهن . وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : الجبت السحر والطاغوت الشيطان . ابن مسعود : الجبت والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب . عكرمة : الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف ؛ دليله قوله تعالى : يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت . قتادة : الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن . وروى ابن وهب عن مالك بن أنس : الطاغوت ما عبد من دون الله . قال : وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان ؛ ذكره النحاس . وقيل : هما كل معبود من دون الله ، أو مطاع في معصية الله ؛ وهذا حسن . وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه ، فأبدلت التاء من السين ؛ قاله قطرب . وقيل : الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه . وقول مالك في هذا الباب حسن ؛ يدل عليه قوله تعالى : أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطرق والطيرة والعيافة من الجبت . الطرق الزجر ، والعيافة الخط ؛ خرجه أبو داود في سننه . وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان . والله أعلم .
قوله تعالى : ويقولون للذين كفروا أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد . وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد ؛ فقال أبو سفيان : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق . نحن أم محمد ؟ فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ١٥
وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله. فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعباده غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا ٢٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا ٢٥
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا ٢٥
بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم ; وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه .
وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد .
ويقال للذئب : لعين .
وللرجل الطريد : لعين ; وقال الشماخ : ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين ووجه الكلام : مقام الذئب اللعين كالرجل ; فالمعنى أبعدهم الله من رحمته .
وقيل : من توفيقه وهدايته .
وقيل : من كل خير ;
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُۖ وَمَن يَلۡعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ نَصِيرًا ٢٥
وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله. فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعباده غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع
أَمْ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا ٣٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمْ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا ٣٥
يقول تعالى : ( أم لهم نصيب من الملك ) ؟ ! وهذا استفهام إنكار ، أي : ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل فقال : ( فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ) أي : لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس - ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم - شيئا ، ولا ما يملأ " النقير " ، وهو النقطة التي في النواة ، في قول ابن عباس والأكثرين .
وهذه الآية كقوله تعالى ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق ) [ الإسراء : 100 ] أي : خوف أن يذهب ما بأيديكم ، مع أنه لا يتصور نفاده ، وإنما هو من بخلكم وشحكم ; ولهذا قال : ( وكان الإنسان قتورا ) [ الإسراء : 100 ] أي : بخيلا .
أَمْ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا ٣٥
قوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك أي ألهم ؟ والميم صلة . نصيب حظ من الملك وهذا على وجه الإنكار ؛ يعني ليس لهم من الملك شيء ، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم . وقيل : المعنى بل ألهم نصيب ؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني . وقيل : هي عاطفة على محذوف ؛ لأنهم أنفوا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ؟ . فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أي يمنعون الحقوق . خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم . والنقير : النكتة في ظهر النواة ، عن ابن عباس وقتادة وغيرهما . وعن ابن عباس أيضا : النقير : ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض . وقال أبو العالية : سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال : هذا النقير . والنقير : أصل خشبة ينقر وينبذ فيه ؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ . وفلان كريم النقير أي الأصل . و " إذا " هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها ، ولو نصب لجاز . قال سيبويه : " إذا " في عوامل الأفعال بمنزلة " أظن " في عوامل الأسماء ، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها ، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت ؛ كقولك : أنا أزورك فيقول مجيبا لك : إذا أكرمك . قال عبد الله بن عنمة الضبي :
اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذا يرد وقيد العير مكروب
نصب لأن الذي قبل " إذن " تام فوقعت ابتداء كلام . فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك . زيد إذا يزورك ألغيت ؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجوز فيها الإعمال والإلغاء ؛ أما الإعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة ، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا . وفي التنزيل وإذا لا يلبثون الإسراء : وفي مصحف أبي " وإذا لا يلبثوا " . وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام يعطف عليه ، والناصب للفعل عند سيبويه إذا لمضارعتها " أن " ، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا . وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة . قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذا بالألف ؛ إنها مثل لن وإن ، ولا يدخل التنوين في الحروف .
أَمْ لَهُمۡ نَصِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُلۡكِ فَإِذٗا لَّا يُؤۡتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيرًا ٣٥
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } أي: فيفضِّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل، ولهذا قال: { فَإِذًا } أي: لو كان لهم نصيب من الملك { لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي: شيئًا ولا قليلا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد.
أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا ٤٥
نسخ
مشاركة
التفسير
أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا ٤٥
ثم قال : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) يعني بذلك : حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له ; لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل .
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن السدي ، عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : ( أم يحسدون الناس ) [ على ما آتاهم الله من فضله ] ) الآية ، قال ابن عباس : نحن الناس دون الناس ، قال الله تعالى : ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) أي : فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل - الذين هم من ذرية إبراهيم - النبوة ، وأنزلنا عليهم الكتب ، وحكموا فيهم بالسنن - وهي الحكمة - وجعلنا فيهم الملوك
أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا ٤٥
قوله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
فيه مسائل :
الأولى : قوله تعالى : أم يحسدون يعني اليهود . الناس يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به . وقال قتادة قلت : " الناس " : العرب ، حسدتهم اليهود على النبوة . الضحاك : حسدت اليهود قريشا ؛ لأن النبوة فيهم . والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ؛ نفس دائم ، وحزن لازم ، وعبرة لا تنفد . وقال عبد الله بن مسعود : لا تعادوا نعم الله . قيل له : ومن يعادي نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، يقول الله تعالى في بعض الكتب : الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي . ولمنصور الفقيه :
ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه
إذا أنت لم ترض لي ما وهب
ويقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم ، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل . ولأبي العتاهية في الناس :
فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني
وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني
وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني
وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني
سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني
وقيل : إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك . ولرجل من قريش :
حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم
ولقد أحسن من قال :
اصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى : ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين . إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل ؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر ، وقابيل كان أول من سن القتل ، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد . وقال الشاعر :
إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال
حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال
الثانية : قوله تعالى : فقد آتينا ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما . قال همام بن الحارث : أيدوا بالملائكة . وقيل : يعني ملك سليمان ؛ عن ابن عباس . وعنه أيضا : المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك . واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء . والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم : لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك ؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم ، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف امرأة ؟ قالوا : نعم ثلاثمائة مهرية ، وسبعمائة سرية ، وعند داود مائة امرأة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ؟ فسكتوا . وكان له يومئذ تسع نسوة .
الثالثة : يقال : إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء . والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا ، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا . ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه . ويقال : إن كل من كان أتقى فشهوته أشد ؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس ، ألا ترى ما روي في الخبر : ( العينان تزنيان واليدان تزنيان ) . فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع ، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك .
أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا ٤٥
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أي: هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاءَ لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس ببدع ولا غريب على فضل الله. { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "داود" و "سليمان" . فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟"
فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ٥٥
نسخ
مشاركة
التفسير
فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ٥٥
ومع هذا ( فمنهم من آمن به ) أي : بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ( ومنهم من صد عنه ) أي : كفر به وأعرض عنه ، وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم ، أي من بني إسرائيل ، فقد اختلفوا عليهم ، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟ .
وقال مجاهد : ( فمنهم من آمن به ) أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم ( ومنهم من صد عنه ) فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك ، وأبعد عما جئتهم به من الهدى ، والحق المبين .
ولهذا قال متوعدا لهم : ( وكفى بجهنم سعيرا ) أي : وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله .
فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ٥٥
قوله تعالى : فمنهم من آمن به يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود . ومنهم من صد عنه أعرض فلم يؤمن به . وقيل : الضمير في به راجع إلى إبراهيم . والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه . وقيل : يرجع إلى الكتاب . والله أعلم .
فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن صَدَّ عَنۡهُۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ٥٥
{ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك السعادة الدنيوية والفلاح الأخروي. { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } عنادًا وبغيًا وحسدًا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } تسعر على من كفر بالله، وجحد نبوة أنبيائه من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة.
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٦٥
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٦٥
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله ، فقال : ( إن الذين كفروا بآياتنا [ سوف نصليهم نارا ] ) الآية ، أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم ، وأجزائهم . ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم ، فقال : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) قال [ الأعمش ، عن ابن عمر ] إذا أحرقت جلودهم بدلوا جلودا بيضا أمثال القراطيس . رواه ابن أبي حاتم .
وقال يحيى بن يزيد الحضرمي إنه بلغه في قول الله : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) قال : يجعل للكافر مائة جلد ، بين كل جلدين لون من العذاب . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا حسين الجعفي ، عن زائدة ، عن ، عن الحسن قوله : ( كلما نضجت جلودهم [ بدلناهم جلودا غيرها ] ) الآية . قال : تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة . قال حسين : وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن : كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم : عودوا فعادوا .
وقال أيضا : ذكر عن هشام بن عمار : حدثنا سعيد بن يحيى - يعني سعدان - حدثنا نافع ، مولى يوسف السلمي البصري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر هذه الآية : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) فقال عمر : أعدها علي فأعادها ، فقال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها : تبدل في ساعة مائة مرة . فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد رواه ابن مردويه ، عن محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن عبدان بن محمد المروزي ، عن هشام بن عمار ، به . ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمران ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا نافع أبو هرمز ، حدثنا نافع ، عن ابن عمر قال : تلا رجل عند عمر هذه الآية : ( كلما نضجت جلودهم [ بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ] ) الآية ، قال : فقال عمر : أعدها علي - وثم كعب - فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا عندي تفسير هذه الآية ، قرأتها قبل الإسلام ، قال : فقال : هاتها يا كعب ، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك ، وإلا لم ننظر إليها . فقال : إني قرأتها قبل الإسلام : " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة " . فقالعمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الربيع بن أنس : مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا ، وسنه تسعون ذراعا ، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه ، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها .
وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا ، قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا أبو يحيى الطويل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يعظم أهل النار في النار ، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا ، وإن ضرسه مثل أحد " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه .
وقيل : المراد بقوله : ( كلما نضجت جلودهم ) أي : سرابيلهم . حكاه ابن جرير ، وهو ضعيف ; لأنه خلاف الظاهر .
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٦٥
قوله تعالى : إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما
قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة . وقرأ حميد بن قيس " نصليهم " بفتح النون أي نشويهم . يقال : شاة مصلية . ونصب ( نارا ) على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار .
كلما نضجت جلودهم يقال : نضج الشيء نضجا ونضجا ، وفلان نضيج الرأي محكمه . والمعنى في الآية : تبدل الجلود جلودا أخر . فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة : كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له : ليس الجلد بمعذب ولا معاقب ، وإنما الألم واقع على النفوس ؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس . يدل عليه قوله تعالى : ليذوقوا العذاب وقوله تعالى : كلما خبت زدناهم سعيرا . فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح . ولو أراد الجلود لقال : ليذقن العذاب . مقاتل : تأكله النار كل يوم سبع مرات . الحسن : سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فعادوا كما كانوا . ابن عمر : إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس . وقيل : عنى بالجلود السرابيل ؛ كما قال تعالى : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة ؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان : هو جلدة ما بين عينيه . وأنشد ابن عمر رضي الله عنه :
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
فكلما احترقت السرابيل أعيدت . قال الشاعر :
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر
فكنى عن الجلود بالسرابيل . وقيل : المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا ؛ كما تقول للصائغ : صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما . فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة . وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى . وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له : كيف أنت ؟ فيقول : أنا غير الذي عهدت . فهو هو ، ولكن حاله تغيرت . فقول القائل : أنا غير الذي عهدت ، وقوله تعالى : ( غيرها ) مجاز . ونظيره قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها ، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها ؛ على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم " عليه السلام . ومن هذا المعنى قول الشاعر :
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعرف وقال الشعبي : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة . ذمت دهرها ، وأنشدت بيتي لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتلذذون مجانة ومذلة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب فقالت : رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت " عاد " دهرها ؛ لأنه وجد في خزانة " عاد " بعدما هلكوا بزمن طويل سهم كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب : بلاد بها كنا ونحن بأهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت . إن الله كان عزيزا أي لا يعجزه شيء ولا يفوته . حكيما في إيعاده عباده .
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِنَا سَوۡفَ نُصۡلِيهِمۡ نَارٗا كُلَّمَا نَضِجَتۡ جُلُودُهُم بَدَّلۡنَٰهُمۡ جُلُودًا غَيۡرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٦٥
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا } أي: عظيمة الوقود شديدة الحرارة { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي: احترقت { بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء وِفاقا، ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي: له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه.
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا ٧٥
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا ٧٥
وقوله : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن ، التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا ، وهم خالدون فيها أبدا ، لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا .
وقوله : ( لهم فيها أزواج مطهرة ) أي : من الحيض والنفاس والأذى . والأخلاق الرذيلة ، والصفات الناقصة ، كما قال ابن عباس : مطهرة من الأقذار والأذى . وكذا قال عطاء ، والحسن ، والضحاك ، والنخعي ، وأبو صالح ، وعطية ، والسدي .
وقال مجاهد : مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد .
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف .
وقوله : ( وندخلهم ظلا ظليلا ) أي : ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا ابن جعفر - قالا حدثنا شعبة قال : سمعت أبا الضحاك يحدث ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، شجرة الخلد " .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا ٧٥
وقوله في صفة أهل الجنة وندخلهم ظلا ظليلا يعني كثيفا لا شمس فيه . الحسن : وصف بأنه ظليل ؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك . وقال الضحاك : يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي : ظلا ظليلا يعني دائما .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا ٧٥
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي: بالله وما أوجب الإيمانَ به { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } من الواجبات والمستحبات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي: من الأخلاق الرذيلة، والخلْق الذميم، ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }
۞ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٨٥
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٨٥
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، وفي حديث الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " . رواه الإمام أحمد وأهل السنن وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان ، من حقوق الله ، عز وجل ، على عباده ، من الصلوات والزكوات ، والكفارات والنذور والصيام ، وغير ذلك ، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد ، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك . فأمر الله ، عز وجل ، بأدائها ، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة ، يؤتى بالرجل يوم القيامة - وإن كان قد قتل في سبيل الله - فيقال : أد أمانتك . فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم ، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه . قال : فتنزل عن عاتقه ، فيهوي على أثرها أبد الآبدين . قال زاذان : فأتيت البراء فحدثته فقال : صدق أخي : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) .
وقال : سفيان الثوري ، عن ابن أبي ليلى عن رجل ، عن ابن عباس قوله : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) قال : هي مبهمة للبر والفاجر . وقال محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر . وقال أبو العالية : الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها .
وقال الربيع بن أنس : هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) قال : قال : يدخل فيه وعظ السلطان النساء . يعني يوم العيد . وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة - واسم أبي طلحة عبد الله - بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري ، حاجب الكعبة المعظمة ، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم ، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة ، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة ، فكان معه لواء المشركين يوم أحد ، وقتل يومئذ كافرا . وإنما نبهنا على هذا النسب ; لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا ، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ، ثم رده عليه .
وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن صفية بنت شيبة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعا على راحلته ، يستلم الركن بمحجن في يده ، فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد .
قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج " . وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، إلى أن قال : ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية ، صلى الله عليك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين عثمان بن طلحة ؟ " فدعي له ، فقال له : " هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم وفاء وبر " .
قال ابن جرير : حدثني القاسم حدثنا الحسين ، عن حجاج ، عن ابن جريج [ قوله : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ] قال : نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه فدعا عثمان إليه ، فدفع إليه المفتاح ، قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ، وهو يتلو هذه الآية : فداه أبي وأمي ، ما سمعته يتلوها قبل ذلك .
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الزنجي بن خالد ، عن الزهري قال : دفعه إليه وقال : أعينوه .
وروى ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله عز وجل : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، فلما أتاه قال : " أرني المفتاح " . فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، اجمعه لي مع السقاية . فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرني المفتاح يا عثمان " . فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى ، فكف عثمان يده . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عثمان ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح " . فقال : هاك بأمانة الله . قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما للمشركين قاتلهم الله . وما شأن إبراهيم وشأن القداح " . ثم دعا بجفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه ، ثم غمس به تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم ، وكان في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال : " يا أيها الناس ، هذه القبلة " . قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل ، فيما ذكر لنا برد المفتاح ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) حتى فرغ من الآية .
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا فحكمها عام ; ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر ، أي : هي أمر لكل أحد .
وقوله : ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ; ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب : إنما نزلت في الأمراء ، يعني الحكام بين الناس .
وفي الحديث : " إن الله مع الحاكم ما لم يجر ، فإذا جار وكله إلى نفسه " وفي الأثر : عدل يوم كعبادة أربعين سنة .
وقوله : ( إن الله نعما يعظكم به ) أي : يأمركم به من أداء الأمانات ، والحكم بالعدل بين الناس ، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة .
وقوله : ( إن الله كان سميعا بصيرا ) أي : سميعا لأقوالكم ، بصيرا بأفعالكم ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ هذه الآية ( سميعا بصيرا ) يقول : بكل شيء بصير .
وقد قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني ، أنبأنا المقرئ - يعني أبا عبد الرحمن - عبد الله بن يزيد ، حدثنا حرملة - يعني ابن عمران - التجيبي المصري - حدثنا أبو يونس ، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) إلى قوله : ( إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعيه . قال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى ، والتي تليها على الأذن اليمنى ، وأرانا فقال : هكذا وهكذا .
رواه أبو داود ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه في تفسيره ، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده - نحوه وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سليم بن جبير .
إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٨٥
قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع . وقد اختلف من المخاطب بها ؛ فقال علي بن أبي طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة ، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه ، ثم تتناول من بعدهم . وقال ابن جريج وغيره : ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبد الدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة ، فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية ؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان ، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية . قال عمر بن الخطاب : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ، وما كنت سمعتها قبل منه ، فدعا عثمان وشيبة فقال : خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم . وحكى مكي : أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح ، ثم دفعه ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : خذه بأمانة الله . وقال ابن عباس : الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج . والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات . وهذا اختيار الطبري . وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك ، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها أو قال : ( كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع ) . ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية . وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع ، وقال ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة .
قلت : وهذا إجماع . وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار ؛ قاله ابن المنذر . والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع . ووجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلا ، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات ؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا . وأمهاتها في الأحكام : الوديعة واللقطة والرهن والعارية . وروى أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك . أخرجه الدارقطني . ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في " البقرة " معناه . وروى أبو أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم . صحيح أخرجه الترمذي وغيره . وزاد الدارقطني : فقال رجل : فعهد الله ؟ قال : ( عهد الله أحق ما أدي ) . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدى فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب . وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة . وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي . وهذا قول الحسن البصري والنخعي ، وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا : ومعنى قوله عليه السلام : العارية مؤداة هو كمعنى قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد ؛ لأنه لم يأخذها على الضمان ، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها . وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية . وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا ضمان على مؤتمن . واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع : أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال : ( بل عارية مؤداة ) .
الثانية : قوله تعالى : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل قال الضحاك : بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر . وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام ، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات . قال صلى الله عليه وسلم : إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا . وقال : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته . فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة : وحكاما على مراتبهم ، وكذلك العالم الحاكم ؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام ، والفرض والندب ، والصحة والفساد ، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى . وقد تقدم في البقرة القول في ( نعما )
قوله تعالى : إن الله كان سميعا بصيرا وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى ؛ كما قال تعالى : إنني معكما أسمع وأرى فهذا طريق السمع . والعقل يدل على ذلك ؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضيهما من العمى والصمم ، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما ، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف ، بالنقائص ؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر . وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام . جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٨٥
الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به. فأمر الله عباده بأدائها أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله. وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها. قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك. وفي قوله: { إِلَى أَهْلِهَا } دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها. { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو. والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به. ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٩٥
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٩٥
قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي ; إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث حجاج بن محمد الأعور ، به . وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار ، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء . قال : فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا : بلى ، قال : اجمعوا لي حطبا . ثم دعا بنار فأضرمها فيه ، ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها . [ قال : فهم القوم أن يدخلوها ] قال : فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها . قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال لهم : " لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ; إنما الطاعة في المعروف " . أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
وأخرجاه من حديث يحيى القطان .
وعن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله . قال : " إلا أن تروا كفرا بواحا ، عندكم فيه من الله برهان " أخرجاه .
وفي الحديث الآخر ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " . رواه البخاري .
وعن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف . رواه مسلم .
وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : " ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله ، اسمعوا له وأطيعوا " رواه مسلم وفي لفظ له : " عبدا حبشيا مجدوعا " .
وقال ابن جرير : حدثني علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سيليكم بعدي ولاة ، فيليكم البر ببره ، ويليكم الفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، وصلوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساؤوا فلكم وعليهم " .
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون " . قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : " أوفوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم " أخرجاه .
وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر ; فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية " . أخرجاه .
وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خلع يدا من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " . رواه مسلم .
وروى مسلم أيضا ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة ، والناس حوله مجتمعون عليه ، فأتيتهم فجلست إليه فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل ، ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة . فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها ، وتجيء فتن يرفق بعضها بعضا ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " . قال : فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله تعالى يقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) [ النساء : 29 ] قال : فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله .
والأحاديث في هذا كثيرة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن المفضل حدثنا أسباط ، عن السدي : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد ، وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا ، وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم ، فأصبحوا قد هربوا غير رجل . فأمر أهله فجمعوا متاعهم ، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل ، حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر ، فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت ، فهل إسلامي نافعي غدا ، وإلا هربت ؟ قال عمار : بل هو ينفعك ، فأقم . فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله . فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل ، فإنه قد أسلم ، وإنه في أمان مني . فقال خالد : وفيم أنت تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير . فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله ، أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خالد ، لا تسب عمارا ، فإنه من يسب عمارا يسبه الله ، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله " فغضب عمار فقام ، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه ، فرضي عنه ، فأنزل الله عز وجل قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من طريق عن السدي ، مرسلا . ورواه ابن مردويه من رواية الحكم ابن ظهير ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه والله أعلم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وأولي الأمر منكم ) يعني : أهل الفقه والدين . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والحسن البصري ، وأبو العالية : ( وأولي الأمر منكم ) يعني : العلماء . والظاهر - والله أعلم - أن الآية في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء ، كما تقدم . وقد قال تعالى : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ) [ المائدة : 63 ] وقال تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [ النحل : 43 ] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصا أميري فقد عصاني " .
فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء ، ولهذا قال تعالى : ( أطيعوا الله ) أي : اتبعوا كتابه ( وأطيعوا الرسول ) أي : خذوا بسنته ( وأولي الأمر منكم ) أي : فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، كما تقدم في الحديث الصحيح : " إنما الطاعة في المعروف " . وقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أبي مراية ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا طاعة في معصية الله " .
وقوله : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) قال مجاهد وغير واحد من السلف : أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله .
وهذا أمر من الله ، عز وجل ، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) [ الشورى : 10 ] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى : ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر )
فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .
وقوله : ( ذلك خير ) أي : التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله . والرجوع في فصل النزاع إليهما خير ( وأحسن تأويلا ) أي : وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد . وقال مجاهد : وأحسن جزاء . وهو قريب .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٩٥
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل ، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا ، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه ، ثم بطاعة الأمراء ثالثا ؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم . قال سهل بن عبد الله التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدراهم والدنانير ، والمكاييل والأوزان ، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد . قال سهل : وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي ، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا . وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة الطاعة أئمة المسلمين في غير معصية سلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة ، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية ؛ ولذلك قلنا : إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا ، والحكم من قبلهم ، وتولية الإمامة والحسبة ؛ وإقامة ذلك على وجه الشريعة . وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم ، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة .
قلت : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل ، ويؤدي الأمانة ؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه ؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل ، ثم أمر بطاعته . وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : " أولو الأمر " أهل القرآن والعلم ؛ وهو اختيار مالك رحمه الله ، ونحوه قول الضحاك قال : يعني الفقهاء والعلماء في الدين . وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة . وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال : هن حرائر . فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن . قلت : بأي شيء في القرآن ؟ قال : قال الله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وكان عمر من أولي الأمر ؛ قال : عتقت ولو بسقط . وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة " الحشر " عند قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . وقال ابن كيسان : هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس .
قلت : وأصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ أما الأول فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم . وروى الصحيحان عن ابن عباس قال : نزل يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية . قال أبو عمر : وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا ؛ فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها ، فقال لهم : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ؟ ! وقال : من أطاع أميري فقد أطاعني . فقالوا : ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم . وهو حديث صحيح الإسناد مشهور . وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال : كان عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة . وذكر الزبير قال : حدثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب عن الليث بن سعد قال : بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع . قال ابن وهب : فقلت لليث ليضحكه ؟ قال : نعم كانت فيه دعابة . قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي : " أولوا الأمر " أصحاب السرايا . وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول . فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة ؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا ، وامتثال فتواهم لازما . قال سهل بن عبد الله رحمه الله : لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء ؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم ، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم . وأما القول الثالث فخاص ، وأخص منه القول الرابع . وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا ، فإن العقل لكل فضيلة أس ، ولكل أدب ينبوع ، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا ، فأوجب الله التكليف بكماله ، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه ؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس . وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون . ولو كان كذلك ما كان لقوله : فردوه إلى الله والرسول معنى ، بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي الأمر ، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة . وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور . وحقيقة الطاعة امتثال الأمر ، كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر . والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد ، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد . و " أولو " واحدهم " ذو " على غير قياس كالنساء والإبل والخيل ، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه . وقد قيل في واحد الخيل : خائل وقد تقدم .
الثانية : قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء أي تجادلتم واختلفتم ؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها . والنزع الجذب . والمنازعة مجاذبة الحجج ؛ ومنه الحديث وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن . وقال الأعشى :
نازعتهم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة . في شيء أي من أمر دينكم . فردوه إلى الله والرسول أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته ، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة ، وهو الصحيح . ومن لم ير هذا اختل إيمانه ؛ لقوله تعالى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وقيل : المعنى قولوا الله ورسوله أعلم ؛ فهذا هو الرد . وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . والقول الأول أصح ؛ لقول علي رضي الله عنه : ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة ، أو فهم أعطيه رجل مسلم . ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها ، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب . قال أبو العالية : وذلك قوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . نعم ، ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه : الله أعلم . وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر ؛ ومثله كثير . وفي قوله تعالى : ( وإلى الرسول ) دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها . قال صلى الله عليه وسلم : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم أخرجه مسلم . وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه . وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول : أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر . وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب بمعناه وقال : حديث حسن غريب . والقاطع قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة الآية . وسيأتي .
الثالثة : قوله تعالى : ذلك خير أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع . وأحسن تأويلا أي مرجعا ؛ من آل يئول إلى كذا أي صار . وقيل : من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته . فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه ؛ يقال : أول الله عليك أمرك أي جمعه . ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٩٥
ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب والمستحب، واجتناب نهيهما. وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية. ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما. فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها { ذَلِكَ } أي: الرد إلى الله ورسوله { خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم.
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٠٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٠٦
هذا إنكار من الله ، عز وجل ، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية : أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد . وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف . وقيل : في جماعة من المنافقين ، ممن أظهروا الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية . وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ; ولهذا قال : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت [ وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٠٦
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا
روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ؛ فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك يعني المنافق . وما أنزل من قبلك يعني اليهودي . يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت إلى قوله : ويسلموا تسليما وقال الضحاك : دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو الطاغوت ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال : كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة ؛ فقال اليهودي : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله الطاغوت أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما خرجا قال المنافق : لا أرضى ، انطلق بنا إلى أبي بكر ؛ فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج وقال : انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض ؛ فقال عمر للمنافق : أكذلك هو ؟ قال : نعم . قال : رويدكما حتى أخرج إليكما . فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ؛ وهرب اليهودي ، ونزلت الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الفاروق . ونزل جبريل وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل ؛ فسمي الفاروق . وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله : ويسلموا تسليما وانتصب : ضلالا على المعنى ، أي فيضلون ضلالا ؛ ومثله قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا . وقد تقدم هذا المعنى مستوفى .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٠٦
يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين. { الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت. والحال أنهم { قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } فكيف يجتمع هذا والإيمان؟ فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمَنْ زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك. وهذا من إضلال الشيطان إياهم، ولهذا قال: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } عن الحق.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ١٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ١٦
وقوله : ( يصدون عنك صدودا ) أي : يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك ، كما قال تعالى عن المشركين : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) [ لقمان : 21 ] هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين ، الذين قال الله فيهم : ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا [ وأطعنا وأولئك هم المفلحون ] ) [ النور : 51 ] .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ١٦
" صدودا " اسم للمصدر عند الخليل ، والمصدر الصد . والكوفيون يقولون : هما مصدران .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ١٦
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا
فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا ٢٦
نسخ
مشاركة
التفسير
فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا ٢٦
ثم قال تعالى في ذم المنافقين : ( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ) أي : فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك ، ( ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) أي : يعتذرون إليك ويحلفون : ما أردنا بذهابنا إلى غيرك ، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق ، أي : المداراة والمصانعة ، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة ، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى [ أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ] فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) [ المائدة : 52 ] .
وقد قال الطبراني : حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز وجل : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك [ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ] ) إلى قوله : ( إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا )
فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا ٢٦
قوله تعالى : فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا
أي فكيف يكون حالهم ، أو فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة أي من ترك الاستعانة بهم ، وما يلحقهم من الذل في قوله : فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا . وقيل : يريد قتل صاحبهم بما قدمت أيديهم وتم الكلام . ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم ؛ وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق . وقيل : المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم ، والإحسان بالتقريب في الحكم . ابن كيسان : عدلا وحقا ؛ نظيرها وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى .
فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنٗا وَتَوۡفِيقًا ٢٦
{ فَكَيْفَ } يكون حال هؤلاء الضالين { إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟! { ثُمَّ جَاءُوكَ } معتذرين لما صدر منهم، ويقولون: { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي: ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كَذَبة في ذلك. فإن الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله { ومَنْ أحْسَن من الله حكمًا لقوْمٍ يوقنون }
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٣٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٣٦
ثم قال تعالى : ( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) [ أي ] هذا الضرب من الناس هم المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك ، فإنه لا تخفى عليه خافية ، فاكتف به يا محمد فيهم ، فإن الله عالم بظواهرهم وبواطنهم ; ولهذا قال له : ( فأعرض عنهم ) أي : لا تعنفهم على ما في قلوبهم ( وعظهم ) أي : وانههم على ما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) أي : وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٣٦
فقال الله تعالى مكذبا لهم أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم منافقون . والفائدة لنا : اعلموا أنهم منافقون . فأعرض عنهم قيل : عن عقابهم . وقيل : عن قبول اعتذارهم وعظهم أي خوفهم . قيل في الملا . وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء . الحسن : قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم . وقد بلغ القول بلاغة ؛ ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه . والعرب تقول : أحمق بلغ وبلغ ، أي نهاية في الحماقة . وقيل : معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق . ويقال : إن قوله تعالى : فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار ؛ فلما أظهر الله نفاقهم ، وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم : ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب .
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٣٦
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي: من النفاق والقصد السيئ. { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي: لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه. { وَعِظْهُمْ } أي: بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } أي: انصحهم سرا بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه، وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا، ويبالغ في وعظه بما يظن حصول المقصود به.
وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٤٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٤٦
قول تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع ) أي : فرضت طاعته على من أرسله إليهم وقوله : ( بإذن الله ) قال مجاهد : أي لا يطيع أحد إلا بإذني . يعني : لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك ، كقوله : ( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) [ آل عمران : 52 ] أي : عن أمره وقدره ومشيئته ، وتسليطه إياكم عليهم .
وقوله : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ، ويسألوه أن يستغفر لهم ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ، ولهذا قال : ( لوجدوا الله توابا رحيما )
وقد ذكر جماعة منهم : الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه " الشامل " الحكاية المشهورة عن العتبي ، قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : يا عتبي ، الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له .
وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٤٦
قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما
قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول " من " زائدة للتوكيد . إلا ليطاع فيما أمر به ونهى عنه . بإذن الله " بعلم الله . وقيل : بتوفيق الله . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك روى أبو صادق عن علي قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه ؛ فقال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل الله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر إنه قد غفر لك . ومعنى لوجدوا الله توابا رحيما أي قابلا لتوبتهم ، وهما مفعولان لا غير .
وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٤٦
يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع. وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا. وقوله: { بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول. ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها. { فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك.
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٥٦
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٥٦
وقوله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة : أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ; ولهذا قال : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة قال : خاصم الزبير رجلا في شريج من الحرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك " واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة . قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .
وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب : " التفسير " من صحيحه من حديث معمر : وفي كتاب : " الشرب " من حديث ابن جريج ومعمر أيضا ، وفي كتاب : " الصلح " من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة ، فذكره وصورته صورة الإرسال ، وهو متصل في المعنى .
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير كان يحدث : أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة ، كانا يسقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار علىالزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، قال عروة : فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ; فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا الليث ويونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام : أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحرة ، كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر . فأبى عليه الزبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )
وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب ، به ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث ، به وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم . والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري ، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير فذكره ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير ، غير ابن أخيه ، وهو عنه ضعيف .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي أبو دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة - رجل من آل أبي سلمة - قال : خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته . فنزلت : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو حيوة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله : ( فلا وربك لا يؤمنون [ حتى يحكموك ] ) [ الآية ] قال : نزلت في الزبير بن العوام ، وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل . هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري .
ذكر سبب آخر غريب جدا :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لهيعة ، عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، فقال الذي قضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انطلقا إليه " فلما أتيا إليه قال الرجل : يا ابن الخطاب ، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر . فردنا إليك . فقال : أكذاك ؟ فقال : نعم فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما . فخرج إليهما مشتملا على سيفه ، فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي ، ولولا أني أعجزته لقتلني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية ، فهدر دم ذلك الرجل ، وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فقال : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) [ النساء : 66 ] .
وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة ، عن أبي الأسود به .
وهو أثر غريب ، وهو مرسل ، وابن لهيعة ضعيف والله أعلم .
طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره : حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عتبة بن ضمرة ، حدثني أبي : أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضي عليه : لا أرضى . فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر : فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى ، قال : نأتي عمر بن الخطاب ، فأتياه ، فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، [ ثم أتينا أبا بكر ، فقال : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرضى ] فسأله عمر ، فقال : كذلك ، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) [ إلى آخر ] الآية .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٥٦
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
فيه خمس مسائل :
الأولى : قال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت . وقال الطبري : قوله فلا رد على ما تقدم ذكره ؛ تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون . وقال غيره : إنما قدم لا على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام . و " شجر " معناه اختلف واختلط ؛ ومنه الشجر لاختلاف أغصانه . ويقال لعصي الهودج : شجار ؛ لتداخل بعضها في بعض . قال الشاعر :
نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة :
وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر وقالت طائفة : نزلت في الزبير مع الأنصاري ، وكانت الخصومة في سقي بستان ؛ فقال عليه السلام للزبير : اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك . فقال الخصم : أراك تحابي ابن عمتك ؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ونزل : فلا وربك لا يؤمنون . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر ، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري . واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري ؛ فقال بعضهم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر . وقال مكي والنحاس : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي : هو حاطب . وقيل : ثعلبة بن حاطب . وقيل غيره : والصحيح القول الأول ؛ لأنه غير معين ولا مسمى ؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار . واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي . كما قال مجاهد ؛ ثم تتناول بعمومها قصة الزبير . قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه ، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب . أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة " الأعراف " إن شاء الله تعالى .
الثانية : وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال : اسق يا زبير لقربه من الماء ثم أرسل الماء إلى جارك . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك . فحضه على المسامحة والتيسير ، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب ؛ لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا ، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : آن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة " أن " المفتوحة على جهة الإنكار ؛ أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟ . فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه ، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له . وعليه لا يقال : كيف حكم في حال غضبه وقد قال : ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) ؟ فإنا نقول : لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام ، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام . وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق . ومنعه مالك ، واختلف فيه قول الشافعي . وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز ؛ فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم .
الثالثة : واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل ؛ فقال ابن حبيب : يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به ، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء ، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه ، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط . وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون . وقاله ابن وهب . وقال ابن القاسم : إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه . قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك ؛ لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل .
الرابعة : روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل . قال أبو عمر : " لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه ، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى . وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل . وغيره من السيول كذلك . وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال : لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت . قال أبو عمر : في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته . رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل ؛ فقال الأنصاري : سرح الماء ؛ فأبى عليه ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم " وذكر الحديث . قال أبو عمر : وقوله في الحديث : ( يرسل ) وفي الحديث الآخر إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى يشهد لقول ابن القاسم . ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة ، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع ، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال . هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به ، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته . وبالله التوفيق .
الخامسة : قوله تعالى : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت أي ضيقا وشكا ؛ ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقال الضحاك : أي إثما بإنكارهم ما قضيت . ويسلموا تسليما أي ينقادوا لأمرك في القضاء . وقال الزجاج : تسليما مصدر مؤكد ؛ فإذا قلت : ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه ؛ وكذلك ويسلموا تسليما أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٥٦
ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.
وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا ٦٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا ٦٦
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ; لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه - تبارك وتعالى - بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ; ولهذا قال تعالى : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم )
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا أبو زهير عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل [ منهم ] ) الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا روح ، حدثنا ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) الآية . قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي " .
وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا . فقال ثابت : والله لو كتب علينا : ( أن اقتلوا أنفسكم ) لقتلنا . فأنزل الله هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا بشر بن السري ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : لما نزلت [ ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ) قال أبو بكر : يا رسول الله ، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت ، قال : " صدقت يا أبا بكر " .
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني قال : سئل سفيان عن قوله ] ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " .
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن شريح بن عبيد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم [ أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ] ) الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رواحة ، فقال : " لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل " يعني : ابن رواحة .
ولهذا قال تعالى : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ) أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به ، وتركوا ما ينهون عنه ( لكان خيرا لهم ) أي : من مخالفة الأمر وارتكاب النهي ( وأشد تثبيتا ) قال السدي : أي : وأشد تصديقا .
وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا ٦٦
قوله تعالى : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا
سبب نزولها ما روي أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي ؛ فقال اليهودي : والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا ، وبلغت القتلى سبعين ألفا ؛ فقال ثابت : والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا . وقال أبو إسحاق السبيعي : لما نزلت ولو أنا كتبنا عليهم الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي . قال ابن وهب قال مالك : القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر . وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي . وذكر أبو الليث السمرقندي : أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس ، قالوا : لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي . ولو حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره ؛ فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا . فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله ! لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية . ما فعلوه أي القتل والخروج إلا قليل منهم قليل بدل من الواو ، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل . وأهل الكوفة يقولون : هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم . وقرأ عبد الله بن عامر وعيسى بن عمر " إلا قليلا " على الاستثناء . وكذلك هو في مصاحف أهل الشام . الباقون بالرفع ، والرفع أجود عند جميع النحويين . وقيل : انتصب على إضمار فعل ، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم . وإنما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى ، وهو أيضا يشتمل على المعنى . وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا . وزاد الحسن ومقاتل عمارا وابن مسعود وقد ذكرناهما . ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم أي في الدنيا والآخرة . وأشد تثبيتا أي على الحق .
وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا ٦٦
يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه. ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي: ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه، ولم يكونوا بصدده، وهذا هو الذي ينبغي للعبد، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة، وحصول الكسل وعدم النشاط. ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور: (أحدها) الخيرية في قوله: { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها، أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار، لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده. (الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر. وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات. (الثالث) قوله: { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبُدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (الرابع) الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير.
وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٦
( وإذا لآتيناهم من لدنا ) أي : من عندنا ، ( أجرا عظيما ) يعني : الجنة .
وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٦
وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما أي ثوابا في الآخرة . وقيل : اللام لام الجواب ، وإذا دالة على الجزاء ، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم .
وَإِذٗا لَّأٓتَيۡنَٰهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٦
رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور:(الثالث) قوله: { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبُدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٨٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٨٦
( ولهديناهم صراطا مستقيما ) أي في الدنيا والآخرة .
وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٨٦
أصل الصراط في كلام العرب الطريق ; قال عامر بن الطفيل : شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط وقال جرير : أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم وقال آخر : فصد عن نهج الصراط الواضح حكى النقاش : الصراط الطريق بلغة الروم ; فقال ابن عطية : وهذا ضعيف جدا .
وقرئ : السراط ( بالسين ) من الاستراط بمعنى الابتلاع ; كأن الطريق يسترط من يسلكه .
وقرئ بين الزاي والصاد .
وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل .
وحكى سلمة عن الفراء قال : الزراط بإخلاص الزاي لغة لعذرة وكلب وبني القين , قال : وهؤلاء يقولون [ في أصدق ] : أزدق .
وقد قالوا الأزد والأسد ولسق به ولصق به .
و " الصراط " نصب على المفعول الثاني ; لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر ; قال الله تعالى : " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " .
[ الصافات : 23 ] .
وبغير حرف كما في هذه الآية .
" المستقيم " صفة ل " الصراط " وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ; ومنه قوله تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " [ الأنعام : 153 ] وأصله مستقوم , نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
وَلَهَدَيۡنَٰهُمۡ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٨٦
رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور: ( الرابع ) الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير.
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٩٦
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٩٦
ثم قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) أي : من عمل بما أمره الله ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة ، وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم .
ثم أثنى عليهم تعالى فقال : ( وحسن أولئك رفيقا )
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة " وكان في شكواه التي قبض فيه ، فأخذته بحة شديدة فسمعته يقول : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) فعلمت أنه خير .
وكذا رواه مسلم من حديث شعبة ، عن سعد بن إبراهيم به .
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : " اللهم في الرفيق الأعلى " ثلاثا ثم قضى ، عليه أفضل الصلاة والتسليم .
ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، ما لي أراك محزونا ؟ " قال : يا نبي الله شيء فكرت فيه ؟ قال : " ما هو ؟ " قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر إلى وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك . فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا ، فأتاه جبريل بهذه الآية : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين [ والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ] ) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره .
قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق ، وعكرمة ، وعامر الشعبي ، وقتادة ، وعن الربيع بن أنس ، وهو من أحسنها سندا .
قال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : ( ومن يطع الله والرسول [ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من ] ) الآية ، قال : إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه ، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا ؟ فأنزل الله في ذلك - يعني هذه الآية - فقال : يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم ، فيجتمعون في رياضها ، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه ، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به ، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه " .
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي ، وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك . فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه : " صفة الجنة " ، من طريق الطبراني ، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال ، عن عبد الله بن عمران العابدي ، به . ثم قال : لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم .
وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن عامر الشعبي ، عن ابن عباس ، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة . فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فأنزل الله عز وجل [ ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) ] .
وقد رواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن جرير ، عن عطاء ، عن الشعبي ، مرسلا . وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : " سل " . فقلت : يا رسول الله ، أسألك مرافقتك في الجنة . فقال : " أو غير ذلك ؟ " قلت : هو ذاك . قال : " فأعني على نفسك بكثرة السجود " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " تفرد به أحمد .
قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم ، حدثنا ابن لهيعة ، عن زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، إن شاء الله " .
وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي حمزة ، عن الحسن البصري ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء " .
ثم قال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري .
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما ، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ فقال : " المرء مع من أحب " قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث .
وفي رواية عن أنس أنه قال : إني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أبا بكر وعمر ، رضي الله عنهما وأرجو أن يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم .
وقال الإمام مالك بن أنس ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " . قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : " بلى ، والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ولفظه لمسلم .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا فزارة ، أخبرني فليح ، عن هلال - يعني ابن علي - عن عطاء ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون - أو ترون - الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات " . قالوا : يا رسول الله ، أولئك النبيون ؟ قال : " بلى ، والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " .
قال الحافظ الضياء المقدسي : هذا الحديث على شرط البخاري والله أعلم .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عفيف بن سالم ، عن أيوب بن عتبة عن عطاء ، عن ابن عمر قال : أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سل واستفهم " . فقال : يا رسول الله ، فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به ، وعملت مثل ما عملت به ، إني لكائن معك في الجنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة " فقال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته " ونزلت هذه الآيات ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) إلى قوله : ( نعيما وملكا كبيرا ) [ الإنسان : 1 - 20 ] فقال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم " . فاستبكى حتى فاضت نفسه ، قال ابن عمر : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه .
فيه غرابة ونكارة ، وسنده ضعيف .
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٩٦
قوله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
فيه مسائل : الأولى : قوله تعالى : ومن يطع الله والرسول لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم ، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله . وهذه الآية تفسير قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته اللهم الرفيق الأعلى . وفي البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فعلمت أنه خير . وقالت طائفة : إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري - الذي أري الأذان - : يا رسول الله ، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك ؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية . وذكر مكي عن عبد الله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده ؛ فعمي مكانه . وحكاه القشيري فقال : اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي ؛ فعمي مكانه . وحكى الثعلبي : أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه ، يعرف في وجهه الحزن ؛ فقال له : يا ثوبان ما غير لونك فقال : يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك ؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية . ذكره الواحدي عن الكلبي . وأسند عن مسروق قال : قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا ، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا ؛ فأنزل الله تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين . وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله .
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم ، لا أنهم يساوونهم في الدرجة ؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء . وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله ، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول . قال الله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل . والصديق فعيل ، المبالغ في الصدق أو في التصديق ، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه . وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق . وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد . والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي ، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . وقيل : والشهداء القتلى في سبيل الله . والصالحين صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : واللفظ يعم كل صالح وشهيد ، والله أعلم . والرفق لين الجانب . وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته ؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض . ويجوز " وحسن أولئك رفقاء " . قال الأخفش : رفيقا منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء ؛ وقال : انتصب على التمييز فوحد لذلك ؛ فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا . كما قال تعالى : ثم نخرجكم طفلا أي نخرج كل واحد منكم طفلا . وقال تعالى : ينظرون من طرف خفي وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم : خير الرفقاء أربعة ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله .
الثانية : في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه ؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة . وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صديقا ، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا ، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد . والله أعلم .
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٩٦
أي: كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير، { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة { مِنَ النَّبِيِّينَ } الذين فضلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق، ودعوتهم إلى الله تعالى { وَالصِّدِّيقِينَ } وهم: الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولا وعملا وحالا ودعوة إلى الله، { وَالشُّهَدَاءِ } الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقتلوا، { وَالصَّالِحِينَ } الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم، فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبتهم { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأُنْس بقربهم في جوار رب العالمين.
ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمٗا ٠٧
نسخ
مشاركة
التفسير
ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمٗا ٠٧
ولهذا قال تعالى : ( ذلك الفضل من الله ) أي : من عند الله برحمته ، هو الذي أهلهم لذلك ، لا بأعمالهم . ( وكفى بالله عليما ) أي : هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق .
ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمٗا ٠٧
الثالثة : قوله تعالى : ذلك الفضل من الله أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه . خلافا لما قالت المعتزلة : إنما ينال العبد ذلك بفعله . فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله ، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم . والله أعلم .
ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمٗا ٠٧
{ ذَلِكَ الْفَضْلُ } الذي نالوه { مِنَ اللَّهِ } فهو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه، وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه أعمالهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب الجزيل، بما قام به من الأعمال الصالحة التي تواطأ عليها القلب والجوارح.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا ١٧
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا ١٧
يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم ، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله .
( ثبات ) أي : جماعة بعد جماعة ، وفرقة بعد فرقة ، وسرية بعد سرية ، والثبات : جمع ثبة ، وقد تجمع الثبة على ثبين .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( فانفروا ثبات ) أي : عصبا يعني : سرايا متفرقين ( أو انفروا جميعا ) يعني : كلكم .
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان ، وخصيف الجزري .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا ١٧
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع . ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله ، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته ، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم ، ويعلموا كيف يردون عليهم ، فذلك أثبت لهم فقال : خذوا حذركم فعلمهم مباشرة الحروب . ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل كما تقدم في " آل عمران " ويأتي . والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل . قال الفراء : أكثر الكلام الحذر ، والحذر مسموع أيضا ؛ يقال : خذ حذرك ، أي احذر . وقيل : خذوا السلاح حذرا ؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر . وهي :
الثانية : خلافا للقدرية في قولهم : إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء ، ولو لم يكن كذلك ما كان لأمرهم بالحذر معنى . فيقال لهم : ليس في الآية دليل على أن الحذر يمنع من القدر شيئا ؛ ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة ؛ ومنه الحديث اعقلها وتوكل . وإن كان القدر جاريا على ما قضي ، ويفعل الله ما يشاء ، فالمراد منه طمأنينة النفس ، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر . والدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى .
الثالثة : قوله تعالى : فانفروا ثبات يقال : نفر ينفر ( بكسر الفاء ) نفيرا . ونفرت الدابة تنفر ( بضم الفاء ) نفورا ؛ المعنى : انهضوا لقتال العدو . واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر ، أي للخروج إلى قتال العدو . والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع ؛ ومنه قوله تعالى : ولوا على أدبارهم نفورا أي نافرين . ومنه نفر الجلد أي ورم . وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم . قال أبو عبيد : إنما هو من نفار الشيء من الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه . قال ابن فارس : النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة . والنفير النفر أيضا ، وكذلك النفر والنفرة ، حكاها الفراء بالهاء . ويوم النفر : يوم ينفر الناس عن منى .
( ثبات ) معناه جماعات متفرقات . ويقال : ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير . قال عمرو بن كلثوم :
فأما يوم خشيتنا عليهم فتصبح خيلنا عصبا ثبينا
فقوله تعالى : ( ثبات ) كناية عن السرايا ، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس . وكانت في الأصل الثبية . وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة . والثبة : وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس : وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد ، وأن أحدهما من الآخر ؛ وبينهما فرق ، فثبة الحوض يقال في تصغيرها : ثويبة ؛ لأنها من ثاب يثوب . ويقال في ثبة الجماعة : ثبية . قال غيره : فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل ، وثبة الجماعة معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو . ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض ؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع ؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثويبة فتدخل إحدى الياءين في الأخرى . وقد قيل : إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع .
الرابعة : قوله تعالى : أو انفروا جميعا معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام ؛ قاله ابن عباس وغيره . ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم ، عضدا من ورائهم ، وربما احتاجوا إلى درئه . وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في " الأنفال " و " براءة إن شاء الله تعالى .
الخامسة : ذكر ابن خويز منداد : وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا وبقوله : إلا تنفروا يعذبكم ؛ ولأن يكون انفروا خفافا وثقالا منسوخا بقوله : فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وبقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة أولى ؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية ، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين . والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان ، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُواْ جَمِيعٗا ١٧
يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله. ولهذا قال: { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي: متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ }
وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا ٢٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا ٢٧
وقوله : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) قال مجاهد وغير واحد : نزلت في المنافقين ، وقال مقاتل بن حيان : ( ليبطئن ) أي : ليتخلفن عن الجهاد .
ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ، ويبطئ غيره عن الجهاد ، كما كان عبد الله بن أبي ابن - قبحه الله - يفعل ، يتأخر عن الجهاد ، ويثبط الناس عن الخروج فيه . وهذا قول ابن جريج وابن جرير ; ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد : ( فإن أصابتكم مصيبة ) أي : قتل وشهادة وغلب العدو لكم ، لما لله في ذلك من الحكمة ( قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ) أي : إذ لم أحضر معهم وقعة القتال ، يعد ذلك من نعم الله عليه ، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل .
وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا ٢٧
قوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا
قوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن يعني المنافقين . والتبطئة والإبطاء التأخر ، تقول : ما أبطأك عنا ؛ فهو لازم . ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته ؛ فهو متعد . والمعنيان مراد في الآية ؛ فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم . والمعنى أن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم . فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم . واللام في قوله ( لمن ) لام توكيد ، والثانية لام قسم ، ومن في موضع نصب ، وصلتها ليبطئن لأن فيه معنى اليمين ، والخبر منكم . وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي " وإن منكم لمن ليبطئن " بالتخفيف ، والمعنى واحد . وقيل : المراد بقوله وإن منكم لمن ليبطئن بعض المؤمنين ؛ لأن الله خاطبهم بقوله : وإن منكم وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله وما هم منكم وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره . وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهة الإيمان . هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، والله أعلم . يدل عليه قوله :فإن أصابتكم مصيبة أي قتل وهزيمة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا يعني بالقعود ، وهذا لا يصدر إلا من منافق ؛ لا سيما في ذلك الزمان الكريم ، بعيد أن يقوله مؤمن . وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا الحديث . في رواية ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها يعني صلاة العشاء . يقول : لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه .
وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِيدٗا ٢٧
ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: { وَإِنَّ مِنْكُمْ } أي: أيها المؤمنون { لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح. وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين: أحدهما: قوله { مِنْكُمْ } والخطاب للمؤمنين. والثاني: قوله في آخر الآية: { كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين: صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد. وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد. كما قال تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال: { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي: هزيمة وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. { قَالَ } ذلك المتخلف { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة، التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب. وأما القعود فإنه وإن استراح قليلاً، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته ما يحصل للمجاهدين.
وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٣٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٣٧
( ولئن أصابكم فضل من الله ) أي : نصر وظفر وغنيمة ( ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ) أي : كأنه ليس من أهل دينكم ( يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) أي : بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه . وهو أكبر قصده وغاية مراده .
وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٣٧
قوله : ولئن أصابكم فضل من الله أي غنيمة وفتح ليقولن هذا المنافق قول نادم حاسد يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كأن لم يكن بينكم وبينه مودة فالكلام فيه تقديم وتأخير . وقيل : المعنى ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد . وقيل : هو في موضع نصب على الحال . وقرأ الحسن " ليقولن " بضم اللام على معنى " من " ؛ لأن معنى قوله لمن ليبطئن ليس يعني رجلا بعينه . ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ من . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كأن لم تكن بالتاء على لفظ المودة . ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود . وقول المنافق يا ليتني كنت معهم على وجه الحسد أو الأسف على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله . ( فأفوز ) جواب التمني ولذلك نصب . وقرأ الحسن " فأفوز " بالرفع على أنه تمنى الفوز ، فكأنه قال : يا ليتني أفوز فوزا عظيما . والنصب على الجواب ؛ والمعنى إن أكن معهم أفز . والنصب فيه بإضمار " أن " لأنه محمول على تأويل المصدر ؛ التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز .
وَلَئِنۡ أَصَٰبَكُمۡ فَضۡلٞ مِّنَ ٱللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُۥ مَوَدَّةٞ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا ٣٧
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ } أي: نصر وغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي: يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية المذكورة.
۞ فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤٧
نسخ
مشاركة
التفسير
فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤٧
ثم قال تعالى : ( فليقاتل ) أي : المؤمن النافر ( في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ) أي : يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا ، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم .
ثم قال تعالى : ( ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) أي : كل من قاتل في سبيل الله - سواء قتل أو غلب وسلب - فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل ، كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله ، إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة .
فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤٧
قوله تعالى : فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فليقاتل في سبيل الله الخطاب للمؤمنين ؛ أي فليقاتل في سبيل الله الكفار ( الذين يشرون ) أي يبيعون ، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عز وجل بالآخرة أي بثواب الآخرة .
الثانية : قوله تعالى : ومن يقاتل في سبيل الله شرط . فيقتل أو يغلب عطف عليه ، والمجازاة فسوف نؤتيه أجرا عظيما . ومعنى فيقتل فيستشهد . أو يغلب يظفر فيغنم . وقرأت طائفة " ومن يقاتل " " فليقاتل " بسكون لام الأمر . وقرأت فرقة " فليقاتل " بكسر لام الأمر . فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما ؛ ذكره ابن عطية .
الثالثة : ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة وذكر الحديث . وفيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم . فقوله : نائلا ما نال من أجر أو غنيمة يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين ؛ إما الأجر إن لم يغنم ، وإما الغنيمة ولا أجر ، بخلاف حديث عبد الله بن عمرو ، ولما كان هذا قال قوم : حديث عبد الله بن عمرو ليس بشيء ؛ لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور ، ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته . وقال آخرون : ليس بينهما تعارض ولا اختلاف . و " أو " في حديث أبي هريرة بمعنى الواو ، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه : ( من أجر وغنيمة ) بالواو الجامعة . وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا . وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبد الرحمن الحبلي وعمرو بن مالك ، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب ؛ فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد ؛ فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة ، وإما رده إلى أهله مأجورا غانما ، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم ، فلما انقسمت نيته انحط أجره ؛ فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض . ثم قيل : إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه ؛ ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته ، فبقي أجره موفرا بخلاف الأول . ومثله قوله في الحديث الآخر : فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها .
فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤٧
ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته، ولا يغلق عنهم أبوابها. بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه، فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها. وقيل: إن معناه: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في إيمانهم { الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } أي: يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها. فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء، لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك. وأما أولئك المتثاقلون، فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، فيكون هذا نظير قوله تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى آخر الآيات. وقوله: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } وقيل: إن معنى الآية: فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، فيكون على هذا الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية. { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٥٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٥٧
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين بالمقام بها ; ولهذا قال تعالى : ( الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية ) يعني : مكة ، كقوله تعالى : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك ) [ محمد : 13 ] .
ثم وصفها بقوله : ( الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) أي : سخر لنا من عندك وليا وناصرا .
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن عبيد الله قال : سمعت ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين .
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن [ أبي ] مليكة أن ابن عباس تلا ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ) قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل .
وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٥٧
قوله تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله حض على الجهاد ، وهو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ، ويفتنونهم عن الدين ؛ فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده ، وإن كان في ذلك تلف النفوس . وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال ؛ وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها . قال مالك : واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم . وهذا لا خلاف فيه ؛ لقوله عليه السلام ( فكوا العاني ) وقد مضى في " البقرة " . وكذلك قالوا : عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة . فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا ؛ قولان للعلماء ، أصحهما الرجوع .
الثانية : قوله تعالى : والمستضعفين عطف على اسم الله عز وجل ، أي وفي سبيل المستضعفين ، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله . وهذا اختيار الزجاج وقاله الزهري . وقال محمد بن يزيد : أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل ؛ أي وفي المستضعفين لاستنقاذهم ؛ فالسبيلان مختلفان . ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين . وقال ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين . في البخاري عنه إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله ، أنا من الولدان وأمي من النساء .
الثالثة : قوله تعالى : من هذه القرية الظالم أهلها القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين . ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل لعلقة الضمير . وهذا كما تقول : مررت بالرجل الواسعة داره ، والكريم أبوه ، والحسنة جاريته . وإنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير ، فلو قلت : مررت بالرجل الكريم عمرو لم تجز المسألة ؛ لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل إلا بعلقة وهي الهاء . ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع ، لأنها تقوم مقام الفعل ، فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين . وتقول : مررت برجلين كريم أبواهما حسنة جاريتاهما ، وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم . واجعل لنا من لدنك أي من عندك . وليا أي من يستنقذنا واجعل لنا من لدنك نصيرا أي ينصرنا عليهم .
وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٥٧
هذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال: { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة. ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء.
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٦٧
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٦٧
ثم قال تعالى : ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) أي : المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه ، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان .
ثم هيج تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله : ( فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا )
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٦٧
قوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا
قوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله أي في طاعته والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت قال أبو عبيدة والكسائي : الطاغوت يذكر ويؤنث . قال أبو عبيد : وإنما ذكر وأنث لأنهم كانوا يسمون الكاهن والكاهنة طاغوتا . قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج قال : حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله وسئل عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال : كانت في جهينة واحدة وفي أسلم واحدة ، وفي كل حي واحدة . قال أبو إسحاق : الدليل على أنه الشيطان قوله عز وجل : فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا أي مكره ومكر من اتبعه . ويقال : أراد به يوم بدر حين قال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم على ما يأتي .
ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٦٧
هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد: منها: أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته. ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل، فأهل الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى: { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } الآية. ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل، الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } والكيد: سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين.
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام - وهم بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب ، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة ، منها : قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض ، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا . فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة ، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) أي : لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى ، فإن فيه سفك الدماء ، ويتم الأبناء ، وتأيم النساء ، وهذه الآية في معنى قوله تعالى ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال [ رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ] ) [ محمد : 20 ، 21 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة وعلي بن زنجة قالا حدثنا علي بن الحسن ، عن الحسين بن واقد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة : قال : " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " . فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال ، فكفوا . فأنزل الله : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم [ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ] ) الآية .
ورواه النسائي ، والحاكم ، وابن مردويه ، من حديث علي بن الحسن بن شقيق ، به .
وقال أسباط ، عن السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما كتب عليهم القتال : ( إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) وهو الموت ، قال الله تعالى : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى )
وعن مجاهد : إن هذه الآيات نزلت في اليهود . رواه ابن جرير .
وقوله : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) أي : آخرة المتقي خير من دنياه .
( ولا تظلمون فتيلا ) أي : من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء . وهذه تسلية لهم عن الدنيا . وترغيب لهم في الآخرة ، وتحريض لهم على الجهاد .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن قال : قرأ الحسن : ( قل متاع الدنيا قليل ) قال : رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك ، ما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة ، فرأى في منامه بعض ما يحب ، ثم انتبه .
وقال ابن معين : كان أبو مسهر ينشد :
ولا خير في لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها
متاع قليل والزوال قريب
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم . فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فنزلت الآية . أخرجه النسائي في سننه ، وقاله الكلبي . وقال مجاهد : هم يهود . قال الحسن : هي في المؤمنين ؛ لقوله : يخشون الناس أي مشركي مكة كخشية الله فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة . قال السدي : هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه . وقيل : هو وصف للمنافقين ؛ والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله . أو أشد خشية أي عندهم وفي اعتقادهم .
قلت : وهذا أشبه بسياق الآية ، لقوله : وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي هلا ، ولا يليها إلا الفعل . ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة ، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين ، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة ، على ما هو معروف من سيرتهم رضي الله عنهم . اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه ، ولا انشرح بالإسلام جنانه ، فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص ، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة . والله أعلم .
قوله تعالى : قل متاع الدنيا قليل ابتداء وخبر . وكذا والآخرة خير لمن اتقى أي المعاصي ؛ وقد مضى القول في هذا في " البقرة " ومتاع الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له . وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها وقد تقدم هذا المعنى في " البقرة " مستوفى .
أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧
كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد: منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل. ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم. وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا: { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا: { لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي: هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها، ولذاتها وزمانها، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- "أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" . ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وقال الله على لسان نبيه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" . وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه. وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال: { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي: اتقى الشرك، وسائر المحرمات. { وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا.
أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا ٨٧
نسخ
مشاركة
التفسير
أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا ٨٧
وقوله : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : ( كل من عليها فان [ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ] ) [ الرحمن : 26 ، 27 ] وقال تعالى ( كل نفس ذائقة الموت ) [ آل عمران : 185 ] وقال تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) [ الأنبياء : 34 ] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاءه الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء .
وقوله : ( ولو كنتم في بروج مشيدة ) أي : حصينة منيعة عالية رفيعة . وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى :
ومن خاف أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم قيل : " المشيدة " هي المشيدة كما قال : ( وقصر مشيد ) [ الحج : 45 ] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المشيدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص .
وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فكر راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها فذهب ذاك [ الأجير ] ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة . فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة . فقال : اخطبيها علي . فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه . فقالت : أنا هي . وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل . فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة . والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت . فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتها بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها .
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحضر ، وهو " الساطرون " لما احتال عليه " سابور " حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كل سا فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد ال ملك عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع لعاد ملاذا في البلاد ومربعا
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق ويأتي الجبال في شماريخها معا
وقوله : ( وإن تصبهم حسنة ) أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي ( يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ) أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . ( يقولوا هذه من عندك ) أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف [ فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ] ) الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ; ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال السدي : ( وإن تصبهم حسنة ) قال : والحسنة الخصب ، تنتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : ( هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ) والسيئة : الجدب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : ( هذه من عندك ) يقولون : بتركنا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : ( قل كل من عند الله ) فقوله ( قل كل من عند الله ) أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر ، والمؤمن والكافر .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( قل كل من عند الله ) أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .
ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : ( فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا )
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : ( قل كل من عند الله )
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حيان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما قلت يا عمر ؟ " قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض . فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله " . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس " .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة .
أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا ٨٧
قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت شرط ومجازاة ، و " ما " زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا : لولا أخرتنا إلى أجل قريب أي إلى أن نموت بآجالنا ، وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا ، لقولهم لما أصيب أهل أحد ، قالوا : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فرد الله عليهم أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه . وواحد البروج برج ، وهو البناء المرتفع والقصر العظيم . قال طرفة يصف ناقة :
كأنها برج رومي تكففها بان بشيد وآجر وأحجار
وقرأ طلحة بن سليمان " يدرككم " برفع الكاف على إضمار الفاء ، وهو قليل لم يأت إلا في الشعر نحو قوله :
من يفعل الحسنات الله يشكرها
أراد فالله يشكرها .
واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج ، فقال الأكثر وهو الأصح . إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية ، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة ، فمثل الله لهم بها . وقال قتادة : في قصور محصنة . وقاله ابن جريج والجمهور ، ومنه قول عامر بن الطفيل للنبي صلى الله عليه وسلم : هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد : البروج القصور . ابن عباس : البروج الحصون والآطام والقلاع . ومعنى مشيدة مطولة ، قاله الزجاج والقتبي . عكرمة : المزينة بالشيد وهو الجص . قال قتادة : محصنة . والمشيد والمشيد سواء ، ومنه وقصر مشيد والتشديد للتكثير . وقيل المشيد المطول ، والمشيد المطلي بالشيد . يقال : شاد البنيان وأشاد بذكره . وقال السدي : المراد بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية . وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى إلى قوله تعالى : والسماء ذات البروج و جعل في السماء بروجا ولقد جعلنا في السماء بروجا . وحكاه ابن العربي أيضا عن ابن القاسم عن مالك . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : في بروج مشيدة معناه في قصور من حديد . قال ابن عطية : وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ .
الثانية : هذه الآية ترد على القدرية في الآجال ، لقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد ، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به . وقالت المعتزلة : إن المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش . وقد تقدم الرد عليهم في " آل عمران " ويأتي فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين .
الثالثة : اتخاذ البلاد وبناؤها ليمتنع بها في حفظ الأموال والنفوس ، وهي سنة الله في عباده . وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول : التوكل ترك الأسباب ، فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها ، واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع . وقد قيل للأحنف : ما حكمة السور ؟ فقال : ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه .
الرابعة : وإذا تنزلنا على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء ، فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من الرفع ، وهي الكواكب العظام . وقيل للكواكب بروج لظهورها ، من برج يبرج إذا ظهر وارتفع ؛ ومنه قوله : ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وخلقها الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها ، ورتب الأزمنة عليها ، وجعلها جنوبية وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة ، وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء النهار لمعرفة أوقات التهجد وغير ذلك من أحوال المعاش .
قوله تعالى : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله أي إن يصب المنافقين خصب قالوا : هذا من عند الله . وإن تصبهم سيئة أي جدب ومحل قالوا : هذا من عندك ، أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك . وقيل : الحسنة : السلامة والأمن ، والسيئة : الأمراض والخوف . وقيل : الحسنة : الغنى ، والسيئة : الفقر . وقيل : الحسنة : النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة : البلية والشدة والقتل يوم أحد . وقيل : الحسنة : السراء ، والسيئة : الضراء . هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس وغيره - في الآية . وأنها نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى من عندك أي بسوء تدبيرك . وقيل : من عندك بشؤمك ، كما ذكرنا ، أي بشؤمك الذي لحقنا ، قالوه على جهة التطير . قال الله تعالى قل كل من عند الله أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند الله ، أي بقضاء الله وقدره . فمال هؤلاء القوم يعني المنافقين لا يكادون يفقهون حديثا أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله .
أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَقُولُواْ هَٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ حَدِيثٗا ٨٧
ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا، فقال: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } أي: في أي زمان وأي مكان. { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي: قصور منيعة ومنازل رفيعة، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها.يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي: خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة، قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وأنهم إن أصابتهم سيئة أي: جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا: { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } وقال قوم صالح: { قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ } وقال قوم ياسين لرسلهم: { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم. وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم. قال الله في جوابهم: { قُلْ كُلٌّ } أي: من الحسنة والسيئة والخير والشر. { مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي: بقضائه وقدره وخلقه. { فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم } أي: الصادر منهم تلك المقالة الباطلة. { لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم. وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه. فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك. وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين.
مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٩٧
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٩٧
ثم قال تعالى - مخاطبا - للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ) أي : من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) أي : فمن قبلك ، ومن عملك أنت كما قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [ الشورى : 30 ] .
قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جريج ، وابن زيد : ( فمن نفسك ) أي : بذنبك .
وقال قتادة : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " لا يصيب رجلا خدش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر " .
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : " والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ، ولا نصب ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه " .
وقال أبو صالح : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) أي : بذنبك ، وأنا الذي قدرتها عليك . رواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سهل - يعني ابن بكار - حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مطرف ، عن مطرف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر ، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) أي : من نفسك ، والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون .
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ، ولبسطه موضع آخر .
وقوله تعالى : ( وأرسلناك للناس رسولا ) أي : تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه .
( وكفى بالله شهيدا ) أي : على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا .
مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٩٧
قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه إليك ، وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ؛ أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم . قاله الحسن والسدي وغيرهما ؛ كما قال تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء . وقد قيل : الخطاب للإنسان والمراد به الجنس ؛ كما قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر أي إن الناس لفي خسر ، ألا تراه استثنى منهم فقال إلا الذين آمنوا ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة . وعلى هذا التأويل يكون قوله ما أصابك استئنافا . وقيل : في الكلام حذف تقديره يقولون ؛ وعليه يكون الكلام متصلا ؛ والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله . وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ؛ والمعنى أفمن نفسك ؟ ومثله قوله تعالى : وتلك نعمة تمنها علي والمعنى أوتلك نعمة ؟ وكذا قوله تعالى : فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي :
رموني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أراد " أهم " فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي . قال الأخفش " ما " بمعنى الذي . وقيل : هو شرط . قال النحاس : والصواب قول الأخفش ؛ لأنه نزل في شيء بعينه من الجدب ، وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة . وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك " فهذه قراءة على التفسير ، وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن ، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع ؛ لأن مجاهدا لم ير عبد الله ولا أبيا . وعلى قول من قال : الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر ، والسيئة ما أصابهم يوم أحد ؛ أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم ، فرأوا الهزيمة على قريش والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم ، فنظر خالد بن الوليد - وكان مع الكفار يومئذ - ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم ، ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرماة إلا صاحب الراية ، حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى استشهد مكانه ؛ على ما تقدم في " آل عمران " بيانه . فأنزل الله تعالى نظير هذه الآية وهو قوله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة يعني يوم أحد قد أصبتم مثليها يعني يوم بدر قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم . ولا يجوز أن تكون الحسنة هاهنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية ؛ إذ لو كان كذلك لكان ما أصبت كما قدمنا ، إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا ، وإنما تكون الحسنة الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وأما في هذه الآية فهي كما تقدم شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون . وبالسنين بالجدب سنة بعد سنة ؛ حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم وغلت أسعارهم . فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل اتباعنا لك وطاعتنا إياك ؛ فرد الله عليهم بقوله : ألا إنما طائرهم عند الله يعني أن طائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق ؛ فكذلك قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله كما قال : ألا إنما طائرهم عند الله وكما قال تعالى : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله أي بقضاء الله وقدره وعلمه ، وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض . قال علماؤنا : ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ؛ كما قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال تعالى : وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .
مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ؛ كما تجاذبها القدرية واحتجوا بها ، ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة ها هنا الطاعة ، والسيئة المعصية ؛ قالوا : وقد نسب المعصية في قوله تعالى : وما أصابك من سيئة فمن نفسك إلى الإنسان دون الله تعالى ؛ فهذا وجه تعلقهم بها . ووجه تعلق الآخرين منها قوله تعالى : قل كل من عند الله قالوا : فقد أضاف الحسنة والسيئة إلى نفسه دون خلقه . وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ؛ لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية ، وليست كذلك لما بيناه . والله أعلم . والقدرية إن قالوا ما أصابك من حسنة أي من طاعة فمن الله فليس هذا اعتقادهم ؛ لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل المسيء . وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ؛ لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا ، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره . نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم .
قوله تعالى : وأرسلناك للناس رسولا مصدر مؤكد ، ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة وكفى بالله شهيدا نصب على البيان والباء زائدة ، أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق .
مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٩٧
{ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي: في الدين والدنيا { فَمِنَ اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر. فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره. ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة، فهي أكبر شهادة على الإطلاق، كما قال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام القدرة عظيم الحكمة، وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما، تيقن بذلك أنه رسول الله، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين، ثم لقطع منه الوتين.
مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٠٨
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٠٨
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله ، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ، ومن عصى الأمير فقد عصاني " .
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، عن الأعمش به
وقوله : ( ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) أي : لا عليك منه ، إن عليك إلا البلاغ فمن تبعك سعد ونجا ، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له ، ومن تولى عنك خاب وخسر ، وليس عليك من أمره شيء ، كما جاء في الحديث : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه " .
مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٠٨
قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة له . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصانيفي رواية . ومن أطاع أميري ، ومن عصى أميري .
قوله تعالى : ومن تولى أي أعرض . فما أرسلناك عليهم حفيظا أي حافظا ورقيبا لأعمالهم ، إنما عليك البلاغ . وقال القتبي : محاسبا ؛ فنسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله .
مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ عَلَيۡهِمۡ حَفِيظٗا ٠٨
أي: كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه { فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } تعالى لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله، وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقا، فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا، ويمدح على ذلك. وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة: حق لله تعالى لا يكون لأحد من الخلق، وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك. وقسم مختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة. وقسم مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما، كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله: { لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله { وَمَنْ تَوَلَّى } عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا { فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم، بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك، ووجب أجرك على الله، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا. كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } الآية.
وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ١٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ١٨
وقوله : ( ويقولون طاعة ) يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة ( فإذا برزوا من عندك ) أي : خرجوا وتواروا عنك ( بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه . فقال تعالى : ( والله يكتب ما يبيتون ) أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين ، الذين هم موكلون بالعباد . يعلمون ما يفعلون . والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . كما قال تعالى : ( ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا [ ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ] ) [ النور : 47 ] .
وقوله : ( فأعرض عنهم ) أي : اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تخف منهم أيضا ( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) أي : كفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ١٨
قوله تعالى : ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون أي أمرنا طاعة ، ويجوز " طاعة " بالنصب ، أي نطيع طاعة ، وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن والجحدري . وهذا في المنافقين في قول أكثر المفسرين ؛ أي يقولون إذا كانوا عندك : أمرنا طاعة ، أو نطيع طاعة ، وقولهم هذا ليس بنافع ؛ لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة ، لأن الله تعالى لم يحقق طاعتهم بما أظهروه ، فلو كانت الطاعة بلا اعتقاد حقيقة لحكم بها لهم ؛ فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها . فإذا برزوا أي خرجوا من عندك بيت طائفة منهم فذكر الطائفة لأنها في معنى رجال . وأدغم الكوفيون التاء في الطاء ؛ لأنهما من مخرج واحد ، واستقبح ذلك الكسائي في الفعل وهو عند البصريين غير قبيح . ومعنى بيت زور وموه . وقيل : غير وبدل وحرف ؛ أي بدلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما عهده إليهم وأمرهم به . والتبييت التبديل ؛ ومنه قول الشاعر الأسود بن يعفر :
أتوني فلم أرض ما بيتوا وكانوا أتوني بأمر نكر لأنكح أيمهم منذرا
وهل ينكح العبد حر لحر
آخر الأسود بن عامر الطائي
بيت قولي عبد الملي ك قاتله الله عبدا كفورا
وبيت الرجل الأمر إذا دبر ليلا ؛ قال الله تعالى : إذ يبيتون ما لا يرضى من القول . والعرب تقول : أمر بيت بليل إذا أحكم . وإنما خص الليل بذلك لأنه وقت يتفرغ فيه . قال الشاعر :
أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومن هذا بيت الصيام . والبيوت : الماء يبيت ليلا . والبيوت : الأمر يبيت عليه صاحبه مهتما به ؛ قال الهذلي :
وأجعل فقرتها عدة إذا خفت بيوت أمر عضال
والتبييت والبيات أن يأتي العدو ليلا . وبات يفعل كذا إذا فعله ليلا ؛ كما يقال : ظل بالنهار . وبيت الشيء قدر . فإن قيل : فما وجه الحكمة في ابتدائه بذكر جملتهم ثم قال : بيت طائفة منهم ؟ قيل : إنما عبر عن حال من علم أنه بقي على كفره ونفاقه ، وصفح عمن علم أنه سيرجع عن ذلك . وقيل : إنما عبر عن حال من شهد وحار في أمره ، وأما من سمع وسكت فلم يذكره . والله أعلم . والله يكتب ما يبيتون أي يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه . وقال الزجاج : المعنى ينزله عليك في الكتاب . وفي هذه الآية دليل على أن مجرد القول لا يفيد شيئا كما ذكرنا ؛ فإنهم قالوا : طاعة ، ولفظوا بها ولم يحقق الله طاعتهم ولا حكم لهم بصحتها ؛ لأنهم لم يعتقدوها . فثبت أنه لا يكون المطيع مطيعا إلا باعتقادها مع وجودها .
قوله تعالى : فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى : فأعرض عنهم أي لا تخبر بأسمائهم ؛ عن الضحاك ، يعني المنافقين . وقيل : لا تعاقبهم . ثم أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه . ويقال : إن هذا منسوخ بقوله تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين
وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ١٨
ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب. فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة، وقد أشبه من قال الله فيهم: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي: يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك. { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي: خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم. { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي: بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية. وفي قوله: { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي: يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء، ففيه وعيد لهم. ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه، وإقامة شرعه. ولهذا قال: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٢٨
نسخ
مشاركة
التفسير
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٢٨
يقول تعالى آمرا عباده بتدبر القرآن ، وناهيا لهم عن الإعراض عنه ، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ، ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، ولا تضاد ولا تعارض ; لأنه تنزيل من حكيم حميد ، فهو حق من حق ; ولهذا قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن [ أم على قلوب أقفالها ] ) [ محمد : 24 ] ثم قال : ( ولو كان من عند غير الله ) أي : لو كان مفتعلا مختلقا ، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ( لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) أي : اضطرابا وتضادا كثيرا . أي : وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله . كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا : ( آمنا به كل من عند ربنا ) [ آل عمران : 7 ] أي : محكمه ومتشابهه حق ; فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا ، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه ; ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين .
قال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم ، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حجرة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا حتى احمر وجهه ، يرميهم بالتراب ، ويقول : " مهلا يا قوم ، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل بعضه بعضا ، بل يصدق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه إلى عالمه " .
وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، والناس يتكلمون في القدر ، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال لهم : " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟ بهذا هلك من كان قبلكم " . قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس ، أني لم أشهده .
ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند ، به نحوه .
وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي عمران الجوني قال : كتب إلي عبد الله بن رباح ، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية ، فارتفعت أصواتهما فقال : " إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب " ورواه مسلم والنسائي ، من حديث حماد بن زيد ، به .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٢٨
ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر فيه وفي معانيه . تدبرت الشيء فكرت في عاقبته . وفي الحديث لا تدابروا أي لا يولي بعضكم بعضا دبره . وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره . والتدبير أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته . ودلت هذه الآية وقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه . فكان في هذا رد على فساد قول من قال : لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب . وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد ، وفيه دليل على إثبات القياس .
قوله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا أي تفاوتا وتناقضا ؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد . ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات . وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت . وقيل : المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف . وقيل : إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير ، إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى ، وإما في التناقض ، وإما في الكذب . فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى ، ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٢٨
يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً.
وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٣٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٣٨
وقوله : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ) إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة .
وقد قال مسلم في " مقدمة صحيحه " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء أن يحدث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب " الأدب " من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خبيب عن حفص بن عاصم ، به مرسلا .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ، ولا تدبر ، ولا تبين .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مطية الرجل زعموا عليه " .
وفي الصحيح : " من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " . ويذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت : الله أكبر . وذكر الحديث بطوله .
وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .
ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها .
ومعنى قوله : ( لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) يعني : كلكم . واستشهد من نصر هذا القول . بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المهلب :
أشم كثير يدي النوال قليل المثالب والقادحة
يعني : لا مثالب له ، ولا قادحة فيه .
وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٣٨
قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا
قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن في إذا معنى الشرط ولا يجازى بها وإن زيدت عليها " ما " وهي قليلة الاستعمال . قال سيبويه . والجيد ما قال كعب بن زهير :
وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا
يعني أن الجيد لا يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت ، وقد تقدم في أول " البقرة " .
والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم أو الخوف وهو ضد هذا أذاعوا به أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته . فقيل : كان هذا من ضعفة المسلمين ؛ عنالحسن ؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك . وقال الضحاك وابن زيد : وهو في المنافقين فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف .
قوله تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه . أو أولوا الأمر وهم أهل العلم والفقه ؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما . السدي وابن زيد : الولاة . وقيل : أمراء السرايا . لعلمه الذين يستنبطونه منهم أي يستخرجونه ، أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه وما ينبغي أن يكتم . والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمي النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما في الأرض . والاستنباط في اللغة الاستخراج ، وهو يدل على الاجتهاد إذا عدم النص والإجماع كما تقدم .
قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته رفع بالابتداء عند سيبويه ، ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده . والكوفيون يقولون : رفع بلولا . لاتبعتم الشيطان إلا قليلا في هذه الآية ثلاثة أقوال ؛ قال ابن عباس وغيره : المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش . وقاله جماعة من النحويين : الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري . وقيل : المعنى لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم ؛ عن الحسن وغيره ، واختاره الزجاج قال : لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه ؛ لأنه استعلام خبر . واختار الأول الفراء قال : لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة تكون في بعض دون بعض . قال الكلبي عنه : فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة . قال النحاس : فهذان قولان على المجاز ، يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا . وقول ثالث بغير مجاز : يكون المعنى ولولا فضل الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد . وفيه قول رابع - قال الضحاك : المعنى لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا ، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وعلى هذا القول يكون قوله إلا قليلا مستثنى من قوله لاتبعتم الشيطان . قال المهدوي : وأنكر هذا القول أكثر العلماء ، إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان .
وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا ٣٨
هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟ ثم قال تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، { لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم.
فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا ٤٨
نسخ
مشاركة
التفسير
فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا ٤٨
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يباشر القتال بنفسه ، ومن نكل عليه فلا عليه منه ; ولهذا قال : ( لا تكلف إلا نفسك )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح ، حدثنا حكام ، حدثنا الجراح الكندي ، عن أبي إسحاق قال : سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من ، فيقاتل ، أيكون ممن يقول الله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [ البقرة : 195 ] قال : قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين )
ورواه الإمام أحمد ، عن سليمان بن داود ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال : لا ; لأن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) إنما ذلك في النفقة .
وكذا رواه ابن مردويه ، من طريق أبي بكر بن عياش ، وعلي بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن البراء به .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن النضر العسكري ، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي ، حدثنا محمد بن حمير ، حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين [ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ] ) الآية ، قال لأصحابه : " قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا " حديث غريب .
وقوله : ( وحرض المؤمنين ) أي : على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وهو يسوي الصفوف : " قوموا إلى جنة عرضها " .
وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك ، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا : يا رسول الله ، أفلا نبشر الناس بذلك ؟ فقال : " إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة . وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " .
وروي من حديث معاذ وأبي الدرداء وعبادة نحو ذلك .
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا سعيد ، من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وجبت له الجنة " قال : فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول الله . ففعل . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " رواه مسلم .
وقوله : ( عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ) أي : بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم .
وقوله : ( والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) أي : هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة ، كما قال [ تعالى ] ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ] ) [ محمد : 4 ] .
فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا ٤٨
قوله تعالى : فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا
قوله تعالى : فقاتل في سبيل الله هذه الفاء متعلقة بقوله ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما فقاتل في سبيل الله أي من أجل هذا فقاتل . وقيل : هي متعلقة بقوله : وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله . فقاتل . كأن هذا المعنى : لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك ؛ لأنه وعده بالنصر . قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ؛ لأنه قد ضمن له النصرة . قال ابن عطية : " هذا ظاهر اللفظ ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما ؛ فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ؛ أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له ؛ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك . ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ؛ ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي . وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي . وقيل : إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى ؛ فإن أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى ؛ فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر أبو سفيان ولم يتفق قتال . وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في " آل عمران " . ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله وإن لم يساعده أحد على ذلك .
قوله تعالى : لا تكلف إلا نفسك ( تكلف ) مرفوع لأنه مستقبل ، ولم يجزم لأنه ليس علة للأول . وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه . " إلا نفسك " خبر ما لم يسم فاعله ؛ والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به .
قوله تعالى : وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وحرض المؤمنين أي حضهم على الجهاد والقتال . يقال : حرضت فلانا على كذا إذا أمرته به . وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد .
الثانية : قوله تعالى : عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا إطماع ، والإطماع من الله عز وجل واجب . على أن الطمع قد جاء في كلام العرب على الوجوب ؛ ومنه قوله تعالى : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . وقال ابن مقبل :
ظني بهم كعسى وهم بتنوفة يتنازعون جوائز الأمثال
قوله تعالى : والله أشد بأسا أي صولة وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده . وأشد تنكيلا أي عقوبة ؛ عن الحسن وغيره . قال ابن دريد : رماه الله بنكلة ، أي رماه بما ينكله . قال : ونكلت بالرجل تنكيلا من النكال . والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان . قال :
وارم على أقفائهم بمنكل بصخرة أو عرض جيش جحفل
الثالثة : إن قال قائل : نحن نرى الكفار في بأس وشدة ، وقلتم : إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ؛ فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى ، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال وكفى الله المؤمنين القتال وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة ، ففطن بهم المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرى ، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح ، وهو المراد بقوله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم على ما يأتي . وقد ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال ؛ كما قال تعالى وكفى الله المؤمنين القتال . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم ، فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين ، مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين ، فكف الله بأسهم عن المؤمنين . والحمد لله رب العالمين .
فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا ٤٨
هذه الحالة أفضل أحوال العبد، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله من الجهاد وغيره، ويحرض غيره عليه، وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } أي: ليس لك قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك. { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } على القتال، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم، من تقويتهم والإخبار بضعف الأعداء وفشلهم، وبما أُعد للمقاتلين من الثواب، وما على المتخلفين من العقاب، فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال. { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: بقتالكم في سبيل الله، وتحريض بعضكم بعضًا. { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا } أي: قوة وعزة { وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } بالمذنب في نفسه، وتنكيلا لغيره، فلو شاء تعالى لانتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية. ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد، ويحصل الإيمان النافع، إيمان الاختيار، لا إيمان الاضطرار والقهر الذي لا يفيد شيئا.
مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا ٥٨
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا ٥٨
وقوله : ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ) أي : من سعى في أمر ، فترتب عليه خير ، كان له نصيب من ذلك ( ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ) أي : يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء " .
وقال مجاهد بن جبر : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض .
وقال الحسن البصري : قال الله تعالى : ( من يشفع ) ولم : من يشفع .
وقوله : ( وكان الله على كل شيء مقيتا ) قال ابن عباس ، وعطاء ، وعطية ، وقتادة ، ومطر الوراق : ( مقيتا ) أي : حفيظا . وقال مجاهد : شهيدا . وفي رواية عنه : حسيبا . وقال سعيد بن جبير ، والسدي ، وابن زيد : قديرا . وقال عبد الله بن كثير : المقيت : الواصب وقال الضحاك : المقيت : الرزاق .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن عبد الله بن رواحة ، وسأله رجل عن قول الله : ( وكان الله على كل شيء مقيتا ) قال : يقيت كل إنسان على قدر عمله .
مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا ٥٨
قوله تعالى : من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : من يشفع أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد ؛ ومنه الشفيع ؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا . ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة . وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها . والشفع ضم واحد إلى واحد . والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك ؛ فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له .
الثانية : واختلف المتأولون في هذه الآية ؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ؛ فمن يشفع لينفع فله نصيب ، ومن يشفع ليضر فله كفل . وقيل : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة ، والسيئة في المعاصي . فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر ، ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم ، وهذا قريب من الأول . وقيل : يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين ، والسيئة الدعاء عليهم . وفي صحيح الخبر : ( من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل ) . هذا هو النصيب ، وكذلك في الشر ؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه . وكانت اليهود تدعو على المسلمين . وقيل : المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر ، ومن يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر . وعن الحسن أيضا : الحسنة ما يجوز في الدين ، والسيئة ما لا يجوز فيه . وكأن هذا القول جامع . والكفل الوزر والإثم ؛ عن الحسن وقتادة . السدي وابن زيد هو النصيب . واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط . يقال : اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه . ويقال له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر . ويستعمل في النصيب من الخير والشر ، وفي كتاب الله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع ؛ لأنه تعالى قال من يشفع ولم يقل يشفع . وفي صحيح مسلم اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب .
الثالثة : قوله تعالى : وكان الله على كل شيء مقيتا ( مقيتا ) معناه مقتدرا ؛ ومنه قول الزبير بن عبد المطلب :
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا
أي قديرا . فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته ؛ ومنه قوله عليه السلام : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت . على من رواه هكذا ، أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ؛ ذكره ابن عطية . يقول منه : قته أقوته قوتا ، وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت . وحكى الكسائي : أقات يقيت . وأما قول الشاعر :
. . . إني على الحساب مقيت فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم ، وإنه بمعنى الموقوف . وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ . وقال الكسائي : المقيت المقتدر . وقال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت ، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان . وقال الفراء : المقيت الذي يعطي كل رجل قوته . وجاء في الحديث : كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت و " يقيت " ذكره الثعلبي : وحكى ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر ، والمقيت الحافظ والشاهد ، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة . والله أعلم .
مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا ٥٨
المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلًّا ما يستحقه.
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا ٦٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا ٦٨
وقوله : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) أي : إذا سلم عليكم المسلم ، فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم [ به ] فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة .
قال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي ، حدثنا هشام بن لاحق ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله . فقال : " وعليك السلام ورحمة الله " . ثم أتى آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته " . ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له : " وعليك " فقال له الرجل : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي . فقال : " إنك لم تدع لنا شيئا ، قال الله تعالى : ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) فرددناها عليك " .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال : ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي ، حدثنا عبد الله بن السري - أبو محمد الأنطاكي - قال أبو الحسن : وكان رجلا صالحا - حدثنا هشام بن لاحق ، فذكر بإسناده مثله .
ورواه أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان ، فذكره بمثله ، ولم أره في المسند والله أعلم .
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، إذ لو شرع أكثر من ذلك ، لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير - أخو سليمان بن كثير - حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن عمران بن حصين ; أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم فرد عليه ثم جلس ، فقال : " عشر " . ثم جاء آخر فقال : " السلام عليكم ورحمة الله . فرد عليه ، ثم جلس ، فقال : " عشرون " . ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فرد عليه ، ثم جلس ، فقال : " ثلاثون " .
وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير ، وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه ، ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه ، وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف [ رضي الله عنهم ] .
وقال البزار : قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ، هذا أحسنها إسنادا وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح ، عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : من يسلم عليك من خلق الله ، فاردد عليه وإن كان مجوسيا ; ذلك بأن الله يقول : ( فحيوا بأحسن منها أو ردوها )
وقال قتادة : ( فحيوا بأحسن منها ) يعني : للمسلمين ( أو ردوها ) يعني : لأهل الذمة .
وهذا التنزيل فيه نظر ، بل كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به ، فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام ; رد عليه مثل ما قال ، فأما أهل الذمة فلا يبدءون بالسلام ولا يزادون ، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم : السام عليك فقل : وعليك " .
وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " .
وقال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الحسن البصري قال : السلام تطوع ، والرد فريضة .
وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلم عليه ، فيأثم إن لم يفعل ; لأنه خالف أمر الله في قوله : ( فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) وقد جاء في الحديث الذي رواه
أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم".
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا ٦٨
قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا
فيه اثنتا عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية التحية تفعلة من حييت ؛ الأصل تحيية مثل ترضية وتسمية ، فأدغموا الياء في الياء . والتحية السلام . وأصل التحية الدعاء بالحياة . والتحيات لله ، أي السلام من الآفات . وقيل : الملك . قال عبد الله بن صالح العجلي : سألت الكسائي عن قوله " التحيات لله " ما معناه ؟ فقال : التحيات مثل البركات ؛ فقلت : ما معنى البركات ؟ فقال : ما سمعت فيها شيئا . وسألت عنها محمد بن الحسن فقال : هو شيء تعبد الله به عباده . فقدمت الكوفة فلقيت عبد الله بن إدريس فقلت : إني سألت الكسائي ومحمدا عن قول " التحيات لله " فأجاباني بكذا وكذا ؛ فقال عبد الله بن إدريس : إنهما لا علم لهما بالشعر وبهذه الأشياء ؟ ! التحية الملك ؛ وأنشد الشاعر عمرو بن معدي كرب :
أؤم بها أبا قابوس حتى أنيخ على تحيته بجندي
وأنشد ابن خويز منداد :
أسير به إلى النعمان حتى أنيخ على تحيته بجندي
يريد على ملكه . وقال آخر :
ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحيه
وقال القتبي : إنما قال " التحيات لله " على الجمع ؛ لأنه كان في الأرض ملوك يحيون بتحيات مختلفات ؛ فيقال لبعضهم : أبيت اللعن ، ولبعضهم : اسلم وانعم ، ولبعضهم : عش ألف سنة . فقيل لنا : قولوا التحيات لله ؛ أي الألفاظ التي تدل على الملك ، ويكنى بها عنه لله تعالى . ووجه النظم بما قبل أنه قال : إذا خرجتم للجهاد كما سبق به الأمر فحييتم في سفركم بتحية الإسلام ، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ، بل ردوا جواب السلام ؛ فإن أحكام الإسلام تجري عليهم .
الثانية : واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها ؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس والرد على المشمت . وهذا ضعيف ؛ إذ ليس في الكلام دلالة على ذلك ، أما الرد على المشمت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية ، وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه . والله أعلم . وقال ابن خويز منداد : وقد يجوز أن تحمل هذه الآية على الهبة إذا كانت للثواب ؛ فمن وهب له هبة على الثواب فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء قبلها وأثاب عليها قيمتها .
قلت : ونحو هذا قال أصحاب أبي حنيفة ، قالوا : التحية هنا الهدية ؛ لقوله تعالى : أو ردوها ولا يمكن رد السلام بعينه . وظاهر الكلام يقتضي أداء التحية بعينها وهي الهدية ، فأمر بالتعويض إن قبل أو الرد بعينه ، وهذا لا يمكن في السلام . وسيأتي بيان حكم الهبة للثواب والهدية في سورة " الروم " عند قوله : وما آتيتم من ربا إن شاء الله تعالى . والصحيح أن التحية هاهنا السلام ؛ لقوله تعالى : وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله . وقال النابغة الذبياني :
تحييهم بيض الولائد بينهم وأكسية الإضريج فوق المشاجب
أراد : ويسلم عليهم . وعلى هذا جماعة المفسرين . وإذا ثبت هذا وتقرر ففقه الآية أن يقال : أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، ورده فريضة ؛ لقوله تعالى : فحيوا بأحسن منها أو ردوها . واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزئ أو لا ؛ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء ، وأن المسلم قد رد عليه مثل قوله . وذهب الكوفيون إلى أن رد السلام من الفروض المتعينة ؛ قالوا : والسلام خلاف الرد ؛ لأن الابتداء به تطوع ورده فريضة . ولو رد غير المسلم عليهم لم يسقط ذلك عنهم فرض الرد ، فدل على أن رد السلام يلزم كل إنسان بعينه ؛ حتى قال قتادة والحسن : إن المصلي يرد السلام كلاما إذا سلم عليه ولا يقطع ذلك عليه صلاته ؛ لأنه فعل ما أمر به . والناس على خلافه . احتج الأولون بما رواه أبو داود عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يجزئ من الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم . وهذا نص في موضع الخلاف . قال أبو عمر : وهو حديث حسن لا معارض له ، وفي إسناده سعيد بن خالد ، وهو سعيد بن خالد الخزاعي مدني ليس به بأس عند بعضهم ؛ وقد ضعفه بعضهم منهم أبو زرعة وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة وجعلوا حديثه هذا منكرا ؛ لأنه انفرد فيه بهذا الإسناد ؛ على أن عبد الله بن الفضل لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع ؛ بينهما الأعرج في غير ما حديث . والله أعلم . واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام : يسلم القليل على الكثير . ولما أجمعوا على أن الواحد يسلم على الجماعة ولا يحتاج إلى تكريره على عداد الجماعة ، كذلك يرد الواحد عن الجماعة وينوب عن الباقين كفروض الكفاية . وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم . قال علماؤنا : وهذا يدل على أن الواحد يكفي في الرد ؛ لأنه لا يقال أجزأ عنهم إلا فيما قد وجب . والله أعلم .
قلت : هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد ؛ وفيه قلق .
الثالثة : قوله تعالى : فحيوا بأحسن منها أو ردوها رد الأحسن أن يزيد فيقول : عليك السلام ورحمة الله ؛ لمن قال : سلام عليك . فإن قال : سلام عليك ورحمة الله ؛ زدت في ردك : " وبركاته " . وهذا هو النهاية فلا مزيد . قال الله تعالى مخبرا عن البيت الكريم رحمة الله وبركاته على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . فإن انتهى بالسلام غايته ، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . والرد بالمثل أن تقول لمن قال السلام عليك : عليك السلام ، إلا أنه ينبغي أن يكون السلام كله بلفظ الجماعة ، وإن كان المسلم عليه واحدا . روى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال : إذا سلمت على الواحد فقل : السلام عليكم ، فإن معه الملائكة . وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع ؛ قال ابن أبي زيد : يقول المسلم : السلام عليكم ، ويقول الراد : وعليكم السلام ، أو يقول : السلام عليكم كما قيل له ؛ وهو معنى قوله أو ردوها ولا تقل في ردك : سلام عليك .
الرابعة : والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق ؛ قال الله تعالى : سلام على إل ياسين . وقال في قصة إبراهيم عليه السلام : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت . وقال مخبرا عن إبراهيم : سلام عليك . وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك - قال - فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله - قال - فزادوه ورحمة الله - قال - فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن .
قلت : فقد جمع هذا الحديث مع صحته فوائد سبعا : الأولى : الإخبار عن صفة خلق آدم . الثانية : أنا ندخل الجنة عليها بفضله . الثالثة : تسليم القليل على الكثير . الرابعة : تقديم اسم الله تعالى . الخامسة : الرد بالمثل لقولهم : السلام عليكم . السادسة : الزيادة في الرد . السابعة : إجابة الجميع بالرد كما يقول الكوفيون . والله أعلم .
الخامسة : فإن رد فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرما ولا مكروها ؛ لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي لم يحسن الصلاة وقد سلم عليه : وعليك السلام ارجع فصل فإنك لم تصل . وقالت عائشة : وعليه السلام ورحمة الله ؛ حين أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يقرأ عليها السلام . أخرجه البخاري . وفي حديث عائشة من الفقه أن الرجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه فعليه أن يرد . كما يرد عليه إذا شافهه . وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي يقرئك السلام ؛ فقال : عليك وعلى أبيك السلام . وقد روى النسائي وأبو داود من حديث جابر بن سليم قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : عليك السلام يا رسول الله ؛ فقال : لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الميت ولكن قل السلام عليك . وهذا الحديث لا يثبت ؛ إلا أنه لما جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر كقولهم : عليه لعنة الله وغضب الله . قال الله تعالى : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين . وكان ذلك أيضا دأب الشعراء وعادتهم في تحية الموتى ؛ كقولهم :
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما
وقال آخر وهو الشماخ :
عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق
نهاه عن ذلك ، لا أن ذاك هو اللفظ المشروع في حق الموتى ؛ لأنه عليه السلام ثبت عنه أنه سلم على الموتى كما سلم على الأحياء فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . فقالت عائشة : قلت يا رسول الله ، كيف أقول إذا دخلت المقابر ؟ قال : قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين الحديث ؛ وسيأتي في سورة " ألهاكم " إن شاء الله تعالى .
قلت : وقد يحتمل أن يكون حديث عائشة وغيره في السلام على أهل القبور جميعهم إذا دخلها وأشرف عليها ، وحديث جابر بن سليم خاص بالسلام على المرور المقصود بالزيارة . والله أعلم .
السادسة : من السنة تسليم الراكب على الماشي ، والقائم على القاعد ، والقليل على الكثير ؛ هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يسلم الراكب فذكره فبدأ بالراكب لعلو مرتبته ؛ ولأن ذلك أبعد له من الزهو ، وكذلك قيل في الماشي مثله . وقيل : لما كان القاعد على حال وقار وثبوت وسكون فله مزية بذلك على الماشي ؛ لأن حاله على العكس من ذلك . وأما تسليم القليل على الكثير فمراعاة لشرفية جمع المسلمين وأكثريتهم . وقد زاد البخاري في هذا الحديث ( ويسلم الصغير على الكبير ) . وأما تسليم الكبير على الصغير فروى أشعث عن الحسن أنه كان لا يرى التسليم على الصبيان ؛ قال : لأن الرد فرض والصبي لا يلزمه الرد فلا ينبغي أن يسلم عليهم . وروي عن ابن سيرين أنه كان يسلم على الصبيان ولكن لا يسمعهم . وقال أكثر العلماء : التسليم عليهم أفضل من تركه . وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال : كنت أمشي مع ثابت فمر بصبيان فسلم عليهم ، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم ، وحدث أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بصبيان فسلم عليهم . لفظ مسلم . وهذا من خلقه العظيم صلى الله عليه وسلم ، وفيه تدريب للصغير وحض على تعليم السنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه ؛ فلتقتد .
السابعة : وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين . وأما المتجالات والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه ؛ هذا قول عطاء وقتادة ، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء . ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا : لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن . والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال : كنا نفرح بيوم الجمعة . قلت ولم ؟ قال : كانت لنا عجوز ترسل إلي بضاعة - قال ابن مسلمة : نخل بالمدينة - فتأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير ، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله : وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة . تكركر أي تطحن ؛ قاله القتبي .
الثامنة : والسنة في السلام والجواب الجهر ؛ ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي ، وعندنا تكفي إذا كان على بعد ؛ روى ابن وهب عن ابن مسعود قال : السلام اسم من أسماء الله عز وجل وضعه الله في الأرض فأفشوه بينكم ؛ فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم ، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب . وروى الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال : إذا سلم الرجل على القوم كان له فضل درجة ، فإن لم يردوا عليه ردت عليه الملائكة ولعنتهم . فإذا رد المسلم عليه أسمع جوابه ؛ لأنه إذا لم يسمع المسلم لم يكن جوابا له ؛ ألا ترى أن المسلم إذا سلم بسلام لم يسمعه المسلم عليه لم يكن ذلك منه سلاما ، فكذلك إذا أجاب بجواب لم يسمع منه فليس بجواب . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سلمتم فأسمعوا وإذا رددتم فأسمعوا وإذا قعدتم فاقعدوا بالأمانة ولا يرفعن بعضكم حديث بعض . قال ابن وهب : وأخبرني أسامة بن زيد عن نافع قال : كنت أساير رجلا من فقهاء الشام يقال له عبد الله بن زكريا فحبستني دابتي تبول ، ثم أدركته ولم أسلم عليه ؛ فقال : ألا تسلم ؟ فقلت : إنما كنت معك آنفا ؛ فقال : وإن صح ؛ لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسايرون فيفرق بينهم الشجر فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض .
التاسعة : وأما الكافر فحكم الرد عليه أن يقال له : وعليكم . قال ابن عباس وغيره : المراد بالآية : وإذا حييتم بتحية فإذا كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم : ( وعليكم ) . وقال عطاء : الآية في المؤمنين خاصة ، ومن سلم من غيرهم قيل له : عليك ؛ كما جاء في الحديث .
قلت : فقد جاء إثبات الواو وإسقاطها في صحيح مسلم ( عليك ) بغير واو وهي الرواية الواضحة المعنى ، وأما مع إثبات الواو ففيها إشكال ؛ لأن الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا ؛ فاختلف المتأولون لذلك على أقوال : أولاها أن يقال : إن الواو على بابها من العطف ، غير أنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا ، كما قال صلى الله عليه وسلم . وقيل : هي زائدة . وقيل : للاستئناف . والأولى أولى . ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر ، وعليها من العلماء الأكثر .
العاشرة : واختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين ؛ وإليه ذهب ابن عباس والشعبي وقتادة تمسكا بعموم الآية وبالأمر بالرد عليهم في صحيح السنة . وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب ؛ فإن رددت فقل : عليك . واختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم : علاك السلام . أي ارتفع عنك . واختار بعض علمائنا السلام ( بكسر السين ) يعني به الحجارة . وقول مالك وغيره في ذلك كاف شاف كما جاء في الحديث ، وسيأتي في سورة " مريم " القول في ابتدائهم بالسلام عند قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم في قوله لأبيه سلام عليك . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم . وهذا يقتضي إفشاءه بين المسلمين دون المشركين . والله أعلم .
الحادية عشرة : ولا يسلم على المصلي فإن سلم عليه فهو بالخيار إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد . ولا ينبغي أن يسلم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه . دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحال فقال له : إذا وجدتني أو رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي فإنك إن سلمت علي لم أرد عليك . ولا يسلم على من يقرأ القرآن فيقطع عليه قراءته ، وهو بالخيار إن شاء رد وإن شاء أمسك حتى يفرغ ثم يرد ، ولا يسلم على من دخل الحمام وهو كاشف العورة ، أو كان مشغولا بما له دخل بالحمام ، ومن كان بخلاف ذلك سلم عليه .
الثانية عشرة : قوله تعالى : إن الله كان على كل شيء حسيبا معناه حفيظا . وقيل : كافيا ؛ من قولهم : أحسبني كذا أي كفاني ، ومثله حسبك الله . وقال قتادة : محاسبا كما يقال : أكيل بمعنى مواكل . وقيل : هو فعيل من الحساب ، وحسنت هذه الصفة هنا ؛ لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به . روى النسائي عن عمران بن حصين قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم ، فقال : السلام عليكم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : عشر ، ثم جلس ، ثم جاء آخر فسلم فقال : السلام عليكم ورحمة الله ؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : عشرون ، ثم جلس وجاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ثلاثون . وقد جاء هذا الخبر مفسرا وهو أن من قال لأخيه المسلم : سلام عليكم كتب له عشر حسنات ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله كتب له عشرون حسنة . فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة ، وكذلك لمن رد من الأجر . والله أعلم .
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا ٦٨
التحية هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها. وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداء وردًّا. فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة، أو مثلها في ذلك. ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها. ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين أحدهما: أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا. الثاني: ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن، كما هو الأصل في ذلك. ويستثنى من عموم الآية الكريمة من حيَّا بحال غير مأمور بها، كـ "على مشتغل بقراءة، أو استماع خطبة، أو مصلٍ ونحو ذلك" فإنه لا يطلب إجابة تحيته، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر، فإنه يهجر ولا يُحيّا، ولا تُرد تحيته، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى. ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } فيحفظ على العباد أعمالهم، حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود.
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا ٧٨
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا ٧٨
وقوله : ( الله لا إله إلا هو ) إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات ، وتضمن قسما ، لقوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) وهذه اللام موطئة للقسم ، فقوله : ( الله لا إله إلا هو ) خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله .
وقوله تعالى : ( ومن أصدق من الله حديثا ) أي : لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ، ووعده ووعيده ، فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا ٧٨
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ
ابتداء وخبر .
واللام في قول " ليجمعنكم " لام القسم ; نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه .
وكل لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم .
ومعناه في الموت وتحت الأرض
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
وقال بعضهم : " إلى " صلة في الكلام , معناه ليجمعنكم يوم القيامة .
وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل وعز ; قال الله تعالى : " ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم .
يوم يقوم الناس لرب العالمين " [ المطففين : 4 - 6 ] .
وقيل : سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم إليها ; قال الله تعالى : " يوم يخرجون من الأجداث سراعا " [ المعارج : 43 ] وأصل القيامة الواو .
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا
نصب على البيان , والمعنى لا أحد أصدق من الله .
وقرأ حمزة والكسائي " ومن أزدق " بالزاي .
الباقون : بالصاد , وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي .
ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۗ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا ٧٨
يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو، لكماله في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير، والنعم الظاهرة والباطنة. وذلك يستلزم الأمر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية. لكونه المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها، ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة، فقال: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي: أولكم وآخِركم في مقام واحد. في { يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } أي: لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، بالدليل العقلي والدليل السمعي، فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها، ومن وجود النشأة الأولى التي وقوع الثانية أَوْلى منها بالإمكان، ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبثًا، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك، بل إقسامه عليه ولهذا قال: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى: { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وفي قوله: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد [والعلوم] والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به، فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقًّا.
۞ فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨
نسخ
مشاركة
التفسير
فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين ، واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا بهز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا فأنزل الله : ( فما لكم في المنافقين فئتين ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة ، قد تكلموا بالإسلام ، كانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله ! أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم . فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فأنزل الله : ( فما لكم في المنافقين فئتين )
رواه ابن أبي حاتم ، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا .
وقال زيد بن أسلم ، عن ابن لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك .
وهذا غريب ، وقيل غير ذلك .
وقوله : ( والله أركسهم بما كسبوا ) أي : ردهم وأوقعهم في الخطأ .
قال ابن عباس : ( أركسهم ) أي : أوقعهم . وقال قتادة : أهلكهم . وقال السدي : أضلهم .
وقوله : ( بما كسبوا ) أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل .
( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) أي : لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه .
فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
قوله تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين فئتين أي فرقتين مختلفتين . روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه ، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ؛ فقال بعضهم : نقتلهم . وقال بعضهم : لا ؛ فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين . وأخرجه الترمذي فزاد : وقال : ( إنها طيبة ) وقال : ( إنها تنفي الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد ) قال : حديث حسن صحيح . وقال البخاري : ( إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة ) . والمعني بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا ؛ كما تقدم في " آل عمران " . وقال ابن عباس : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة ، قال الضحاك : وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا ، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا . فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرءون منهم ؛ فقال الله عز وجل : فما لكم في المنافقين فئتين . وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام ؛ فأصابهم وباء المدينة وحماها ؛ فأركسوا فخرجوا من المدينة ، فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما لكم رجعتم ؟ فقالوا : أصابنا وباء المدينة فاجتويناها ؛ فقالوا : ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا ، هم مسلمون ؛ فأنزل الله عز وجل : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا الآية . حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون ؛ فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم .
قلت : وهذان القولان يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى : حتى يهاجروا ، والأول أصح نقلا ، وهو اختيار البخاري ومسلم والترمذي . وفئتين نصب على الحال ؛ كما يقال : ما لك قائما ؟ عن الأخفش . وقال الكوفيون : هو خبر ( ما لكم ) كخبر كان وظننت ، وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء : " أركسهم ، وركسهم " أي ردهم إلى الكفر ونكسهم ؛ وقاله النضر بن شميل والكسائي : والركس والنكس قلب الشيء على رأسه ، أو رد أوله على آخره ، والمركوس المنكوس . وفي قراءة عبد الله وأبي رضي الله عنهما " والله ركسهم " . وقال ابن رواحة :
أركسوا في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن
أي نكسوا . وارتكس فلان في أمر كان نجا منه . والركوسية قوم بين النصارى والصابئين . والراكس الثور وسط البيدر والثيران حواليه حين الدياس . أتريدون أن تهدوا من أضل الله أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين . تجد له سبيلا أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب الحجة . وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم .
فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٨٨
المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم.
وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٩٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٩٨
ثم قال : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) أي : هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها ، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ; ولهذا قال : ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا ) أي : تركوا الهجرة ، قاله العوفي عن ابن عباس . وقال السدي : أظهروا كفرهم ( فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) أي : لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على الأعداء ما داموا كذلك .
وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٩٨
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا
الأولى : ودوا لو تكفرون أي تمنوا أن تكونوا كهم في الكفر والنفاق شرع سواء ؛ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال : فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ؛ كما قال تعالى : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : لا هجرة بعد الفتح . وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات ، وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة . وهجرة المسلم ما حرم الله عليه ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن . وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا ؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه .فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم يقول : إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم . حيث وجدتموهم عام في الأماكن من حل وحرم . والله أعلم . ثم استثنى وهي
وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡۖ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرًا ٩٨
فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة. ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان. وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.
إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٠٩
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٠٩
ثم استثنى الله ، سبحانه من هؤلاء فقال : ( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) أي : إلا الذين لجئوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة ، فاجعلوا حكمهم كحكمهم . وهذا قول السدي ، وابن زيد ، وابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر - يعني صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأحد ، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مدلج - فأتيته فقلت : أنشدك النعمة . فقالوا : صه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه ، ما تريد ؟ " . قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : " اذهب معه فافعل ما يريد " . فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، [ ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم ] فأنزل الله : ( ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء )
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال فأنزل الله : ( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) فكان وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام .
وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [ حيث وجدتموهم ] ) [ التوبة : 5 ] .
وقوله : ( أو جاءوكم حصرت صدورهم [ أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ] ) الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المستثنين عن الأمر بقتالهم ، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي : ضيقة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم . ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ) أي : من لطفه بكم أن كفهم عنكم ( فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم ) أي : المسالمة ( فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) أي : فليس لكم أن تقتلوهم ، ما دامت حالهم كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره .
إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٠٩
فقال إلا الذين يصلون أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف ؛ المعنى : فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم ، وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد : يصلون ينتسبون ؛ ومنه قول الأعشى :
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت . قال المهدوي : وأنكره العلماء ؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم . وقال النحاس : وهذا غلط عظيم ؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب ، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب ، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له " براءة " وإنما نزلت " براءة " بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبري .
قلت : حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان ؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم ، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ؛ فقيل : بنو مدلج . عن الحسن : كان بينهم وبين قريش عقد ، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . وقال عكرمة : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل : خزاعة . وقال الضحاك عن ابن عباس : أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة ، كانوا في الصلح والهدنة .
الثالثة : في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين ، على ما يأتي بيانه في " الأنفال " " وبراءة " إن شاء الله تعالى .
الرابعة : أو جاءوكم حصرت صدورهم أي ضاقت . وقال لبيد :
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها
أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحصر الكتوم للسر ؛ قال جرير :
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا
ومعنى " حصرت " " قد حصرت " فأضمرت " قد " ، قال الفراء : وهو حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ، أي قد ذهب عقله . وقيل : هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال : حصرت صدورهم فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم كما قيل : حصرت في موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أبي " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم " ليس فيه أو جاءوكم . وقيل : تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم ؛ فهي صفة موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن " أو جاءوكم حصرة صدورهم " نص على الحال ، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى " أو جاءوكم حصرات صدورهم " ، ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد : حصرت صدورهم هو دعاء عليهم ؛ كما تقول : لعن الله الكافر ؛ وقاله المبرد . وضعفه بعض المفسرين وقال : هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم ؛ وذلك فاسد ؛ لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح ، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم ، وفي حق قومهم تحقيرا لهم . وقيل : أو بمعنى الواو ؛ كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد ، أو قالوا نسلم ولا نقاتل ؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم . أو يقاتلوا في موضع نصب ؛ أي عن أن يقاتلوكم .
الخامسة : قوله تعالى : ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي ، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى : وليمحص الله الذين آمنوا ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا ، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم ، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .
إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا ٠٩
ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق: فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك، إحداهما من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال. والفرقة الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام: إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم، وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك. فـهؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال الله فيهم:
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ١٩
نسخ
مشاركة
التفسير
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ١٩
وقوله : ( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم [ كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ] ) الآية ، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ; ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم ، وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم [ إنما نحن مستهزئون ] ) [ البقرة : 14 ] وقال هاهنا : ( كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ) أي : انهمكوا فيها .
وقال السدي : الفتنة هاهنا : الشرك . وحكى ابن جرير ، عن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ; ولهذا قال تعالى : ( فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم ) أي : عن القتال ( فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أي : أين لقيتموهم ( وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ) أي : بينا واضحا .
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ١٩
قوله : ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
قوله تعالى : ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم معناها معنى الآية الأولى . قال قتادة : نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم .
مجاهد : هي في قوم من أهل مكة . وقال السدي : نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين . وقال الحسن : هذا في قوم من المنافقين . وقيل : نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة فأسلموا ثم رجعوا إلى ديارهم فأظهروا الكفر .
قوله تعالى : كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها قرأ يحيى بن وثاب والأعمش " ردوا " بكسر الراء ؛ لأن الأصل " رددوا " فأدغم وقلبت الكسرة على الراء . إلى الفتنة أي الكفر أركسوا فيها . وقيل : أي ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنوكم ، وإذا سنحت لهم فتنة كان مع أهلها عليكم . ومعنى أركسوا فيها أي انتكسوا عن عهدهم الذين عاهدوا . وقيل : أي إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه .
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأۡمَنُوكُمۡ وَيَأۡمَنُواْ قَوۡمَهُمۡ كُلَّ مَا رُدُّوٓاْ إِلَى ٱلۡفِتۡنَةِ أُرۡكِسُواْ فِيهَاۚ فَإِن لَّمۡ يَعۡتَزِلُوكُمۡ وَيُلۡقُوٓاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوٓاْ أَيۡدِيَهُمۡ فَخُذُوهُمۡ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكُمۡ جَعَلۡنَا لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ١٩
{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي: من هؤلاء المنافقين. { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي: خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي: لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي الحقيقة مخالفة لها. فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم مستعدون لانتهازها، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم يقاتلون، ولهذا قال: { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي: المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي: حجة بينة واضحة، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٢٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٢٩
يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث ، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه .
وقوله : ( إلا خطأ ) قالوا : هو استثناء منقطع ، كقول الشاعر
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ريط برد مرحل
.
ولهذا شواهد كثيرة .
واختلف في سبب نزول هذه [ الآية ] فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه - وهي أسماء بنت مخربة - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام ، وهو الحارث بن يزيد العامري ، فأضمر له عياش السوء ، فأسلم ذلك الرجل وهاجر ، وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه ، فظن أنه على دينه ، فحمل عليه فقتله . فأنزل الله هذه الآية .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء ; لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام حين رفع السيف ، فأهوى به إليه ، فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما قالها متعوذا . فقال له : " هل شققت عن قلبه " [ وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء ] .
وقوله : ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله [ إلا أن يصدقوا ] ) هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما : الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم ، وإن كان خطأ ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكفارة .
وحكى ابن جرير ، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدا للإيمان . وروي من طريق عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : في : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) لا يجزئ فيها صبي .
واختار ابن جرير إن كان مولودا بين أبوين مسلمين أجزأ ، وإلا فلا . والذي عليه الجمهور : أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة ، سواء كان صغيرا أو كبيرا .
وقال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار ; أنه جاء بأمة سوداء ، فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن لا إله إلا الله ؟ " قالت : نعم . قال : " أني رسول الله ؟ " قالت نعم . قال : " بالبعث بعد الموت ؟ " قالت : نعم ، قال : " أعتقها " .
وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابي لا تضر .
وفي موطأ [ الإمام ] مالك ومسندي الشافعي وأحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود والنسائي ، من طريق هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا " قالت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعتقها فإنها مؤمنة " .
وقوله : ( ودية مسلمة إلى أهله ) هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل ، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم . وهذه الدية إنما تجب أخماسا ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة وعشرين حقة .
لفظ النسائي ، وقال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا .
وكذا روي عن [ علي و ] طائفة .
وقيل : تجب أرباعا . وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله ، قال الشافعي ، رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهو أكثر من حديث الخاصة وهذا الذي أشار إليه ، رحمه الله ، قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها .
وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد ، لشبهه به .
وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا . فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا . فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع يديه وقال : " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " . وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم ، حتى ميلغة الكلب .
وهذا [ الحديث ] يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال .
وقوله : ( إلا أن يصدقوا ) أي : فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب .
وقوله : ( فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ) أي : إذا كان القتيل مؤمنا ، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير .
وقوله : ( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق [ فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ] ) الآية ، أي : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة ، فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمنا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء . وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها ، كما هو مفصل في [ كتاب الأحكام ] ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة .
( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) أي : لا إفطار بينهما ، بل يسرد صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر ، من مرض أو حيض أو نفاس ، استأنف . واختلفوا في السفر : هل يقطع أم لا ؟ على قولين .
وقوله : ( توبة من الله وكان الله عليما حكيما ) أي : هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين .
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام : هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا ، كما في كفارة الظهار ؟ على قولين ; أحدهما : نعم . كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا ; لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص . القول الثاني : لا يعدل إلى الإطعام ; لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة .
( وكان الله عليما حكيما ) قد تقدم تفسيره غير مرة .
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٢٩
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما
فيه عشرون مسألة :
قوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ هذه آية من أمهات الأحكام . والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ؛ فقوله : " وما كان " ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهي ، كقوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط ؛ لأن ما نفاه الله فلا يجوز وجوده ، كقوله تعالى : ما كان لكم أن تنبتوا شجرها . فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا . وقال قتادة : المعنى ما كان له ذلك في عهد الله . وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف ، كما ليس له الآن ذلك بوجه ، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه " إلا " بمعنى " لكن " والتقدير ما كان له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا ؛ هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله . ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن : وقال النابغة :
وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
فلما لم تكن " الأواري " من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه . ومثله قول الآخر أبو خراش الهذلي :
أمسى سقام خلاء لا أنيس به إلا السباع ومر الريح بالغرف
وقال آخر :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وقال آخر :
وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ولا ظل إلا أن تعد من النخل
أنشده سيبويه ؛ ومثله كثير ، ومن أبدعه قول جرير :
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ على الأرض إلا ذيل مرط مرحل
كأنه قال : لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد . ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة كانت بينهما ، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه ، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية . وقيل : هو استثناء متصل ، أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ ؛ فلا يقتص منه ؛ ولكن فيه كذا وكذا . ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد ؛ كأنه قال : وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا ؛ فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع . وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد وبشاعة شأنه ؛ كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما للعمد والقصد مع حظر الكلام به ألبتة .
وقيل : المعنى ولا خطأ . قال النحاس : ولا يجوز أن تكون إلا بمعنى الواو ، ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى ؛ لأن الخطأ لا يحظر . ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم محترم الدم ، وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته . وقرأ الأعمش " خطاء " ممدودا في المواضع الثلاثة . ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم القصد ؛ مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما . أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ . أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه ؛ وهذا مما لا خلاف فيه . والخطأ اسم من أخطأ خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد ؛ فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء . ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره : أخطأ ، ولمن فعل غير الصواب : أخطأ . قال ابن المنذر : قال الله تبارك وتعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إلى قوله تعالى : ودية مسلمة إلى أهله فحكم الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية ، وثبتت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به .
الثانية : ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس ، وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء ؛ تمسكا بقوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى قوله تعالى : والجروح قصاص ، وقوله عليه السلام : المسلمون تتكافأ دماؤهم فلم يفرق بين حر وعبد ؛ وهو قول ابن أبي ليلى . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد ، كما يقتل العبد بالحر ، ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح والأعضاء . وأجمع العلماء على أن قوله تعالى : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ أنه لم يدخل فيه العبيد ، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد ؛ فكذلك قوله عليه السلام : المسلمون تتكافأ دماؤهم أريد به الأحرار خاصة . والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك ؛ وقد مضى هذا في " البقرة " .
الثالثة : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة أي فعليه تحرير رقبة ؛ هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي . واختلف العلماء فيما يجزئ منها ، فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم : الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان ، لا تجزئ في ذلك الصغيرة ، وهو الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح : يجزئ الصغير المولود بين مسلمين . وقال جماعة منهم مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه . وقال مالك : من صلى وصام أحب إلي . ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما ، ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور . قال مالك : إلا أن يكون عرجا شديدا . ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ، ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه . ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق ، ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ عند مالك المعتق إلى سنين ، ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور ، واختاره ابن المنذر . وقال مالك : لا يصح من أعتق بعضه ؛ لقوله تعالى : فتحرير رقبة . ومن أعتق البعض لا يقال حرر رقبة وإنما حرر بعضها . واختلفوا أيضا في معناها فقيل : أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب القاتل ، وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم . وقيل : أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل ، فإنه كان له في نفسه حق وهو التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء . وكان لله سبحانه فيه حق ، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب ، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه ، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا ، والمعنى الذي وصفنا ، فلذلك ضمن الكفارة . وأي واحد من هذين المعنيين كان ، ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله ، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه ، على ما يأتي بيانه ، والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : ودية مسلمة الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه . مسلمة مدفوعة مؤداة ، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية ، وإنما في الآية إيجاب الدية مطلقا ، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل ، وإنما أخذ ذلك من السنة ، ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات ، والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا ، ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه مواساة محضة .
واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه . وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل ، ووداها صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ، فكان ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه . وأجمع أهل العلم على أن على أهل الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل ؛ فقالت طائفة : على أهل الذهب ألف دينار ، وهم أهل الشام ومصر والمغرب ؛ هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه ، في القديم . وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة . وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم ، وهم أهل العراق وفارس وخراسان ؛ هذا مذهب مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقال المزني : قال الشافعي الدية الإبل ؛ فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر ألف دينار على أهل الذهب واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : الدية من الورق عشرة آلاف درهم . رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألف شاة ، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة . قال أبو عمر : في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة ؛ وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس . وخالف أبو حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل . وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من التابعين ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين . قال ابن المنذر : وقالت طائفة : دية الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا قول الشافعي وبه قال طاوس . قال ابن المنذر : دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل زمان ، كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلفت الروايات عن عمر رضي الله عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل ، وقد عرفتك مذهب الشافعي وبه نقول .
الخامسة : واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل ؛ فروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشر بني لبون . قال الخطابي : هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء ، وإنما قال أكثر العلماء : دية الخطأ أخماس . كذا قال أصحاب الرأي والثوري ، وكذلك مالك وابن سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الأصناف ؛ قال أصحاب الرأي وأحمد : خمس بنو مخاض ، وخمس بنات مخاض ، وخمس بنات لبون ، وخمس حقاق ، وخمس جذاع . وروي هذا القول عن ابن مسعود . وقال مالك والشافعي : خمس حقاق ، وخمس جذاع ، وخمس بنات لبون ، وخمس بنات مخاض ، وخمس بنو لبون . وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد . قال الخطابي : ولأصحاب الرأي فيه أثر ، إلا أن راويه عبد الله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث . وعدل الشافعي عن القول به . لما ذكرنا من العلة في راويه ، ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في شيء من أسنان الصدقات . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض . قال أبو عمر : وقد روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا ، إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي الطائي وهو مجهول ؛ لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين .
قلت : قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن مالك من رواية حجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ مائة من الإبل ؛ منها عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض . قال الدارقطني : " هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة ؛ أحدها أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه ، الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه ، وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من خشف بن مالك ونظرائه ، وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه ؛ هذا لا يتوهم مثله على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله ورسوله ، وإن يكن خطأ فمني ؛ ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها ، فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا لم يروه فرح مثله ، لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن كانت هذه صفته وهذا حاله فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويخالفه .
ووجه آخر : وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلا خشف بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف ، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا ، أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة ، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا ؛ فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه حينئذ اسم الجهالة ، وصار حينئذ معروفا . فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد وانفرد بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره . والله أعلم .
ووجه آخر : وهو أن حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة ، والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه ؛ وترك الرواية عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه ، وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا . وقال يحيى بن معين : حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه . وقال عبد الله بن إدريس : سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في الجماعة . وقال عيسى بن يونس : سمعت الحجاج يقول : أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون والبقالون . وقال جرير : سمعت الحجاج يقول : أهلكني حب المال والشرف . وذكر أوجها أخر ؛ منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه . إلى غير ذلك مما يطول ذكره ؛ وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب إليه الكوفيون في الدية ، وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي . وروى حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال : دية الخطأ خمسة أخماس : عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون بني لبون ذكور . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ورواته ثقات ، وقد روي عن علقمة عن عبد الله نحو هذا .
قلت : وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون مخمسة . قال الخطابي : وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع ؛ وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري ، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه ؛ إلا أنهم قالوا : خمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض . وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب . قال أبو عمر : أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن يسار وليس فيه عن صحابي شيء ؛ ولكن عليه عمل أهل المدينة . وكذلك حكى ابن جريج عن ابن شهاب .
قلت : قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي . قال أبو عمر : وأسنان الإبل في الديات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا ، وإنما أخذت اتباعا وتسليما ، وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر ؛ فكل يقول بما قد صح عنده من سلفه ؛ رضي الله عنهم أجمعين .
قلت : وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد ، إلا أن مجاهدا جعل مكان بنت مخاض ثلاثين جذعة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . يريد قول عبد الله وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي ، وابن عبد البر قال : لأنه الأقل مما قيل ؛ وبحديث مرفوع رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول .
قلت : وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته ! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان ، وإنما الكمال لعزة ذي الجلال .
السادسة : ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة ، وأجمع أهل العلم على القول به . وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث دخل عليه ومعه ابنه : إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه العمد دون الخطأ . وأجمعوا على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة . واختلفوا في الثلث ؛ والذي عليه جمهور العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا ، ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني . وقالت طائفة : عقل الخطأ على عاقلة الجاني ، قلت الجناية أو كثرت ؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل . كما عقل العمد في مال الجاني قل أو كثر ؛ هذا قول الشافعي .
السابعة : وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة ، والعاقلة العصبة . وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة . ولا الإخوة من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم ، فلا يعقلون عنهم شيئا . وكذلك الديوان لا يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز . وقال الكوفيون : يكون عاقلة إن كان من أهل الديوان ؛ فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر وعلي ؛ لأن الإبل قد تكون حوامل فتضر به . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض ؛ منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا . ومنها أنه كان يعجلها تأليفا . فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام ؛ قاله ابن العربي . وقال أبو عمر : أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها . وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال . وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، وكانوا يتعاقلون بالنصرة ؛ ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل الديوان . واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به . وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان ، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس ، وجعل أهل كل ناحية يدا ، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو .
الثامنة : قلت : ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه ؛ وهو أن يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت ؛ فقال كافة العلماء : فيه الدية كاملة في الخطأ وفي العمد بعد القسامة . وقيل : بغير قسامة . واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي ، فيه الدية كاملة ؛ فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة : الحركة تدل على حياته . وقال مالك : لا ، إلا أن يقارنها طول إقامة . والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء . فإن ألقته ميتا ففيه غرة : عبد أو وليدة . فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه . وهذا كله إجماع لا خلاف فيه . وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها : ففيه الغرة ، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها ؛ المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير . وقال سائر الفقهاء : لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها . قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن قال : قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه ؛ فكذلك إذا سقط بعد موتها .
التاسعة : ولا تكون الغرة إلا بيضاء . قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الجنين غرة عبد أو أمة - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى لقال : في الجنين عبد أو أمة ، ولكنه عنى البياض ؛ فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو جارية بيضاء ، لا يقبل فيها أسود ولا سوداء . واختلف العلماء في قيمتها ؛ فقال مالك : تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم ؛ نصف عشر دية الحر المسلم ، وعشر دية أمه الحرة ؛ وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة . وقال أصحاب الرأي : قيمتها خمسمائة درهم . وقال الشافعي : سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين ؛ وليس عليه أن يقبلها معيبة . ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم ، من الذهب عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب ، ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - ستمائة درهم ، أو خمس فرائض من الإبل . قال مالك وأصحابه : هي في مال الجاني ؛ وهو قول الحسن بن حي . وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما ، هي على العاقلة . وهو أصح ؛ لحديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية فتغايرتا - فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها ، فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا : ندي من لا صاح ولا أكل ، ولا شرب ولا استهل فمثل ذلك يطل ؟ ! فقال : أسجع كسجع الأعراب ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة . وهو حديث ثابت صحيح ، نص في موضع الخلاف يوجب الحكم . ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين كذلك في القياس والنظر . واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه : كيف أغرم ؟ قالوا : وهذا يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني . ولو أن دية الجنين قضى بها على العاقلة لقال : فقال الذي قضى عليهم . وفي القياس أن كل جان جنايته عليه ، إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له ؛ مثل إجماع لا يجوز خلافه ، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول لا معارض لها ، فيجب الحكم بها ، وقد قال الله تعالى : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى
العاشرة : ولا خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية . واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتا ؛ قال مالك : فيه الغرة والكفارة . وقال أبو حنيفة والشافعي : فيه الغرة ولا كفارة . واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين ؛ فقال مالك والشافعي وأصحابهما : الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى ؛ لأنها دية . وقال أبو حنيفة وأصحابه : الغرة للأم وحدها ؛ لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية . ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم في الديات ، فدل على أن ذلك كالعضو . وكان ابن هرمز يقول : ديته لأبويه خاصة ؛ لأبيه ثلثاها ولأمه ثلثها ، من كان منهما حيا كان ذلك له ، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أما ، ولا يرث الإخوة شيئا .
الحادية عشرة : قوله تعالى : إلا أن يصدقوا أصله " أن يتصدقوا " فأدغمت التاء في الصاد . والتصدق الإعطاء ؛ يعني إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم . فهو استثناء ليس من الأول . وقرأ أبو عبد الرحمن ونبيح " إلا أن تصدقوا " بتخفيف الصاد والتاء . وكذلك قرأ أبو عمرو ، إلا أنه شدد الصاد . ويجوز على هذه القراءة حذف التاء الثانية ، ولا يجوز حذفها على قراءة الياء . وفي حرف أبي وابن مسعود " إلا أن يتصدقوا " وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم ؛ لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه ، فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم . وتجب الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل .
الثانية عشرة : قوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار . والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد والنخعي : فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد أمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم فلا دية فيه ؛ وإنما كفارته تحرير الرقبة . وهو المشهور من قول مالك ، وبه قال أبو حنيفة . وسقطت الدية لوجهين : أحدهما : أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها . والثاني : أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة ، فلا دية ؛ لقوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وقالت طائفة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ؛ فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه كفارته التحرير ولا دية فيه ، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار ، ولو وجبت الدية لوجبت لبيت المال على بيت المال ؛ فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام . هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور . وعلى القول الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة .
قلت : ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله ؛ فطعنته فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقال لا إله إلا الله وقتلته ! قال : قلت يا رسول الله ، إنما قالها خوفا من السلاح ؛ قال : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ . فلم يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية . وروي عن أسامة أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات ، وقال : أعتق رقبة ولم يحكم بقصاص ولا دية . فقال علماؤنا : أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا ؛ وأما سقوط الدية فلأوجه ثلاثة :
الأول : لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطا كالخاتن والطبيب .
الثاني : لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته ؛ لقوله تعالى : فإن كان من قوم عدو لكم كما ذكرنا .
الثالث : أن أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا ، ولعل أسامة لم يكن له مال تكون فيه الدية . والله أعلم .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة ؛ قاله ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي . واختاره الطبري قال : إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه ولم يقل وهو مؤمن ، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب . وإطلاقه ما قيد قبل يدل على أنه خلافه . وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا : المعنى وإن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم ، فكفارته التحرير وأداء الدية . وقرأها الحسن : " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن " . قال الحسن : إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه . قال أبو عمر : وأما الآية فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ثم قال تعالى : وإن كان من قوم يريد ذلك المؤمن . والله أعلم . قال ابن العربي : والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد .
قلت : وهذا معنى ما قال الحسن وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز . وقوله فدية مسلمة على لفظ النكرة ليس يقتضي دية بعينها . وقيل : هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم : فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم نسخ بقوله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين
الرابعة عشرة : وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ؛ قال أبو عمر : إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل ، وشهادة امرأتين بشهادة رجل . وهذا إنما هو في دية الخطأ ، وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل : النفس بالنفس . و الحر بالحر كما تقدم في " البقرة " .
الخامسة عشرة : روى الدارقطني من حديث موسى بن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت أبي يقول إن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول :
يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معا كلاهما تكسرا
وذلك أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا في بئر ، فوقع الأعمى على البصير فمات البصير ؛ فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى . وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما ؛ فروي عن ابن الزبير : يضمن الأعلى الأسفل ، ولا يضمن الأسفل الأعلى . وهذا قول شريح والنخعي وأحمد وإسحاق . وقال مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا : على عاقلة الذي جبذه الدية . قال أبو عمر : ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما قال بعض المتأخرين من أصحابنا وأصحاب الشافعي : يضمن نصف الدية ؛ لأنه مات من فعله ، ومن سقوط الساقط عليه . وقال الحكم وابن شبرمة : إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات أحدهما ، قالا : يضمن الحي منهما . وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا ، قال : دية المصدوم على عاقلة الصادم ، ودية الصادم هدر . وقال في الفارسين إذا اصطدما فماتا : على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ؛ لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه ؛ وقال عثمان البتي وزفر . وقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه في الفارسين يصطدمان فيموتان : على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته . قال ابن خويز منداد : وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة ولا الفارس صرف الفرس . وروي عن مالك في السفينتين والفارسين . على كل واحد منهما الضمان لقيمة ما أتلف لصاحبه كاملا .
السادسة عشرة : واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب ؛ فقال مالك وأصحابه : هي على النصف من دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ، ودية نسائهم على النصف من ذلك . روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب وقال به أحمد بن حنبل . وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم . وعبد الرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا . وقال ابن عباس والشعبي والنخعي : المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم ؛ وهو قول أبي حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي ؛ جعلوا الديات كلها سواء ، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي ، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب . وحجتهم قوله تعالى : فدية وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم . وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة . قال أبو عمر : هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة . وقال الشافعي : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ؛ وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك ، والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة . وروي هذا القول عن عمر وعثمان ، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق .
السابعة عشرة : قوله تعالى : فمن لم يجد أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها . فصيام شهرين أي فعليه صيام شهرين . متتابعين حتى لو أفطر يوما استأنف ؛ هذا قول الجمهور . وقال مكي عن الشعبي : إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد . قال ابن عطية : وهذا القول وهم ؛ لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل . والطبري حكى هذا القول عن مسروق .
الثامنة عشرة : والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف ، وإنها إذا طهرت ولم تؤخر وصلت باقي صيامها بما سلف منه ، لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها ، فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء ؛ قاله أبو عمر . واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين ؛ فقال مالك : وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من عذر أو مرض أو حيض ، وليس له أن يسافر فيفطر . وممن قال يبني في المرض سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس . وقال سعيد بن جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني : يستأنف في المرض ؛ وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ؛ وأحد قولي الشافعي ؛ وله قول آخر : أنه يبني كما قال مالك . وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب ، كصوم رمضان . قال أبو عمر : حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد ، وقد تجاوز الله عن غير المتعمد . وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر ، وإنما يسقط المأثم ؛ قياسا على الصلاة ؛ لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذرا استأنف ولم يبن .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : توبة من الله نصب على المصدر ، ومعناه رجوعا . وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ . وقيل : أي فليأت بالصيام تخفيفا من الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة ؛ ومنه قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم أي خفف ، وقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم .
الموفية عشرين : وكان الله أي في أزله وأبده . عليما بجميع المعلومات حكيما فيما حكم وأبرم .
وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٢٩
هذه الصيغة من صيغ الامتناع، أي: يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن، أي: متعمدا، وفي هذا الإخبارُ بشدة تحريمه وأنه مناف للإيمان أشد منافاة، وإنما يصدر ذلك إما من كافر، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصا عظيما، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية التي من مقتضاها محبته وموالاته، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله. ولما كان قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } لفظا عاما لجميع الأحوال، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال: { إِلَّا خَطَأً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعًا وصورته كافية في قبحه وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال: { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } سواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى حرًّا أو عبدًا، صغيرًا أو كبيرًا، عاقلاً أو مجنونًا، مسلمًا أو كافرًا، كما يفيده لفظ "مَنْ" الدالة على العموم وهذا من أسرار الإتيان بـ "مَنْ" في هذا الموضع، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول: فإن قتله، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله "مَنْ" وسواء كان المقتول ذكرًا أو أنثى، صغيرًا أو كبيرًا، كما يفيده التنكير في سياق الشرط، فإن على القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لذلك، تكون في ماله، ويشمل ذلك الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصحيح والمعيب، في قول بعض العلماء. ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة؛ لأن المقصود بالعتق نفع العتيق، وملكه منافع نفسه، فإذا كان يضيع بعتقه، وبقاؤه في الرق أنفع له فإنه لا يجزئ عتقه، مع أن في قوله: { تحرير رقبة } ما يدل على ذلك؛ فإن التحرير: تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير. فتأمل ذلك فإنه واضح. وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد. { مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } جبرًا لقلوبهم، والمراد بأهله هنا هم ورثته، فإن الورثة يرثون ما ترك، الميت، فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه. وقوله: { إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي: يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية، فإنها تسقط، وفي ذلك حث لهم على العفو لأن الله سماها صدقة، والصدقة مطلوبة في كل وقت. { فَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } أي: من كفار حربيين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي: وليس عليكم لأهله دية، لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم. { وَإِنْ كَانَ } المقتول { مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وذلك لاحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق. { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الرقبة ولا ثمنها، بأن كان معسرا بذلك، ليس عنده ما يفضل عن مؤنته وحوائجه الأصلية شيء يفي بالرقبة، { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي: لا يفطر بينهما من غير عذر، فإن أفطر لعذر فإن العذر لا يقطع التتابع، كالمرض والحيض ونحوهما. وإن كان لغير عذر انقطع التتابع ووجب عليه استئناف الصوم. { تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ } أي: هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من الله على عباده ورحمة بهم، وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير وعدم احتراز، كما هو واقع كثيرًا للقاتل خطأ. { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: كامل العلم كامل الحكمة، لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، في أي وقت كان وأي محل كان. ولا يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء، بل كل ما خلقه وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة، ومن علمه وحكمته أن أوجب على القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه، فإنه تسبب لإعدام نفس محترمة، وأخرجها من الوجود إلى العدم، فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق العبودية للخلق إلى الحرية التامة، فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين متتابعين، فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد عن سعادته الأبدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله. ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها، ولم يشرع الإطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة. بخلاف الظهار، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ، لتكون رادعة وكافة عن كثير من القتل باستعمال الأسباب العاصمة عن ذلك. ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ، بإجماع العلماء، لكون القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل المصالح وكف المفاسد [ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه من القتل حذرًا من تحميلهم] ويخف عنهم بسبب توزيعه عليهم بقدر أحوالهم وطاقتهم، وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلاث سنين. ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم، بالدية التي أوجبها على أولياء القاتل.
وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٣٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٣٩
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ ، شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول ، سبحانه ، في سورة الفرقان : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق [ ولا يزنون ] ) الآية [ الفرقان : 68 ] وقال تعالى : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) [ إلى أن قال :
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) [ الأنعام : 151 ] .
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا . من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا أصاب دما حراما بلح " وفي حديث آخر : " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " وفي الحديث الآخر : " لو أجمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار " وفي الحديث الآخر : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله " .
وقد كان ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن .
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا مغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [ خالدا ] ) هي آخر ما نزل وما نسخها شيء .
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق ، عن شعبة ، به ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا ) فقال : لم ينسخها شيء .
[ وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزى : سئل ابن عباس عن قوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا ) فقال : لم ينسخها شيء ] وقال في هذه الآية : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ] ) [ الفرقان : 68 ] قال نزلت في أهل الشرك .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثني الحكم ، عن سعيد بن جبير - قال : سألت ابن عباس عن قوله [ تعالى ] ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ) قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له . فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
حدثنا ابن حميد ، وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ) قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده ! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " ثكلته أمه ، قاتل مؤمن متعمدا ، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دما في قبل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى ، يقول : سل هذا فيم قتلني " ؟ وايم الذي نفس عبد الله بيده ! لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المجبر يحدث عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ; أن رجلا أتاه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا ؟ فقال : ( جزاؤه جهنم خالدا فيها [ وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة . وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : " ثكلته أمه ، رجل قتل رجلا متعمدا ، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله - تشخب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني ؟ " .
وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدهني ، ويحيى الجابر وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، فذكره وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة .
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف : زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبيد بن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم .
وفي الباب أحاديث كثيرة : من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دعلج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي وحدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة ، آخذا رأسه بيده الأخرى فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول : قتلته لتكون العزة لك . فيقول : فإنها لي " . قال : " ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ، سل هذا فيم قتلني ؟ " قال : " فيقول قتلته لتكون العزة لفلان " . قال : " فإنها ليست له بؤ بإثمه " . قال : " فيهوي في النار سبعين خريفا " .
وقد رواه عن النسائي ، عن إبراهيم بن المستمر العوفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن سليمان ، به
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا سمويه ، حدثنا عبد الأعلى بن مسهر ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا خالد بن دهقان ، حدثنا ابن أبي زكريا قال : سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا " .
وهذا غريب جدا من هذا الوجه . والمحفوظ حديث معاوية المتقدم فالله أعلم .
ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد ، عن نافع بن يزيد ، حدثني ابن جبير الأنصاري ، عن داود بن الحصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل " .
وهذا حديث منكر أيضا ، وإسناده تكلم فيه جدا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب شيئا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم - فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك . فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأغارت على قوم ، فشد من القوم رجل ، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم . فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتل . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذ قال القاتل : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل . قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر ، فقال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل . فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه ، فقال : " إن الله أبى على من قتل مؤمنا " ثلاثا .
ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته .
قال الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ] . إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا [ فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ] ) [ الفرقان : 68 ، 69 ] وهذا خبر لا يجوز نسخه . وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [ إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ] ) [ الزمر : 53 ] وهذا عام في جميع الذنوب ، من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك : كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه .
وقال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] . فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم .
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة . كما ذكرناه غير مرة ، إن كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ; لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة . فأما الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا [ فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ] ) فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا ، من طريق محمد بن جامع العطار ، عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة : أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط . وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول القاتل إلى النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به ، فليس يخلد فيها أبدا ، بل الخلود هو المكث الطويل . وقد تواردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة من إيمان . وأما حديث معاوية : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " : " عسى " للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما ، وهو القتل ; لما ذكرنا من الأدلة . وأما من مات كافرا ; فالنص أنه لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم .
ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة أما [ في ] الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ] ) [ الإسراء : 33 ] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا : ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة كما هو مقرر في كتب الأحكام .
واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة : عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ؟ على أحد القولين ، كما تقدم في كفارة الخطأ ، على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ، يجب عليه ; لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى . وطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس ، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا ، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ .
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون : بوجوب قضائها وإن تركت عمدا .
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش ، عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب . قال : " فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار " .
وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " .
وكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، به ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان . فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار " .
وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٣٩
قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ومن يقتل " من " شرط ، وجوابه فجزاؤه وسيأتي . واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ؛ فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو من قتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقالت فرقة : المتعمد كل من قتل بحديدة كان القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك ، وهذا قول الجمهور .
الثانية : ذكر الله عز وجل في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به ، فقال ابن المنذر : أنكر ذلك مالك ، وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ . وذكره الخطابي أيضا عن مالك وزاد : وأما شبه العمد فلا نعرفه . قال أبو عمر : أنكر مالك والليث بن سعد شبه العمد ؛ فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود . قال أبو عمر : وقال بقولهما جماعة من الصحابة والتابعين . وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد . وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين . قال ابن المنذر : وشبه العمد يعمل به عندنا . وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي ، وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما .
قلت : وهو الصحيح ؛ فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل صيانتها في أهبها ، فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه ، وهذا فيه إشكال ؛ لأنه لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ؛ فالضرب مقصود والقتل غير مقصود ، وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية . وبمثل هذا جاءت السنة ؛ روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية مغلظة في أسنان الإبل . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه . وهذا نص . وقال طاوس في الرجل يصاب في ماء الرميا في القتال بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى ، من قاتله . وقال أحمد بن حنبل : العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه . وقال إسحاق : هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضا . فكأن أصله من التعمية وهو التلبيس ؛ ذكره الدارقطني
مسألة : واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة ، فقال عطاء والشافعي : هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة . وقد روي هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري ؛ وهو مذهب مالك حيث يقول بشبه العمد ، ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه بالسيف . وقيل : هي مربعة ربع بنات لبون ، وربع حقاق ، وربع جذاع ، وربع بنات مخاض . هذا قول النعمان ويعقوب ؛ وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي . وقيل : هي مخمسة : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة ؛ هذا قول أبي ثور . وقيل : أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة ، وثلاثون بنات لبون . وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري . وقيل : أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها ، وثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ؛ وبه قال الشعبي والنخعي ، وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي .
الثالثة : واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد ؛ فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور : هو عليه في ماله . وقال الشعبي والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : هو على العاقلة . قال ابن المنذر : قول الشعبي أصح ؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضاربة .
الرابعة : أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية العمد وأنها في مال الجاني ؛ وقد تقدم ذكرها في " البقرة " . وقد أجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة ؛ واختلفوا فيها في قتل العمد ؛ فكان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ . قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى . وقال : إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى ، وليس ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل : إن القاتل عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل ، فأما إذا قتل قودا فلا كفارة عليه تؤخذ من ماله . وقيل تجب . ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله . وقال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى . قال ابن المنذر : وكذلك نقول ؛ لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل . وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع ، وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة حجة من حيث ذكرت .
الخامسة : واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ ؛ فقالت طائفة : على كل واحد منهم الكفارة ؛ كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : عليهم كلهم كفارة واحدة ؛ هكذا قال أبو ثور ، وحكي ذلك عن الأوزاعي . وفرق الزهري بين العتق والصوم ؛ فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا : عليهم كلهم عتق رقبة ، وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين .
السادسة : روى النسائي : أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا . وروي عن عبد الله قال : قال رسول الله : أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس في الدماء . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه سأل سائل فقال : يا أبا العباس ، هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا . ثم قال ابن عباس : ويحك ! أنى له توبة ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار . وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجبني .
السابعة : واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن سعد بن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس ، فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وروى النسائي عنه قال : سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة ؟ قال : لا . وقرأت عليه الآية التي في الفرقان : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه . وروي عن زيد بن ثابت نحوه ، وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر ، وفي رواية بثمانية أشهر ؛ ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت . وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا : هذا مخصص عموم قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل ؛ فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا : التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا . وذهب جماعة من العلماء منهم . عبد الله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة . روى يزيد بن هارون قال : أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال : لا ، إلا النار ؛ قال : فلما ذهب قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة ؛ قال : إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا . قال : فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك . وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح ، وإن هذه الآية مخصوصة ، ودليل التخصيص آيات وأخبار . وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة ؛ وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة ؛ فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر ؛ فقال بنو النجار : والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية ؛ فأعطوه مائة من الإبل ؛ ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا ، وجعل ينشد :
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي
وكنت إلى الأوثان أول راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم . وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة . وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين ، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله : إن الحسنات يذهبن السيئات ، وقوله تعالى : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . والأخذ بالظاهرين تناقض فلا بد من التخصيص . ثم إن الجمع بين آية " الفرقان " وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا تعارض ، وذلك أن يحمل مطلق آية " النساء " على مقيد آية " الفرقان " فيكون معناه فجزاؤه كذا إلا من تاب ؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد بالعقاب . وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه : تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه . رواه الأئمة أخرجه الصحيحان . وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قتل مائة نفس . أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة . ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل ، ويقر بأنه قتل عمدا ، ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا ، فهذا غير متبع في الآخرة ، والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة ؛ فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ودخله التخصيص بما ذكرنا ، وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا ، أو تكون محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال : متعمدا معناه مستحلا لقتله ؛ فهذا أيضا يئول إلى الكفر إجماعا . وقالت جماعة : إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب ؛ قاله أبو حنيفة وأصحابه . فإن قيل : إن قوله تعالى : فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه دليل على كفره ؛ لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان . قلنا : هذا وعيد ، والخلف في الوعيد كرم ؛ كما قال :
وإني متى أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقد تقدم .
جواب ثان : إن جازاه بذلك ؛ أي هو أهل لذلك ومستحقه لعظيم ذنبه . نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه . وفي هذين التأويلين دخل ، أما الأول - فقال القشيري : وفي هذا نظر ؛ لأن كلام الرب لا يقبل الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام ؛ فهو إذا جائز في الكلام . وأما الثاني : وإن روي أنه مرفوع فقال النحاس : وهذا الوجه الغلط فيه بين ، وقد قال الله عز وجل : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا ولم يقل أحد : إن جازاهم ؛ وهو خطأ في العربية لأن بعده وغضب الله عليه وهو محمول على معنى جازاه .
وجواب ثالث : فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي . وذكر هبة الله في كتاب " الناسخ والمنسوخ " أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن عمر فإنهما قالا هي محكمة . وفي هذا الذي قاله نظر ؛ لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع نسخ ؛ قاله ابن عطية .
قلت : هذا حسن ؛ لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه . وقال النحاس في " معاني القرآن " له : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب ، فإن تاب فقد بين أمره بقوله : وإني لغفار لمن تاب فهذا لا يخرج عنه ، والخلود لا يقتضي الدوام قال الله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية . وقال تعالى : يحسب أن ماله أخلده وقال زهير :
ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا
وهذا كله يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد ؛ فإن هذا يزول بزوال الدنيا . وكذلك العرب تقول : لأخلدن فلانا في السجن ؛ والسجن ينقطع ويفنى ، وكذلك المسجون . ومثله قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه وأبد أيامه . وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى . والحمد لله .
وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٣٩
تقدم أن الله أخبر أنه لا يصدر قتل المؤمن من المؤمن، وأن القتل من الكفر العملي، وذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول. فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته. وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد، على بعض الكبائر والمعاصي بالخلود في النار، أو حرمان الجنة. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلان قول الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين. والصواب في تأويلها ما قاله الإمام المحقق: شمس الدين بن القيم رحمه الله في "المدارج" فإنه قال - بعدما ذكر تأويلات الأئمة في ذلك وانتقدها فقال: وقالت فِرقَة: هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده، فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه. وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص. فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين. ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات، اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه، وإعمالا لأرجحها. قالوا: وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما. وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود، وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا، وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكم للأغلب منهما. فالقوة مقتضية للصحة والعافية، وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة، وفعل القوة والحكم للغالب منهما، وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب، وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له. ومِنْ هنا يعلم انقسام الخلق إلى مَنْ يدخل الجنة ولا يدخل النار، وعكسه، ومَنْ يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه. ومن له بصيرة منورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله، حتى كأنه يشاهده رأي عين. ويعلم أن هذا هو مقتضي إلهيته سبحانه، وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ونسبة ذلك إليه نسبة ما لا يليق به إليه، فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره. وهذا يقين الإيمان، وهو الذي يحرق السيئات، كما تحرق النار الحطب، وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات، وإن وقعت منه وكثرت، فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه، وهذا من أحب الخلق إلى الله. انتهى كلامه قدس الله روحه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٤٩
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٤٩
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، وحسين بن محمد ، وخلف بن الوليد ، قالوا : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له ، فسلم عليهم فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا . فعمدوا إليه فقتلوه ، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا [ إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ] ) إلى آخرها .
ورواه الترمذي في التفسير ، عن عبد بن حميد ، عن عبد العزيز بن أبي رزمة ، عن إسرائيل ، به . وقال : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن أسامة بن زيد . ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، به . ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان ، كلاهما عن إسرائيل ، به وقال في بعض كتبه غير التفسير - وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط - : وهذا خبر عندنا صحيح سنده ، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما ، لعلل منها : أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه ، ومنها : أن عكرمة في روايته عندهم نظر ، ومنها : أن الذي أنزلت فيه الآية مختلف فيه ، فقال بعضهم : أنزلت في محلم بن جثامة ، وقال بعضهم : أسامة بن زيد . وقيل غير ذلك .
قلت : وهذا كلام غريب ، وهو مردود من وجوه أحدها : أنه ثابت عن سماك ، حدث به عنه غير واحد من الكبار . الثاني : أن عكرمة محتج به في الصحيح . الثالث : أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس ، كما قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) قال : قال ابن عباس : كان رجل في غنيمة له ، فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم . فقتلوه وأخذوا غنيمته [ فأنزل الله ذلك إلى قوله : ( تبتغون عرض الحياة الدنيا ) تلك الغنيمة . قرأ ابن عباس ( السلام ) وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال : لحق المسلمون رجلا في غنيمة فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ] فنزلت : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا )
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من طريق سفيان بن عيينة ، به
وأما قصة محلم بن جثامة فقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله ابن أبي حدرد ، رضي الله عنه ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين ، فيهم : أبو قتادة الحارث بن ربعي ، ومحلم بن جثامة بن قيس ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي ، على قعود له ، معه متيع ووطب من لبن ، فلما مر بنا سلم علينا ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله ، بشيء كان بينه وبينه ، وأخذ بعيره ومتيعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله [ فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون ] خبيرا . )
تفرد به أحمد
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ; أن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا ، فلقيهم عامر بن الأضبط ، فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم حنة في الجاهلية ، فرماه محلم بسهم فقتله ، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع ، فقال الأقرع : يا رسول الله ، سن اليوم وغير غدا . فقال عيينة : لا والله ، حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي . فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا غفر الله لك " . فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت له سابعة حتى مات ، ودفنوه ، فلفظته الأرض ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له ، فقال : " إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم من حرمتكم " ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة ، ونزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ) الآية .
وقال البخاري : قال حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : " إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل " .
هكذا ذكر البخاري هذا الحديث معلقا مختصرا وقد روي مطولا موصولا فقال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا أحمد بن علي البغدادي ، حدثنا جعفر بن سلمة ، حدثنا أبو بكر بن علي بن مقدم ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ، فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال : أشهد أن لا إله إلا الله . وأهوى إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد . فقال : " ادعوا لي المقداد . يا مقداد ، أقتلت رجلا يقول : لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا ؟ " . قال : فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : " كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه ، فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل " .
وقوله : ( فعند الله مغانم كثيرة ) أي : خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام ، وأظهر إليكم الإيمان ، فتغافلتم عنه ، واتهمتموه بالمصانعة والتقية ; لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ، فما عند الله من المغانم الحلال خير لكم من مال هذا .
وقوله : ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) أي : قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه ، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا ، وكما قال تعالى : ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض [ تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ] ) الآية [ الأنفال : 26 ] ، وهذا هو مذهب سعيد بن جبير ، كما رواه الثوري ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير في قوله : ( كذلك كنتم من قبل ) تخفون إيمانكم في المشركين .
ورواه عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن سعيد بن جبير في قوله : ( كذلك كنتم من قبل ) تستخفون بإيمانكم ، كما استخفى هذا الراعي بإيمانه .
وهذا اختيار ابن جرير . وقال ابن أبي حاتم : وذكر عن قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قوله : ( كذلك كنتم من قبل ) [ تورعون عن مثل هذا ، وقال الثوري عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : ( كذلك كنتم من قبل ) ] لم تكونوا مؤمنين ( فمن الله عليكم [ فتبينوا ) وقال السدي : ( فمن الله عليكم ) ] أي : تاب عليكم ، فحلف أسامة لا يقتل رجلا يقول : " لا إله إلا الله " بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه .
وقوله : ( فتبينوا ) تأكيد لما تقدم . وقوله : ( إن الله كان بما تعملون خبيرا ) قال سعيد بن جبير : هذا تهديد ووعيد .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٤٩
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا هذا متصل بذكر القتل والجهاد . والضرب : السير في الأرض ؛ تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره ؛ مقترنة بفي . وتقول : ضربت الأرض دون " في " إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك . وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ؛ فحمل عليه أحدهم فقتله . فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية . وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال : قال ابن عباس : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ؛ فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله : عرض الحياة الدنيا تلك الغنيمة . قال : قرأ ابن عباس " السلام " . في غير البخاري : وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته . واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البر أن القاتل محلم بن جثامة ، والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله ؛ فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب ؛ وقال عليه السلام : إن الأرض لتقبل من هو شر منه . قال الحسن : أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا يعودوا . وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا ، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال : أشهد أن لا إله إلا الله ؛ إني مسلم ؛ فطعنه فقتله ؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : وما الذي صنعت ؟ مرة أو مرتين ، فأخبره بالذي صنع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه فقال : يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال : لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه . فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه ، فأصبح على وجه الأرض . فقلنا : لعل عدوا نبشه ، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض . فقلنا : لعل الغلمان نعسوا ، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض ، فألقيناه في بعض تلك الشعاب . وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك . وقال ابن القاسم عن مالك . وقيل : كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله ؛ ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله . وقد تقدم القول فيه . وقيل : القاتل أبو قتادة . وقيل : أبو الدرداء . ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم الذي ذكرناه . ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف والله أعلم . وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي . وقيل : المقداد حكاه السهيلي .
الثانية : قوله تعالى : " فتبينوا " أي : تأملوا . و " تبينوا " قراءة الجماعة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، وقالا : من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت ؛ يقال : تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه ، فهو متعد ولازم . وقرأ حمزة " فتثبتوا " من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة " وتبينوا " في هذا أوكد ؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين . وفي إذا معنى الشرط ، فلذلك دخلت الفاء في قوله فتبينوا . وقد يجازى بها كما قال :
وإذا تصبك خصاصة فتجمل
والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر :
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع
والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه ، وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر .
الثالثة : قوله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا السلم والسلم ، والسلام واحد ، قاله البخاري . وقرئ بها كلها . واختار أبو عبيد القاسم بن سلام " السلام " . وخالفه أهل النظر فقالوا : " السلم " هاهنا أشبه ؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم ، كما قال عز وجل : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء فالسلم الاستسلام والانقياد . أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا . وقيل : السلام قول السلام عليكم ، وهو راجع إلى الأول ؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك . قال الأخفش : يقال فلان سلام إذا كان لا يخالط أحدا . والسلم ( بشد السين وكسرها وسكون اللام ) الصلح .
الرابعة : وروي عن أبي جعفر أنه قرأ " لست مؤمنا " بفتح الميم الثانية ، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن .
الخامسة : والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله ؛ فإن قال : لا إله إلا الله لم يجز قتله ؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله : فإن قتله بعد ذلك قتل به . وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح ، وأن العاصم قولها مطمئنا ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها ؛ ولذلك قال لأسامة : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا أخرجه مسلم . أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه . وفي هذا من الفقه باب عظيم ، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر .
السادسة : فإن قال : سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا ؛ لأنه موضع إشكال . وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول : جئت مستأمنا أطلب الأمان : هذه أمور مشكلة ، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام ؛ لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله ، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله .
السابعة : فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا ؛ فقال ابن العربي : نرى أنه لا يكون بذلك مسلما ، أما أنه يقال له : ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال : صلاة مسلم ، قيل له : قل لا إله إلا الله ؛ فإن قالها تبين صدقه ، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب ، وكانت عند من يرى إسلامه ردة ، والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة . وكذلك هذا الذي قال : سلام عليكم ، يكلف الكلمة ، فإن قالها تحقق رشاده ، وإن أبى تبين عناده وقتل . وهذا معنى قوله : فتبينوا أي الأمر المشكل ، أو " تثبتوا " ولا تعجلوا المعنيان سواء . فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه . فإن قيل : فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم ، ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا : لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية .
الثامنة : قوله تعالى : تبتغون عرض الحياة أي تبتغون أخذ ماله : ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت . قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء ؛ ومنه : ( الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ) . والعرض ( بسكون الراء ) ما سوى الدنانير والدراهم ؛ فكل عرض عرض ، وليس كل عرض عرضا . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس . وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه :
تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وهذا يصحح قول أبي عبيدة : فإن المال يشمل كل ما يتمول . وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ؛ ومنه قوله تعالى : تريدون عرض الدنيا وجمعه عروض . وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر . والعرض من الأثاث ما كان غير نقد . وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن . والعرض خلاف الطول .
التاسعة : قوله تعالى : فعند الله مغانم كثيرة عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور ، أي فلا تتهافتوا . كذلك كنتم من قبل أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين ، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم ، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره . وقال ابن زيد : المعنى كذلك كنتم كفرة فمن الله عليكم بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره .
العاشرة : استدل بهذه الآية من قال : إن الإيمان هو القول ، لقوله تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا . قالوا : ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول . ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم . قلنا : إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه ، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط ؛ ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في " البقرة " وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام : أفلا شققت عن قلبه ؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره ، وأن حقيقته التصديق بالقلب ، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط . واستدل بهذا أيضا من قال : إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام ؛ قال : لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام . وقد مضى القول في هذا في أول البقرة . وفيها رد على القدرية ، فإن الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق ، والقدرية تقول : خلقهم كلهم للإيمان . ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى .
الحادية عشرة : قوله تعالى : فتبينوا أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد . إن الله كان بما تعملون خبيرا تحذير عن مخالفة أمر الله ؛ أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٤٩
يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة. فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل. وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟ فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي: فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى. وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله، وإن شق ذلك عليها. ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى، قبل هدايتهم إلى الإسلام: { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال: { فَتَبَيَّنُوا } فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله، ومجاهدة أعداء الله، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم.
لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٩
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٩
قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [ عز وجل ] ( غير أولي الضرر )
حدثنا محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال : " اكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، أنا ضرير فنزلت مكانها : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله )
وقال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، حدثني سهل بن سعد الساعدي : أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد ، قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " . فجاءه ابن أم مكتوم ، وهو يمليها علي ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى - فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفخذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله : ( غير أولي الضرر )
انفرد به البخاري دون مسلم ، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد :
حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أوحي إليه ، قال : وغشيته السكينة ، قال : فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة . قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سري عنه فقال : " اكتب يا زيد " . فأخذت كتفا فقال : " اكتب : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ) إلى قوله ( أجرا عظيما ) فكتبت ذاك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عنه فقال : " اقرأ " . فقرأت عليه : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( غير أولي الضرر ) قال زيد : فألحقتها ، فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع كان في الكتف .
ورواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، به نحوه .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن قبيصة بن ذؤيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء عبد الله ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري . قال زيد : فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه ، ثم قال : " اكتب : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله )
ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج ، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجزري - أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث - أخبره أن ابن عباس أخبره : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر ، والخارجون إلى بدر .
انفرد به البخاري دون مسلم . وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الكريم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر ، والخارجون إلى بدر ، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ) وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة ، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .
هذا لفظ الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .
فقوله [ تعالى ] ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع : ( غير أولي الضرر ) صار ذلك مخرجا لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد - من العمى والعرج والمرض - عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين ، قال ابن عباس : ( غير أولي الضرر ) وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية ، عن حميد ، عن أنس ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " .
وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عدي عن حميد ، عن أنس ، به وعلقه البخاري مجزوما . ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " . قالوا : يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : " حبسهم العذر " .
لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر
ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله : ( وكلا وعد الله الحسنى ) أي : الجنة والجزاء الجزيل . وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية .
ثم قال تعالى : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ) ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجنان العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وحلول الرحمة والبركات ، إحسانا منه وتكريما ; ولهذا قال تعالى :
لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٩
قوله : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين قال ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها . ثم قال : غير أولي الضرر والضرر الزمانة . روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال : اكتب فكتبت في كتف " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " إلى آخر الآية ؛ فقام ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه على فخذي ، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اقرأ يا زيد فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غير أولي الضرر الآية كلها . قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها ؛ والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف . وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر . قال العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وصح وثبت في الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض غزواته : إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر . فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي ؛ فقيل : يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل الله متسع ، وثوابه فضل لا استحقاق ؛ فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل . وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة . والله أعلم .
قلت : والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث الصحيح في ذلك إن بالمدينة رجالا ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام إنما الدنيا لأربعة نفر . الحديث وقد تقدم في سورة " آل عمران " . ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر ( إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي ) .
الثانية : وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع ؛ لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء ، ويصرفون في الشدائد ، وتروعهم البعوث والأوامر ، كانوا أعظم من المتطوع ؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها . قال ابن محيريز : أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروعون . قال مكحول : روعات البعوث تنفي روعات القيامة .
الثالثة : وتعلق بها أيضا من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال . وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه ، وما أبطر من الغنى مذموم ؛ فذهب قوم إلى تفضيل الغني ، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز ، والقدرة أفضل من العجز . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر ، لأن الفقير تارك والغني ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة . وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين ، وليسلم من مذمة الحالين . قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن ( خير الأمور أوسطها ) . ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال :
ألا عائذا بالله من عدم الغنى ومن رغبة يوما إلى غير مرغب
الرابعة : قوله تعالى : غير أولي الضرر قراءة أهل الكوفة وأبو عمرو " غير " بالرفع ؛ قال الأخفش : هو نعت للقاعدين ؛ لأنهم لم يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير ؛ والمعنى لا يستوي القاعدون غير أولي الضرر ؛ أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر . والمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء ؛ قاله الزجاج . وقرأ أبو حيوة " غير " جعله نعتا للمؤمنين ؛ أي من المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء . وقرأ أهل الحرمين " غير " بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ؛ أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين . وإن شئت على الحال من القاعدين ؛ أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي في حال صحتهم ؛ وجازت الحال منهم ؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة ، وهو كما تقول : جاءني زيد غير مريض . وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب ، والله أعلم .
الخامسة : فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وقد قال بعد هذا : درجات منه ومغفرة ورحمة فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد . وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات ؛ قال ابن جريج والسدي وغيرهما . وقيل : إن معنى درجة علو ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ . فهذا معنى درجة ، و ( درجات ) يعني في الجنة . قال ابن محيريز : سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة . ودرجات بدل من أجر وتفسير له ، ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف ؛ أي فضلهم بدرجات ، ويجوز أن يكون توكيدا لقول " أجرا عظيما " لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة ، ويجوز الرفع ؛ أي ذلك درجات . وأجرا نصب ب فضل وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن ، ولا ينتصب ب " فضل " لأنه قد استوفى مفعوليه وهما قوله : ( المجاهدين ) وعلى القاعدين ؛ وكذا درجة . فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين الدرجتين كما بين السماء والأرض . وكلا وعد الله الحسنى كلا منصوب ب " وعد " والحسنى الجنة ؛ أي وعد الله كلا الحسنى . ثم قيل : المراد ( بكل ) المجاهدون خاصة . وقيل : المجاهدون وأولو الضرر . والله أعلم .
لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٥٩
أي: لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله، ففيه الحث على الخروج للجهاد، والترغيب في ذلك، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر. وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [وجود] المانع، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر. ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل. ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة، أي: الرفعة، وهذا تفضيل على وجه الإجمال، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير، واندفاع كل شر. والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في "الصحيحين" أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله. وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد، نظير الذي في سورة الصف في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة. وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات. وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح، أو النزول من حالة إلى ما دونها، عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس. وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء، وكل منهما له فضل، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما [قال تعالى] في الآيات المذكورة في الصف في قوله: { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في قوله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي: ممن لم يكن كذلك. ثم قال: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة. وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال. كما إذا قيل: النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك: وكل منهما كافر. والقتل أشنع من الزنا، وكل منهما معصية كبيرة، حرمها الله ورسوله وزجر عنها.
دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٦٩
نسخ
مشاركة
التفسير
دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٦٩
( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما )
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " .
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بلغ بسهم فله أجره درجة " فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال : " أما إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام " .
دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٦٩
دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا
دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ٦٩
ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين { الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ختم هذا الآية بهما فقال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٧٩
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٧٩
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حيوة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال : قطع على أهل المدينة بعث ، فاكتتبت فيه ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته ، فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب عنقه فيقتل ، فأنزل الله [ عز وجل ] ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) رواه الليث عن أبي الأسود .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا محمد بن شريك المكي ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم بفعل بعض قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [ قالوا فيم كنتم ) إلى آخر ] الآية ، قال : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية : لا عذر لهم . قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه الآية : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله ) الآية [ البقرة : 8 ] .
وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في شباب من قريش ، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة ، منهم : علي بن أمية بن خلف ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج ، والحارث بن زمعة .
وقال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع ، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى : ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) أي : بترك الهجرة ( قالوا فيم كنتم ) أي : لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة ؟ ( قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) أي : لا نقدر على الخروج من البلد ، ولا الذهاب في الأرض ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة [ فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ] ) .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، حدثني يحيى بن حسان ، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، حدثني خبيب بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة ، عن سمرة بن جندب : أما بعد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " .
وقال السدي : لما أسر العباس وعقيل ونوفل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : " افد نفسك وابن أخيك " قال : يا رسول الله ، ألم نصل قبلتك ، ونشهد شهادتك ؟ قال : " يا عباس ، إنكم خاصمتم فخصمتم " . ثم تلا عليه هذه الآية : ( ألم تكن أرض الله واسعة [ فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ] ) رواه ابن أبي حاتم .
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٧٩
قوله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا
المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فافتتنوا ، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار ؛ فنزلت الآية . وقيل : إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة ؛ فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم ؛ فنزلت الآية . والأول أصح . روى البخاري عن محمد بن عبد الرحمن قال : قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ؛ فأنزل الله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .
قوله تعالى : توفاهم الملائكة يحتمل أن يكون فعلا ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث ، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي ، ويحتمل أن يكون فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم ؛ فحذفت إحدى التاءين . وحكى ابن فورك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار . وقيل : تقبض أرواحهم ؛ وهو أظهر . وقيل : المراد بالملائكة ملك الموت ؛ لقوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم . و ظالمي أنفسهم نصب على الحال ؛ أي في حال ظلمهم أنفسهم ، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف ؛ كما قال تعالى : هديا بالغ الكعبة . وقول الملائكة : فيم كنتم سؤال تقريع وتوبيخ ، أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين ! وقول هؤلاء كنا مستضعفين في الأرض يعني مكة ، اعتذار غير صحيح ؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل ، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم ألم تكن أرض الله واسعة . ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة ، وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا ، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحدهم بالإيمان ، واحتمال ردته . والله أعلم . ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في مأواهم من كان مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان ؛ كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كنت أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية ؛ وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك ، وأمه هي أم الفضل بنت الحارث واسمها لبابة ، وهي أخت ميمونة ، وأختها الأخرى لبابة الصغرى ، وهن تسع أخوات قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن : الأخوات مؤمنات ومنهن سلمى والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة : أم حفيد ، واسمها هزيلة . هن ست شقائق وثلاث لأم ؛ وهن سلمى ، وسلامة ، وأسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، ثم امرأة أبي بكر الصديق ، ثم امرأة علي رضي الله عنهم أجمعين .
قوله تعالى : فيم كنتم سؤال توبيخ ، وقد تقدم والأصل " فيما " ثم حذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر ، والوقف عليها ( فيمه ) لئلا تحذف الألف والحركة . والمراد بقوله ألم تكن أرض الله واسعة المدينة ؛ أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها ؛ وتلا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام .فأولئك مأواهم جهنم أي مثواهم النار . وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم . وساءت مصيرا نصب على التفسير .
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٧٩
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم. { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض } أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة. ولهذا قالت لهم الملائكة: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير، أي: قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم: { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وهذا كما تقدم، فيه ذكر بيان السبب الموجِب، فقد يترتب عليه مقتضاه، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه، وقد يمنع من ذلك مانع. وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات، وتركها من المحرمات، بل من الكبائر، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل، وذلك مأخوذ من لفظ "التوفي" فإنه يدل على ذلك، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا. وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم، وموافقته لمحله.
إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا ٨٩
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا ٨٩
وقوله : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة ، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ، ولهذا قال : ( لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) قال مجاهد وعكرمة ، والسدي : يعني طريقا .
إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا ٨٩
وقوله تعالى : لا يستطيعون حيلة الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل سبيل المدينة ؛ فيما ذكر مجاهد والسدي وغيرهما ، والصواب أنه عام في جميع السبل .
إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا ٨٩
ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة، الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه { وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا }
فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا ٩٩
نسخ
مشاركة
التفسير
فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا ٩٩
وقوله تعالى : ( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) أي : يتجاوز عنهم بترك الهجرة ، وعسى من الله موجبة ( وكان الله عفوا غفورا ) .
قال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا شيبان ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال : " سمع الله لمن حمده " ثم قال قبل أن يسجد " اللهم نج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج الوليد بن الوليد ، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو معمر المقري حدثنا عبد الوارث ، حدثنا علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعدما سلم ، وهو مستقبل القبلة فقال : " اللهم خلص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار " .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد عن عبد الله - أو إبراهيم بن عبد الله القرشي - عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر : " اللهم خلص الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " .
ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان
وقال البخاري : أنبأنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : ( إلا المستضعفين ) قال : كانت أمي ممن عذر الله عز وجل .
فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا ٩٩
وقوله تعالى : فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه ؛ ولكن المعنى أنه قد يتوهم أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة ، حتى إن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال الله ذلك الوهم ؛ إذ لا يجب تحمل غاية المشقة ، بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد الزاد والراحلة . فمعنى الآية ؛ فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة ؛ ولهذا قال : وكان الله عفوا غفورا والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد ، وقد تقدم .
فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوًّا غَفُورٗا ٩٩
{ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه وإحسانه، وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض الأعمال فائدة، وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته، ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي، بل يكون مقصرًا فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم. وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره فإنه معذور، كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد: { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } وقال في عموم الأوامر: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: { لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الاستطاعة.
۞ وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٠١
وقوله : ( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) هذا تحريض على الهجرة ، وترغيب في مفارقة المشركين ، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه ، و " المراغم " مصدر ، تقول العرب : راغم فلان قومه مراغما ومراغمة ، قال نابغة بني جعدة .
كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس : " المراغم " : التحول من أرض إلى أرض . وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس ، الثوري ، وقال مجاهد : ( مراغما كثيرا ) يعني : متزحزحا عما يكره . وقال سفيان بن عيينة : ( مراغما كثيرا ) يعني : بروجا .
والظاهر - والله أعلم - أنه التمنع الذي يتحصن به ، ويراغم به الأعداء .
قوله : ( وسعة ) يعني : الرزق . قاله غير واحد ، منهم : قتادة ، حيث قال في قوله : ( يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ) إي ، والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى .
وقوله : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) أي : ومن خرج من منزله بنية الهجرة ، فمات في أثناء الطريق ، فقد حصل له من الله ثواب من هاجر ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن ، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
وهذا عام في الهجرة وفي كل الأعمال . ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا . ثم أكمل بذلك العابد المائة ، ثم سأل عالما : هل له من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه ، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر ، أدركه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقال هؤلاء : إنه جاء تائبا . وقال هؤلاء : إنه لم يصل بعد . فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب كان منها ، فأمر الله هذه أن تقرب من هذه ، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة . وفي رواية : أنه لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن محمد بن عبد الله بن عتيك ، عن أبيه عبد الله بن عتيك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله - ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث : الوسطى والسبابة والإبهام ، فجمعهن وقال : وأين المجاهدون - ؟ فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات ، فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه ، فقد وقع أجره على الله - والله ! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن قتل قعصا فقد استوجب المآب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي عن المنذر بن عبد الله ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ; أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة ، فنهشته حية في الطريق فمات ، فنزلت فيه : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني ; لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله ، أو ذوي رحمه ، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ، ولا أرجو غيره .
وهذا الأثر غريب جدا فإن هذه القصة مكية ، ونزول هذه الآية مدنية ، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره ، وإن لم يكن ذلك سبب النزول ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان ، عن الأشعث - هو ابن سوار - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله [ ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ] ) .
وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي ، الذي كان مصاب البصر ، وكان بمكة فلما نزلت : ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ) فقلت : إني لغني ، وإني لذو حيلة ، [ قال ] فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية : ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت [ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ] )
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن حميد بن أبي حميد ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من خرج حاجا فمات ، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات ، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات ، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه .
وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٠١
قوله تعالى : ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ومن يهاجر في سبيل الله يجد شرط وجوابه في الأرض مراغما اختلف في تأويل المراغم ؛ فقال مجاهد : المراغم المتزحزح . وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم : المراغم المتحول والمذهب . وقال ابن زيد : والمراغم المهاجر ؛ وقاله أبو عبيدة . قال النحاس : فهذه الأقوال متفقة المعاني . فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة ، وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه ، وهو مشتق من الرغام . ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب . وراغمت فلانا هجرته وعاديته ، ولم أبال إن رغم أنفه . وقيل : إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم ، فسمي خروجه مراغما ، وسمي مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة . وقال السدي : المراغم المبتغى للمعيشة . وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : المراغم الذهاب في الأرض . وهذا كله تفسير بالمعنى ، وكله قريب بعضه من بعض ؛ فأما الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا ، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ؛ فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم ، فتلك المنعة هي موضع المراغمة . ومنه قول النابغة :
كطرد يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
الثانية : قوله تعالى : وسعة أي في الرزق ؛ قاله ابن عباس والربيع والضحاك . وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى . وقال مالك : السعة سعة البلاد . وهذا أشبه بفصاحة العرب ؛ فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق ، واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج . ونحو هذا المعنى قول الشاعر :
وكنت إذا خليل رام قطعي وجدت وراي منفسحا عريضا
وقال آخر :
لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
الثالثة : قال مالك : هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف ويعمل فيها بغير الحق . وقال : والمراغم الذهاب في الأرض ، والسعة سعة البلاد على ما تقدم . واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب ؛ رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل المدينة . وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا .
الرابعة : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله الآية . قال عكرمة مولى ابن عباس : طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى وجدته . وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما ، وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل ؛ ونحو منه قول ابن عباس : مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يمنعني إلا مهابته . والذي ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع ؛ حكاه الطبري عن سعيد بن جبير . ويقال فيه : ضميرة أيضا . ويقال : جندع بن ضمرة من بني ليث ، وكان من المستضعفين بمكة وكان مريضا ، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال : أخرجوني ؛ فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم ، فأنزل الله فيه ومن يخرج من بيته مهاجرا الآية . وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه : خالد بن حزام بن خويلد ابن أخي خديجة ، وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ أرض الحبشة ؛ فنزلت فيه الآية ، والله أعلم . وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن ضمرة . وقيل : ضمرة بن جندب الضمري ؛ عن السدي . وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة الجندعي . وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث . وحكى المهدوي أنه ضمرة بن ضمرة بن نعيم . وقيل : ضمرة بن خزاعة ، والله أعلم . وروى معمر عن قتادة قال : لما نزلت إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية ، قال رجل من المسلمين وهو مريض : والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق ، وإني لموسر ، فاحملوني . فحملوه فأدركه الموت في الطريق ؛ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو بلغ إلينا لتم أجره ؛ وقد مات بالتنعيم . وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقصة ، فنزلت هذه الآية ومن يخرج من بيته مهاجرا الآية . وكان اسمه ضمرة بن جندب ، ويقال : جندب بن ضمرة على ما تقدم . وكان الله غفورا لما كان منه من الشرك رحيما حين قبل توبته .
الخامسة : قال ابن العربي : قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين : هربا وطلبا ؛ فالأول ينقسم إلى ستة أقسام : الأول : الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام ، وكانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة ، والتي انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان ؛ فإن بقي في دار الحرب عصى ؛ ويختلف في حاله . الثاني : الخروج من أرض البدعة ؛ قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف . قال ابن العربي : وهذا صحيح ؛ فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه ، قال الله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم إلى قوله الظالمين . الثالث : الخروج من أرض غلب عليها الحرام : فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم . الرابع : الفرار من الأذية في البدن ؛ وذلك فضل من الله أرخص فيه ، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور . وأول من فعله إبراهيم عليه السلام ؛ فإنه لما خاف من قومه قال : إني مهاجر إلى ربي العنكبوت : ، وقال : إني ذاهب إلى ربي سيهدين الصافات : . وقال مخبرا عن موسى : فخرج منها خائفا يترقب . الخامس : خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة . وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا . وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون ؛ فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم بيانه في " البقرة " . بيد أن علماءنا قالوا : هو مكروه . السادس : الفرار خوف الأذية في المال ؛ فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه ، والأهل مثله وأوكد .
وأما قسم الطلب فينقسم قسمين : طلب دين وطلب دنيا ؛ فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام : الأول : سفر العبرة ؛ قال الله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وهو كثير . ويقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها . وقيل : لينفذ الحق فيها . الثاني : سفر الحج . والأول وإن كان ندبا فهذا فرض . الثالث : سفر الجهاد وله أحكامه . الرابع : سفر المعاش ؛ فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه من صيد أو احتطاب أو احتشاش ؛ فهو فرض عليه . الخامس : سفر التجارة والكسب الزائد على القوت ، وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني التجارة ، وهي نعمة من الله بها في سفر الحج ، فكيف إذا انفردت . السادس : في طلب العلم وهو مشهور . السابع : قصد البقاع ؛ قال صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد . الثامن : الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها . التاسع : زيارة الإخوان في الله تعالى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زار رجل أخا له في قرية فأرصد الله له ملكا على مدرجته فقال أين تريد فقال أريد أخا لي في هذه القرية قال : هل لك من نعمة تربها عليه ؟ قال : لا غير أني أحببته في الله عز وجل . قال : فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه . رواه مسلم وغيره .
وَمَن يُهَاجِرۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يَجِدۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمٗا كَثِيرٗا وَسَعَةٗۚ وَمَن يَخۡرُجۡ مِنۢ بَيۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ يُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠٠١
هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا. وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء. والأمر ليس كذلك، فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في غاية النقص، لا في العبادات القاصرة عليه كالصلاة ونحوها، ولا في العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك، لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصا إن كان مستضعفًا. فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى. واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله، كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم، ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل من فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة. ثم قال: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: قاصدا ربه ورضاه، ومحبة لرسوله ونصرًا لدين الله، لا لغير ذلك من المقاصد { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } بقتل أو غيره، { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى، وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها. ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات، خصوصا التائبين المنيبين إلى ربهم. { رَحِيمًا } بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال والبنين والقوة، وغير ذلك. رحيمًا بالمؤمنين حيث وفقهم للإيمان، وعلمهم من العلم ما يحصل به الإيقان، ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح وما به يدركون غاية الأرباح، وسيرون من رحمته وكرمه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنسأل الله أن لا يحرمنا خيره بشر ما عندنا.
وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا ١٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا ١٠١
يقول تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض ) أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ وآخرون يقاتلون في سبيل الله ] ) الآية [ المزمل : 20 ] .
وقوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) أي : تخففوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا )
ومن قائل لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم [ فإن الله غفور رحيم ] ) [ المائدة : 3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره . وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة .
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين " فأمره أن يصلي ركعتين " وهذا مرسل .
ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، ترخص ، لوجود مطلق السفر . وهذا قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، والثوري وداود ، لعموم الآية وخالفهم الجمهور . وأما قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) [ النور : 33 ] ، وكقوله : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم ) الآية [ النساء : 23 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : ( ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وقد أمن الله الناس ؟ فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من حديث ابن جريج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مغول ، عن أبي حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله تعالى : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد ، حدثنا منجاب ، حدثنا شريك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الوداك : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها .
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين .
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذاء عن عبد الله بن عون ، به قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب ، ، ويزيد بن إبراهيم التستري ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله .
قلت : وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن هشيم ، عن منصور بن زاذان ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا رب العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح .
وقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عشرا .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين .
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عنه ، به ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين .
وقال البخاري : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها .
وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ] به .
وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي مع أربع ركعات ركعتان متقبلتان .
ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به . وأخرجه مسلم من طرق ، عنه . منها عن قتيبة كما تقدم .
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ; ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية . وهو قول مجاهد ، والضحاك ، والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ; وزيد في صلاة الحضر .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة ، أربعتهم عن مالك ، به .
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ; لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ؟
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زبيد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن زبيد اليامي به .
وهذا إسناد على شرط مسلم . وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى ، عن عمر . وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله . وإن كان يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه . وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي ، من طريق الثوري ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ] عن الثقة ، عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر ، به . ، فالله أعلم .
وقد روى مسلم في صحيحه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد - كلاهما عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي : حدثني الحسن بن مسلم بن يساف عن طاوس عن ابن عباس قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ] فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد ، عن طاوس نفسه .
فهذا ثابت عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم . لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ، رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ; ولهذا قال : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ] ) .
ولهذا قال بعدها : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ فلتقم طائفة منهم معك ] ) الآية فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ; ولهذا لما عقد البخاري
" كتاب صلاة الخوف " صدره بقوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) إلى قوله : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا )
وهكذا قال جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه .
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم .
روى ذلك ابن أبي حاتم . ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به .
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن .
وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سماك الحنفي : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة .
وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا ١٠١
قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ضربتم سافرتم ، وقد تقدم . واختلف العلماء في حكم القصر في السفر ؛ فروي عن جماعة أنه فرض . وهو قول عمر بن عبد العزيز والكوفيين والقاضي إسماعيل وحماد بن أبي سليمان ؛ واحتجوا بحديث عائشة رضي الله عنها ( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ) الحديث ، ولا حجة فيه لمخالفتها له ؛ فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه . وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم ؛ وقد قال غيرها من الصحابة كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم : ( إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ) رواه مسلم عن ابن عباس . ثم إن حديث عائشة قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين . وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : فرض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين ؛ الحديث ، وهذا اضطراب . ثم إن قولها : ( فرضت الصلاة ) ليس على ظاهره ؛ فقد خرج عنه صلاة المغرب والصبح ؛ فإن المغرب ما زيد فيها ولا نقص منها . وكذلك الصبح ، وهذا كله - يضعف متنه لا سنده . وحكى ابن الجهم أن أشهب روى عن مالك أن القصر فرض ، ومشهور مذهبه وجل أصحابه وأكثر العلماء من السلف والخلف أن القصر سنة ، وهو قول الشافعي ، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه إن شاء الله . ومذهب عامة البغداديين من المالكيين أن الفرض التخيير ؛ وهو قول أصحاب الشافعي . ثم اختلفوا في أيهما أفضل ؛ فقال بعضهم : القصر أفضل ؛ وهو قول الأبهري وغيره . وقيل : إن الإتمام أفضل ؛ وحكي عن الشافعي . وحكى أبو سعيد الفروي المالكي أن الصحيح في مذهب مالك التخيير للمسافر في الإتمام والقصر .
قلت : وهو الذي يظهر من قوله سبحانه وتعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إلا أن مالكا رحمه الله يستحب له القصر ، وكذلك يرى عليه الإعادة في الوقت إن أتم . وحكى أبو مصعب في " مختصره " عن مالك وأهل المدينة قال : القصر في السفر للرجال والنساء سنة . قال أبو عمر : وحسبك بهذا في مذهب مالك ، مع أنه لم يختلف قوله : أن من أتم في السفر يعيد ما دام في الوقت ؛ وذلك استحباب عند من فهم ، لا إيجاب . وقال الشافعي : القصر في غير الخوف بالسنة ، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة ؛ ومن صلى أربعا فلا شيء عليه ، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة . وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعا ؟ قال : لا ، ما يعجبني ، السنة ركعتان . وفي موطأ مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد ، أنه سأل عبد الله بن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبد الله بن عمر : يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا ، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل . ففي هذا الخبر قصر الصلاة في السفر من غير خوف سنة لا فريضة ؛ لأنها لا ذكر لها في القرآن ، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرا وخوفا واجتمعا ؛ فلم يبح القصر في كتابه إلا مع هذين الشرطين . ومثله في القرآن : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح الآية ، وقد تقدم . ثم قال تعالى : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي فأتموها ؛ وقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى ؛ فكان ذلك سنة مسنونة منه صلى الله عليه وسلم ، زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنه وبينه ، مما ليس له في القرآن ذكر . وقوله : " كما رأيناه يفعل " مع حديث عمر حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف ؛ فقال : تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشيء على لسان نبيه من غير ذلك الشرط . وسأل حنظلة ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان .
قلت : فأين قوله تعالى : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ونحن آمنون ؛ قال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سنة ؛ وكذلك قال ابن عباس . فأين المذهب عنهما ؟ قال أبو عمر : ولم يقم مالك إسناد هذا الحديث ؛ لأنه لم يسم الرجل الذي سأل ابن عمر ، وأسقط من الإسناد رجلا ، والرجل الذي لم يسمه هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، والله أعلم .
الثانية : واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ؛ فقال داود : تقصر في كل سفر طويل أو قصير ، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة ؛ متمسكا بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين . وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه مشكوك فيه ، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر ، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك ، والله أعلم . قال ابن العربي : وقد تلاعب قوم بالدين فقالوا : إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل ، وقائل هذا أعجمي لا يعرف السفر عند العرب أو مستخف بالدين ، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمؤخر عيني ، ولا أفكر فيه بفضول قلبي . ولم يذكر حد السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة ، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقر علمها عند العرب الذين - خاطبهم الله تعالى بالقرآن ؛ فنحن نعلم قطعا أن من برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرا لغة ولا شرعا ، وإن مشى مسافرا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعا . كما أنا نحكم على أن من مشى يوما وليلة كان مسافرا ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها وهذا هو الصحيح ، لأنه وسط بين الحالين وعليه عول مالك ، ولكنه لم يجد هذا الحديث متفقا عليه ، وروي مرة ( يوما وليلة ) ومرة ( ثلاثة أيام ) فجاء إلى عبد الله بن عمر فعول على فعله ، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رئم ، وهي أربعة برد ؛ لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال غيره : وكافة العلماء على أن القصر إنما شرع تخفيفا ، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا ، فراعى مالك والشافعي وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يوما تاما . وقول مالك يوما وليلة راجع إلى اليوم التام ، لأنه لم يرد بقوله : مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله ، وإنما أراد أن يسير سيرا يبيت فيه بعيدا عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم . وفي البخاري : وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا ، وهذا مذهب مالك . وقال الشافعي والطبري : ستة وأربعون ميلا . وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على خمسة وأربعين ميلا قال : يقصر ، وهو أمر متقارب . وعن مالك في الكتب المنثورة : أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلا ، وهي تقرب من يوم وليلة . وقال يحيى بن عمر : يعيد أبدا . ابن عبد الحكم : في الوقت ! . وقال الكوفيون : لا يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام ؛ وهو قول عثمان وابن مسعود وحذيفة . وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم . قال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام . وقال الحسن والزهري : تقصر الصلاة في مسيرة يومين ؛ وروي هذا القول عن مالك ، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تسافر المرأة مسيرة ليلتين إلا مع زوج أو ذي محرم . وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا ، وأنس في خمسة عشر ميلا . وقال الأوزاعي : عامة العلماء في القصر على اليوم التام ، وبه نأخذ . قال أبو عمر : اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب كما ترى في ألفاظها ؛ ومجملها عندي - والله أعلم - أنها خرجت على أجوبة السائلين ، فحدث كل واحد بمعنى ما سمع ، كأنه قيل له صلى الله عليه وسلم في وقت ما : هل تسافر المرأة مسيرة يوم بغير محرم ؟ فقال : لا . وقيل له في وقت آخر : هل تسافر المرأة يومين بغير محرم ؟ فقال : لا . وقال له آخر : هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم ؟ فقال : لا . وكذلك معنى الليلة والبريد على ما روي ، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى ، والله أعلم . ويجمع معاني الآثار في هذا الباب - وإن اختلفت ظواهرها - الحظر على المرأة أن تسافر سفرا يخاف عليها فيه الفتنة بغير محرم ، قصيرا كان أو طويلا . والله أعلم .
الثالثة : واختلفوا في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس . واختلفوا فيما سوى ذلك ، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح كالتجارة ونحوها . وروي عن ابن مسعود أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد . وقال عطاء : لا تقصر إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير . وروي عنه أيضا : تقصر في كل السفر المباح مثل قول الجمهور . وقال مالك : إن خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها ، أو خرج لمشاهدة بلدة متنزها ومتلذذا لم يقصر . والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية ؛ كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما . وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي إباحة القصر في جميع ذلك ، وروي عن مالك . وقد تقدم في " البقرة " واختلف عن أحمد ، فمرة قال بقول الجمهور ، ومرة قال : لا يقصر إلا في حج أو عمرة . والصحيح ما قاله الجمهور ، لأن القصر إنما شرع تخفيفا عن المسافر للمشقات اللاحقة فيه ، ومعونته على ما هو بصدده مما يجوز ، وكل الأسفار في ذلك سواء ؛ لقوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أي إثم أن تقصروا من الصلاة فعم . وقال عليه السلام خير عباد الله الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا . وقال الشعبي : إن الله يحب أن يعمل برخصه كما يحب أن يعمل بعزائمه . وأما سفر المعصية فلا يجوز القصر فيه ؛ لأن ذلك يكون عونا له على معصية الله . والله تعالى يقول : وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
الرابعة : واختلفوا متى يقصر ، فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض ، وهو قول مالك في المدونة . ولم يحد مالك في القرب حدا . وروي عنه إذا كانت قرية تجمع أهلها فلا يقصر أهلها حتى يجاوزوها بثلاثة أميال ، وإلى ذلك في الرجوع . وإن كانت لا تجمع أهلها قصروا إذا جاوزوا بساتينها . وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى .
قلت : ويكون معنى الآية على هذا : وإذا ضربتم في الأرض أي إذا عزمتم على الضرب في الأرض . والله أعلم . وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل . وهذا شاذ ؛ وقد ثبت من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين . أخرجه الأئمة ، وبين ذي الحليفة والمدينة نحو من ستة أميال أو سبعة .
الخامسة : وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام ؛ فإن افتتح الصلاة بنية القصر ثم عزم على المقام في أثناء صلاته جعلها نافلة ، وإن كان ذلك بعد أن صلى منها ركعة أضاف إليها أخرى وسلم ، ثم صلى صلاة مقيم . قال الزهري وابن الجلاب : هذا - والله أعلم - استحباب ولو بنى على صلاته وأتمها أجزأته صلاته . قال أبو عمر : هو عندي كما قالا ؛ لأنها ظهر ، سفرية كانت أو حضرية وكذلك سائر الصلوات الخمس .
السادسة : واختلف العلماء من هذا الباب في مدة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتم ؛ فقال مالك والشافعي والليث بن سعد والطبري وأبو ثور : إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتم ؛ وروي عن سعيد بن المسيب . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتم ، وإن كان أقل قصر . وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فيما ذكر الطحاوي ، وروي عن سعيد أيضا . وقال أحمد : إذا جمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر ، وإن زاد على ذلك أتم ، وبه قال داود . والصحيح ما قاله مالك ؛ لحديث ابن الحضرمي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام ثم يصدر . أخرجه الطحاوي وابن ماجه وغيرهما . ومعلوم أن الهجرة إذ كانت مفروضة قبل الفتح كان المقام بمكة لا يجوز ؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام لتقضية حوائجه وتهيئة أسبابه ، ولم يحكم لها بحكم المقام ولا في حيز الإقامة ، وأبقى عليه فيها حكم المسافر ، ومنعه من مقام الرابع ، فحكم له بحكم الحاضر القاطن ؛ فكان ذلك أصلا معتمدا عليه . ومثله ما فعله عمر رضي الله عنه حين أجلى اليهود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فجعل لهم مقام ثلاثة أيام في قضاء أمورهم . قال ابن العربي : وسمعت بعض أحبار المالكية يقول : إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة ؛ لأن الله تعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا ؛ فقال تعالى : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب .
وفي المسألة قول غير هذه الأقوال ، وهو أن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه ، أو ينزل وطنا له . روي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة . وقال أبو مجلز : قلت لابن عمر : إني آتي المدينة فأقيم بها السبعة الأشهر والثمانية طالبا حاجة ، فقال : صل ركعتين . وقال أبو إسحاق السبيعي : أقمنا بسجستان ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين . وأقام ابن عمر بأذربيجان يصلي ركعتين ركعتين ؛ وكان الثلج حال بينهم وبين القفول : قال أبو عمر : محمل هذه الأحاديث عندنا على ألا نية لواحد من هؤلاء المقيمين هذه المدة ؛ وإنما مثل ذلك أن يقول : أخرج اليوم ، أخرج غدا ؛ وإذا كان هكذا فلا عزيمة هاهنا على الإقامة .
السابعة : روى مسلم عن عروة عن عائشة قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، ثم أتمها في الحضر ، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى . قال الزهري : فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر ؟ قال : إنها تأولت ما تأول عثمان . وهذا جواب ليس بموعب . وقد اختلف الناس في تأويل إتمام عثمان وعائشة رضي الله عنهما على أقوال : فقال معمر عن الزهري : إن عثمان رضي الله عنه إنما صلى بمنى أربعا لأنه أجمع على الإقامة بعد الحج . وروى مغيرة عن إبراهيم أن عثمان صلى أربعا لأنه اتخذها وطنا . وقال يونس عن الزهري قال : لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلى أربعا . قال : ثم أخذ به الأئمة بعده . وقال أيوب عن الزهري ، إن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب ؛ لأنهم كثروا عامئذ فصلى بالناس أربعا ليعلمهم أن الصلاة أربع . ذكر هذه الأقوال كلها أبو داود في مصنفه في كتاب المناسك في باب الصلاة بمنى . وذكر أبو عمر في ( التمهيد ) قال ابن جريج : وبلغني إنما أوفاها عثمان أربعا بمنى ، من أجل أن أعرابيا ناداه في مسجد الخيف بمنى فقال : يا أمير المؤمنين ، ما زلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام الأول ؛ فخشي عثمان أن يظن جهال الناس أنما الصلاة ركعتان . قال ابن جريج : وإنما أوفاها بمنى فقط . قال أبو عمر : وأما التأويلات في إتمام عائشة فليس منها شيء يروى عنها ، وإنما هي ظنون وتأويلات لا يصحبها دليل . وأضعف ما قيل في ذلك : إنها أم المؤمنين ، وإن الناس حيث كانوا هم بنوها ، وكان منازلهم منازلها ، وهل كانت أم المؤمنين إلا أنها زوج النبي أبي المؤمنين صلى الله عليه وسلم وهو الذي سن القصر في أسفاره وفي غزواته وحجه وعمره . وفي قراءة أبي بن كعب ومصحفه " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وقال مجاهد في قوله تعالى : هؤلاء بناتي هن أطهر لكم قال : لم يكن بناته ولكن كن نساء أمته ، وكل نبي فهو أبو أمته .
قلت : وقد اعترض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشرعا ، وليست هي كذلك فانفصلا . وأضعف من هذا قول من قال : إنها حيث أتمت لم تكن في سفر جائز ؛ وهذا باطل قطعا ، فإنها كانت أخوف لله وأتقى من أن تخرج في سفر لا يرضاه . وهذا التأويل عليها من أكاذيب الشيعة المبتدعة وتشنيعاتهم ؛ سبحانك هذا بهتان عظيم ! وإنما خرجت رضي الله عنها مجتهدة محتسبة تريد أن تطفئ نار الفتنة ، إذ هي أحق أن يستحيا منها فخرجت الأمور عن الضبط . وسيأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى . وقيل : إنها أتمت لأنها لم تكن ترى القصر إلا في الحج والعمرة والغزوة . وهذا باطل ؛ لأن ذلك لم ينقل عنها ولا عرف من مذهبها ، ثم هي قد أتمت في سفرها إلى علي . وأحسن ما قيل في قصرها وإتمامها أنها أخذت برخصة الله ؛ لتري الناس ، أن الإتمام ليس فيه حرج وإن كان غيره أفضل . وقد قال عطاء : القصر سنة ورخصة ، وهو الراوي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام وأفطر وأتم الصلاة وقصر في السفر ، رواه أبو طلحة بن عمر . وعنه قال : كل ذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صام وأفطر وقصر الصلاة وأتم . وروى النسائي بإسناد صحيح أن عائشة اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ! قصرت وأتممت وأفطرت وصمت ؟ فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب علي . كذا هو مقيد بفتح التاء الأولى وضم الثانية في الكلمتين . وروى الدارقطني عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم ؛ قال إسناده صحيح .
الثامنة : قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة أن في موضع نصب ، أي في أن تقصروا . قال أبو عبيد : فيها ثلاث لغات : قصرت الصلاة وقصرتها وأقصرتها . واختلف العلماء في تأويله ، فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنتين من أربع في الخوف وغيره ؛ لحديث يعلى بن أمية على ما يأتي . وقال آخرون : إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة ، والركعتان في السفر إنما هي تمام ، كما قال عمر رضي الله عنه : تمام غير قصر ، وقصرها أن تصير ركعة . قال السدي : إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن تخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا ، ويكون للإمام ركعتان . وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب ، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا . وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعة سحابة يوم محارب خصفة وبني ثعلبة . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان .
قلت : وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة . وهذا يؤيد هذا القول ويعضده ، إلا أن القاضي أبا بكر بن العربي ذكر في كتابه المسمى ( بالقبس ) : قال علماؤنا رحمة الله عليهم هذا الحديث مردود بالإجماع .
قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع وبالله التوفيق . وحكى أبو بكر الرازي الحنفي في ( أحكام القرآن ) أن المراد بالقصر هاهنا القصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء ، وبترك القيام إلى الركوع . وقال آخرون : هذه الآية مبيحة للقصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه ، إلى تكبيرة ؛ على ما تقدم في " البقرة " . ورجح الطبري هذا القول وقال : إنه يعادله قوله تعالى : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي بحدودها وهيئتها الكاملة .
قلت : هذه الأقوال الثلاثة في المعنى متقاربة ، وهي مبنية على أن فرض المسافر القصر ، وإن الصلاة في حقه ما نزلت إلا ركعتين ، فلا قصر . ولا يقال في العزيمة لا جناح ، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر ، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك . وذكر الله تعالى القصر بشرطين والذي يعتبر فيه الشرطان صلاة الخوف ؛ هذا ما ذكره أبو بكر الرازي في ( أحكام القرآن ) واحتج به ، ورد عليه بحديث يعلى بن أمية على ما يأتي آنفا إن شاء الله تعالى .
التاسعة : قوله تعالى : إن خفتم خرج الكلام على الغالب ، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ؛ ولهذا قال يعلى بن أمية قلت لعمر : ما لنا نقصر وقد أمنا . قال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته .
قلت : وقد استدل أصحاب الشافعي وغيرهم على الحنفية بحديث يعلى بن أمية هذا فقالوا : إن قوله : " ما لنا نقصر وقد أمنا " دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات . قال الكيا الطبري : ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر ؛ ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان ؛ فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السفر بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا فتجوز صلاة الخوف ؛ فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله . وفي قراءة أبي " أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا " بسقوط إن خفتم . والمعنى على قراءته : كراهية أن يفتنكم الذين كفروا . وثبت في مصحف عثمان رضي الله عنه إن خفتم . وذهب جماعة إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو ؛ فمن كان آمنا فلا قصر له . روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر : أتموا صلاتكم ؛ فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر ، فقالت : إنه كان في حرب وكان يخاف ، وهل أنتم تخافون ؟ . وقال عطاء : كان يتم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص وأتم عثمان ، ولكن ذلك معلل بعلل تقدم بعضها . وذهب جماعة إلى أن الله تعالى لم يبح القصر في كتابه إلا بشرطين : السفر والخوف ، وفي غير الخوف بالسنة ، منهم الشافعي وقد تقدم . وذهب آخرون إلى أن قوله تعالى : إن خفتم ليس متصلا بما قبل ، وأن الكلام تم عند قوله : من الصلاة ثم افتتح فقال : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف . وقوله : إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا كلام معترض ، قاله الجرجاني وذكره المهدوي وغيرهما . ورد هذا القول القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي . قال القشيري أبو نصر : وفي الحمل على هذا تكلف شديد ، وإن أطنب الرجل - يريد الجرجاني - في التقدير وضرب الأمثلة . وقال ابن العربي : وهذا كله لم يفتقر إليه عمر ولا ابنه ولا يعلى بن أمية معهما .
قلت : قد جاء حديث بما قاله الجرجاني ذكره القاضي أبو الوليد بن رشد في مقدماته ، وابن عطية أيضا في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إلى آخر صلاة الخوف . فإن صح هذا الخبر فليس لأحد معه مقال ، ويكون فيه دليل على القصر في غير الخوف بالقرآن . وقد روي عن ابن عباس أيضا مثله ، قال : إن قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة نزلت في الصلاة في السفر ، ثم نزل إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا في الخوف بعدها بعام . فالآية على هذا تضمنت قضيتين وحكمين . فقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة يعني به في السفر ؛ وتم الكلام ، ثم ابتداء فريضة أخرى فقدم الشرط ، والتقدير : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . والواو زائدة ، والجواب فلتقم طائفة منهم معك . وقوله : إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا اعتراض . وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهو حديث عمر إذ روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته . قال النحاس : من جعل قصر النبي صلى الله عليه وسلم في غير خوف وفعله في ذلك ناسخا للآية فقد غلط ؛ لأنه ليس في الآية منع للقصر في الأمن ، وإنما فيها إباحة القصر في الخوف فقط .
العاشرة : قوله تعالى : أن يفتنكم الذين كفروا قال الفراء : أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل . وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل . وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا : فتنته جعلت فيه فتنة مثل أكحلته ، وأفتنته جعلته مفتتنا . وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته . إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا عدوا هاهنا بمعنى أعداء . والله أعلم .
وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا ١٠١
تفسير الآيتين 101 و102 :ـ هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر، وصلاة الخوف، يقول تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: في السفر، وظاهر الآية [أنه] يقتضي الترخص في أي سفر كان ولو كان سفر معصية، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وخالف في ذلك الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم، فلم يجوزوا الترخص في سفر المعصية، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف. وقوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه. ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران: أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره. والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. وقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان: إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: { مِنَ الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الثانية: أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين. فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف. ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول. وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال. فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد. وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة. وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة. ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } أي: صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله. ثم فسَّر ذلك بقوله: { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } أي: وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي: { فَإِذَا سَجَدُوا } أي: الذين معك أي: أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود، وأنه ركن من أركانها، بل هو أعظم أركانها. { فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف. فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى. والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها. وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد. ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه، ولكن مع أخذ الحذر فقال: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم، ويأخذوهم ويحصروهم، ويقعدوا لهم كل مرصد، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا عنهم، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم. فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات. وفي قوله: { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له. ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه. وفي قوله: { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى، وحكما في ركعتهم الأخيرة، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم، وهذا ظاهر للمتأمل.
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٢٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٢٠١
صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صوبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة ثلاثية كالمغرب ، وتارة ثنائية ، كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة .
ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة ; لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل . قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد . وإليه ذهب طاوس والضحاك .
وقد حكى أبو عاصم العبادي عن محمد بن نصر المروزي ; أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضا .
وقال إسحاق ابن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة ، تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ; لأنها ذكر الله .
وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة . فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق ابن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي ، حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش ، عن شعيب بن دينار ، عنه ، فالله أعلم .
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر ، قيل : والظهر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء . وكما قال بعدها - يوم بني قريظة ، حين جهز إليهم الجيش - : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخر آخرون منهم العصر ، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة ، وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر ، وإن كان الآخرون معذورين أيضا ، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف ، فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري ، الذي رواه الشافعي وأهل السنن ، ولكن يشكل على هذا ما حكاه البخاري رحمه الله ، في صحيحه ، حيث قال :
" باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو " : قال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة ، صلوا إيماء ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين . فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ، ويؤخرونها حتى يأمنوا . وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففتح لنا ، قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها .
انتهى ما ذكره ، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ، ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم .
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالبا ، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ، ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم .
[ و ] قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق ; لأن ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي . وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق ، وموسى بن عقبة ، والواقدي ، ومحمد بن سعد كاتبه ، وخليفة بن خياط وغيرهم وقال البخاري وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى وما قدم إلا في خيبر ، والله أعلم . والعجب - كل العجب - أن المزني ، وأبا يوسف القاضي ، وإبراهيم بن إسماعيل بن علية ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره ، عليه السلام ، الصلاة يوم الخندق . وهذا غريب جدا ، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف ، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب ، والله أعلم .
فقوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) أي : إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف ، وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها إلى ركعة ، كما دل عليه الحديث ، فرادى ورجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد . وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك ، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : ( وإذا كنت فيهم ) فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة ، الذين احتجوا بقوله : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ) [ التوبة : 103 ] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه ، ولا ندفعها إلى من صلاته ، أي : دعاؤه ، سكن لنا ، ومع هذا رد عليهم الصحابة وأبوا عليهم هذا الاستدلال ، وأجبروهم على أداء الزكاة ، وقاتلوا من منعها منهم .
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، أنبأنا سيف عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها . قال : فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا . وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ) إلى قوله : ( أعد للكافرين عذابا مهينا ) ] فنزلت صلاة الخوف .
وهذا سياق غريب جدا ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي ، واسمه زيد بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم . ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم . قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) قال : فحضرت ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، [ قال ] فصفنا خلفه صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف . قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم .
ثم رواه أحمد ، عن غندر ، عن شعبة ، عن منصور ، به نحوه . وهكذا رواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن جرير بن عبد الحميد ، والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد ، كلهم عن منصور ، به .
وهذا إسناد صحيح ، وله شواهد كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوا معه ، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا ، وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه ، والناس كلهم في الصلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري : أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل ؟ أو : أي يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد . قال : " نعم " ، قال : هل تخافني ؟ قال : " لا " . قال : فما يمنعك مني ؟ قال : " الله يمنعني منك " . قال : فسل السيف ثم تهدده وأوعده ، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم . فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، والقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سليمان بن قيس اليشكري ، عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة فجاء رجل منهم يقال له : " غورث بن الحارث " حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ قال : " الله " ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ومن يمنعك مني " ؟ قال : كن خير آخذ . قال : " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ " قال : لا ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فأتى قومه فقال : جئتكم من عند خير الناس . فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء ، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين ، وانصرفوا ، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم . وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين .
تفرد به من هذا الوجه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم ، حدثنا المسعودي ، عن يزيد الفقير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر : أقصرهما ؟ قال : الركعتان في السفر تمام ، إنما القصر واحدة عند القتال ، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذ أقيمت الصلاة ، فقام رسول الله صلى فصف طائفة ، وطائفة وجهها قبل العدو ، فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا ، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم ، وسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وللقوم ركعة ركعة ، ثم قرأ : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صف بين يديه ، وصف خلفه ، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ، ثم سلم . فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة .
ورواه النسائي من حديث شعبة ، ولهذا الحديث طرق عن جابر وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) قال : هي صلاة الخوف ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة . وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر ، به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة ، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه وألفاظه ، وكذا ابن جرير ، ولنحرره في كتاب " الأحكام الكبير " إن شاء الله ، وبه الثقة .
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف ، فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله : ( ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ) أي : بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا )
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٢٠١
قوله : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا
فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ؛ قال : ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ؛ قال : فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة . وذكر الحديث . وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى . وهذا كان سبب إسلام خالد رضي الله عنه . وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد . وبين الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو ، ولكن فيها رخص على ما تقدم في " البقرة " وهذه السورة ، بيانه من اختلاف العلماء . وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة ، ومثله قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة هذا قول كافة العلماء . وشذ أبو يوسف وإسماعيل ابن علية فقالا : لا نصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى : وإذا كنت فيهم وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في ذلك ، وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه ، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه ، والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب ؛ فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي بالفريق الآخر ، وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا . وقال الجمهور : إنا قد أمرنا باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث ، فقال تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة وقال صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي . فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص ؛ ولو كان ما ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له ، وحينئذ كان يلزم أن تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها ؛ ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وقد قال تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وهذا خطاب له ، وأمته داخلة فيه ، ومثله كثير . وقال تعالى : خذ من أموالهم صدقة وذلك لا يوجب الاقتصار عليه وحده ، وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه ؛ فكذلك في قوله : وإذا كنت فيهم . ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف . قال أبو عمر : ليس في أخذ الزكاة التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف غيره ؛ لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها للمساكين ، وليس فيها فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلي خلفه .
الثانية : قوله تعالى : فلتقم طائفة منهم معك يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة . وليأخذوا أسلحتهم يعني الذين يصلون معك . ويقال : وليأخذوا أسلحتهم الذين هم بإزاء العدو ، على ما يأتي بيانه . ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة ، ولكن روي في الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى ، على ما يأتي . وحذفت الكسرة من قوله : فلتقم وفليكونوا لثقلها . وحكى الأخفش والفراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام الجحود يفتحن . وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة ، وهي الفرق بين لام الجر ولام التأكيد . والمراد من هذا الأمر الانقسام ، أي وسائرهم وجاه العدو حذرا من توقع حملته .
وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف ، واختلف العلماء لاختلافها ، فذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع . قال ابن العربي : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة . وقال الإمام أحمد بن حنبل ، وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه : لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت . وهي كلها صحاح ثابتة ، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله . وكذلك قال أبو جعفر الطبري . وأما مالك وسائر أصحابه إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة ، وهو ما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو ، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم ، فإذا استوى قائما ثبت ، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم ، فيكونون وجاه العدو ، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم ، فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون . قال ابن القاسم صاحب مالك : والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات . قال ابن القاسم : وقد كان يأخذ بحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا . قال أبو عمر : حديث القاسم وحديث يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات : إلا أن بينهما فصلا في السلام ، ففي حديث القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة ، وفي حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم . وبه قال الشافعي وإليه ذهب ؛ قال الشافعي : حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله ، وبه أقول . ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر الصلوات ، في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها ، وأن السنة المجتمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام . وقول أبي ثور في هذا الباب كقول مالك ، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده ، وكان لا يعيب من فعل شيئا من الأوجه المروية في صلاة الخوف . وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة . وقال ابن عمر : فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبا أو قائما يومئ إيماء ، أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم . وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر ، قال : لأنه أصحها إسنادا ، وقد ورد بنقل أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم ، ولأنه أشبه بالأصول ، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة ، وهو المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات . وأما الكوفيون : أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبد الله بن مسعود ، أخرجه أبو داود والدارقطني قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين ، صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل العدو ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ، وجاء الآخرون فقاموا مقامهم ، واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلم ، فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو ، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا . وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا ؛ وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس وحده ، وهاهنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم . وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما جاء في حديث ابن مسعود . وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات الثلاث عنه - وأشهب بن عبد العزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه ، والأول ذكره أبو عمر وابن يونس وابن حبيب عنه . وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا ، وهو مقتضى حديث ابن عباس " وفي الخوف ركعة " . وهذا قول إسحاق . وقد تقدم في " البقرة " الإشارة إلى هذا ، وأن الصلاة أولى بما احتيط لها ، وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة ، وقوله في حديث حذيفة وغيره : " ولم يقضوا " أي في علم من روى ذلك ، لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها ، وشهادة من زاد أولى . ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا ، أي لم يقضوا إذا أمنوا ، وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات في الخوف ، قال جميعه أبو عمر . وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه السلام صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين . قال : فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان . وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين . وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم ، ثم صلى بالآخرين ركعتين ثم سلم . قال أبو داود : وبذلك كان الحسن يفتي ، وروي عن الشافعي . وبه يحتج كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة ، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن علية وأحمد بن حنبل وداود . وعضدوا هذا بحديث جابر : أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه ، الحديث . وقال الطحاوي : إنما كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك ، والله أعلم . فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف .
الثالثة : وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة ، وإنما اتفق هذا بذات الرقاع ، فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة . وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين ، فإن في الحديث بعد قوله : فأقمت لهم الصلاة قال : فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، قال : ثم رفع فرفعنا جميعا ، قال : ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال : والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ، قال : ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، قال : ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ، والأخرون قيام ، يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم . قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم . وأخرجه أبو داود من حديث أبي عياش الزرقي وقال : وهو قول الثوري وهو أحوطها . وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان ؛ الحديث . وفيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة ، فكانت للقوم ركعة ركعة ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان ، قال : حديث حسن صحيح غريب . وفي الباب عن عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت ، وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثمة .
قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات ، فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين ، وصلى بهم صلاة أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة ، ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة . قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة ، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة .
الرابعة : واختلفوا في كيفية صلاة المغرب ، فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا ، وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاث ركعات ، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا ، وبه قال الحسن . والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا ، وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ، وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سلام الإمام أو بعده . هذا قول مالك وأبي حنيفة ، لأنه أحفظ لهيئة الصلاة . وقال الشافعي : يصلى بالأولى ركعة ، لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير ، والله تعالى أعلم .
الخامسة : واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء : يصلي كيفما أمكن ، لقول ابن عمر : فإن كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء . قال في الموطأ : مستقبل القبلة وغير مستقبلها ، وقد تقدم في " البقرة " قول الضحاك وإسحاق . وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه ؛ فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا ؛ وبه قال مكحول .
قلت : وحكاه الكيا الطبري في " أحكام القرآن " له عن أبي حنيفة وأصحابه ، قال الكيا : وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها ، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة . وإن قاتلوا في الصلاة قالوا : فسدت الصلاة وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته .
قلت : وهذا القول يدل على صحة قول أنس : حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال فلم نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار ؛ فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا . قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها ، ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة ؛ وهو اختيار البخاري فيما يظهر ؛ لأنه أردفه بحديث جابر ، قال : جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله ، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا والله ما صليتها قال : فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها .
السادسة : واختلفوا في صلاة الطالب والمطلوب ؛ فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء ، كل واحد منهما يصلي على دابته . وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يصلي الطالب إلا بالأرض وهو الصحيح ؛ لأن الطلب تطوع ، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلى بالأرض حيثما أمكن ذلك ، ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب . والله أعلم .
السابعة : واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم أنه غير شيء ؛ فلعلمائنا فيه روايتان : إحداهما يعيدون ، وبه قال أبو حنيفة . والثانية لا إعادة عليهم ، وهو أظهر قولي الشافعي . ووجه الأولى أنهم تبين لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم . ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز لهم كما لو أخطئوا القبلة ؛ وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به . وقد يقال : يعيدون في الوقت ، فأما بعد خروجه فلا . والله أعلم .
الثامنة : قوله تعالى : وليأخذوا أسلحتهم وقال وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو أمله ويدرك فرصته . والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب ، قال عنترة :
كسوت الجعد بني أبان سلاحي بعد عري وافتضاح
يقول : أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من السلاح . قال ابن عباس : وليأخذوا أسلحتهم يعني الطائفة التي وجاه العدو ، لأن المصلية لا تحارب . وقال غيره : هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم ، ذكره الزجاج . قال : ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح ؛ أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو . النحاس : يجوز أن يكون للجميع ؛ لأنه أهيب للعدو . ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة . قال أبو عمر : أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف ، ويحملون قوله : وليأخذوا أسلحتهم على الندب ؛ لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه ؛ فكان الأمر به ندبا . وقال أهل الظاهر : أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به ، إلا لمن كان به أذى من مطر ، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه . قال ابن العربي : إذا صلوا أخذوا سلاحهم عند الخوف ، وبه قال الشافعي وهو نص القرآن . وقال أبو حنيفة : لا يحملونها ؛ لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها . قلنا : لم يجب حملها لأجل الصلاة وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا .
التاسعة : قوله تعالى : فإذا سجدوا الضمير في سجدوا للطائفة المصلية فلينصرفوا ؛ هذا على بعض الهيئات المروية . وقيل : المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء ؛ وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة . ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة ؛ وهو كقوله عليه السلام : إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين . أي فليصل ركعتين وهو في السنة . والضمير في قوله : فليكونوا يحتمل أن يكون للذين سجدوا ، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو .
العاشرة : قوله تعالى : ود الذين كفروا أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح ليصلوا إلى مقصودهم ؛ فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح ، وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى ؛ لأنها أولى بأخذ الحذر ، لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة ؛ وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا . وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب ، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب ، ويوصل إلى السلامة ، ويبلغ دار الكرامة . ومعنى ميلة واحدة مبالغة ، أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية .
الحادية عشرة : قوله تعالى : ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر الآية . للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه ، فإن لم يجب فيستحب للاحتياط . ثم رخص في المطر وضعه ؛ لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد . وقيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون ؛ وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه ، فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه ، فقال : من يمنعك مني اليوم ؟ فقال : الله ثم قال : اللهم اكفني الغورث بما شئت . فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه ، فانكب لوجهه لزلقة زلقها . وذكر الواقدي أن جبريل عليه السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة ، وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك مني يا غورث ؟ فقال : لا أحد . فقال : تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك ؟ قال : لا ؛ ولكن أشهد ألا أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا ؛ فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع السلاح في المطر . ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري ، فرخص الله سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر ، ثم أمرهم فقال : خذوا حذركم أي كونوا متيقظين ، وضعتم السلاح أو لم تضعوه . وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام ؛ فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط في حذر ، وقال الضحاك في قوله تعالى : وخذوا حذركم يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك هيئة الغزاة .
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ وَلۡتَأۡتِ طَآئِفَةٌ أُخۡرَىٰ لَمۡ يُصَلُّواْ فَلۡيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلۡيَأۡخُذُواْ حِذۡرَهُمۡ وَأَسۡلِحَتَهُمۡۗ وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ تَغۡفُلُونَ عَنۡ أَسۡلِحَتِكُمۡ وَأَمۡتِعَتِكُمۡ فَيَمِيلُونَ عَلَيۡكُم مَّيۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن كَانَ بِكُمۡ أَذٗى مِّن مَّطَرٍ أَوۡ كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓاْ أَسۡلِحَتَكُمۡۖ وَخُذُواْ حِذۡرَكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ٢٠١
تفسير الآيتين 101 و102 :ـ هاتان الآيتان أصل في رخصة القصر، وصلاة الخوف، يقول تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي: في السفر، وظاهر الآية [أنه] يقتضي الترخص في أي سفر كان ولو كان سفر معصية، كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وخالف في ذلك الجمهور، وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم، فلم يجوزوا الترخص في سفر المعصية، تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة، فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا، والعاصي بسفره لا يناسب حاله التخفيف. وقوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك، ولا ينافي ذلك كون القصر هو الأفضل، لأن نفي الحرج إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس، بل ولا ينافي الوجوب كما تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة، لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين وجوبها على هذه الصفة التامة، ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إلا بذكر ما ينافيه. ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران: أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره. والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد، والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. وقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ } ولم يقل أن تقصروا الصلاة فيه فائدتان: إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود، فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة وجعلها ركعة واحدة لأجزأ، فإتيانه بقوله: { مِنَ الصَّلَاةِ } ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط، مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الثانية: أن { من } تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات لا جميعها، فإن الفجر والمغرب لا يقصران وإنما الذي يقصر الصلاة الرباعية من أربع إلى ركعتين. فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة، فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد، وهو قوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } الذي يدل ظاهره أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما، السفر مع الخوف. ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله: { أَنْ تَقْصُرُوا } قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال إنما يكون على الوجه الأول. وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لنا نقصر الصلاة وقد أمِنَّا؟ أي: والله يقول: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" أو كما قال. فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليها، فإن غالب أسفاره أسفار جهاد. وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة القصر، فبيَّن في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة، وهي اجتماع السفر والخوف، ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده، الذي هو مظنة المشقة. وأما على الوجه الثاني، وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة فإن القيد على بابه، فإذا وجد السفر والخوف، جاز قصر العدد، وقصر الصفة، وإذا وجد السفر وحده جاز قصر العدد فقط، أو الخوف وحده جاز قصر الصفة. ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } أي: صليت بهم صلاة تقيمها وتتم ما يجب فيها ويلزم، فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله. ثم فسَّر ذلك بقوله: { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } أي: وطائفة قائمة بإزاء العدو كما يدل على ذلك ما يأتي: { فَإِذَا سَجَدُوا } أي: الذين معك أي: أكملوا صلاتهم وعبر عن الصلاة بالسجود ليدل على فضل السجود، وأنه ركن من أركانها، بل هو أعظم أركانها. { فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى منتظرا للطائفة الثانية، فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف. فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة، وهذه الآية تدل على أن صلاة الجماعة فرض عين من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة، وقت اشتداد الخوف من الأعداء وحذر مهاجمتهم، فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن من باب أَوْلَى وأحرى. والثاني: أن المصلين صلاة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم، ويعفى فيها عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها، وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة، لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، فلولا وجوب الجماعة لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها. وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل أن يصلوا بإمام واحد. ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة، وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم، وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم، وأمر تعالى بأخذ السلاح والحذر في صلاة الخوف، وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلاة فإن فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلاة والجهاد، والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص على الإيقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى أمتعتهم، ولهذا قال تعالى: { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلاحه، ولكن مع أخذ الحذر فقال: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم، ويأخذوهم ويحصروهم، ويقعدوا لهم كل مرصد، ويحذروهم في جميع الأحوال، ولا يغفلوا عنهم، خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم. فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات. وفي قوله: { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى قبل السلام، لأنه أولا ذكر أن الطائفة تقوم معه، فأخبر عن مصاحبتهم له. ثم أضاف الفعل بعْدُ إليهم دون الرسول، فدل ذلك على ما ذكرناه. وفي قوله: { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة في ركعتهم الأولى، وحكما في ركعتهم الأخيرة، فيستلزم ذلك انتظار الإمام إياهم حتى يكملوا صلاتهم، ثم يسلم بهم، وهذا ظاهر للمتأمل.
فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا ٣٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا ٣٠١
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك ، مما ليس يوجد في غيرها ، كما قال تعالى في الأشهر الحرم : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) [ التوبة : 36 ] ، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها ; ولهذا قال تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ) أي في سائر أحوالكم .
ثم قال : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) أي : فإذا أمنتم وذهب الخوف ، وحصلت الطمأنينة ( فأقيموا الصلاة ) أي : فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها ، وخشوعها ، وسجودها وركوعها ، وجميع شئونها .
وقوله : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) قال ابن عباس : أي مفروضا . وكذا روي عن مجاهد ، وسالم بن عبد الله ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، والحسن ، ومقاتل ، والسدي ، وعطية العوفي .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا كوقت الحج .
وقال زيد بن أسلم : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) قال : منجما ، كلما مضى نجم ، جاءتهم يعني : كلما مضى وقت جاء وقت .
فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا ٣٠١
قوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا
فيه مسائل :
الأولى : قضيتم معناه فرغتم من صلاة الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل فيما قد فعل في وقته ؛ ومنه قوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم وقد تقدم .
الثانية : قوله تعالى : فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ذهب الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به . إنما هو إثر صلاة الخوف ؛ أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان ، على أي حال كنتم قياما وقعودا وعلى جنوبكم وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال . ونظيره إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون . ويقال : فإذا قضيتم الصلاة بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب ، أو قياما أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام ، إذا كان خوفا أو مرضا ؛ كما قال تعالى في آية أخرى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وقال قوم : هذه الآية نظيرة التي في " آل عمران " ؛ فروي أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يضجون في المسجد فقال : ما هذه الضجة ؟ قالوا : أليس الله تعالى يقول فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ؟ قال : إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا ، وإن لم تستطع فصل على جنبك . فالمراد نفس الصلاة ؛ لأن الصلاة ذكر الله تعالى ، وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة ؛ والقول الأول أظهر . والله أعلم .
الثالثة : قوله تعالى : فإذا اطمأننتم أي أمنتم . والطمأنينة سكون النفس من الخوف . فأقيموا الصلاة أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر ، وبكمال عددها في الحضر . إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أي مؤقتة مفروضة . وقال زيد بن أسلم : موقوتا منجما ، أي تؤدونها في أنجمها ؛ والمعنى عند أهل اللغة : مفروض لوقت بعينه ؛ يقال : وقته فهو موقوت . ووقته فهو مؤقت . وهذا قول زيد بن أسلم بعينه . وقال : كتابا والمصدر مذكر ؛ فلهذا قال : موقوتا .
فَإِذَا قَضَيۡتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمۡۚ فَإِذَا ٱطۡمَأۡنَنتُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۚ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا ٣٠١
أي: فإذا فرغتم من صلاتكم، صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد. منها: أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه. وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه. ومنها: أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة. ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها. ومنها: أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب. ومنها: أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم. وقوله: { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة } أي: إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها. { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أي: مفروضا في وقته، فدل ذلك على فرضيتها، وأن لها وقتا لا تصح إلا به، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ودل قوله: { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة، ولا يؤمرون بها، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم، وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الأحكام في الآخرة.
وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ٤٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ٤٠١
وقوله : ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) أي : لا تضعفوا في طلب عدوكم ، بل جدوا فيهم وقاتلوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد : ( إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ) أي : كما يصيبكم الجراح والقتل ، كذلك يحصل لهم ، كما قال ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) [ آل عمران : 140 ] .
ثم قال : ( وترجون من الله ما لا يرجون ) أي : أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام ، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد ، وهم لا يرجون شيئا من ذلك ، فأنتم أولى بالجهاد منهم ، وأشد رغبة في إقامة كلمة الله وإعلائها .
( وكان الله عليما حكيما ) أي : هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه ، وينفذه ويمضيه ، من أحكامه الكونية والشرعية ، وهو المحمود على كل حال .
وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ٤٠١
قوله تعالى : ولا تهنوا أي لا تضعفوا ، وقد تقدم في " آل عمران " . في ابتغاء القوم طلبهم قيل : نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج في آثار المشركين ، وكان بالمسلمين جراحات ، وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة ، كما تقدم في " آل عمران " وقيل : هذا في كل جهاد
قوله تعالى : إن تكونوا تألمون أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم يتألمون أيضا مما يصيبهم ، ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه ؛ وذلك أن من لا يؤمن بالله لا يرجو من الله شيئا . ونظير هذه الآية إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وقد تقدم . وقرأ عبد الرحمن الأعرج " أن تكونوا " بفتح الهمزة ، أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر " إن تكونوا تئلمون " بكسر التاء . ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها . ثم قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ؛ لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو . وقال الفراء والزجاج : لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي ؛ كقوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا أي لا تخافون لله عظمة . وقوله تعالى : للذين لا يرجون أيام الله أي لا يخافون . قال القشيري : ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي ، ولكنهما ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي . والله أعلم .
وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ٤٠١
أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار، أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإن وَهَن القلب مستدع لوَهَن البدن، وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء. بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم. ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين: الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك، لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يدال مرة، ويدال عليه أخرى. الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من نصر دين الله، وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام، وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين، فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة، وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛ لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي إن ناله، ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية، والفوز برضوان الله وجنته، فسبحان من فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه وحكمته، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } كامل العلم كامل الحكمة
إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ٥٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ٥٠١
يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) أي : هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه .
وقوله : ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ، عليه السلام ، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس عندهما بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة " . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه " .
وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد ، به . وزاد : " إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه " .
وقد روى ابن مردويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجل من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء . وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه . فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) [ يقول : احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب ] ( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ] ) ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله [ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ] ) يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ] ) يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ) يعني : السارق والذين جادلوا عن السارق . وهذا سياق غريب وكذا ذكر مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة .
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه ، وابن جرير في تفسيره :
حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان ، رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلا منافقا ، يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا ابن الأبيرق قالها . قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مشربة له ، وفي المشربة سلاح : درع وسيف ، فعدي عليه من تحت البيت ، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه . فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم .
قال : وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام . فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة . قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها .
فقال لي عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ، فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه . فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سآمر في ذلك " .
فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له : أسير بن عمرو فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت . قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة ؟ ؟
قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) بني أبيرق
إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ٥٠١
قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما
فيه أربع مسائل :
الأولى : في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه ، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم ، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة : بشر وبشير ومبشر ، وأسير بن عروة ابن عم لهم ؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما ، فعثر على ذلك . وقيل إن السارق بشير وحده ، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا ؛ قيل : كان الدرع في جراب فيه دقيق ، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة ؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة ؛ فأنزل الله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم الآية . وأنزل الله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل . وقيل : زيد بن السمين وقيل : رجل من الأنصار . فلما أنزل الله ما أنزل ، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة ، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد ؛ فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها ، وهو :
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمو
وفينا نبي عنده الوحي واضعه
فلما بلغها قالت : إنما أهديت لي شعر حسان ؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل ، فهرب إلى خيبر وارتد . ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا . ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني . وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة . وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره ، والقشيري كذلك وزاد ذكر الردة . ثم قيل : كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين . وقيل : كان لبيد مسلما . وذكره المهدوي ، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له ، فدل ذلك على إسلامه عنده . وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره ، وكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث . فقال شعرا يتنصل فيه ؛ فمنه قوله :
أوكلما قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها
وقال الضحاك : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا ، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به ؛ فنزل ها أنتم هؤلاء يعني اليهود . والله أعلم .
الثانية : قوله تعالى : بما أراك الله معناه على قوانين الشرع ؛ إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي . وهذا أصل في القياس ، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب ؛ لأن الله تعالى أراه ذلك ، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه ، ولم يرد رؤية العين هنا ؛ لأن الحكم لا يرى بالعين . وفي الكلام إضمار ، أي بما أراكه الله ، وفيه إضمار آخر ، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم .
الثالثة : قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما اسم فاعل ؛ كقولك : جالسته فأنا جليسه ، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول ؛ يدل على ذلك ولا تجادل فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء . وقيل : خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا . فنهى الله عز وجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة . وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز . فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق . ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس ؛ فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم ، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى .
المسألة الرابعة : قال العلماء : ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم ؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما وقوله : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين : أحدهما : أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله : ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا . والآخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم ، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره ، فدل على أن القصد لغيره .
إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ٥٠١
يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملا أيضا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس. وفي الآية الأخرى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }. فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام. وقوله: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } أي: لا بهواك بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله: { بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال: { وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } أي: لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم.
وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦٠١
( واستغفر الله ) مما قلت لقتادة ( إن الله كان غفورا رحيما)
وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦٠١
قوله تعالى : واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما
فيه مسألة واحدة :
ذهب الطبري إلى أن المعنى : استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين ؛ فأمره بالاستغفار لما هم بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي . وهذا مذهب من جوز الصغائر على الأنبياء ، صلوات الله عليهم . قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم . والمعنى : واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل ؛ ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع ، وتستغفر للمذنب . وقيل : هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح ، كالرجل يقول : أستغفر الله ؛ على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب . وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بنو أبيرق ، كقوله تعالى : يا أيها النبي اتق الله ، فإن كنت في شك .
وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٦٠١
{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما صدر منك إن صدر. { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: يغفر الذنب العظيم لمن استغفره، وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه.
وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا ٧٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا ٧٠١
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما . يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم ] ) إلى قوله : ( رحيما ) أي : لو استغفروا الله لغفر لهم ( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ) إلى قوله : ( إثما مبينا ) قولهم للبيد : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته ) إلى قوله : ( فسوف نؤتيه أجرا عظيما )
فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة .
فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا ، قد عشا أو عسا - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله . فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية ، فأنزل الله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعره ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت به فرمت به في الأبطح ، ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ؟ ما كنت تأتيني بخير .
لفظ الترمذي ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني : وروى يونس بن بكير وغير واحد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده .
ورواه ابن حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به ببعضه .
ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني الصائغ - حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة - فذكره بطوله .
ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب ، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به . ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل .
وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري هذا الحديث في كتابه " المستدرك " عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق - بمعناه أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه .
وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا ٧٠١
قوله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما
أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم ؛ نزلت في أسير بن عروة كما تقدم . والمجادلة المخاصمة ، من الجدل وهو الفتل ؛ ومنه رجل مجدول الخلق ، ومنه الأجدل للصقر . وقيل : هو من الجدالة وهي وجه الأرض ، فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ؛ قال العجاج :
قد أركب الحالة بعد الحاله وأترك العاجز بالجداله منعفرا ليست له محاله
الجدالة : الأرض ؛ من ذلك قولهم : تركته مجدلا ؛ أي مطروحا على الجدالة .
قوله تعالى : إن الله لا يحب أي لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر . من كان خوانا خائنا . وخوانا أبلغ ؛ لأنه من أبنية المبالغة ؛ وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة . والله أعلم .
وَلَا تُجَٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمٗا ٧٠١
{ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } "الاختيان" و "الخيانة" بمعنى الجناية والظلم والإثم، وهذا يشمل النهي عن المجادلة، عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير، فإنه لا يجادل عنه بدفع ما صدر منه من الخيانة، أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } أي: كثير الخيانة والإثم، وإذا انتفى الحب ثبت ضده وهو البُغْض، وهذا كالتعليل، للنهي المتقدم.
يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا ٨٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا ٨٠١
وقوله : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله [ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ] ) الآية ، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ; ولهذا قال : ( وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ) تهديد لهم ووعيد .
يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا ٨٠١
قوله تعالى : يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا
قال الضحاك : لما سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب ؛ فنزلت يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله يقول : لا يخفى مكان الدرع على الله وقيل : يستخفون من الناس أي يستترون ، كما قال تعالى : ومن هو مستخف بالليل أي مستتر . وقيل : يستحيون من الناس ، وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار . ومعنى وهو معهم أي بالعلم والرؤية والسمع ، هذا قول أهل السنة . وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة : هو بكل مكان ، تمسكا بهذه الآية وما كان مثلها ، قالوا : لما قال وهو معهم ثبت أنه بكل مكان ، لأنه قد أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم ، فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم حين قال : هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه : هو في قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك . تعالى الله عما يقولون ! حكى ذلك وكيع رضي الله عنه . ومعنى يبيتون يقولون . قاله الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . ما لا يرضى أي ما لا يرضاه الله لأهل طاعته . من القول أي من الرأي والاعتقاد ، كقولك : مذهب مالك والشافعي . وقيل : القول بمعنى المقول ؛ لأن نفس القول لا يبيت .
يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا ٨٠١
ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وهذا من ضعف الإيمان، ونقصان اليقين، أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله، فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس، وهم مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم، ولم يبالوا بنظره واطلاعه عليهم. وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم، خصوصًا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول، من تبرئة الجاني، ورمي البريء بالجناية، والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ليفعل ما بيتوه. فقد جمعوا بين عدة جنايات، ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات، المطلع على سرائرهم وضمائرهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } أي: قد أحاط بذلك علما، ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة بل استأنى بهم، وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم الموجب للعقوبة البليغة.
هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا ٩٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا ٩٠١
ثم قال : ( ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا [ فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ] ) أي : هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدي لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر - وهم متعبدون بذلك - فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله ، عز وجل ، الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ في ترويج دعواهم ؟ أي : لا أحد يكون يومئذ لهم وكيلا ولهذا قال : ( أم من يكون عليهم وكيلا )
هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا ٩٠١
قوله تعالى : ها أنتم هؤلاء يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه . قال الزجاج : هؤلاء بمعنى الذين . جادلتم حاججتم . في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة استفهام معناه الإنكار والتوبيخ . أم من يكون عليهم وكيلا الوكيل : القائم بتدبير الأمور ، فالله تعالى قائم بتدبير خلقه . والمعنى : لا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار .
هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ جَٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَمَن يُجَٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ وَكِيلٗا ٩٠١
{ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا، ودفع عنهم جدالُكم بعض ما تحذرون من العار والفضيحة عند الخَلْق، فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟ وفي هذه الآية إرشاد إلى المقابلة بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه، وبين ما يفوت من ثواب الآخرة أو يحصل من عقوباتها. فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسلا وتفريطا فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟ وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها: هبك فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم والحسرات، وفوات الثواب وحصول العقاب - ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبدَ تدبرُه، وهو خاصة العقل الحقيقي. بخلاف الذي يدعي العقل، وليس كذلك، فإنه بجهله وظلمه يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة، ولو ترتب عليها ما ترتب. والله المستعان.
وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠١١
يخبر ، تعالى ، عن كرمه وجوده : أن كل من تاب إليه تاب عليه من أي ذنب كان .
فقال تعالى : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما )
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ، ومغفرته ، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا ( ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال . رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا محمد بن مثنى ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا - فقال عبد الله : ما آتاكم الله خيرا مما آتاهم ، جعل الماء لكم طهورا ، وقال : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) [ آل عمران : 135 ] وقال ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما )
وقال أيضا : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم ، حدثنا ابن عون ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ، فلما ولدت قتلت ولدها ؟ قال عبد الله بن مغفل : ما لها ؟ لها النار ! فانصرفت وهي تبكي ، فدعاها ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) قال : فمسحت عينها ، ثم مضت .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن عثمان بن المغيرة قال : سمعت علي بن ربيعة من بني أسد ، يحدث عن أسماء - أو ابن أسماء من بني فزارة - قال : قال علي ، رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله شيئا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه . وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ فيصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له " . وقرأ هاتين الآيتين : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ] ) ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ) الآية .
وقد تكلمنا على هذا الحديث ، وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن ، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه . وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضا .
وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، حدثنا داود بن مهران الدباغ ، حدثنا عمر بن يزيد ، عن أبي إسحاق ، عن عبد خير ، عن علي قال : سمعت أبا بكر - هو الصديق - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه ، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه ، إلا كان حقا على الله أن يغفر له ; لأنه يقول : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ] ) .
ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث ، عن علي ، عن الصديق - بنحوه . وهذا إسناد لا يصح .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا موسى بن مروان الرقي ، حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي ، عن تمام بن نجيح ، حدثني كعب بن ذهل الأزدي قال : سمعت أبا الدرداء يحدث قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله ، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه ، وإنه قام فترك نعليه . قال أبو الدرداء : فأخذ ركوة من ماء فاتبعته ، فمضى ساعة ، ثم رجع ولم يقض حاجته ، فقال : " إنه أتاني آت من ربي فقال : إنه : ( من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ) فأردت أن أبشر أصحابي " . قال أبو الدرداء : وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر ربه ، غفر له ؟ قال : " نعم " قلت الثانية ، قال : " نعم " ، ثم قلت الثالثة ، قال : " نعم ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر الله غفر له على رغم أنف عويمر " . قال : فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه .
هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه بهذا السياق ، وفي إسناده ضعف .
وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠١١
قوله تعالى : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما
قال ابن عباس : عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية ، أي ومن يعمل سوءا بأن يسرق أو يظلم نفسه بأن يشرك ثم يستغفر الله يعني بالتوبة ، فإن الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع ، وقد بيناه في " آل عمران " . وقال الضحاك : نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه الآية . وقيل : المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق . وروى سفيان عن أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا : قال عبد الله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة " النساء " ثم استغفر غفر له : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما . ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما شاء ، وإذا سمعته من غيره حلفته ، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال : ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له ، ثم تلا هذه الآية ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما .
وَمَن يَعۡمَلۡ سُوٓءًا أَوۡ يَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ يَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٠١١
{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي: من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة. فيغفر له ما صدر منه من الذنب، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة، ويوفقه فيما يستقبله من عمره، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه، لأنه قد غفره، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه. واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي، الصغيرة والكبيرة، وسمي "سوءًا" لكونه يسوء عامله بعقوبته، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن. وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده، وسمي ظلم النفس "ظلما" لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملاً، فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل، الذي ضده الجور والظلم.
وَمَن يَكۡسِبۡ إِثۡمٗا فَإِنَّمَا يَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَكۡسِبۡ إِثۡمٗا فَإِنَّمَا يَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١١
وقوله : ( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه [ وكان الله عليما حكيما ] ) كقوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى [ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ] ) الآية : [ فاطر : 18 ] يعني أنه لا يجني أحد على أحد ، وإنما على كل نفس ما عملت ، لا يحمل عنها غيرها ; ولهذا قال تعالى : ( وكان الله عليما حكيما ) أي : من علمه وحكمته ، وعدله ورحمته كان ذلك .
وَمَن يَكۡسِبۡ إِثۡمٗا فَإِنَّمَا يَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١١
قوله تعالى : ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى : ومن يكسب إثما أي ذنبا فإنما يكسبه على نفسه أي عاقبته عائدة عليه . والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا ؛ ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا .
وَمَن يَكۡسِبۡ إِثۡمٗا فَإِنَّمَا يَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ١١١
{ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير، فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه، لا تتعداها إلى غيرها، كما قال تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها، فلا تخرج أيضا عن حكم هذه الآية الكريمة، لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة. وفي هذا بيان عدل الله وحكمته، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي: له العلم الكامل والحكمة التامة. ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه، والسبب الداعي لفعله، والعقوبة المترتبة على فعله، ويعلم حالة المذنب، أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة. وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه، وتهاونا بعقابه، فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة.
وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢١١
ثم قال : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا [ فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ] ) يعني : كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح ، وهو لبيد بن سهل ، كما تقدم في الحديث ، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون ، وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة ، كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم . ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف مثل صفتهم وارتكب مثل خطيئتهم ، فعليه مثل عقوبتهم .
وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢١١
قوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما قيل : هما بمعنى واحد كرر لاختلاف اللفظ تأكيدا . وقال الطبري : إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد . وقيل : الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ . وقيل : الخطيئة الصغيرة ، والإثم الكبيرة ، وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل النازلة وغيرهم .
قوله تعالى : ثم يرم به بريئا قد تقدم اسم البريء في البقرة . والهاء في به للإثم أو للخطيئة . لأن معناها الإثم ، أو لهما جميعا . وقيل : ترجع إلى الكسب . فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا تشبيه ؛ إذ الذنوب ثقل ووزر فهي كالمحمولات . وقد قال تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . والبهتان من البهت ، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء . وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ؛ قال : ذكرك أخاك بما يكره . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته . وهذا نص ؛ فرمي البريء بهت له . يقال : بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال عليه ما لم يفعله . وهو بهات والمقول له مبهوت . ويقال : بهت الرجل ( بالكسر ) إذا دهش وتحير . وبهت ( بالضم ) مثله ، وأفصح منهما بهت ، كما قال الله تعالى : فبهت الذي كفر لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال : باهت ولا بهيت ، قاله الكسائي
وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢١١
{ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً } أي: ذنبا كبيرا { أَوْ إِثْمًا } ما دون ذلك. { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ } أي يتهم بذنبه { بَرِيئًا } من ذلك الذنب، وإن كان مذنبا. { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } أي: فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإثمًا ظاهرًا بينًا، وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها، فإنه قد جمع عدة مفاسد: كسب الخطيئة والإثم، ثم رَمْي مَن لم يفعلها بفعلها، ثم الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء، ثم ما يترتب على ذلك من العقوبة الدنيوية، تندفع عمن وجبت عليه، وتقام على من لا يستحقها. ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلام الناس في البريء إلى غير ذلك من المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر.
لَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا ٣١١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا ٣١١
وقوله : ( ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ) قال الإمام ابن أبي حاتم : أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق . عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان - وذكر قصة بني أبيرق ، فأنزل الله : ( لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ) يعني : أسير بن عروة وأصحابه . يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم ، وهم صلحاء برآء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتاب ، وهو القرآن ، والحكمة ، وهي السنة : ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) أي : [ من ] قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب [ ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم . صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ] ) [ الشورى : 52 ، 53 ] وقال تعالى : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) [ القصص : 86 ] ; ولهذا قال تعالى : ( وكان فضل الله عليك عظيما )
لَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا ٣١١
قوله تعالى : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما
قوله تعالى : ولولا فضل الله عليك ورحمته ما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف لا يظهر ، والمعنى : ولولا فضل الله عليك ورحمته بأن نبهك على الحق ، وقيل : بالنبوءة والعصمة . لهمت طائفة منهم أن يضلوك عن الحق ؛ لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها اليهودي ، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على ذلك وأعلمه إياه . وما يضلون إلا أنفسهم لأنهم يعملون عمل الضالين ، فوباله لهم راجع عليهم . وما يضرونك من شيء لأنك معصوم . وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة هذا ابتداء كلام . وقيل : الواو للحال ، كقولك : جئتك والشمس طالعة ، ومنه قول امرئ القيس :
وقد أغتدي والطير في وكناتها فالكلام متصل ، أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن . والحكمة القضاء بالوحي . وعلمك ما لم تكن تعلم يعني من الشرائع والأحكام . وتعلم في موضع نصب ؛ لأنه خبر كان . وحذفت الضمة من النون للجزم ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين .
لَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيۡءٖۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكَ عَظِيمٗا ٣١١
ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ } وذلك أن هذه الآيات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها: أن أهل بيت سرقوا في المدينة، فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة، وأخذوا سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك. واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس، وقالوا: إنه لم يسرق وإنما الذي سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء. فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم، فأنزل الله هذه الآيات تذكيرا وتبيينا لتلك الواقعة وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن الخائنين، فإن المخاصمة عن المبطل من الضلال، فإن الضلال نوعان: ضلال في العلم، وهو الجهل بالحق. وضلال في العمل، وهو العمل بغير ما يجب. فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلال [كما حفظه عن الضلال في الأعمال] وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم، كحالة كل ماكر، فقال: { وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ } لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم فيه مقصودهم، ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان والإثم والخسران. وهذه نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم تتضمن النعمة بالعمل، وهو التوفيق لفعل ما يجب، والعصمة له عن كل محرم. ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل شيء وعلم الأولين والآخِرين. والحكمة: إما السُّنَّة التي قد قال فيها بعض السلف: إن السُّنَّة تنزل عليه كما ينزل القرآن. وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها، وتنزيل الأشياء منازلها وترتيب كل شيء بحسبه. { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى. فإنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله: { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى } ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم يتعذر وصوله على الأولين والآخرين، فكان أعلم الخلق على الإطلاق، وأجمعهم لصفات الكمال، وأكملهم فيها، ولهذا قال: { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها
۞ لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤١١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤١١
يقول تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم ) يعني : كلام الناس ( إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) أي : إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه :
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتني به عن أم صالح اردده علي . فقال : حدثتني أم صالح ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له ما خلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر [ أو ذكر الله عز وجل " ، قال سفيان : فناشدته ] فقال محمد بن يزيد : ما أشد هذا الحديث ؟ فقال سفيان : وما شدة هذا الحديث ؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة ، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) [ النبأ : 38 ] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : ( والعصر . إن الإنسان لفي خسر . [ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ] ) [ سورة العصر ] ، فهو هذا بعينه .
وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان ، به . ولم يذكرا أقوال الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خنيس .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كيسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا - أو يقول خيرا " وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها . قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن الزهري ، به نحوه .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ، والصيام والصدقة ؟ " قالوا : بلى . قال : " إصلاح ذات البين " قال : " وفساد ذات البين هي الحالقة " .
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، حدثنا أبي ، عن حميد ، عن أنس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ " قال : بلى : قال : " تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العمري لين ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها .
ولهذا قال : ( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ) أي : مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل ( فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) أي : ثوابا كثيرا واسعا .
لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤١١
قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما
أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير ، وذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم . والنجوى : السر بين الاثنين ، تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون . ونجوت فلانا أنجوه نجوا ، أي ناجيته ، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه ، أي خلصته وأفردته ، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله ، قال الشاعر :
فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكين كمن يمشي بقرواح
فالنجوى المسارة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا . قال الله تعالى : وإذ هم نجوى فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس . وهو الاستثناء المنقطع . وقد تقدم ، وتكون " من " في موضع رفع ، أي : لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير . ويجوز أن تكون " من " في موضع خفض ويكون التقدير : لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف . وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين ، فتكون " من " في موضع خفض على البدل ، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . أو تكون في موضع نصب على قول من قال : ما مررت بأحد إلا زيدا . وقال بعض المفسرين منهم الزجاج : النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا ، وفيه بعد . والله أعلم . والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها . وقال مقاتل : المعروف هنا الفرض ، والأول أصح . وقال صلى الله عليه وسلم : كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق . وقال صلى الله عليه وسلم : المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره ، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر . وقال الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
وأنشد الرياشي :
يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو شكور
ففي شكر الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور
وقال الماوردي : " فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته ، ويبادر به خيفة عجزه ، وليعلم أنه من فرص زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه ، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما ، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا ، كما قال الشاعر :
ما زلت أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا
ولو فطن لنوائب دهره ، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة ، ومغارمه مجبورة ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح . وقيل لأنوشروان : ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال : أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت . وقال عبد الحميد : من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها . وقال بعض الشعراء :
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته :
أعلى الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعام
للنفع في الدنيا أريدك ، فانتبه لحوائجي من رقدة النوام
وقال العباس رضي الله عنه : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيله وتصغيره وستره ، فإذا عجلته هنأته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا سترته أتممته . وقال بعض الشعراء :
زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير
ومن شرط المعروف ترك الامتنان به ، وترك الإعجاب بفعله ، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر . وقد تقدم في " البقرة " بيانه .
قوله تعالى : أو إصلاح بين الناس عام في الدماء والأموال والأعراض ، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين ، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى . وفي الخبر : ( كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله تعالى ) . فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : رد الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن . وسيأتي في " المجادلة " ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال ، : من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله ، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا ، وتقرب بينهم إذا تباعدوا . وقال الأوزاعي : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين ، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار . وقال محمد بن المنكدر : تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما ، فلم أزل بهما حتى اصطلحا ؛ فقال أبو هريرة وهو يراني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد . ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له ، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه . و " ابتغاء " نصب على المفعول من أجله .
لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٤١١
أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: { إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ} من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث. { أَوْ مَعْرُوفٍ ْ} وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي. { أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ} والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ} وقال تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ} الآية. وقال تعالى: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ} والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله. كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ}. فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ} فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل.
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٥١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٥١١
وقوله : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) أي : ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فصار في شق والشرع في شق ، وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له . وقوله : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع ، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية ، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا ، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ ، تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم [ صلى الله عليه وسلم ] . وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة ، قد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب " أحاديث الأصول " ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عول عليه الشافعي ، رحمه الله ، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة ، بعد التروي والفكر الطويل . وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك .
ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله : ( نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) أي : إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك ، بأن نحسنها في صدره ونزينها له - استدراجا له - كما قال تعالى : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) [ القلم : 44 ] . وقال تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) [ الصف : 5 ] . وقوله ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأنعام : 110 ] .
وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم [ وما كانوا يعبدون . من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ] ) [ الصافات : 22 ، 23 ] . وقال : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ) [ الكهف : 53 ] .
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٥١١
قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
فيه مسألتان :
الأولى : قال العلماء : هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق ، لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد ، قال سعيد بن جبير : لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه ؛ فأنزل الله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به إلى قوله : فقد ضل ضلالا بعيدا . وقال الضحاك : قدم نفر من قريش المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية ومن يشاقق الرسول . والمشاقة المعاداة . والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين . والهدى : الرشد والبيان ، وقد تقدم . وقوله تعالى : نوله ما تولى يقال : إنه نزل فيمن ارتد ؛ والمعنى ؛ نتركه وما يعبد ؛ عن مجاهد . أي نكله إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ؛ وقاله مقاتل . وقال الكلبي ؛ نزل قوله تعالى : نوله ما تولى في ابن أبيرق ؛ لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا لرجل بمكة يقال له : حجاج بن علاط ، فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله ، وأخرجوه من مكة ؛ فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه ، فنزلت نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا . وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو " نوله " " ونصله " بجزم الهاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان .
الثانية : قال العلماء في قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول دليل على صحة القول بالإجماع ،
وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ٥١١
أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ْ} بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية. { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ْ} وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ْ} أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونخذله فلا نوفقه للخير، لكونه رأى الحق وعلمه وتركه، فجزاؤه من الله عدلاً أن يبقيه في ضلاله حائرا ويزداد ضلالا إلى ضلاله. كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ} وقال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ} ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول، ويتبع سبيل المؤمنين، بأن كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين، ثم صدر منه من الذنوب أو الهّم بها ما هو من مقتضيات النفوس، وغلبات الطباع، فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه، ويمن عليه بحفظه ويعصمه من السوء، كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ْ} أي: بسبب إخلاصه صرفنا عنه السوء، وكذلك كل مخلص، كما يدل عليه عموم التعليل. وقوله: { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ْ} أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. { وَسَاءَتْ مَصِيرًا ْ} أي: مرجعا له ومآلا. وهذا الوعيد المرتب على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب لا يحصيها إلا الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا، فمنه ما يخلد في النار ويوجب جميع الخذلان. ومنه ما هو دون ذلك، فلعل الآية الثانية كالتفصيل لهذا المطلق.
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦١١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦١١
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك [ لمن يشاء ] ) الآية [ النساء : 48 ] ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة .
وقد روى الترمذي حديث ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك ) الآية ، ثم قال : حسن غريب .
وقوله : ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي : فقد سلك غير الطريق الحق ، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة ، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة .
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦١١
وفي قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به رد على الخوارج ؛ حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر . وقد تقدم القول في هذا المعنى . وروى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال : هذا حديث غريب . قال ابن فورك : وأجمع أصحابنا على أنه لا تخليد إلا للكافر ، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب فإنه إن عذب بالنار فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول ، أو بابتداء رحمة من الله تعالى . وقال الضحاك : إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا ، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ، فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية .
إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦١١
أن الشرك لا يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي وحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه، والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات. فمن أعظم الظلم وأبعد الضلال عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء، ولا له من صفات الغنى شيء بل ليس له إلا العدم. عدم الوجود وعدم الكمال وعدم الغنى، والفقر من جميع الوجوه. وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفره برحمته وحكمته، وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أن إجماع هذه الأمة حجة وأنها معصومة من الخطأ. ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلان والنار، و { سبيل المؤمنين ْ} مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه، أو تحريمه أو كراهته، أو إباحته - فهذا سبيلهم، فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد انعقاد إجماعهم عليه، فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ} ووجه الدلالة منها: أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة لا يأمرون إلا بالمعروف، فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما أمروا به، فيتعين بنص الآية أن يكون معروفا ولا شيء بعد المعروف غير المنكر، وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فلا يكون إلا منكرا، ومثل ذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس ْ} فأخبر تعالى أن هذه الأمة جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي: في كل شيء، فإذا شهدوا على حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه، فإن شهادتهم معصومة لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم، فلو كان الأمر بخلاف ذلك لم يكونوا عادلين في شهادتهم ولا عالمين بها. ومثل ذلك قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ْ} يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة، وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة فلا يكون مخالفا. فهذه الأدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، ولهذا بيَّن الله قبح ضلال المشركين بقوله:
إِن يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثٗا وَإِن يَدۡعُونَ إِلَّا شَيۡطَٰنٗا مَّرِيدٗا ٧١١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثٗا وَإِن يَدۡعُونَ إِلَّا شَيۡطَٰنٗا مَّرِيدٗا ٧١١
وقوله : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غيلان ، أنبأنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسن بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال : مع كل صنم جنية .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن - يعني ابن عروة - عن أبيه عن عائشة : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قالت : أوثانا .
وروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك .
وقال جويبر عن الضحاك في [ قوله ] ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : اتخذوها أربابا وصوروهن صور الجواري ، فحكموا وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده ، يعنون الملائكة .
وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى : ( أفرأيتم اللات والعزى . [ ومناة الثالثة الأخرى . ألكم الذكر وله الأنثى . تلك إذا قسمة ضيزى . إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ] ) [ النجم : 19 - 23 ] ، وقال تعالى : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ] ) [ الزخرف : 19 ] ، وقال تعالى : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون . سبحان الله عما يصفون ] ) [ الصافات : 158 ، 159 ] .
وقال علي بن أبي طلحة والضحاك ، عن ابن عباس : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال : يعني موتى .
وقال مبارك - يعني ابن فضالة - عن الحسن : ( إن يدعون من دونه إلا إناثا ) قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس . ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهو غريب .
وقوله : ( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ) أي : هو الذي أمرهم بذلك وحسنه لهم وزينه ، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر ، كما قال تعالى : ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان [ إنه لكم عدو مبين ] ) [ يس : 60 ] وقال تعالى إخبارا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا : ( بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) [ سبأ : 41 ] .
إِن يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثٗا وَإِن يَدۡعُونَ إِلَّا شَيۡطَٰنٗا مَّرِيدٗا ٧١١
قوله تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا
قوله تعالى : إن يدعون من دونه أي من دون الله إلا إناثا ؛ نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام . وإن نافية بمعنى " ما " . وإناثا أصناما ، يعني اللات والعزى ومناة . وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون : أنثى بني فلان ، قال الحسن وابن عباس ، وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم ، فخرج الكلام مخرج التعجب ؛ لأن الأنثى من كل جنس أخسه ؛ فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى ، أو يعتقده أنثى . وقيل : إلا إناثا مواتا ؛ لأن الموات لا روح له ، كالخشبة والحجر . والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لاتضاع المنزلة ؛ تقول : الأحجار تعجبني ، كما تقول : المرأة تعجبني . وقيل : إلا إناثا ملائكة ؛ لقولهم : الملائكة بنات الله ، وهي شفعاؤنا عند الله ؛ عن الضحاك . وقراءة ابن عباس " إلا وثنا " بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس ؛ وقرأ أيضا " وثنا " بضم الثاء والواو ؛ جمع وثن . وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد . النحاس : ولم يقرأ به فيما علمت .
قلت : قد ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ : " إن يدعون من دونه إلا أوثانا " . وقرأ ابن عباس أيضا " إلا أثنا " كأنه جمع وثنا على وثان ؛ كما تقول : جمل وجمال ، ثم جمع أوثانا على وثن ؛ كما تقول : مثال ومثل ؛ ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت ؛ كما قال عز وجل : وإذا الرسل أقتت من الوقت ؛ فأثن جمع الجمع . وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : " إلا أنثا " جمع أنيث ، كغدير وغدر . وحكىالطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر . حكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني ؛ قال : وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة .
قوله تعالى : وإن يدعون إلا شيطانا مريدا يريد إبليس ؛ لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه ؛ ونظيره في المعنى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أي أطاعوهم فيما أمروهم به ؛ لا أنهم عبدوهم . وسيأتي . وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان . والمريد : العاتي المتمرد ؛ فعيل من مرد إذا عتا . قال الأزهري : المريد الخارج عن الطاعة ، وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة ، فهو مارد ومريد ومتمرد . ابن عرفة هو الذي ظهر شره ؛ ومن هذا يقال : شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها ؛ ومنه قيل للرجل : أمرد ، أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه .
إِن يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ إِنَٰثٗا وَإِن يَدۡعُونَ إِلَّا شَيۡطَٰنٗا مَّرِيدٗا ٧١١
أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا، أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال، والرحمة والبر والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟" هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟" ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ْ} ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ْ} أي: مقدرا. علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ْ} فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ}
لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٨١١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٨١١
وقوله : ( لعنه الله ) أي : طرده وأبعده من رحمته ، وأخرجه من جواره .
وقال : ( لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ) أي : معينا مقدرا معلوما . قال مقاتل بن حيان : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة .
لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٨١١
قوله تعالى : لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا
قوله تعالى : لعنه الله أصل اللعن الإبعاد ، وقد تقدم . وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب ؛ فلعنة إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة ، وكذلك سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل ؛ فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في " البقرة " .
قوله تعالى : وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا أي وقال الشيطان ؛ والمعنى : لأستخلصنهم . بغوايتي وأضلنهم بإضلالي ، وهم الكفرة والعصاة . وفي الخبر ( من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان ) .
قلت : وهذا صحيح معنى ؛ يعضده قوله تعالى لآدم يوم القيامة : ( ابعث بعث النار فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) . أخرجه مسلم . وبعث النار هو نصيب الشيطان ، والله أعلم . وقيل : من النصيب طاعتهم إياه في أشياء ؛ منها أنهم كانوا يضربون للمولود مسمارا عند ولادته ، ودورانهم به يوم أسبوعه ، يقولون : ليعرفه العمار .
لَّعَنَهُ ٱللَّهُۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنۡ عِبَادِكَ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا ٨١١
أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا، أي: أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد والجلال، والعز والجمال، والرحمة والبر والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟" هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟" ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ْ} ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما: { لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ْ} أي: مقدرا. علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على من تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ْ} فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ْ}
وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا ٩١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا ٩١١
( ولأضلنهم ) أي : عن الحق ( ولأمنينهم ) أي : أزين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم .
وقوله : ( ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ) قال قتادة والسدي وغيرهما : يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة .
( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) قال ابن عباس : يعني بذلك خصاء الدواب . وكذا روي عن ابن عمر ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وأبي عياض ، وأبي صالح ، وقتادة ، والثوري . وقد ورد في حديث النهي عن ذلك .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : يعني بذلك الوشم . وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه وفي لفظ : " لعن الله من فعل ذلك " . وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ، عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ، عز وجل ، يعني قوله : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ الحشر : 7 ] .
وقال ابن عباس في رواية عنه ، ومجاهد ، وعكرمة أيضا وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والحكم ، والسدي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني في قوله : ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) يعني : دين الله ، عز وجل . وهذا كقوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) [ الروم : 30 ] على قول من جعل ذلك أمرا ، أي : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على فطرتهم ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل يحسون فيها من جدعاء ؟ " وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله عز وجل : إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقوله تعالى : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) أي : فقد خسر الدنيا والآخرة ، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها .
وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا ٩١١
قوله تعالى : ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا
فيه تسع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولأضلنهم أي لأصرفنهم عن طريق الهدى . ولأمنينهم أي لأسولن لهم ، من التمني ، وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية ، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله . وقيل : لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة مع الإصرار . ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام البتك القطع ، ومنه سيف باتك . أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه . يقال : بتكه وبتكه ، ( مخففا ومشددا ) وفي يده بتكة أي : قطعة ، والجمع بتك ، قال زهير :
حتى إذا ما هوت كف الغلام بها طارت وفي كفه من ريشها بتك
الثانية : قوله تعالى : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله اللامات كلها للقسم . واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع ، فقالت طائفة : هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان ، قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو صالح . وذلك كله تعذيب للحيوان ، وتحريم وتحليل بالطغيان ، وقول بغير حجة ولا برهان . والآذان في الأنعام جمال ومنفعة ، وكذلك غيرها من الأعضاء ، فلذلك رأى الشيطان أن يغير بها خلق الله تعالى . وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي : ( وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي ) . الحديث أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا . وروى إسماعيل قال : حدثنا أبو الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة ، قال : هل لك من مال ؟ قال قلت : نعم . قال : من أي المال ؟ قلت : من كل المال ، من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو الوليد : والغنم - قال : فإذا آتاك الله مالا فلير عليك أثره ثم قال : هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك ؟ قال : قلت أجل . قال : وكل ما آتاك الله حل وموسى الله أحد من موساك ، وساعد الله أشد من ساعدك . قال قلت : يا رسول الله ، أرأيت رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟ فقال : بل أقره .
الثالثة : ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء " أخرجه أبو داود عن علي قال : أمرنا ؛ فذكره . المقابلة : المقطوعة طرف الأذن . والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن . والشرقاء : مشقوقة الأذن ، والخرقاء التي تخرق أذنها السمة . والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء . قال مالك والليث : المقطوعة الأذن أو جل الأذن لا تجزئ ، والشق للميسم يجزئ ، وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء . فإن كانت سكاء ، وهي التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي : لا تجوز . وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك .
الرابعة : وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره . والجمهور من العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي ، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره . ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز . وخصى عروة بن الزبير بغلا له . ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم ، وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين لصنم يعبد ، ولا لرب يوحد . وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل ، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى . ومنهم من كره ذلك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون . واختاره ابن المنذر وقال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر ، وكان يقول : هو نماء خلق الله ؛ وكره ذلك عبد الملك بن مروان . وقال الأوزاعي : كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل . وقال ابن المنذر : وفيه حديثان : أحدهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل . والآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم . والذي في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول : فيه تمام الخلق . قال أبو عمر : يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق ، وروي نماء الخلق .
قلت : أسنده أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تخصوا ما ينمي خلق الله . رواه عن الدارقطني شيخه ، قال : حدثنا أبو عبد الله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل ، فذكره . قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك .
الخامسة : وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة ، فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته ، عكس الحيوان ، وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام : تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك ، فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس ، وكل ذلك منهي عنه . ثم هذه مثلة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، وهو صحيح . وقد كره جماعة من فقهاء الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا : لو لم يشتروا منهم لم يخصوا . ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز ؛ لأنه مثلة وتغيير لخلق الله تعالى ، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود ، قاله أبو عمر .
السادسة : وإذا تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان ، وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار ، والوسم : الكي بالنار وأصله العلامة ، يقال : وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها ، ومنه قوله تعالى : سيماهم في وجوههم . فالسيما العلامة والميسم المكواة . وثبت في صحيح مسلم عن أنس قال : رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه ، ولا يتجاوز به إلى غيره .
السابعة : والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه ، لما رواه جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه ، أخرجه مسلم . وإنما كان ذلك لشرفه على الأعضاء ، إذ هو مقر الحسن والجمال ، ولأن به قوام الحيوان ، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال : اتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته . أي على صورة المضروب ؛ أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم ، فينبغي أن يحترم لشبهه . وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم . وقالت طائفة : الإشارة بالتغيير إلي الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن ؛ قاله ابن مسعود والحسن . ومن ذلك الحديث الصحيح عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله الحديث أخرجه مسلم ، وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء الله تعالى . والوشم يكون في اليدين ، وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور فيخضر . وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة . والمستوشمة التي يفعل ذلك بها ؛ قال الهروي . وقال ابن العربي : ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ؛ ليدل كل واحد منهم على رجلته في حداثته . قال القاضي عياض : ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان " الواشمة والمستوشمة " " الواشية والمستوشية " ( بالياء مكان الميم ) وهو من الوشي وهو التزين ؛ وأصل الوشي نسج الثوب على لونين ، وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد ؛ أي تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر . والمتنمصات جمع متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص ، وهو الذي يقلع الشعر ؛ ويقال لها النامصة . ابن العربي : وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه ؛ فإن السنة حلق العانة ونتف الإبط ، فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه ، ويبطل كثيرا من المنفعة فيه . والمتفلجات جمع متفلجة ، وهي التي تفعل الفلج في أسنانها ؛ أي تعانيه حتى ترجع المصمتة الأسنان خلقة فلجاء صنعة . وفي غير كتاب مسلم : " الواشرات " ، وهي جمع واشرة ، وهي التي تشر أسنانها ؛ أي تصنع فيها أشرا ، وهي التحزيزات التي تكون في أسنان الشبان ؛ تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة . وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر . واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها ؛ فقيل : لأنها من باب التدليس . وقيل : من باب تغيير خلق الله تعالى ؛ كما قال ابن مسعود ، وهو أصح ، وهو يتضمن المعنى الأول . ثم قيل : هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيا ؛ لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى ، فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره . وكرهه مالك للرجال . وأجاز مالك أيضا أن تشي المرأة يديها بالحناء . وروي عن عمر إنكار ذلك وقال : إما أن تخضب يديها كلها وإما أن تدع ، وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر ، ولا تدع الخضاب بالحناء ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال : لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت . قال القاضي عياض : وجاء حديث بالنهي عن تسويد الحناء ، ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل ، ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز ، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها : إنه لا ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير . وقال أنس : يستحب للمرأة أن تعلق في عنقها في الصلاة ولو سيرا . قال أبو جعفر الطبري : في حديث ابن مسعود دليل على أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان ، التماس الحسن لزوج أو غيره ، سواء فلجت أسنانها أو وشرتها ، أو كان لها سن زائدة فأزالتها أو أسنان طوال فقطعت أطرافها . وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت لها ؛ لأن كل ذلك تغيير خلق الله . قال عياض : ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه ؛ لأنه من تغيير خلق الله تعالى : إلا أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره .
الثامنة : قلت : ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة أخرجه مسلم . فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها ؛ وهو أن يضاف إليه شعر آخر يكثر به ، والواصلة هي التي تفعل ذلك ، والمستوصلة هي التي تستدعي من يفعل ذلك بها . مسلم عن جابر قال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا . وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله ؟ فقال : لعن الله الواصلة والمستوصلة . وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر ، وبه قال مالك وجماعة العلماء . ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك ؛ لأنه في معنى وصله بالشعر . وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر ؛ وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر . وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا : إنما جاء النهي عن الوصل خاصة ، وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى . وشذ قوم فأجازوا الوصل مطلقا ، وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح . وروي عن ابن سيرين أنه سأله رجل فقال : إن أمي كانت تمشط النساء ، أتراني آكل من مالها ؟ فقال : إن كانت تصل فلا . ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير الملونة على وجه الزينة والتجميل ، والله أعلم .
التاسعة : وقالت طائفة : المراد بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات ؛ ليعتبر بها وينتفع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة . قال الزجاج : إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم ، وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها ، فقد غيروا ما خلق الله . وقاله جماعة من أهل التفسير : مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة . وروي عن ابن عباس فليغيرن خلق الله دين الله ؛ وقال النخعي ، واختاره الطبري قال : وإذا كان ذلك معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي ؛ لأن الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي ؛ أي فليغيرن ما خلق الله في دينه . وقال مجاهد أيضا : فليغيرن خلق الله فطرة الله التي فطر الناس عليها ؛ يعني أنهم ولدوا على الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره ، وهو معنى قوله عليه السلام : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه . فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى : ألست بربكم قالوا بلى . قال ابن العربي : روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ويقول : هذا من قول الله فليغيرن خلق الله . قال القاضي : وهذا وإن كان يحتمله اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض ، وهذا مما خفي على طاوس مع علمه .
قلت : ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية . وقد كانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف زهرية . وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما .
قوله تعالى : ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله أي يطيعه ويدع أمر الله . فقد خسر أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه من أجله .
وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا ٩١١
{ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ْ} أي: عن الصراط المستقيم ضلالا في العلم، وضلالا في العمل. { وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ْ} أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم، { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ} { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ْ} { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ْ} الآية. وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين: { أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ْ} وقوله: { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ْ} أي: بتقطيع آذانها، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه، وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال. { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ْ} وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم، والوشر والنمص والتفلج للحسن، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن. وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره، ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان. فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته. فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة. لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة، ولهذا قال: { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ْ} وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!! فحصل له الشقاء الأبدي، وفاته النعيم السرمدي. كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه، ربح كل الربح، وأفلح كل الفلاح، وفاز بسعادة الدارين، وأصبح قرير العين، فلا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، اللهم تولنا فيمن توليت، وعافنا فيمن عافيت.
يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ٠٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ٠٢١
وقوله : ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) وهذا إخبار عن الواقع ; لأن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وقد كذب وافترى في ذلك ; ولهذا قال : ( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم المعاد : ( وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان [ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل ] إن الظالمين لهم عذاب أليم ) [ إبراهيم : 22 ] .
يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ٠٢١
قوله : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا
قوله تعالى : يعدهم المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة ، وأن لا بعث ولا عقاب ، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير ويمنيهم كذلك وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي خديعة . قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول . والشيطان غرور ؛ لأنه يحمل على محاب النفس ، ووراء ذلك ما يسوء .
يَعِدُهُمۡ وَيُمَنِّيهِمۡۖ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا ٠٢١
{ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ْ} أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم، والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ْ} فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره، كما قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ْ} الآية. ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير، وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة التي هي عند التحقيق كالسراب الذي لا حقيقة له، ولهذا قال: { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}
أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِيصٗا ١٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِيصٗا ١٢١
وقوله "أولئك" أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم ( مأواهم جهنم ) أي : مصيرهم ومآلهم يوم حسابهم ( ولا يجدون عنها محيصا ) أي : ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ولا مناص .
ثم ذكر حال السعداء الأتقياء وما لهم في مآلهم من الكرامة التامة ، فقال :
أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِيصٗا ١٢١
أولئك ابتداء مأواهم ابتداء ثان جهنم خبر الثاني والجملة خبر الأول . ومحيصا ملجأ ، والفعل منه حاص يحيص .
أُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنۡهَا مَحِيصٗا ١٢١
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ْ} أي: من انقاد للشيطان وأعرض عن ربه، وصار من أتباع إبليس وحزبه، مستقرهم النار. { وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ} أي: مخلصا ولا ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الآباد.
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا ٢٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا ٢٢١
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي : صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات ( سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي : يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا ( خالدين فيها أبدا ) أي : بلا زوال ولا انتقال ( وعد الله حقا ) أي : هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر ، وهو قوله : ( حقا ) ثم قال ( ومن أصدق من الله قيلا ) أي : لا أحد أصدق منه قولا وخبرا ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : " إن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا ٢٢١
ومن أصدق من الله قيلا ابتداء وخبر . ( قيلا ) على البيان ؛ قال قيلا وقولا وقالا ، بمعنى أي لا أحد أصدق من الله . وقد مضى الكلام على ما تضمنته هذه الآي من المعاني والحمد لله .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٗاۚ وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا ٢٢١
أي: { آمَنُوا ْ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا. { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ْ} الناشئة عن الإيمان؟ وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب، الذي على القلب، والذي على اللسان، والذي على بقية الجوارح. كل له من الثواب المرتب على ذلك بحسب حاله ومقامه، وتكميله للإيمان والعمل الصالح. ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل، وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته، وكذلك وعده الصادق الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله. ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله: { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ْ} فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة، والمناظر العجيبة، والأزواج الحسنة، والقصور، والغرف المزخرفة، والأشجار المتدلية، والفواكه المستغربة، والأصوات الشجية، والنعم السابغة، وتزاور الإخوان، وتذكرهم ما كان منهم في رياض الجنان، وأعلى من ذلك كله وأجلّ رضوان الله عليهم وتمتع الأرواح بقربه، والعيون برؤيته، والأسماع بخطابه الذي ينسيهم كل نعيم وسرور، ولولا الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من الفرح والحبور، فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم، وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة لا يصفه الواصفون، وتمام ذلك وكماله الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات، ولهذا قال: { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ْ} فصدق الله العظيم الذي بلغ قولُه وحديثُه في الصدق أعلى ما يكون، ولهذا لما كان كلامه صدقا وخبره حقا، كان ما يدل عليه مطابقةً وتضمنًا وملازمةً كل ذلك مراد من كلامه، وكذلك كلام رسوله صلى الله عليه وسلم لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه.
لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٢١
قال قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن [ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ] ) الآية . فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .
وكذا روي عن السدي ، ومسروق ، والضحاك وأبي صالح ، وغيرهم وكذا روى العوفي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل مثل ذلك . وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام . وكتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا . فقضى الله بينهم فقال : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) وخير بين الأديان فقال : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن [ واتبع ملة إبراهيم حنيفا ] ) إلى قوله : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا )
وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبعث ولن نعذب . وقالت اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) [ البقرة : 111 ] وقالوا ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) [ البقرة : 80 ] .
والمعنى في هذه الآية : أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال : " إنه هو المحق " سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ; ولهذا قال تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله ، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام ; ولهذا قال بعده : ( من يعمل سوءا يجز به ) كقوله ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة . قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أخبرت أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) فكل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " غفر الله لك يا أبا بكر ، ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال : بلى . قال : " فهو ما تجزون به " .
ورواه سعيد بن منصور ، عن خلف بن خليفة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى ، عن أبي خيثمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به . ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري ، عن إسماعيل به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءا يجز به في الدنيا " .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن هشيم بن جهيمة ، حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبا ولا تمرن عليه . قال : فسها الغلام ، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثا ، أما والله ما علمتك إلا صواما قواما وصالا للرحم ، أما والله إني لأرجو مع متساوي ما أصبت ألا يعذبك الله بعدها . قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءا في الدنيا يجز به " .
ورواه أبو بكر البزار في ، عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، به مختصرا . وقد قال في مسند ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العروفي حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان ، حدثني أبي ، عن جدي حيان بن بسطام ، قال : كنت مع ابن عمر ، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب ، فقال : رحمك الله أبا خبيب ، سمعت أباك - يعني الزبير - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من يعمل سوءا يجز به في الدنيا والأخرى " ثم قال : لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني مولى ابن سباع قال : سمعت ابن عمر يحدث ، عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ، هل أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت : بلى يا رسول الله . فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا بكر ؟ " قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ، وليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة " .
وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، وعبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، به . ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ، ومولى ابن سباع مجهول .
[ وقال ابن جرير : حدثنا الغلام ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لما نزلت قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما هي المصائب في الدنيا " ] .
طريق أخرى عن الصديق : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا محمد بن عامر السعدي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن سليمان بن مهران ، عن مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال : قال أبو بكر [ الصديق ] يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء " .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي ، حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : " يا أبا بكر ، أليس يصيبك كذا وكذا ؟ فهو كفارة " .
حديث آخر : قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة : أن رجلا تلا هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقال : إنا لنجزى بكل عمل ؟ هلكنا إذا . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " نعم ، يجزى به المؤمن في الدنيا ، في نفسه ، في جسده ، فيما يؤذيه " .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن بشير ، حدثنا هشيم ، عن أبي عامر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقال : " هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها " .
رواه ابن جرير من حديث هشيم ، به . ورواه أبو داود ، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به .
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) فقالت : ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عائشة ، هذه مبايعة الله للعبد ، مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة ، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفزع لها ، فيجدها في جيبه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير " .
طريق أخرى : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أبو القاسم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن زيد بن المهاجر ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ) قال : " إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفيظ عند الموت " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه " .
حديث آخر : قال سعيد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، سمع محمد بن قيس بن مخرمة ، يخبر أن أبا هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به ) شق ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سددوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها ، والنكبة ينكبها " .
وهكذا رواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، ومسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر كلاهما ، عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الله بن إبراهيم ، سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ، ما أبقت هذه الآية من شيء . قال : " أما والذي نفسي بيده إنها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا ; فإنه لا يصيب أحدا منكم في الدنيا إلا كفر الله بها خطيئته ، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه " .
وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة : أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن ، حتى الهم يهمه ، إلا كفر به من سيئاته " أخرجاه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سعد بن إسحاق ، حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ؟ ما لنا بها ؟ قال : " كفارات " . قال أبي : وإن قلت ؟ قال : " وإن شوكة فما فوقها " قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت ، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة ، ولا جهاد في سبيل الله ، ولا صلاة مكتوبة في جماعة ، فما مسه إنسان إلا وجد حره ، حتى مات ، رضي الله عنه . تفرد به أحمد .
حديث آخر : روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله : ( من يعمل سوءا يجز به ) ؟ قال : " نعم ، ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا . فهلك من غلب واحدته عشرا " .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : ( من يعمل سوءا يجز به ) قال : الكافر ، ثم قرأ : ( وهل نجازي إلا الكفور ) [ سبأ : 17 ] .
وهكذا روي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير : أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضا .
وقوله : ( ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه . رواه ابن أبي حاتم .
والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال ، لما تقدم من الأحاديث ، وهذا اختيار ابن جرير ، والله أعلم .
لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٢١
قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا
قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب وقرأ أبو جعفر المدني " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " بتخفيف الياء فيهما جميعا . ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان منا . وقالت قريش : ليس نبعث ، فأنزل الله ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . وقال قتادة والسدي : تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم . وقال المؤمنون : نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب ، فنزلت الآية .
قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به السوء هاهنا الشرك ، قال الحسن : هذه الآية في الكافر ، وقرأ " وهل يجازى إلا الكفور . وعنه أيضا من يعمل سوءا يجز به قال : ذلك لمن أراد الله هوانه ، فأما من أراد كرامته فلا ، قد ذكر الله قوما فقال : أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون . وقال الضحاك : يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب . وقال الجمهور : لفظ الآية عام ، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء ، فأما مجازاة الكافر فالنار ؛ لأن كفره أوبقه ، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا ، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : لما نزلت من يعمل سوءا يجز به بلغت من المسلمين مبلغا شديدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها . وخرج الترمذي الحكيم في ( نوادر الأصول ، في الفصل الخامس والتسعين ) حدثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال : سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع : لا تمر بي على المصلوب ؛ يعني ابن الزبير ، قال : فما فجئه في جوف الليل أن صك محمله جذعه ؛ فجلس فمسح عينيه ثم قال : يرحمك الله أبا خبيب أن كنت وأن كنت ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يعمل سوءا يجز به في الدنيا أو في الآخرة فإن يك هذا بذاك فهيه . قال الترمذي أبو عبد الله : فأما في التنزيل فقد أجمله فقال : من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا فدخل فيه البر والفاجر والعدو والولي والمؤمن والكافر ؛ ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال : يجز به في الدنيا أو في الآخرة وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين ؛ ألا ترى أن ابن عمر قال : فإن يك هذا بذاك فهيه ؛ معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثا عظيما حتى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق فانصدع حتى ضبب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك ، وسمع للبيت أنينا : آه آه ! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولا مصلوبا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يعمل سوءا يجز به . ثم قال : إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهيه ؛ أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب . رحمه الله ! ثم ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين ؛ حدثنا أبي رحمه الله قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي قال : لما نزلت من يعمل سوءا يجز به قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ما هذه بمبقية منا ؛ قال : ( يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة ) . حدثنا الجارود قال حدثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال : لما نزلت من يعمل سوءا يجز به قال أبو بكر : كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا ؟ كل شيء عملناه جزينا به ، فقال : غفر الله لك يا أبا بكر ألست تنصب ، ألست تحزن ، ألست تصيبك اللأواء ؟ . قال : بلى . قال فذلك مما تجزون به ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله : من يعمل سوءا يجز به . وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة . قال : حديث غريب : وفي إسناده مقال : وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل . ومولى ابن سباع مجهول ، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضا ؛ وفي الباب عن عائشة .
قلت : خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي ، قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أمه أنها سألت عائشة عن هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وعن هذه الآية من يعمل سوءا يجز به فقالت عائشة : ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ؛ فقال : يا عائشة ، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع فيجدها في عيبته ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير . واسم " ليس " مضمر فيها في جميع هذه الأقوال ؛ والتقدير : ليس الكائن من أموركم ما تتمنونه ، بل من يعمل سوءا يجز به . وقيل : المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم " إذ قد تقدم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات .
قوله تعالى : ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا يعني المشركين ؛ لقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . وقيل : من يعمل سوءا يجز به إلا أن يتوب . وقراءة الجماعة ولا يجد له بالجزم عطفا على يجز به . وروى ابن بكار عن ابن عامر " ولا يجد " بالرفع استئنافا . فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير . وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله .
لَّيۡسَ بِأَمَانِيِّكُمۡ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِۗ مَن يَعۡمَلۡ سُوٓءٗا يُجۡزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٢١
أي: { لَيْسَ ْ} الأمر والنجاة والتزكية { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ْ} والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية؟! فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا: { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ} وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى. وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ} وهذا شامل لجميع العاملين، لأن السوء شامل لأي ذنب كان من صغائر الذنوب وكبائرها، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير، دنيوي أو أخروي. والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله، فمستقل ومستكثر، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا. فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم. ومن كان عمله صالحا، وهو مستقيم في غالب أحواله، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [بعض] الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب، وهي مما يجزى به على عمله، قيضها الله لطفا بعباده، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة. وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما دلت على ذلك النصوص. وقوله: { وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ} لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك، فليس له ولي يحصل له المطلوب، ولا نصير يدفع عنه المرهوب، إلا ربه ومليكه.
وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا ٤٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا ٤٢١
وقوله : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ] ) لما ذكر الجزاء على السيئات ، وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا - وهو الأجود له - وإما في الآخرة - والعياذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة - شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم وإناثهم ، بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو : النقرة التي في ظهر نواة التمرة ، وقد تقدم الكلام على الفتيل ، وهو الخيط الذي في شق النواة ، وهذا النقير وهما في نواة التمرة ، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة ، الثلاثة في القرآن .
وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا ٤٢١
قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا
شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقري الأضياف ، وأهل الكتاب بسبقهم ، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ؛ فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان . وقرأ " يدخلون الجنة " الشيخان أبو عمرو وابن كثير ( بضم الياء وفتح الخاء ) على ما لم يسم فاعله . الباقون بفتح الياء وضم الخاء ؛ يعني يدخلون الجنة بأعمالهم . وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة .
وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا ٤٢١
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ ْ} دخل في ذلك سائر الأعمال القلبية والبدنية، ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى. ولهذا قال: { مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ْ} وهذا شرط لجميع الأعمال، لا تكون صالحة ولا تقبل ولا يترتب عليها الثواب ولا يندفع بها العقاب إلا بالإيمان. فالأعمال بدون الإيمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء بني على موج الماء، فالإيمان هو الأصل والأساس والقاعدة التي يبنى عليه كل شيء، وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل أطلق، فإنه مقيد به. { فَأُولَئِكَ ْ} أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح { يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ْ} المشتملة على ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين { وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ} أي: لا قليلا ولا كثيرا مما عملوه من الخير، بل يجدونه كاملا موفرا، مضاعفا أضعافا كثيرة.
وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا ٥٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا ٥٢١
ثم قال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله ) أخلص العمل لربه ، عز وجل ، فعمل إيمانا واحتسابا ( وهو محسن ) أي : اتبع في عمله ما شرعه الله له ، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما ، أي : يكون خالصا صوابا ، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون متبعا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه بالإخلاص ، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد . فمن فقد الإخلاص كان منافقا ، وهم الذين يراؤون الناس ، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا . ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين : ( الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم [ في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ] ) [ الأحقاف : 16 ] ; ولهذا قال تعالى : ( واتبع ملة إبراهيم حنيفا ) وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي [ والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ] ) [ آل عمران : 68 ] وقال تعالى : ( [ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ] ) [ الأنعام : 161 ] و ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) [ النحل : 123 ] والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدا ، أي تاركا له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد .
وقوله : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) وهذا من باب الترغيب في اتباعه ; لأنه إمام يقتدى به ، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له ، فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه به في قوله : ( وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] قال كثيرون من السلف : أي قام بجميع ما أمر به ووفى كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير . وقال تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ قال إني جاعلك للناس إماما ] ) الآية [ البقرة : 124 ] . وقال تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين [ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم . وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين ] ) [ النحل : 120 - 122 ] .
وقال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن عمرو بن ميمون قال : إن معاذا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم : فقرأ : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) فقال رجل من القوم : لقد قرت عين أم إبراهيم .
وقد ذكر ابن جرير في تفسيره ، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل - وقال بعضهم : من أهل مصر - ليمتار طعاما لأهله من قبله ، فلم يصب عنده حاجته . فلما قرب من أهله مر بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غرائري من هذا الرمل ، لئلا أغم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون . ففعل ذلك ، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقا ، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر ، فوجدوا دقيقا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال : نعم ، هو من خليلي الله . فسماه الله بذلك خليلا .
وفي صحة هذا ووقوعه نظر ، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب ، وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه ، عز وجل ، له ، لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها ; ولهذا ثبت في الصحيحين ، من حديث أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال : " أما بعد ، أيها الناس ، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله " .
وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد ، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة ، حدثنا عبيد الله الحنفي ، حدثنا زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، وإذا بعضهم يقول : عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله ! وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما ! وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته ! وقال آخر : آدم اصطفاه الله ! فخرج عليهم فسلم وقال : " قد سمعت كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله ، وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأول مشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة ، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها .
وقال قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
رواه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه . وكذا روي عن أنس بن مالك ، وغير واحد من الصحابة والتابعين ، والأئمة من السلف والخلف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن عاصم ، عن أبي راشد ، عن عبيد بن عمير قال : كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس ، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه ، فلم يجد أحدا يضيفه ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما ، فقال : يا عبد الله ، ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال : دخلتها بإذن ربها . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت ، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا . قال : من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت . قال : ذلك العبد أنت . قال : أنا ؟ قال : نعم . قال : فيم اتخذني الله خليلا ؟ قال : إنك تعطي الناس ولا تسألهم .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد السلمي ، حدثنا الوليد ، عن إسحاق بن يسار قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل ، حتى إن كان خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء . وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا ٥٢١
قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا فضل دين الإسلام على سائر الأديان و أسلم وجهه لله معناه أخلص دينه لله وخضع له وتوجه إليه بالعبادة . قال ابن عباس : أراد أبا بكر الصديق رضي الله عنه . وانتصب دينا على البيان . وهو محسن ابتداء وخبر في موضع الحال ، أي موحد فلا يدخل فيه أهل الكتاب ؛ لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام . والملة : الدين ، والحنيف : المسلم ؛ وقد تقدم .
قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلا قال ثعلب : إنما سمي الخليل خليلا لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللا إلا ملأته ؛ وأنشد قول بشار :
قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا
وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل : هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب ، وإبراهيم كان محبا لله وكان محبوبا لله . وقيل : الخليل من الاختصاص فالله عز وجل أعلم اختص إبراهيم في وقته للرسالة . واختار هذا النحاس قال : والدليل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا يعني نفسه . وقال صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا أي لو كنت مختصا أحدا بشيء لاختصصت أبا بكر . رضي الله عنه . وفي هذا رد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص بعض أصحابه بشيء من الدين . وقيل : الخليل المحتاج ؛ فإبراهيم خليل الله على معنى أنه فقير محتاج إلى الله تعالى ؛ كأنه الذي به الاختلال . وقال زهير يمدح هرم بن سنان :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
أي لا ممنوع . قال الزجاج : ومعنى الخليل : الذي ليس في محبته خلل ؛ فجائز أن يكون سمي خليلا لله بأنه الذي أحبه واصطفاه محبة تامة . وجائز أن يسمى خليل الله أي فقيرا إلى الله تعالى ؛ لأنه لم يجعل فقره ولا فاقته إلا إلى الله تعالى مخلصا في ذلك . والاختلال الفقر ؛ فروي أنه لما رمي بالمنجنيق وصار في الهواء أتاه جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا . فخلة الله تعالى لإبراهيم نصرته إياه . وقيل : سمي بذلك بسبب أنه مضى إلى خليل له بمصر ، وقيل : بالموصل ليمتار من عنده طعاما فلم يجد صاحبه ، فملأ غرائره رملا وراح به إلى أهله فحطه ونام ؛ ففتحه أهله فوجدوه دقيقا فصنعوا له منه ، فلما قدموه إليه قال : من أين لكم هذا ؟ قالوا : من الذي جئت به من عند خليلك المصري ؛ فقال : هو من عند خليلي ؛ يعني الله تعالى ؛ فسمي خليل الله بذلك . وقيل : إنه أضاف رؤساء الكفار وأهدى لهم هدايا وأحسن إليهم فقالوا له : ما حاجتك ؟ قال : حاجتي أن تسجدوا سجدة ؛ فسجدوا فدعا الله تعالى وقال : اللهم إني قد فعلت ما أمكنني فافعل اللهم ما أنت أهل لذلك ؛ فوفقهم الله تعالى للإسلام فاتخذه الله خليلا لذلك . ويقال : لما دخلت عليه الملائكة بشبه الآدميين وجاء بعجل سمين فلم يأكلوا منه وقالوا : إنا لا نأكل شيئا بغير ثمن فقال لهم : أعطوا ثمنه وكلوا ، قالوا : وما ثمنه ؟ قال : أن تقولوا في أوله باسم الله وفي آخره الحمد لله ، فقالوا فيما بينهم : حق على الله أن يتخذه خليلا ؛ فاتخذه الله خليلا . وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلا ؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد . وقيل : معنى الخليل الذي يوالي في الله ويعادي في الله . والخلة بين الآدميين الصداقة ؛ مشتقة من تخلل الأسرار بين المتخالين . وقيل : هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه . وفي مصنف أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل . ولقد أحسن من قال :
من لم تكن في الله خلته فخليله منه على خطر
آخر :
إذا ما كنت متخذا خليلا فلا تثقن بكل أخي إخاء
فإن خيرت بينهم فألصق بأهل العقل منهم والحياء
فإن العقل ليس له إذا ما تفاضلت الفضائل من كفاء
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
أخلاء الرجال هم كثير ولكن في البلاء هم قليل
فلا تغررك خلة من تؤاخي فما لك عند نائبة خليل
وكل أخ يقول أنا وفي ولكن ليس يفعل ما يقول
سوى خل له حسب ودين فذاك لما يقول هو الفعول
وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِينٗا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَٰهِيمَ خَلِيلٗا ٥٢١
أي: لا أحد أحسن من دين من جمع بين الإخلاص للمعبود، وهو إسلام الوجه لله الدال على استسلام القلب وتوجهه وإنابته وإخلاصه، وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله. { وَهُوَ ْ} مع هذا الإخلاص والاستسلام { مُحْسِنٌ ْ} أي: متبع لشريعة الله التي أرسل بها رسله، وأنزل كتبه، وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم. { وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ْ} أي: دينه وشرعه { حَنِيفًا ْ} أي: مائلا عن الشرك إلى التوحيد، وعن التوجه للخلق إلى الإقبال على الخالق، { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ْ} والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهذه المرتبة حصلت للخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأما المحبة من الله فهي لعموم المؤمنين، وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا لأنه وفَّى بما أُمر به وقام بما ابْتُلي به، فجعله الله إماما للناس، واتخذه خليلا، ونوه بذكره في العالمين.
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطٗا ٦٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطٗا ٦٢١
وقوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) أي : الجميع ملكه وعبيده وخلقه ، وهو المتصرف في جميع ذلك ، لا راد لما قضى ، ولا معقب لما حكم ، ولا يسأل عما يفعل ، لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته .
وقوله : ( وكان الله بكل شيء محيطا ) أي : علمه نافذ في جميع ذلك ، لا تخفى عليه خافية من عباده ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى .
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطٗا ٦٢١
قوله تعالى : ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا
قوله تعالى : ولله ما في السماوات وما في الأرض أي ملكا واختراعا . والمعنى إنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالته ولا للتكثير به والاعتضاد ؛ وكيف وله ما في السماوات وما في الأرض ؟ وإنما أكرمه لامتثاله لأمره .
قوله تعالى : وكان الله بكل شيء محيطا أي أحاط علمه بكل الأشياء .
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٖ مُّحِيطٗا ٦٢١
وهذه الآية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء، فأخبر أنه له { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ} أي: الجميع ملكه وعبيده، فهم المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات، وقهر بعزه وقهره كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء.
وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا ٧٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا ٧٢١
قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة ، أخبرني أبي عن عائشة : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) إلى قوله : ( وترغبون أن تنكحوهن ) قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها قد شركته في ماله ، حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ، ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها ، فنزلت هذه الآية .
وكذلك رواه مسلم ، عن أبي كريب ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن أبي أسامة .
وقال ابن أبي حاتم : قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب ) الآية ، قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله [ تعالى ] ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] .
وبهذا الإسناد ، عن عائشة قالت : وقول الله عز وجل : ( وترغبون أن تنكحوهن ) رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن .
وأصله ثابت في الصحيحين ، من طريق يونس بن يزيد الأيلي ، به .
والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها ، فتارة يرغب في أن يتزوجها ، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء ، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء ، فقد وسع الله عز وجل . وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة . وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لدمامتها عنده ، أو في نفس الأمر ، فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( في يتامى النساء [ اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ] ) الآية ، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة ، فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل ذلك [ بها ] لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا ، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه .
وقال في قوله : ( والمستضعفين من الولدان ) كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : ( لا تؤتونهن ما كتب لهن ) فنهى الله عن ذلك ، وبين لكل ذي سهم سهمه ، فقال : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) [ النساء : 11 ] صغيرا أو كبيرا .
وكذا قال سعيد بن جبير وغيره ، قال سعيد بن جبير في قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فانكحها واستأثر بها .
وقوله : ( وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ) تهييج على فعل الخيرات وامتثال الأمر وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه .
وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا ٧٢١
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما
نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغير ذلك ؛ فأمر الله نبيه عليه السلام أن يقول لهم : الله يفتيكم فيهن ؛ أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه . وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء ، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم : إن الله يفتيكم فيهن . روى أشهب عن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي ، وذلك في كتاب الله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن . ويسألونك عن اليتامى . و يسألونك عن الخمر والميسر . ويسألونك عن الجبال . قوله تعالى : وما يتلى عليكم " ما " في موضع رفع ، عطف على اسم الله تعالى . والمعنى : والقرآن يفتيكم فيهن ، وهو قول : فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقد تقدم .
وقوله تعالى : وترغبون أن تنكحوهن أي وترغبون عن أن تنكحوهن ، ثم حذفت " عن " . وقيل : وترغبون في أن تنكحوهن ثم حذفت " في " . قال سعيد بن جبير ومجاهد : ويرغب في نكاحها إذا كانت كثيرة المال . وحديث عائشة يقوي حذف " عن " فإن في حديثها : وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ؛ وقد تقدم أول السورة .
وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا ٧٢١
الاستفتاء: طلب السائل من المسئول بيان الحكم الشرعي في ذلك المسئول عنه. فأخبر عن المؤمنين أنهم يستفتون الرسول صلى الله عليه وسلم في حكم النساء المتعلق بهم، فتولى الله هذه الفتوى بنفسه فقال: { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ْ} فاعملوا على ما أفتاكم به في جميع شئون النساء، من القيام بحقوقهن وترك ظلمهن عموما وخصوصا. وهذا أمر عام يشمل جميع ما شرع الله أمرا ونهيا في حق النساء الزوجات وغيرهن، الصغار والكبار، ثم خص -بعد التعميم- الوصية بالضعاف من اليتامى والولدان اهتماما بهم وزجرا عن التفريط في حقوقهم فقال: { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ ْ} أي: ويفتيكم أيضا بما يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى من النساء. { اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ْ} وهذا إخبار عن الحالة الموجودة الواقعة في ذلك الوقت، فإن اليتيمة إذا كانت تحت ولاية الرجل بخسها حقها وظلمها، إما بأكل مالها الذي لها أو بعضه، أو منعها من التزوج لينتفع بمالها، خوفا من استخراجه من يده إنْ زوَّجها، أو يأخذ من مهرها الذي تتزوج به بشرط أو غيره، هذا إذا كان راغبا عنها، أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال ولا يقسط في مهرها، بل يعطيها دون ما تستحق، فكل هذا ظلم يدخل تحت هذا النص ولهذا قال: { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ْ} أي: ترغبون عن نكاحهن أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله. { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَان ْ} أي: ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث وغيره وأن لا تستولوا على أموالهم على وجه الظلم والاستبداد. { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ْ} أي: بالعدل التام، وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر الله وما أوجبه على عباده، فيكون الأولياء مكلفين بذلك، يلزمونهم بما أوجبه الله. ويشمل القيام عليهم في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الأحظ لهم فيها، وأن لا يقربوها إلا بالتي هي أحسن، وكذلك لا يحابون فيهم صديقا ولا غيره، في تزوج وغيره، على وجه الهضم لحقوقهم. وهذا من رحمته تعالى بعباده، حيث حثّ غاية الحث على القيام بمصالح من لا يقوم بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه. ثم حثّ على الإحسان عموما فقال: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ْ} لليتامى ولغيرهم سواء كان الخير متعديا أو لازما { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ْ} أي: قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير، قلة وكثرة، حسنا وضده، فيجازي كُلًّا بحسب عمله.
وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٨٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٨٢١
يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين : تارة في حال نفور الرجل عن المرأة ، وتارة في حال اتفاقه معها ، وتارة في حال فراقه لها .
فالحالة الأولى : ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها ، أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط حقها أو بعضه ، من نفقة أو كسوة ، أو مبيت ، أو غير ذلك من الحقوق عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ; ولهذا قال تعالى : ( فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ) ثم قال ( والصلح خير ) أي : من الفراق . وقوله : ( وأحضرت الأنفس الشح ) أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق ; ولهذا لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها ، فصالحته على أن يمسكها ، وتترك يومها لعائشة ، فقبل ذلك منها وأبقاها على ذلك .
ذكر الرواية بذلك :
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة . ففعل ، ونزلت هذه الآية : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .
ورواه الترمذي ، عن محمد بن المثنى ، عن أبي داود الطيالسي ، به . وقال : حسن غريب
وقال الشافعي أخبرنا مسلم ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة ، وكان يقسم لثمان .
وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة .
وفي صحيح البخاري ، من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، نحوه .
وقال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن ، عن أبيه عروة قال : أنزل الله تعالى في سودة وأشباهها : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ، ففزعت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضنت بمكانها منه ، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه ، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة ، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
قال البيهقي : وقد رواه أحمد بن يونس : عن ابن أبي الزناد موصولا . وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال :
حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها قالت له : يا ابن أختي ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا ، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا ، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زمعة - حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، يومي هذا لعائشة . فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا )
وكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، به . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقد رواه [ الحافظ أبو بكر ] بن مردويه من طريق أبي بلال الأشعري ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، به نحوه . ومن رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن هشام بن عروة ، بنحوه مختصرا ، والله أعلم .
وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدغولي في أول معجمه : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدستوائي ، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زمعة بطلاقها ، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة ، فلما رأته قالت له : أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك على خلقه لما راجعتني ، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال ، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة . فراجعها فقالت : إني جعلت يومي وليلتي لحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا غريب مرسل .
وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) قالت : الرجل تكون عنده المرأة ، ليس بمستكثر منها ، يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حل . فنزلت هذه الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله ألا يكون يستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ، ولها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني .
حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) قالت : هو الرجل يكون له المرأتان : إحداهما قد كبرت ، أو هي دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني .
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بنحو ما تقدم ، ولله الحمد والمنة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال : جاء رجل إلى عمر ، رضي الله عنه ، فسأله عن آية ، فكره ذلك وضربه بالدرة ، فسأله آخر عن هذه الآية : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) فقال : عن مثل هذا فسلوا . ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل ، قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن خالد بن عرعرة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] فسأله عن قول الله عز وجل : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما ) قال علي : يكون الرجل عنده المرأة ، فتنبو عيناه عنها من دمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها ، فتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج .
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص . ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سماك ، به وكذا فسرها ابن عباس ، وعبيدة السلماني ، ومجاهد بن جبر ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وعطية العوفي ومكحول ، والحكم بن عتبة ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والأئمة ، ولا أعلم [ في ذلك ] خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم .
وقال الشافعي : أنبأنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن المسيب : أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك . فأنزل الله عز وجل : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) الآية .
وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني ، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار : أن السنة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ) إلى تمام الآيتين ، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها ، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه ، فإن استقرت عنده على ذلك ، وكرهت أن يطلقها ، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك ، فإن لم يعرض عليها الطلاق ، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القسم من ماله ونفسه ، صلح له ذلك ، وجاز صلحها عليه ، كذلك ذكر سعيد بن المسيب وسليمان الصلح الذي قال الله عز وجل ( فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) .
وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة ، وآثر عليها الشابة ، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها ، فناشدته الطلاق فقال لها : ما شئت ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة ، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، فقالت : لا بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ، فكان ذلك صلحهما ، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها .
وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، فذكره بطوله ، والله أعلم
وقوله : ( والصلح خير ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني التخيير ، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق ، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها .
والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج ، وقبول الزوج ذلك ، خير من المفارقة بالكلية ، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة على أن تركت يومها لعائشة ، رضي الله عنها ، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه ، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام . ولما كان الوفاق أحب إلى الله [ عز وجل ] من الفراق قال : ( والصلح خير ) بل الطلاق بغيض إليه ، سبحانه وتعالى ; ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعا ، عن كثير بن عبيد ، عن محمد بن خالد ، عن معرف بن واصل ، عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .
ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس ، عن معرف عن محارب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكر معناه مرسلا .
وقوله : ( وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) [ أي ] وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن ، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن ، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء .
وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٨٢١
قوله تعالى : وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
فيه سبع مسائل :
الأولى : وإن امرأة رفع بإضمار فعل يفسره ما بعده . وخافت بمعنى توقعت . وقول من قال : خافت تيقنت خطأ . قال الزجاج : المعنى وإن امرأة . خافت من بعلها دوام النشوز . قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد ، والإعراض ألا يكلمها ولا يأنس بها . ونزلت الآية بسبب سودة بنت زمعة . روى الترمذي عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا تطلقني وأمسكني ، واجعل يومي منك لعائشة ؛ ففعل فنزلت : " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز ، قال : هذا حديث حسن غريب . وروى ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة بنت محمد بن مسلمة ، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره ، فأراد أن يطلقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما شئت ؛ فجرت السنة بذلك فنزلت وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حل ؛ فنزلت هذه الآية . وقراءة العامة " أن يصالحا " . وقرأ أكثر الكوفيين " أن يصلحا " . وقرأ الجحدري وعثمان البتي " أن يصلحا " والمعنى يصطلحا ثم أدغم .
الثانية : في هذه الآية من الفقه الرد على الرعن الجهال الذين يرون أن الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي أن يتبدل بها . قال ابن أبي مليكة : إن سودة بنت زمعة لما أسنت أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقها ، فآثرت الكون معه ، فقالت له : أمسكني واجعل يومي لعائشة ؛ ففعل صلى الله عليه وسلم ، وماتت وهي من أزواجه .
قلت : وكذلك فعلت بنت محمد بن مسلمة ؛ روى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصارية ، فكانت عنده حتى كبرت ، فتزوج عليها فتاة شابة ، فآثر الشابة عليها ، فناشدته الطلاق ، فطلقها واحدة ، ثم أهملها حتى إذا كانت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها واحدة ، ثم راجعها فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فقال : ما شئت إنما بقيت واحدة ، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة ، وإن شئت فارقتك . قالت : بل أستقر على الأثرة . فأمسكها على ذلك ؛ ولم ير رافع عليه إثما حين قرت عنده على الأثرة . رواه معمر عن الزهري بلفظه ومعناه وزاد : فذلك الصلح الذي بلغنا أنه نزل فيه وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير . قال أبو عمر بن عبد البر : قوله والله أعلم : " فآثر الشابة عليها " يريد في الميل بنفسه إليها والنشاط لها ؛ لا أنه آثرها عليها في مطعم وملبس ومبيت ؛ لأن هذا لا ينبغي أن يظن بمثل رافع ، والله أعلم . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها وتكره فراقه ؛ فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له أن يأخذ وإن جعلت له من أيامها فلا حرج . وقال الضحاك : لا بأس أن ينقصها من حقها إذا تزوج من هي أشب منها وأعجب إليه . وقال مقاتل بن حيان : هو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة ؛ فيقول لهذه الكبيرة : أعطيك من مالي على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار ؛ فترضى الأخرى بما اصطلحا عليه ؛ وإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما في القسم .
الثالثة : قال علماؤنا : وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة ؛ بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي ، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج ، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة ، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء ؛ فهذا كله مباح . وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها ، كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غضب على صفية ، فقالت لعائشة : أصلحي بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وهبت يومي لك . ذكره ابن خويز منداد في أحكامه عن عائشة قالت : وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية في شيء ؛ فقالت لي صفية : هل لك أن ترضين رسول الله صلى الله عليه وسلم عني ولك يومي ؟ قالت : فلبست خمارا كان عندي مصبوغا بزعفران ونضحته ، ثم جئت فجلست إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إليك عني فإنه ليس بيومك . فقلت : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ؛ وأخبرته الخبر ، فرضي عنها . وفيه أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهن على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها .
الرابعة : قرأ الكوفيون " يصلحا " . والباقون " أن يصالحا " . الجحدري " يصلحا " فمن قرأ " يصالحا " فوجهه أن المعروف في كلام العرب إذا كان بين قوم تشاجر أن يقال : تصالح القوم ، ولا يقال : أصلح القوم ؟ ولو كان أصلح لكان مصدره إصلاحا . ومن قرأ " يصلحا " فقد استعمل مثله في التشاجر والتنازع ؛ كما قال فأصلح بينهم . ونصب قول : " صلحا " على هذه القراءة على أنه مفعول ، وهو اسم مثل العطاء من أعطيت . فأصلحت صلحا مثل أصلحت أمرا ؛ وكذلك هو مفعول أيضا على قراءة من قرأ " يصالحا " لأن تفاعل قد جاء متعديا ؛ ويحتمل أن يكون مصدرا حذفت زوائده . ومن قرأ " يصلحا " فالأصل " يصتلحا " ثم صار إلى يصطلحا ، ثم أبدلت الطاء صادا وأدغمت فيها الصاد ؛ ولم تبدل الصاد طاء لما فيها من امتداد الزفير .
الخامسة : قوله تعالى : والصلح خير لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق . ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع عليه الصلح بين الرجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك . خير أي خير من الفرقة ؛ فإن التمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة هي قواعد الشر ، وقال عليه السلام في البغضة : إنها الحالقة يعني حالقة الدين لا حالقة الشعر .
السادسة : قوله تعالى : وأحضرت الأنفس الشح إخبار بأن الشح في كل أحد . وأن الإنسان لا بد أن يشح بحكم خلقته وجبلته حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره ؛ يقال : شح يشح ( بكسر الشين ) قال ابن جبير : هو شح المرأة بالنفقة من زوجها وبقسمه لها أيامها . وقال ابن زيد : الشح هنا منه ومنها . وقال ابن عطية : وهذا أحسن ؛ فإن الغالب على المرأة الشح بنصيبها من زوجها ، والغالب على الزوج الشح بنصيبه من الشابة . والشح الضبط على المعتقدات والإرادة وفي الهمم والأموال ونحو ذلك ، فما أفرط منه على الدين فهو محمود ، وما أفرط منه في غيره ففيه بعض المذمة ، وهو الذي قال الله فيه : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . وما صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة . وإذا آل البخل إلى هذه الأخلاق المذمومة والشيم اللئيمة لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول .
قلت : وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : من سيدكم ؟ قالوا : الجد بن قيس على بخل فيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل ! قالوا : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : إن قوما نزلوا بساحل البحر فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا ليبعد الرجال منا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف ببعد النساء وتعتذر النساء ببعد الرجال ، ففعلوا وطال ذلك بهم ، فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء . وقد تقدم ، ذكره الماوردي .
السابعة : قوله تعالى : : وإن تحسنوا وتتقوا شرط فإن الله كان بما تعملون خبيرا جوابه وهذا خطاب للأزواج من حيث إن للزوج أن يشح ولا يحسن ؛ أي إن تحسنوا وتتقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهن مع كراهيتكم لصحبتهن واتقاء ظلمهن فهو أفضل لكم .
وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٨٢١
أي: إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي: ترفعه عنها وعدم رغبته فيها وإعراضه عنها، فالأحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح المرأة عن بعض حقوقها اللازمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها، إما أن ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن، أو القسم بأن تسقط حقها منه، أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها. فإذا اتفقا على هذه الحالة فلا جناح ولا بأس عليهما فيها، لا عليها ولا على الزوج، فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال، وهي خير من الفرقة، ولهذا قال: { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ} ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين مَن بينهما حق أو منازعة في جميع الأشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه، لما فيها من الإصلاح وبقاء الألفة والاتصاف بصفة السماح. وهو جائز في جميع الأشياء إلا إذا أحلّ حراما أو حرّم حلالا، فإنه لا يكون صلحا وإنما يكون جورا. واعلم أن كل حكم من الأحكام لا يتم ولا يكمل إلا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه، فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك ونبه على أنه خير، والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه، فإن كان -مع ذلك- قد أمر الله به وحثّ عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه. وذكر المانع بقوله: { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحّ ْ} أي: جبلت النفوس على الشح، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك؛ والاقتناع ببعض الحق الذي لك. فمتى وفق الإنسان لهذا الخُلُق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب. بخلاف من لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه، فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة، لأنه لا يرضيه إلا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدي ما عليه، فإن كان خصمه مثله اشتد الأمر. ثم قال: { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ْ} أي: تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه، وتحسنوا إلى المخلوقين بجميع طرق الإحسان، من نفع بمال، أو علم، أو جاه، أو غير ذلك. { وَتَتَّقُوا ْ} الله بفعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات. أو تحسنوا بفعل المأمور، وتتقوا بترك المحظور { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ} قد أحاط به علما وخبرا، بظاهره وباطنه، فيحفظه لكم، ويجازيكم عليه أتم الجزاء.
وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٢١
وقوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) أي : لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن حصل القسم الصوري : ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع ، كما قاله ابن عباس ، وعبيدة السلماني ، ومجاهد ، والحسن البصري ، والضحاك بن مزاحم .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا حسين الجعفي ، عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة قال : نزلت هذه الآية : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ) في عائشة . يعني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني : القلب .
لفظ أبي داود ، وهذا إسناد صحيح ، لكن قال الترمذي : رواه حماد بن زيد وغير واحد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة مرسلا قال : وهذا أصح .
وقوله ( فلا تميلوا كل الميل ) أي : فإذا ملتم إلى واحدة منهم فلا تبالغوا في الميل بالكلية ( فتذروها كالمعلقة ) أي : فتبقى هذه الأخرى معلقة .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : معناه لا ذات زوج ولا مطلقة .
وقد قال أبو داود الطيالسي : أنبأنا همام ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط " .
وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث همام بن يحيى ، عن قتادة ، به . وقال الترمذي : إنما أسنده همام ، ورواه عن قتادة - قال : " كان يقال " . ولا نعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام .
وقوله : ( وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ) أي : وإن أصلحتم في أموركم ، وقسمتم بالعدل فيما تملكون ، واتقيتم الله في جميع الأحوال ، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض .
وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٢١
قوله : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما
قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء ، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب . فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض ؛ ولهذا كان عليه السلام يقول : اللهم إن هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك . ثم نهى فقال : فلا تميلوا كل الميل قال مجاهد : لا تتعمدوا الإساءة بل الزموا التسوية في القسم والنفقة ؛ لأن هذا مما يستطاع . وسيأتي بيان هذا في " الأحزاب " مبسوطا إن شاء الله تعالى . وروى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل .
قوله تعالى : فتذروها كالمعلقة أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج ؛ قاله الحسن . وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء ؛ لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق عليه انحمل ؛ وهذا مطرد في قولهم في المثل : " ارض من المركب بالتعليق " . وفي عرف النحويين فمن تعليق الفعل . ومنه في حديث أم زرع في قول المرأة : زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق . وقال قتادة : كالمسجونة ؛ وكذا قرأ أبي " فتذروها كالمسجونة " . وقرأ ابن مسعود " فتذروها كأنها معلقة " . وموضع " فتذروها " نصب ؛ لأنه جواب النهي . والكاف في " كالمعلقة " في موضع نصب أيضا .
وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٩٢١
يخبر تعالى: أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء، وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء، والداعي على السواء، والميل في القلب إليهن على السواء، ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن، فلذلك عفا الله عما لا يستطاع، ونهى عما هو ممكن بقوله: { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ْ} أي: لا تميلوا ميلا كثيرا بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل. فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها، بخلاف الحب والوطء ونحو ذلك، فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها، صارت كالمعلقة التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها. { وَإِنْ تُصْلِحُوا ْ} ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس، احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس، وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه، وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. { وَتَتَّقُوا ْ} الله بفعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور. { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ْ} يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا ٠٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا ٠٣١
ثم قال تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما ) وهذه هي الحالة الثالثة ، وهي حالة الفراق ، وقد أخبر تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه ، بأن يعوضه بها من هو خير له منها ، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه : ( وكان الله واسعا حكيما ) أي : واسع الفضل عظيم المن ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه .
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا ٠٣١
قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما
قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته أي وإن لم يصطلحا بل تفرقا فليحسنا ظنهما بالله ، فقد يقيض للرجل امرأة تقر بها عينه ، وللمرأة من يوسع عليها . وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر ، فأمره بالنكاح ، فذهب الرجل وتزوج ؛ ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر ، فأمره بالطلاق ؛ فسئل عن هذه الآية فقال : أمرته بالنكاح لعله من أهل هذه الآية : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت : فلعله من أهل هذه الآية وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته .
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغۡنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا ٠٣١
هذه الحالة الثالثة بين الزوجين، إذا تعذر الاتفاق فإنه لا بأس بالفراق، فقال: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا ْ} أي: بطلاق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك { يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا ْ} من الزوجين { مِنْ سَعَتِهِ ْ} أي: من فضله وإحسانه الواسع الشامل. فيغني الزوج بزوجة خير له منها، ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها من زوجها، فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق، القائم بمصالحهم، ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه، { وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا ْ} أي: كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه. ولكنه مع ذلك { حَكِيمًا ْ} أي: يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده من إحسانه، بسبب من العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلا وحكمة.
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدٗا ١٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدٗا ١٣١
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، وأنه الحاكم فيهما ; ولهذا قال : ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم ) أي : وصيناكم بما وصيناهم به ، من تقوى الله ، عز وجل ، بعبادته وحده لا شريك له .
ثم قال : ( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض [ وكان الله غنيا حميدا ] ) كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه : ( إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) [ إبراهيم : 8 ] ، وقال ( فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد ) [ التغابن : 6 ] أي : غني عن عباده ، ( حميد ) أي : محمود في جميع ما يقدره ويشرعه .
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدٗا ١٣١
قوله تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم : وقد مضى القول في التقوى . وإياكم عطف على الذين . أن اتقوا الله في موضع نصب ؛ قال الأخفش : أي بأن اتقوا الله . وقال بعض العارفين : هذه الآية هي رحى آي القرآن ، لأن جميعه يدور عليها .
قوله تعالى : وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدٗا ١٣١
يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا، فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام، والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب، والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب، ولهذا قال: { وَإِنْ تَكْفُرُوا ْ} بأن تتركوا تقوى الله، وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئا ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له خاضعون لأمره. ولهذا رتب على ذلك قوله: { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ْ} له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق ولا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم، فسأل كل [واحد] منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا، ذلك بأنه جواد واجد ماجد، عطاؤه كلام وعذابه كلام، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون. ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف، إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه، لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال، بل له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا شريكا في ملكه ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه. ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة وأغناهم وأقناهم، ومَنَّ عليهم بلطفه وهداهم. وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة الدال على أنه [هو] المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام، وذلك لما اتصف به من صفات الحمد، التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النِّعم الجزال، فهو المحمود على كل حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين { الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ْ}!! فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ٢٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ٢٣١
وقوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) أي : هو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب الشهيد على كل شيء .
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ٢٣١
ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن قال قائل : ما فائدة هذا التكرير ؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه كرر تأكيدا ؛ ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه وأنه غني عن العالمين .
الجواب الثاني : أنه كرر لفوائد : فأخبر في الأول أن الله تعالى يغني كلا من سعته ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض فلا تنفد خزائنه . ثم قال : أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى وإن تكفروا أي وإن تكفروا فإنه غني عنكم ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض . ثم أعلم في الثالث بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله : وكفى بالله وكيلا لأن له ما في السماوات وما في الأرض . وقال : ما في السماوات ولم يقل من في السماوات ؛ لأنه ذهب به مذهب الجنس ، وفي السماوات والأرض من يعقل ومن لا يعقل .
وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا ٢٣١
ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه على كل شيء وكيل، أي: عالم قائم بتدبير الأشياء على وجه الحكمة، فإن ذلك من تمام الوكالة، فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه، والقوة والقدرة على تنفيذه وتدبيره، وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة، فما نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل، والله تعالى منزه عن كل نقص.
إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بَِٔاخَرِينَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرٗا ٣٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بَِٔاخَرِينَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرٗا ٣٣١
وقوله : ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ) أي : هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه ، وكما قال [ تعالى ] ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) [ محمد : 38 ] . وقال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره ! وقال تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد . وما ذلك على الله بعزيز ) [ إبراهيم : 19 ، 20 ] أي : ما هو عليه بممتنع
إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بَِٔاخَرِينَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرٗا ٣٣١
قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا
قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم يعني : بالموت أيها الناس يريد المشركين والمنافقين ويأت بآخرين يعني بغيركم . ولما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال : هم قوم هذا . وقيل : الآية عامة ، أي وإن تكفروا يذهبكم ويأت بخلق أطوع لله منكم . وهذا كما قال في آية أخرى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة فلا يعدل في رعيته ، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس ، أن يذهبه ويأتي بغيره . وكان الله على ذلك قديرا والقدرة صفة أزلية ، لا تتناهى مقدوراته ، كما لا تتناهى معلوماته ، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد ، وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه يحدث في ذاته وصفاته . والقدرة هي التي يكون بها الفعل ولا يجوز وجود العجز معها .
إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأۡتِ بَِٔاخَرِينَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرٗا ٣٣١
أي: هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ْ} غيركم هم أطوع لله منكم وخير منكم، وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم وإعراضهم عن ربهم، فإن الله لا يعبأ بهم شيئا إن لم يطيعوه، ولكنه يمهل ويملي ولا يهمل.
مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٤٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٤٣١
وقوله : ( من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ) أي : يا من ليس همه إلا الدنيا ، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك ، كما قال تعالى : ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . أولئك لهم نصيب مما كسبوا [ والله سريع الحساب ] ) [ البقرة : 200 - 202 ] ، وقال تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه [ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ] ) [ الشورى : 20 ] ، وقال تعالى : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا . ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض [ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ] ) [ الإسراء : 18 - 21 ] .
وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية : ( من كان يريد ثواب الدنيا ) أي : من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك ، ( فعند الله ثواب الدنيا ) وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين . وقوله : ( والآخرة ) أي : وعند الله ثواب الآخرة ، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم . وجعلها كقوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها [ نوف إليهم أعمالهم فيها ] وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) [ هود : 15 ، 16 ] .
ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر ، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر ; فإن قوله ( فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ) ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة ، أي : بيده هذا وهذا ، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة ، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ، ممن يستحق هذا ، وممن يستحق هذا ; ولهذا قال : ( وكان الله سميعا بصيرا )
مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٤٣١
قوله تعالى : من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا
أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة آتاه الله ذلك في الآخرة ، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب ؛ لأنه عمل لغير الله كما قال تعالى : وما له في الآخرة من نصيب . وقال تعالى : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار . وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار ، وهو اختيار الطبري . وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة ، وإنما . يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها ؛ فأنزل الله عز وجل من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه .
مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعَۢا بَصِيرٗا ٤٣١
ثم أخبر أن مَن كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا، وليس له إرادة في الآخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره، ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها، فإنه تعالى هو المالك لكل شيء الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة، فليطلبا منه ويستعان به عليهما، فإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به، والافتقار إليه على الدوام. وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه، وخذلان من يخذله وفي عطائه ومنعه، ولهذا قال: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ْ}
۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٥٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٥٣١
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه .
وقوله : ( شهداء لله ) كما قال ( وأقيموا الشهادة لله ) أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ; ولهذا قال : ( ولو على أنفسكم ) أي : اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .
وقوله : ( أو الوالدين والأقربين ) أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد .
وقوله : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) أي : لا ترعاه لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما .
وقوله ( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغضة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [ تعالى ] .
وقوله : ( وإن تلووا أو تعرضوا ) قال مجاهد وغير واحد من السلف : ( تلووا ) أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، " واللي " هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : ( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب [ لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ] ) [ آل عمران : 78 ] . و " الإعراض " هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) [ البقرة : 283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " . ولهذا توعدهم الله بقوله : ( فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) أي : وسيجازيكم بذلك .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٥٣١
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا
ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين قوامين بناء مبالغة ، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط ، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم ، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها . ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما ، ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب ؛ فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال .
الثانية : لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل ، وهو معنى قوله تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا فإن شهد لهما أو شهدا له وهي :
الثالثة : فقد اختلف فيها قديما وحديثا ؛ فقال ابن شهاب الزهري : كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله فلم يكن أحد يتهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم . ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم ، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة ، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل . وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا . وروي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه ؛ وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال إسحاق والثوري والمزني . ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب . وروى عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه . وقال مالك وأبو حنيفة : شهادة الزوج لزوجته لا تقبل ؛ لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة . وقال الشافعي : تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض ؛ لأنهما أجنبيان ، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو معرض للزوال . والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل ؛ وهذا ضعيف ؛ فإن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة ، فالتهمة قوية ظاهرة . وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه ، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم . قال الخطابي : ذو الغمر الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة ، فترد شهادته عليه للتهمة . وقال أبو حنيفة : شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلا . والقانع السائل والمستطعم ، وأصل القنوع السؤال . ويقال في القانع : إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم ؛ وذلك مثل الأجير أو الوكيل ونحوه . ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى نفسه ؛ لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع . وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا فشهادته مردودة ؛ كمن شهد لرجل على شراء دار هو شفيعها ، أو كمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس ، فشهد المفلس على رجل بدين ونحوه . قال الخطابي : ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته ؛ لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر ؛ وإلى هذا ذهب أبو حنيفة . والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه ؛ لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه والميل إليه ؛ ولأنه يمتلك ماله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : أنت ومالك لأبيك . وممن ترد شهادته عند مالك البدوي على القروي ؛ قال : إلا أن يكون في بادية أو قرية ، فأما الذي يشهد في الحضر بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب . وقد روى أبو داود والدراقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية . قال محمد بن عبد الحكم : تأول مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال ، ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق . وقال عامة أهل العلم : شهادة البدوي إذا كان عدلا يقيم الشهادة على وجهها جائزة ؛ والله أعلم . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " ، ويأتي في " براءة " تمامها إن شاء الله تعالى .
الرابعة : قوله تعالى : شهداء لله نصب على النعت ل ( قوامين ) ، وإن شئت كان خبرا بعد خبر . قال النحاس : وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في قوامين من ذكر الذين آمنوا ؛ لأنه نفس المعنى ، أي كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم . قال ابن عطية : والحال فيه ضعيفة في المعنى ؛ لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط . ولم ينصرف شهداء لأن فيه ألف التأنيث .
الخامسة : قوله تعالى : لله معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه . ولو على أنفسكم متعلق ب شهداء ؛ هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس ، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيقر بها لأهلها ، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه ؛ كما تقدم . أدب الله جل وعز المؤمنين بهذا ؛ كما قال ابن عباس : أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم . ويحتمل أن يكون قوله : شهداء لله معناه بالوحدانية لله ، ويتعلق قوله : ولو على أنفسكم ب قوامين والتأويل الأول أبين .
السادسة : قوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما في الكلام إضمار وهو اسم كان ؛ أي إن يكن الطالب أو المشهود عليه غنيا فلا يراعى لغناه ولا يخاف منه ، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه . فالله أولى بهما أي فيما اختار لهما من فقر وغنى . قال السدي : اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير ، فكان ضلعه صلى الله عليه وسلم مع الفقير ، ورأى أن الفقير لا يظلم الغني ؛ فنزلت الآية .
السابعة : قوله تعالى : فالله أولى بهما إنما قال بهما ولم يقل " به " وإن كانت أو إنما تدل على الحصول الواحد ؛ لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما . وقال الأخفش : تكون أو بمعنى الواو ؛ أي إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بالخصمين كيفما كانا ؛ وفيه ضعف . وقيل : إنما قال : بهما لأنه قد تقدم ذكرهما ؛ كما قال تعالى : وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس .
الثامنة : قوله تعالى : فلا تتبعوا الهوى نهي ، فإن اتباع الهوى مرد ، أي مهلك ؛ قال الله تعالى : فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق ، وعلى الجور في الحكم ، إلى غير ذلك . وقال الشعبي : أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء : ألا يتبعوا الهوى ، وألا يخشوا الناس ويخشوه ، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا . أن تعدلوا في موضع نصب .
التاسعة : قوله تعالى : وإن تلووا أو تعرضوا قرئ " وإن تلووا " من لويت فلانا حقه ليا إذا دفعته به ، والفعل منه " لوى " والأصل فيه " لوى " قلبت الياء ألفا لحركتها وحركة ما قبلها ، والمصدر " ليا " والأصل لويا ، وليانا والأصل لويانا ، ثم أدغمت الواو في الياء . وقال القتبي : " تلووا " من اللي في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين . وقرأ ابن عامر والكوفيون " تلوا " أراد قمتم بالأمر وأعرضتم ، من قولك : وليت الأمر ، فيكون في الكلام . التوبيخ للإعراض عن القيام بالأمر وقيل : إن معنى " تلوا " الإعراض . فالقراءة بضم اللام تفيد معنيين : الولاية والإعراض ، والقراءة بواوين تفيد معنى واحدا وهو الإعراض . وزعم بعض النحويين أن من قرأ " تلوا " فقد لحن ؛ لأنه لا معنى للولاية هاهنا . قال النحاس وغيره : وليس يلزم هذا ولكن تكون " تلوا " بمعنى " تلووا " وذلك أن أصله " تلووا " فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى . فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين ؛ وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين ؛ ذكره مكي . وقال الزجاج : المعنى على قراءته " وإن تلووا " ثم همز الواو الأولى فصارت " تلئوا " ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت " تلوا " وأصلها " تلووا " . فتتفق القراءتان على هذا التقدير . وذكره النحاس ومكي وابن العربي وغيرهم . قال ابن عباس : هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر ؛ فاللي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه . قال ابن عطية : وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك ، والله حسيب الكل . وقال ابن عباس أيضا والسدي وابن زيد والضحاك ومجاهد : هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرفها فلا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها . ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة ، وكل إنسان مأمور بأن يعدل . وفي الحديث : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته . قال ابن الأعرابي : عقوبته حبسه ، وعرضه شكايته .
العاشرة : وقد استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية ؛ فقال : جعل الله تعالى الحاكم شاهدا في هذه الآية ، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة ؛ لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه ، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا فلذلك ردت الشهادة .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٥٣١
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا { قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ْ} والقوَّام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس، ولهذا قال: { شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ْ} أي: فلا تراعوا الغني لغناه، ولا الفقير بزعمكم رحمة له، بل اشهدوا بالحق على من كان. والقيام بالقسط من أعظم الأمور وأدل على دين القائم به، وورعه ومقامه في الإسلام، فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام، وأن يجعله نُصْب عينيه، ومحل إرادته، وأن يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به. وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى، ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع بقوله: { فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ْ} أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق، فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب، ولم توفقوا للعدل، فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطلا والباطل حقا، وإما أن يعرف الحق ويتركه لأجل هواه، فمن سلم من هوى نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم. ولما بيَّن أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك، وهو لي اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها، وتحريف النطق عن الصواب المقصود من كل وجه، أو من بعض الوجوه، ويدخل في ذلك تحريف الشهادة وعدم تكميلها، أو تأويل الشاهد على أمر آخر، فإن هذا من اللي لأنه الانحراف عن الحق. { أَوْ تُعْرِضُوا ْ} أي: تتركوا القسط المنوط بكم، كترك الشاهد لشهادته، وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به. { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ْ} أي: محيط بما فعلتم، يعلم أعمالكم خفيها وجليها، وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور، لأنه أعظم جرما، لأن الأولين تركا الحق، وهذا ترك الحق وقام بالباطل.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦٣١
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه ، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه . كما يقول المؤمن في كل صلاة : ( اهدنا الصراط المستقيم ) [ الفاتحة : 6 ] أي : بصرنا فيه ، وزدنا هدى ، وثبتنا عليه . فأمرهم بالإيمان به وبرسوله ، كما قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ) [ الحديد : 28 ] .
وقوله : ( والكتاب الذي نزل على رسوله ) يعني : القرآن ( والكتاب الذي أنزل من قبل ) وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال في القرآن : ( نزل ) ; لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع ، بحسب ما يحتاج إليه العباد إليه في معادهم ومعاشهم ، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ; ولهذا قال : ( والكتاب الذي أنزل من قبل ) ثم قال ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) أي : فقد خرج عن طريق الهدى ، وبعد عن القصد كل البعد .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦٣١
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا آمنوا الآية نزلت في جميع المؤمنين ؛ والمعنى : يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم واثبتوا عليه . والكتاب الذي نزل على رسوله أي القرآن . والكتاب الذي أنزل من قبل أي كل كتاب أنزل على النبيين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " نزل " و " أنزل " بالضم . الباقون " نزل " و " أنزل " بالفتح . وقيل : نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام . وقيل : إنه خطاب للمنافقين ؛ والمعنى على هذا يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله . وقيل : المراد المشركون ؛ والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله ؛ أي صدقوا بالله وبكتبه .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَٰبِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٦٣١
اعلم أن الأمر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه، فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه، وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان، كقوله تعالى: { يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ ْ} الآية. وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد، ومنه ما ذكره الله في هذه الآية من أمر المؤمنين بالإيمان، فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الإخلاص والصدق، وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات. ويقتضي أيضا الأمر بما لم يوجد من المؤمن من علوم الإيمان وأعماله، فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من الإيمان المأمور به. وكذلك سائر الأعمال الظاهرة والباطنة، كلها من الإيمان كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة، وأجمع عليه سلف الأمة. ثم الاستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى: { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ْ} وأمر هنا بالإيمان به وبرسوله، وبالقرآن وبالكتب المتقدمة، فهذا كله من الإيمان الواجب الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به، إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل، فمن آمن هذا الإيمان المأمور به، فقد اهتدى وأنجح. { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ْ} وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم، وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟" واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها، لتلازمها وامتناع وجود الإيمان ببعضها دون بعض
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا ٧٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا ٧٣١
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ، ثم عاد فيه ثم رجع ، واستمر على ضلاله وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ، ولا يغفر الله له ، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ، ولا طريقا إلى الهدى ; ولهذا قال : ( لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جميع ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : ( ثم ازدادوا كفرا ) قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا . وكذا قال مجاهد .
وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى ، عن عامر الشعبي ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : يستتاب المرتد ، ثلاثا ، ثم تلا هذه الآية : ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا )
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا ٧٣١
قوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا
قيل : المعنى آمنوا بموسى وكفروا بعزير ، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن الذين آمنوا بموسى ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعد عزير بالمسيح ، وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن . فإن قيل : إن الله تعالى لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم فالجواب أن الكافر إذا آمن غفر له كفره ، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول ؛ وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله قال : قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال : أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام . وفي رواية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر . الإساءة هنا بمعنى الكفر ؛ إذ لا يصح أن يراد بها هنا ارتكاب سيئة ، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلا حين موته ، وذلك باطل بالإجماع . ومعنى : ثم ازدادوا كفرا أصروا على الكفر . لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم يرشدهم . سبيلا طريقا إلى الجنة . وقيل : لا يخصهم بالتوفيق كما يخص أولياءه . وفي هذه الآية رد على أهل القدر ؛ فإن الله تعالى بين أنه لا يهدي الكافرين طريق خير ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى ، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا . وتضمنت الآية أيضا حكم المرتدين ، وقد مضى القول فيهم في " البقرة " عند قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر .
قوله تعالى : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما
التبشير الإخبار بما ظهر أثره على البشرة ، وقد تقدم بيانه في " البقرة " ومعنى النفاق .
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ سَبِيلَۢا ٧٣١
أي: من تكرر منه الكفر بعد الإيمان فاهتدى ثم ضل، وأبصر ثم عمي، وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه، فإنه بعيد من التوفيق والهداية لأقوم الطريق، وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها. فإن كفره يكون عقوبة وطبعًا لا يزول كما قال تعالى: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ْ} { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ} ودلت الآية: أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى الإيمان، وتركوا ما هم عليه من الكفران، فإن الله يغفر لهم، ولو تكررت منهم الردة. وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة، عاد الله له بالمغفرة.
بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ٨٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ٨٣١
ثم قال : ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) يعني : أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم ،
بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ٨٣١
التبشير الإخبار بما ظهر أثره على البشرة , وقد تقدم بيانه في " البقرة " ومعنى النفاق .
بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ٨٣١
تفسير الايتين 138 و139 :ـ البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية. يقول تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ} أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟ وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون. والحال أن العزة لله جميعا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم.
ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ٩٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ٩٣١
ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة ، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنما نحن معكم ، إنما نحن مستهزئون . أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة . قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين : ( أيبتغون عندهم العزة ) ؟
ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها لله وحده لا شريك له ، ولمن جعلها له . كما قال في الآية الأخرى : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ) [ فاطر : 10 ] ، وقال تعالى : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) [ المنافقون : 8 ] .
والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله ، والالتجاء إلى عبوديته ، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد .
ويناسب أن يذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حميد الكندي ، عن عبادة بن نسي ، عن أبي ريحانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من انتسب إلى تسعة آباء كفار ، يريد بهم عزا وفخرا ، فهو عاشرهم في النار " .
تفرد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو أزدي ، ويقال : أنصاري . اسمه شمعون بالمعجمة ، فيما قاله البخاري ، وقال غيره : بالمهملة ، والله أعلم .
ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ٩٣١
قوله تعالى : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
قوله تعالى : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الذين نعت للمنافقين . وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق ؛ لأنه لا يتولى الكفار . وتضمنت المنع من موالاة الكافر ، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه ، فقال له : ارجع فإنا لا نستعين بمشرك . العزة أي : الغلبة ، عزه يعزه عزا إذا غلبه . فإن العزة لله جميعا أي الغلبة والقوة لله . قال ابن عباس : " يبتغون عندهم " يريد بني قينقاع ، فإن ابن أبي كان يواليهم .
ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ٩٣١
تفسير الايتين 138 و139 :ـ البشارة تستعمل في الخير، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية. يقول تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ} أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، بأقبح بشارة وأسوئها، وهو العذاب الأليم، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم، وتركهم لموالاة المؤمنين، فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟ وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون. والحال أن العزة لله جميعا، فإن نواصي العباد بيده، ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين؛ وترك موالاة المؤمنين، وأن ذلك من صفات المنافقين، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم، وبغض الكافرين وعداوتهم.
وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ٠٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ٠٤١
وقوله [ تعالى ] ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) أي : إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها ، وأقررتموهم على ذلك ، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه . فلهذا قال تعالى : ( إنكم إذا مثلهم ) [ أي ] في المأثم ، كما جاء في الحديث : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " .
والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك ، هو قوله تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم [ حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ] ) [ الأنعام : 68 ] قال مقاتل بن حيان : نسخت هذه الآية التي في الأنعام . يعني نسخ قوله : ( إنكم إذا مثلهم ) لقوله ( وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) [ الأنعام : 69 ] .
وقوله : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) أي : كما أشركوهم في الكفر ، كذلك شارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا ، وجمع بينهم في دار العقوبة والنكال ، والقيود والأغلال . وشراب الحميم والغسلين لا الزلال .
وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ٠٤١
وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا
قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من محق ومنافق ؛ لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله . فالمنزل قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن . وقرأ عاصم ويعقوب " وقد نزل " بفتح النون والزاي وشدها ؛ لتقدم اسم الله جل جلاله في قوله تعالى : فإن العزة لله جميعا . وقرأ حميد كذلك ، إلا أنه خفف الزاي . الباقون " نزل " غير مسمى الفاعل . أن إذا سمعتم آيات الله موضع أن إذا سمعتم على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه . وفي قراءة الباقين رفع ؛ لكونه اسم ما لم يسم فاعله . يكفر بها أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله ؛ فأوقع السماع على الآيات ، والمراد سماع الكفر والاستهزاء ؛ كما تقول : سمعت عبد الله يلام ، أي سمعت اللوم في عبد الله .
قوله تعالى : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي غير الكفر . إنكم إذا مثلهم فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضا بالكفر كفر ؛ قال الله عز وجل : إنكم إذا مثلهم . فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية . وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر ، فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم ، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية إنكم إذا مثلهم أي إن الرضا بالمعصية معصية ؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم . وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة ؛ كما قال :
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقد تقدم . وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى . وقال الكلبي : قوله تعالى : فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره نسخ بقوله تعالى : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء . وقال عامة المفسرين : هي محكمة . وروى جويبر عن الضحاك قال : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة .
قوله تعالى : إن الله جامع المنافقين الأصل " جامع " بالتنوين فحذف استخفافا ؛ فإنه بمعنى يجمع .
وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ٠٤١
أي: وقد بيَّن الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي { أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } أي: يستهان بها. وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله الإيمان بها وتعظيمها وإجلالها وتفخيمها، وهذا المقصود بإنزالها، وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله، فضد الإيمان الكفر بها، وضد تعظيمها الاستهزاء بها واحتقارها، ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم. وكذلك المبتدعون على اختلاف أنواعهم، فإن احتجاجهم على باطلهم يتضمن الاستهانة بآيات الله لأنها لا تدل إلا على حق، ولا تستلزم إلا صدقا، بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم { حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها. { إِنَّكُمْ إِذًا } أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكورة { مِثْلُهُمْ } لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة، أو القيام مع عدمها. { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } كما اجتمعوا على الكفر والموالاة ولا ينفع الكافرين مجرد كونهم في الظاهر مع المؤمنين كما قال تعالى: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } إلى آخر الآيات.
ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا ١٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا ١٤١
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء ، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم ، وظهور الكفر عليهم ، وذهاب ملتهم ( فإن كان لكم فتح من الله ) أي : نصر وتأييد وظفر وغنيمة ( قالوا ألم نكن معكم ) ؟ أي : يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ( وإن كان للكافرين نصيب ) أي : إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان ، كما وقع يوم أحد ، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ( قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ) ؟ أي : ساعدناكم في الباطن ، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم .
وقال السدي : ( نستحوذ عليكم ) نغلب عليكم ، كقوله : ( استحوذ عليهم الشيطان ) [ المجادلة : 19 ] وهذا أيضا تودد منهم إليهم ، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ; ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم ، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم ، وقلة إيقانهم .
قال الله تعالى : ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) أي : بما يعلمه منكم - أيها المنافقون - من البواطن الرديئة ، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرا في الحياة الدنيا ، لما له [ تعالى ] في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم ، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور .
وقوله : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن ذر ، عن يسيع الكندي قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، فقال : كيف هذه الآية : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : ادنه ادنه ، ثم قال : ( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )
وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) قال : ذاك يوم القيامة . وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي : يعني يوم القيامة . وقال السدي : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي : حجة .
ويحتمل أن يكون المراد : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) أي : في الدنيا ، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ] ) [ غافر : 51 ، 52 ] . وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين ، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم [ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم ] نادمين ) [ المائدة : 52 ] .
وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء ، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال ; لقوله تعالى : ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )
ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا ١٤١
الذين يتربصون بكم يعني المنافقين ، أي ينتظرون بكم الدوائر . فإن كان لكم فتح من الله أي غلبة على اليهود وغنيمة . قالوا ألم نكن معكم أي أعطونا من الغنيمة . وإن كان للكافرين نصيب أي ظفر . قالوا ألم نستحوذ عليكم أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم . يقال : استحوذ على كذا أي غلب عليه ؛ ومنه قوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان . وقيل : أصل الاستحواذ الحوط ؛ حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه . وهذا الفعل جاء على الأصل ، ولو أعل لكان ألم نستحذ ، والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ ، وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ . ونمنعكم من المؤمنين أي بتخذيلنا إياهم عنكم ، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم . والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا : ألم نكن معكم ؟ وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا : ألم نكن معكم ! ويحتمل أن يريدوا بقولهم ألم نكن معكم الامتنان على المسلمين . أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم .
قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا للعلماء فيه تأويلات خمس :
أحدها : ما روي عن يسيع الحضرمي قال : كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا أمير المؤمنين ، أرأيت قول الله : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا كيف ذلك ، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ! فقال علي رضي الله عنه : معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم . وكذا قال ابن عباس : ذاك يوم القيامة . قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل . قال ابن العربي : وهذا ضعيف : لعدم فائدة الخبر فيه ، وإن أوهم صدر الكلام معناه ؛ لقوله تعالى : فالله يحكم بينكم يوم القيامة فأخر الحكم إلى يوم القيامة . وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى ؛ بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة . ثم قال : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله ، وذلك يسقط فائدته ، إذ يكون تكرارا .
الثاني : إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ، ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم ؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا .
الثالث : إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم ؛ كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم . قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا .
قلت : ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا وذلك أن " حتى " غاية ؛ فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض ، وسبي بعضهم لبعض ، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ؛ فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله ؛ فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه .
الرابع : إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا ؛ فإن وجد فبخلاف الشرع .
الخامس : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا أي حجة عقلية ولا شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت .
الثانية : ابن العربي : ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم . وبه قال أشهب والشافعي : لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه ، والملك بالشراء سبيل ، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك . وقال ابن القاسم عن مالك ، وهو قول أبي حنيفة : إن معنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في دوام الملك ؛ لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث . وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه ، فقبل الحكم عليه ببيعه مات ، فيرث العبد المسلم وارث الكافر . فهذه سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه ، وإن ملك الشراء ثبت بقصد النية ، فقد أراد الكافر تملكه باختياره ، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده ، وجعل له سبيل عليه . قال أبو عمر : وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه . وأجمعوا أنه إذا أسلم عبد الكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه . فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له ، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه ؛ وذلك والله أعلم لقول الله عز وجل : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما .
واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين : أحدهما : البيع مفسوخ . والثاني : البيع صحيح ويباع على المشتري .
الثالثة : واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد ؛ فقال مالك والشافعي في أحد قوليه : يحال بينه وبين العبد ، ويخارج على سيده النصراني ، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره . فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن العبد المدبر ، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر . وقال الشافعي في القول الآخر : إنه يباع عليه ساعة أسلم ؛ واختاره المزني ؛ لأن المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم في ملك مشرك يذله ويخارجه ، وقد صار بالإسلام عدوا له . وقال الليث بن سعد : يباع النصراني من مسلم فيعتقه ، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه ، ويدفع إلى النصراني ثمنه . وقالسفيان والكوفيون : إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في قيمته ، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية .
ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمۡ فَإِن كَانَ لَكُمۡ فَتۡحٞ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡ وَإِن كَانَ لِلۡكَٰفِرِينَ نَصِيبٞ قَالُوٓاْ أَلَمۡ نَسۡتَحۡوِذۡ عَلَيۡكُمۡ وَنَمۡنَعۡكُم مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ فَٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا ١٤١
ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال: { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } أي: ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها، وتنتهون إليها من خير أو شر، قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم. { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } فيظهرون أنهم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم، وليشركوهم في الغنيمة والفيء ولينتصروا بهم. { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } ولم يقل فتح؛ لأنه لا يحصل لهم فتح، يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة، بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير مستقر، حكمة من الله. فإذا كان ذلك { قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي: نستولي عليكم { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: يتصنعون عندهم بكف أيديهم عنهم مع القدرة، ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في تفنيدهم وتزهيدهم في القتال، ومظاهرة الأعداء عليهم، وغير ذلك مما هو معروف منهم. { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة، ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات. { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفعٍ لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن [بعض] المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أوّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢٤١
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) [ البقرة : 9 ] وقال هاهنا : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) ولا شك أن الله تعالى لا يخادع ، فإنه العالم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا ، فكذلك يكون حكمهم يوم القيامة عند الله ، وأن أمرهم يروج عنده ، كما أخبر عنهم تعالى أنهم يوم القيامة يحلفون له : أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، فقال تعالى : ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم [ ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ] ) [ المجادلة : 18 ] .
وقوله : ( وهو خادعهم ) أي : هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة كما قال تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ألم يأن ) . [ الحديد : 13 - 15 ] وقد ورد في الحديث : " من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به " وفي حديث آخر : " إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ، ويعدل به إلى النار " عياذا بالله من ذلك .
وقوله : ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى [ يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ] ) هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها ، وهي الصلاة . إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها ; لأنهم لا نية لهم فيها ، ولا إيمان لهم بها ولا خشية ، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه ، من طريق عبيد الله بن زحر ، عن خالد بن أبي عمران ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ، ولكن يقوم إليها طلق الوجه ، عظيم الرغبة ، شديد الفرح ، فإنه يناجي الله [ تعالى ] وإن الله أمامه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية : ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) وروي من غير هذا الوجه ، عن ابن عباس ، نحوه .
فقوله تعالى : ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) هذه صفة ظواهرهم ، كما قال : ( ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ) [ التوبة : 54 ] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة ، فقال : ( يراؤون الناس ) أي : لا إخلاص لهم [ ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الصلاة تقية من الناس ومصانعة لهم ] ; ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون غالبا فيها كصلاة العشاء وقت العتمة ، وصلاة الصبح في وقت الغلس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال ، معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " .
وفي رواية : " والذي نفسي بيده ، لو علم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين ، لشهد الصلاة ، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار " .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد - هو ابن أبي بكر المقدمي - حدثنا محمد بن دينار ، عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس ، وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة ، استهان بها ربه عز وجل " .
وقوله : ( ولا يذكرون الله إلا قليلا ) أي : في صلاتهم لا يخشعون [ فيها ] ولا يدرون ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وعما يراد بهم من الخير معرضون .
وقد روى الإمام مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق : يجلس يرقب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " .
وكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسماعيل بن جعفر المدني ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢٤١
قوله : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا
قوله تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم قد مضى في " البقرة " معنى الخدع . والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله . قال الحسن : يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ؛ فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق ، فذلك قولهم : انظرونا نقتبس من نوركم .
قوله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون ، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون تركها عقابا . وفي صحيح الحديث : إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح . فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها ، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به ، ولولا السيف ما قاموا .
والرياء : إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ؛ وقد تقدم بيانه . ثم وصفهم بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف . وقال صلى الله عليه وسلم ذاما لمن أخر الصلاة : تلك صلاة المنافقين - ثلاثا - يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - أو - على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا رواه مالك وغيره . فقيل : وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح ، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير . وقيل : وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله . وقيل : لعدم الإخلاص فيه . وهنا مسألتان :
الأولى : بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين ، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول ، وخرج من مقتضى قوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . وسيأتي اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض حسب ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها . رواه الأئمة . وقال صلى الله عليه وسلم : لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن . وقال : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود . أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود . قال الشافعي وأحمد وإسحاق : من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة ؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود . قال ابن العربي : وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض . وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها . وقد مضى في " البقرة " هذا المعنى .
الثانية : قال ابن العربي : إن من صلى صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له بالإيمان ، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة فليس ذلك بالرياء المنهي عنه ، ولم يكن عليه حرج ؛ وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل ، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة .
قلت : قول " وأراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة " فيه نظر . وقد تقدم بيانه في " النساء " فتأمله هناك . ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل ؛ لقول الله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا فعم . وقال قوم : إنما يدخل النفل خاصة ؛ لأن الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك . وقيل بالعكس ؛ لأنه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها .
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا ٢٤١
يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه، من قبيح الصفات وشنائع السمات، وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى، أي: بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران، ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه لعباده، والحال أن الله خادعهم، فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها، خداع لأنفسهم. وأي: خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟" ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه، حيث جمع بين المعصية، ورآها حسنة، وظنها من العقل والمكر، فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه" ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُـوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُـورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَـةُ وَظَاهـِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } إلى آخر الآيات. " وَ " من صفاتهم أنهم { إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ } -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية { قَامُوا كُسَالَى } متثاقلين لها متبرمين من فعلها، والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده، عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل، { يُرَاءُونَ النَّاسَ } أي: هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم، مراءاة الناس، يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله، فلهذا { لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } لامتلاء قلوبهم من الرياء، فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته.
مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٣٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٣٤١
وقوله : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) يعني : المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر ، فلا هم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ، ولا مع الكافرين ظاهرا وباطنا ، بل ظواهرهم مع المؤمنين ، وبواطنهم مع الكافرين . ومنهم من يعتريه الشك ، فتارة يميل إلى هؤلاء ، وتارة يميل إلى أولئك ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) الآية [ البقرة : 20 ] .
قال مجاهد : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ( ولا إلى هؤلاء ) يعني : اليهود .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، ولا تدري أيتهما تتبع " .
تفرد به مسلم . وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب ، فوقف به على ابن عمر ، ولم يرفعه ، قال : حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك .
قلت : وقد رواه الإمام أحمد ، عن إسحاق بن يوسف بن عبيد الله ، به مرفوعا . وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا . وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة ، عن عبدة ، عن عبد الله ، به مرفوعا . ورواه حماد بن سلمة ، عن عبيد الله - أو عبد الله بن عمر - عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا . ورواه أيضا صخر بن جويرية ، عن نافع عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا الهذيل بن بلال ، عن ابن عبيد ، عن أبيه : أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه ، فقال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الربيضين من الغنم ، إن أتت هؤلاء نطحتها ، وإن أتت هؤلاء نطحتها " فقال له ابن عمر : كذبت . فأثنى القوم على أبي خيرا - أو معروفا - فقال ابن عمر : لا أظن صاحبكم إلا كما تقولون ، ولكني شاهد نبي الله إذ قال : كالشاة بين الغنمين . فقال : هو سواء . فقال : هكذا سمعته .
وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : بينما عبيد بن عمير يقص ، وعنده عبد الله بن عمر ، فقال عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المنافق كالشاة بين ربيضين ، إذا أتت هؤلاء نطحتها ، وإذا أتت هؤلاء نطحتها " . فقال ابن عمر : ليس كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كشاة بين غنمين " . قال : فاحتفظ الشيخ وغضب ، فلما رأى ذلك ابن عمر قال : أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك .
طريق أخرى : عن ابن عمر ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن عثمان بن بودويه ، عن يعفر بن زوذى قال : سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين " . فقال ابن عمر : ويلكم . لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . إنما قال صلى الله عليه وسلم : " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد ، فدفع أحدهم فعبر ، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي : ويلك . أين تذهب ؟ إلى الهلكة ؟ ارجع عودك على بدئك ، وناداه الذي عبر : هلم إلى النجاة . فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة ، قال : فجاءه سيل فأغرقه ، فالذي عبر المؤمن ، والذي غرق المنافق : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) والذي مكث الكافر وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة عن قتادة : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر ، كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : أن هلم إلي ، فإني أخشى عليك . وناداه المؤمن : أن هلم إلي ، فإني عندي وعندي ; يحصى له ما عنده . فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرقه . وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة ، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين ، رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ، ثم رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف " .
ولهذا قال تعالى : ( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) أي : ومن صرفه عن طريق الهدى ( فلن تجد له وليا مرشدا ) فإنه : ( من يضلل الله فلا هادي له ) والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم ، ولا منقذ لهم مما هم فيه ، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٣٤١
قوله تعالى : مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
المذبذب : المتردد بين أمرين ؛ والذبذبة الاضطراب . يقال : ذبذبته فتذبذب ؛ ومنه قول النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
آخر :
خيال لأم السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب
كذا روي بكسر الذال الثانية .
قال ابن جني : أي المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل . فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين ، لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر . وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم : مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى وفي رواية ( تكر ) بدل ( تعير ) . وقرأ الجمهور " مذبذبين " بضم الميم وفتح الذالين . وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية . وفي حرف أبي " متذبذبين " . ويجوز الإدغام على هذه القراءة " مذبذبين " بتشديد الذال الأولى وكسر الثانية . وعن الحسن " مذبذبين " بفتح الميم والذالين .
مُّذَبۡذَبِينَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ لَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَلَآ إِلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا ٣٤١
{ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ } أي: مترددين بين فريق المؤمنين وفريق الكافرين. فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا، ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا. أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين، وهذا أعظم ضلال يقدر. ولهذا قـال: { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } أي: لن تجد طريقا لهدايته ولا وسيلة لترك غوايته، لأنه انغلق عنه باب الرحمة، وصار بدله كل نقمة. فهذه الأوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها، من الصدق ظاهرا وباطنا، والإخلاص، وأنهم لا يجهل ما عندهم، ونشاطهم في صلاتهم وعباداتهم، وكثرة ذكرهم لله تعالى. وأنهم قد هداهم الله ووفقهم للصراط المستقيم. فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين وليختر أيهما أولى به، وبالله المستعان.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا ٤٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا ٤٤١
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ) [ آل عمران : 28 ] أي : يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه . ولهذا قال هاهنا : ( أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ) أي : حجة عليكم في عقوبته إياكم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قوله : ( سلطانا مبينا ) [ قال ] كل سلطان في القرآن حجة .
وهذا إسناد صحيح . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب القرظي ، والضحاك ، والسدي والنضر بن عربي .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا ٤٤١
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء مفعولان ؛ أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم ؛ وقد تقدم هذا المعنى . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيۡكُمۡ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينًا ٤٤١
لما ذكر أن من صفات المنافقين اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نهى عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة، وأن يشابهوا المنافقين، فإن ذلك موجب لأن { تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا } أي: حجة واضحة على عقوبتكم، فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها، وأخبرنا بما فيها من المفاسد، فسلوكها بعد هذا موجِب للعقاب. وفي هذه الآية دليل على كمال عدل الله، وأن الله لا يُعَذِّب أحدا قبل قيام الحجة عليه، وفيه التحذير من المعاصي؛ فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطانا مبينا.
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا ٥٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا ٥٤١
م أخبر تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) أي : يوم القيامة ، جزاء على كفرهم الغليظ . قال الوالبي عن ابن عباس : ( في الدرك الأسفل من النار ) أي : في أسفل النار . وقال غيره : النار دركات ، كما أن الجنة درجات . " وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن ذكوان أبي صالح ، عن أبي هريرة : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) قال : في توابيت ترتج عليهم . كذا رواه ابن جرير ، عن ابن وكيع ، عن يحيى بن يمان ، عن سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم ، عن المنذر بن شاذان ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) قال : الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم ، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كهيل ، عن خيثمة ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) قال : في توابيت من نار تطبق عليهم . ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشج ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم ، ومعنى قوله : ( مبهمة ) أي : مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن : أن ابن مسعود سئل عن المنافقين ، فقال : يجعلون في توابيت من نار ، فتطبق عليهم في أسفل درك من النار .
( ولن تجد لهم نصيرا ) أي : ينقذهم مما هم فيه ، ويخرجهم من أليم العذاب .
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا ٥٤١
قوله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا
قوله تعالى : في الدرك . قرأ الكوفيون " الدرك " بإسكان الراء ، والأولى أفصح ؛ لأنه يقال في الجمع : أدراك مثل جمل وأجمال ؛ قاله النحاس . وقال أبو علي : هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه ، والجمع أدراك . وقيل : جمع الدرك أدرك ؛ كفلس وأفلس . والنار دركات سبعة ؛ أي طبقات ومنازل ؛ إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك . يقال : للبئر أدراك ، ولما تعالى درج ؛ فللجنة درج ، وللنار أدراك . وقد تقدم هذا . فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية ؛ لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين . وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية ؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى ، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه . وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى : في الدرك الأسفل من النار قال : توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم . وقال ابن عمر : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ؛ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى ، قال الله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . وقال تعالى في أصحاب المائدة : فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . وقال في آل فرعون : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب .
إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا ٥٤١
يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب، وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين، على وجه لا يشعر به ولا يحس. ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه، فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات. { وَأَصْلَحُوا } له الظواهر والبواطن { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } والتجأوا إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ } الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان { لِلَّهِ } فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه الصفات { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لا يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما في قوله: { وَأَصْلَحُوا } لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما. وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لأن هذه القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم.
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٦٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٦٤١
ثم أخبر تعالى أن من تاب [ منهم ] في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله ، واعتصم بربه في جميع أمره ، فقال : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ) أي : بدلوا الرياء بالإخلاص ، فينفعهم العمل الصالح وإن قل .
قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن خالد بن أبي عمران ، عن عمرو بن مرة ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخلص دينك ، يكفك القليل من العمل " .
( فأولئك مع المؤمنين ) أي : في زمرتهم يوم القيامة ( وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما )
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٦٤١
قوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما
استثناء ممن نافق . ومن شرط التائب من النفاق أن يصلح في قوله وفعله ، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذا ، ويخلص دينه لله ؛ كما نصت عليه هذه الآية ؛ وإلا فليس بتائب ؛ ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم ، والله أعلم . روى البخاري عن الأسود قال : كنا في حلقة عبد الله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال : لقد نزل النفاق على قوم خير منكم ، قال الأسود : سبحان الله ! إن الله تعالى يقول : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . فتبسم عبد الله وجلس حذيفة في ناحية المسجد ؛ فقام عبد الله فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته . فقال حذيفة : عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت : لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم . وقال الفراء : معنى فأولئك مع المؤمنين أي من المؤمنين . وقال القتبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال : فأولئك مع المؤمنين ولم يقل : هم المؤمنون . وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله يوم يناد المنادي و سندع الزبانية و يوم يدع الداعي حذفت الواوات لالتقاء الساكنين .
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٦٤١
يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب، وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين، على وجه لا يشعر به ولا يحس. ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه، فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات. { وَأَصْلَحُوا } له الظواهر والبواطن { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } والتجأوا إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ } الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان { لِلَّهِ } فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه الصفات { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لا يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما في قوله: { وَأَصْلَحُوا } لأن الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما. وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لأن هذه القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم.
مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا ٧٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا ٧٤١
ثم قال مخبرا عن غناه عما سواه ، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم ، فقال : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) أي : أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله ، ( وكان الله شاكرا عليما ) أي : من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه ، وجازاه على ذلك أوفر الجزاء .
مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا ٧٤١
قوله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما
استفهام بمعنى التقرير للمنافقين . التقدير : أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم ؛ فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن ، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه ، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه . وقال مكحول : أربع من كن فيه كن له ، وثلاث من كن فيه كن عليه ؛ فالأربع اللاتي له : فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار ، قال الله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وقال الله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وقال تعالى : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم . وأما الثلاث اللاتي عليه : فالمكر والبغي والنكث ؛ قال الله تعالى : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه . وقال تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله وقال تعالى : إنما بغيكم على أنفسكم . وكان الله شاكرا عليما أي يشكر عباده على طاعته . ومعنى " يشكرهم " يثيبهم ؛ فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل ، وذلك شكر منه على عبادته .والشكر في اللغة الظهور ، يقال : دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف ، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى . والعرب تقول في المثل : " أشكر من بروقة " لأنها يقال : تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر . والله أعلم .
مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا ٧٤١
ثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقال: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال، الدائبين في الأعمال، جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه. ومع هذا يعلم ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد ذلك. وهو يريد منكم التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه. والشكر هو خضوع القلب واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.
۞ لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ٨٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ٨٤١
قال [ علي ] بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ) يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : ( إلا من ظلم ) وإن صبر فهو خير له .
وقال أبو داود : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : سرق لها شيء ، فجعلت تدعو عليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تسبخي عنه " .
وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه . وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه .
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ; لقوله : ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ) [ الشورى : 41 ] .
وقال أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ، ما لم يعتد المظلوم " .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤد إليه حق ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : " ضفت فلانا فلم يؤد إلي حق ضيافتي " . فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته .
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) قال : قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج فيقول : " أساء ضيافتي ، ولم يحسن " . وفي رواية هو الضيف المحول رحله ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول .
وكذا روي عن غير واحد ، عن مجاهد ، نحو هذا . وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي ، من طريق الليث بن سعد - والترمذي من حديث ابن لهيعة - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا ، فما ترى في ذلك ؟ قال : " إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا الجودي يحدث ، عن سعيد بن المهاجر ، عن المقدام أبي كريمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما مسلم ضاف قوما ، فأصبح الضيف محروما ، فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله " .
تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، حدثني منصور ، عن الشعبي عن المقدام أبي كريمة ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم ، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا له عليه ، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه " .
ثم رواه أيضا عن غندر عن شعبة . وعن زياد بن عبد الله البكائي . عن وكيع ، وأبي نعيم ، عن سفيان الثوري - ثلاثتهم عن منصور ، به . وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عوانة ، عن منصور ، به .
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار .
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارا يؤذيني ، فقال له : " أخرج متاعك فضعه على الطريق " . فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فجعل كل من مر به قال : مالك ؟ قال : جاري يؤذيني . فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه ! قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك ، وقال لا أوذيك أبدا " .
وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن محمد بن عجلان به .
ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ٨٤١
قوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول وتم الكلام ، ثم قال : إلا من ظلم استثناء ليس من الأول في موضع نصب ؛ أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان . ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم . وقراءة الجمهور " ظلم " بضم الظاء وكسر اللام ؛ ويجوز إسكانها . ومن قرأ " ظلم " بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي ، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة . فعلى القراءة الأولى قالت طائفة : المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به . ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك ؛ فقال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي . فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء . وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو خير له ؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم . وقال أيضا هو والسدي : لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول . وقال ابن المستنير : إلا من ظلم معناه ؛ إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح . والآية على هذا في الإكراه ؛ وكذا قال قطرب : إلا من ظلم يريد المكره ؛ لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر ؛ قال : ويجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم على البدل ؛ كأنه قال : لا يحب الله إلا من ظلم ، أي لا يحب الله الظالم ؛ فكأنه يقول : يحب من ظلم أي يأجر من ظلم . والتقدير على هذا القول : لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم ، على البدل . وقال مجاهد : نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه . قال ابن جريج عن مجاهد : نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضفه فنزلت إلا من ظلم ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد ؛ قال : نزلت هذه الآية لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه : إنه لم يحسن ضيافته . وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية ؛ قالوا : لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها ؛ وهو قول الليث بن سعد . والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في " هود " والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - وإن كان مؤمنا كما قال الحسن ؛ فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا ؛ وقد تقدم في " البقرة " . وإن كان كافرا فأرسل لسانك وادع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء ؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وقال : اللهم عليك بفلان وفلان سماهم . وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا ، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم . وقد روى أبو داود عن عائشة قال : سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تسبخي عنه أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه . وروي ، أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته . قال ابن المبارك : يحل عرضه يغلظ له ، وعقوبته يحبس له . وفي صحيح مسلم مطل الغني ظلم . فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم ، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه : فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك ؛ حكي معناه عن سفيان ، وهو معنى قول ابن المبارك رضي الله عنهما .
الثانية : وليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن . الحديث . ولم يرد عليه واحد منهم ؛ لأنها كانت حكومة ، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه ، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب ؛ قاله ابن العربي . وقال علماؤنا : هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت ، وأما إذا تفاوتت ، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء ، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار . ووجه آخر : وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ! فإن العم صنو الأب ، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه ، لا أنه موصوف بتلك الأمور ؛ ثم انضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية ؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز ، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور ؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه ؛ ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه ؛ أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما .
الثالثة : فأما من قرأ " ظلم " بالفتح في الظاء واللام - وهي ، قراءة زيد بن أسلم ، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي ، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى : إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول ؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه ؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق : ألست نافقت ؟ إلا من ظلم ، أي أقام على النفاق ؛ ودل على هذا قوله تعالى : إلا الذين تابوا . قال ابن زيد : وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول ، ثم قال لهم بعد ذلك : ما يفعل الله بعذابكم على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان . ثم قال للمؤمنين : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم في إقامته على النفاق ؛ فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ؟ ونحو هذا من القول . وقال قوم : معنى الكلام : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، ثم استثنى استثناء منقطعا ؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك .
قلت : وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم ؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم . وقال أبو إسحاق الزجاج : يجوز أن يكون المعنى " إلا من ظلم " فقال سوءا ؛ فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه ؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول .
قلت : ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام : خذوا على أيدي سفهائكم . وقوله : انصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا : هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تكفه عن الظلم . وقال الفراء : " إلا من ظلم " يعني ولا من ظلم .
قوله تعالى : وكان الله سميعا عليما تحذير للظالم حتى لا يظلم ، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار .
لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ٨٤١
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين. وقوله: { إِلَّا مَن ظُلِمَ } أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه، ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح، أخبر تعالى أنه { سميع } فيسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن. { عَلِيمٌ } بنياتكم ومصدر أقوالكم.
إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا ٩٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا ٩٤١
وقوله : ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ) أي : إن تظهروا - أيها الناس - خيرا ، أو أخفيتموه ، أو عفوتم عمن أساء إليكم ، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه ، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم . ولهذا قال : ( إن الله كان عفوا قديرا ) ; ولهذا ورد في الأثر : أن حملة العرش يسبحون الله ، فيقول بعضهم : سبحانك على حلمك بعد علمك . ويقول بعضهم : سبحانك على عفوك بعد قدرتك . وفي الحديث الصحيح : " ما نقص مال من صدقة ، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله " .
إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا ٩٤١
ثم أتبع هذا بقوله إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فندب إلى العفو ورغب فيه . والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام ؛ وقد تقدم في " آل عمران " فضل العافين عن الناس . ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها . وقيل : إن عفوت فإن الله يعفو عنك . روى ابن المبارك قال : حدثني من سمع الحسن يقول : إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى : فمن عفا وأصلح فأجره على الله .
إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا ٩٤١
ثم قال تعالى: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ } وهذا يشمل كل خير قوليّ وفعليّ، ظاهر وباطن، من واجب ومستحب. { أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ } أي: عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم، فتسمحوا عنه، فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن أحسن الله إليه، فلهذا قال: { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } أي: يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته. وفي هذه الآية إرشاد إلى التفقه في معاني أسماء الله وصفاته، وأن الخلق والأمر صادر عنها، وهي مقتضية له، ولهذا يعلل الأحكام بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك، بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص.
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ٠٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ٠٥١
يتوعد [ تبارك و ] تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى ، حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان ، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، بمجرد التشهي والعادة ، وما ألفوا عليه آباءهم ، لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية . فاليهود - عليهم لعائن الله - آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران ، والمجوس يقال : إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ، ثم كفروا بشرعه ، فرفع من بين أظهرهم ، والله أعلم .
والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء ، فقد كفر بسائر الأنبياء ، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا ، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ; ولهذا قال تعالى : ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله ( ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ) أي : في الإيمان ( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) أي : طريقا ومسلكا .
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ٠٥١
قوله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
فيه مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إن الذين يكفرون لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ؛ إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبين أن الكفر به كفر بالكل ؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ومعنى يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي بين الإيمان بالله ورسله ؛ فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر ؛ وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل ، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم ، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها ؛ فكان كجحد الصانع سبحانه ، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية . وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر ، وهي :
الثانية : قوله تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد ؛ وقد تقدم هذا من قولهم في " البقرة " . ويقولون لعوامهم : لم نجد ذكر محمد في كتبنا . ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا ، أي دينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية . وقال : ذلك ولم يقل ذينك ؛ لأن ذلك تقع للاثنين ولو كان ذينك لجاز .
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ٠٥١
هنا قسمان قد وضحا لكل أحد: مؤمنٌ بالله وبرسله كلِّهم وكتبه، وكافرٌ بذلك كله.
وبقي قسم ثالث: وهو الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله، إنْ هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء يريدون التفريق بين الله وبين رسله.
فإن من تولى الله حقيقة تولى جميع رسله لأن ذلك من تمام توليه، ومن عادى أحدا من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله، كما قال تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ الآيات.
وكذلك مَنْ كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال:
أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١
ثم أخبر تعالى عنهم ، فقال : ( أولئك هم الكافرون حقا ) أي : كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ; لأنه ليس شرعيا ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه ، لو نظروا حق النظر في نبوته .
وقوله : ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) أي : كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله ، وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه ، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته ، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة ، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ) [ البقرة : 61 ] في الدنيا والآخرة .
أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١
قوله تعالى : أولئك هم الكافرون حقا تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض ، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله ؛ وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل ، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول ؛ فلذلك صاروا الكافرين حقا . وللكافرين يقوم مقام المفعول الثاني ل " أعتدنا " ؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم عذابا مهينا أي مذلا .
أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٗا مُّهِينٗا ١٥١
( أُولَئِكَ هُـمُ الْكَـافِرُونَ حَقًّا ) وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين الإيمان والكفر.
ووجه كونهم كافرين - حتى بما زعموا الإيمان به- أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي كفروا به، وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به موجود مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به.
فلم يبق بعد ذلك إلا التشهي والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها، ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شاملا لهم ولكل كافر فقال: ( وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) كما تكبروا عن الإيمان بالله، أهانهم بالعذاب الأليم المخزي.
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٢٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٢٥١
وقوله : ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ) يعني بذلك : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله ، كما قال تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله [ وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ] ) [ البقرة : 285 ] .
ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل ، فقال : ( أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) على ما آمنوا بالله ورسله ( وكان الله غفورا رحيما ) أي : لذنوبهم أي : إن كان لبعضهم ذنوب .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٢٥١
قوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته .
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ يُفَرِّقُواْ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ أُوْلَٰٓئِكَ سَوۡفَ يُؤۡتِيهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا ٢٥١
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } وهذا يتضمن الإيمان بكل ما أخبر الله به عن نفسه وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام. { وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ } من رسله، بل آمنوا بهم كلهم، فهذا هو الإيمان الحقيقي، واليقين المبني على البرهان. { أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي: جزاء إيمانهم وما ترتب عليه من عمل صالح، وقول حسن، وخلق جميل، كُلٌّ على حسب حاله. ولعل هذا هو السر في إضافة الأجور إليهم، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } يغفر السيئات ويتقبل الحسنات.
يَسَۡٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٣٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَسَۡٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٣٥١
قال محمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وقتادة : سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء . كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة .
قال ابن جريج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان ، بتصديقه فيما جاءهم به . وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد ، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك ، كما هو مذكور في سورة " سبحان " : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [ الإسراء : 90 ، 93 ] الآيات . ولهذا قال تعالى : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) أي : بطغيانهم وبغيهم ، وعتوهم وعنادهم . وهذا مفسر في سورة " البقرة " حيث يقول تعالى : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون . ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) [ البقرة : 55 ، 56 ] .
وقوله تعالى : ( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) أي : من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى ، عليه السلام ، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده في اليم ، فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا لموسى ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة [ قال إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ] ) [ الأعراف : 138 ، 139 ] . ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة " الأعراف " ، وفي سورة " طه " بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله ، عز وجل ، ثم لما رجع وكان ما كان ، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه : أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله ، عز وجل ، فقال الله عز وجل ( فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا )
يَسَۡٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٣٥١
قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا
سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى بالتوراة ؛ تعنتا له صلى الله عليه وسلم ؛ فأعلم الله عز وجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا فقالوا أرنا الله جهرة أي عيانا ؛ وقد تقدم في " البقرة " . وجهرة نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة ؛ فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاءوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات .
قوله تعالى : ثم اتخذوا العجل في الكلام حذف تقديره : فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل ؛ وقد تقدم في " البقرة " ويأتي ذكره في " طه " إن شاء الله . من بعد ما جاءتهم البينات أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها بأنه لا معبود إلا الله عز وجل . فعفونا عن ذلك أي عما كان منهم من التعنت . وآتينا موسى سلطانا مبينا أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها ؛ وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة ، وهي قاهرة للقلوب ، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها .
يَسَۡٔلُكَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيۡهِمۡ كِتَٰبٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِۚ فَقَدۡ سَأَلُواْ مُوسَىٰٓ أَكۡبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلۡمِهِمۡۚ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ فَعَفَوۡنَا عَن ذَٰلِكَۚ وَءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ سُلۡطَٰنٗا مُّبِينٗا ٣٥١
هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٤٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٤٥١
ثم قال تعالى : ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ) وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى ، عليه السلام ، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : ( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة [ واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ] ) [ الأعراف : 171 ] .
( وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ) أي : فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل ، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا ، وهم يقولون : حطة . أي : اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه ، حتى تهنا في التيه أربعين سنة . فدخلوا يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعرة .
( وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ) أي : وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ، ما دام مشروعا لهم ( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) أي : شديدا ، فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب مناهي الله ، عز وجل ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر [ إذ يعدون في السبت ] ) [ الأعراف : 163 - 166 ] الآيات ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال ، في سورة " سبحان " عند قوله : ( ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ) [ الإسراء : 101 ] ، وفيه : " وعليكم - خاصة يهود - ألا تعدوا في السبت " .
وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٤٥١
قوله تعالى : ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
قوله تعالى : ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم ، وهو العمل بما في التوراة ؛ وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في " البقرة " . وسجدا نصب على الحال . وقرأ ورش وحده " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء ، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في " البقرة " . والأصل فيه تعتدوا أدغمت التاء في الدال ؛ قال النحاس : ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا ، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ . وأخذنا منهم ميثاقا غليظا يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة . وقيل : عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك .
وَرَفَعۡنَا فَوۡقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمۡ وَقُلۡنَا لَهُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُلۡنَا لَهُمۡ لَا تَعۡدُواْ فِي ٱلسَّبۡتِ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا ٤٥١
تفسير الايات 152 حتى 159 :ـ هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٥٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٥٥١
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها ، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى ، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ، وكفرهم بآيات الله ، أي : حججه وبراهينه ، والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء ، عليهم السلام .
قوله ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله ، فإنهم قتلوا جما غفيرا من الأنبياء [ بغير حق ] عليهم السلام .
وقولهم : ( قلوبنا غلف ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، وغير واحد : أي في غطاء . وهذا كقول المشركين : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه [ وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون ] ) [ فصلت : 5 ] . وقيل : معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم ، أي : أوعية للعلم قد حوته وحصلته . رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس . وقد تقدم نظيره في سورة البقرة .
قال الله تعالى : ( بل طبع الله عليها بكفرهم ) فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول ; لأنها في غلف وفي أكنة ، قال الله [ تعالى ] بل هو مطبوع عليها بكفرهم . وعلى القول الثاني عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة .
( فلا يؤمنون إلا قليلا ) أي : مردت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الإيمان .
فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٥٥١
قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم فبما نقضهم خفض بالباء وما زائدة مؤكدة كقوله : فبما رحمة من الله وقد تقدم ؛ والباء متعلقة بمحذوف ، التقدير : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم ؛ عن قتادة وغيره . وحذف هذا لعلم السامع . وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي : هو متعلق بما قبله ؛ والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله : فبما نقضهم ميثاقهم قال : ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم . وأنكر ذلك الطبري وغيره ؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى ، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان ، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان . قال المهدوي وغيره : وهذا لا يلزم ؛ لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم ؛ على ما تقدم في " البقرة " . قال الزجاج : المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ؛ لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله : فبظلم من الذين هادوا حرمنا . ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم . وقيل : المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا ؛ والفاء مقحمة . وكفرهم عطف ، وكذا وقتلهم . والمراد بآيات الله كتبهم التي حرفوها . وغلف جمع غلاف ؛ أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا . وقيل : هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف ؛ أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول ؛ وهو كقوله : قلوبنا في أكنة وقد تقدم هذا في " البقرة " وغرضهم بهذا درء حجة الرسل . والطبع : الختم ؛ وقد تقدم في " البقرة " . بكفرهم أي : جزاء لهم على كفرهم ؛ كما قال : بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء ، وذلك غير نافع لهم .
فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ وَكُفۡرِهِم بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتۡلِهِمُ ٱلۡأَنۢبِيَآءَ بِغَيۡرِ حَقّٖ وَقَوۡلِهِمۡ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَلۡ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيۡهَا بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا يُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِيلٗا ٥٥١
تفسير الايات 152 حتى 159 :ـ هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا ٦٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا ٦٥١
( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يعني أنهم رموها بالزنا " . وكذا قال السدي ، وجويبر ، ومحمد بن إسحاق وغير واحد . وهو ظاهر من الآية : أنهم رموها وابنها بالعظائم ، فجعلوها زانية ، وقد حملت بولدها من ذلك - زاد بعضهم : وهي حائض - فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .
وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا ٦٥١
ثم كرر وبكفرهم ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر . وقيل : المعنى وبكفرهم بالمسيح ؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه ، والعامل في " بكفرهم " هو العامل في " بنقضهم " لأنه معطوف عليه ، ولا يجوز أن يكون العامل فيه طبع . والبهتان العظيم : رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم . والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم . والله سبحانه وتعالى أعلم .
وَبِكُفۡرِهِمۡ وَقَوۡلِهِمۡ عَلَىٰ مَرۡيَمَ بُهۡتَٰنًا عَظِيمٗا ٦٥١
تفسير الايات 152 حتى 159 :ـ هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا ٧٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا ٧٥١
وقولهم : ( إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه . وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء ، كقول المشركين : ( يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) [ الحجر : 6 ] .
وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه - أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى ، حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات ، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله ، عز وجل ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ، ومع هذا كذبوه وخالفوه ، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم ، حتى جعل نبي الله عيسى ، عليه السلام ، لا يساكنهم في بلدة ، بل يكثر السياحة هو وأمه ، عليهما السلام ، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان - وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته : اليونان - وأنهوا إليه : أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه . فغضب الملك من هذا ، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور ، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ، ويكف أذاه على الناس . فلما وصل الكتاب امتثل متولي بيت المقدس ذلك ، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى ، عليه السلام ، وهو في جماعة من أصحابه ، اثنا عشر أو ثلاثة عشر - وقيل : سبعة عشر نفرا - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت ، فحصروه هنالك . فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه ، أو خروجه عليهم قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتدب لذلك شاب منهم ، فكأنه استصغره عن ذلك ، فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب - فقال : أنت هو - وألقى الله عليه شبه عيسى ، حتى كأنه هو ، وفتحت روزنة من سقف البيت ، وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم ، فرفع إلى السماء وهو كذلك ، كما قال [ الله ] تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي [ ومطهرك من الذين كفروا ] ) الآية [ آل عمران : 55 ] .
فلما رفع خرج أولئك النفر فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى ، فأخذوه في الليل وصلبوه ، ووضعوا الشوك على رأسه ، فأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك ، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ، ما عدا من كان في البيت مع المسيح ، فإنهم شاهدوا رفعه ، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ، ويقال : إنه خاطبها ، والله أعلم .
وهذا كله من امتحان الله عباده ; لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم ، الذي أنزله على رسوله الكريم ، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات ، فقال تعالى - وهو أصدق القائلين ، ورب العالمين ، المطلع على السرائر والضمائر ، الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون - : ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) أي : رأوا شبهه فظنوه إياه ; ولهذا قال : ( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه ] ) يعني بذلك : من ادعى قتله من اليهود ، ومن سلمه من جهال النصارى ، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر . ولهذا قال : ( وما قتلوه يقينا ) أي : وما قتلوه متيقنين أنه هو ، بل شاكين متوهمين .
وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا ٧٥١
قوله تعالى : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا
قوله تعالى : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم كسرت إن لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة . وقد تقدم في " آل عمران " اشتقاق لفظ المسيح . رسول الله بدل ، وإن شئت على معنى أعني . وما قتلوه وما صلبوه رد لقولهم . ولكن شبه لهم أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في " آل عمران " . وقيل : لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه ، كما قال تعالى : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه والإخبار قيل : إنه عن جميعهم . وقيل : إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم ؛ ومعنى اختلافهم قول بعضهم إنه إله ، وبعضهم هو ابن الله . قاله الحسن : وقيل اختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى . وقال من عاين رفعه إلى السماء : ما قتلناه . وقيل : اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا : صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته . وقالت الملكانية : وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته . وقيل : اختلافهم هو أنهم قالوا : إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟ ! وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ ! وقيل : اختلافهم هو أن اليهود قالوا : نحن قتلناه ؛ لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله . وقالت طائفة من النصارى : بل قتلناه نحن . وقالت طائفة منهم : بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه . ما لهم به من علم من زائدة ؛ وتم الكلام . ثم قال جل وعز : إلا اتباع الظن استثناء ليس من الأول في موضع نصب ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل ؛ أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وأنشد سيبويه :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
قوله تعالى : وما قتلوه يقينا قال ابن عباس والسدي : المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا ؛ كقولك : قتلته علما إذا علمته علما تاما ؛ فالهاء عائدة على الظن . قال أبو عبيد : ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال : وما قتلوه فقط . وقيل : المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا ؛ فالوقف على هذا على يقينا . وقيل : المعنى وما قتلوا عيسى ، والوقف على وما قتلوه ويقينا نعت لمصدر محذوف ، وفيه تقديران : أحدهما : أي قالوا هذا قولا يقينا ، أو قال الله هذا قولا يقينا . والقول الآخر : أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا . النحاس : إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ ؛ لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها لضعفها . وأجازابن الأنباري الوقف على وما قتلوه على أن ينصب يقينا بفعل مضمر هو جواب القسم ، تقديره : ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا .
وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِيحَ عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَۢا ٧٥١
تفسير الايات 152 حتى 159 :ـ هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٨٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٨٥١
( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) أي منيع الجناب لا يرام جنابه ، ولا يضام من لاذ ببابه ( حكيما ) أي : في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، والسلطان العظيم ، والأمر القديم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه - وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين - يعني : فخرج عليهم من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة ، بعد أن آمن بي . ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي ، فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا ، فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب ، فقال : اجلس . ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا . فقال : أنت هو ذاك . فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء . قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ، ثم صلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة ، بعد أن آمن به ، وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء . وهؤلاء اليعقوبية ، وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ، ثم رفعه الله إليه . وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ، ثم رفعه الله إليه . وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة ، فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم .
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه النسائي عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، بنحوه وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، وهو رفيقي في الجنة ؟
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن منبه قال : أتي عيسى وعنده سبعة عشر من الحواريين في بيت وأحاطوا بهم . فلما دخلوا عليه صورهم الله ، عز وجل ، كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا . ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا . فقال عيسى لأصحابه : من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا . فخرج إليهم وقال : أنا عيسى - وقد صوره الله على صورة عيسى - فأخذوه وقتلوه وصلبوه . فمن ثم شبه لهم ، فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك . وهذا سياق غريب جدا . قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل : أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا ، جزع من الموت وشق عليه ، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما ، فقال : احضروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة . فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم . فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع ، فليس مني ولا أنا منه . فأقروه ، حتى إذا فرغ من ذلك قال : أما ما صنعت بكم الليلة ، مما خدمتكم على الطعام ، وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم ، فلا يتعظم بعضكم على بعض ، وليبذل بعضكم نفسه لبعض ، كما بذلت نفسي لكم . وأما حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها فتدعون لي الله ، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي . فلما نصبوا أنفسهم للدعاء ، وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله ! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينونني فيها ؟ قالوا : والله ما ندري ما لنا . لقد كنا نسمر فنكثر السمر ، وما نطيق الليلة سمرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه . فقال : يذهب بالراعي وتفرق الغنم . وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه . ثم قال : الحق ، ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلن ثمني ، فخرجوا وتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، وأخذوا شمعون أحد الحواريين ، وقالوا : هذا من أصحابه . فجحد وقال : ما أنا بصاحبه فتركوه ، ثم أخذه آخرون ، فجحد كذلك . ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه ، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلهم عليه ، وكان شبه عليهم قبل ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه ، وربطوه بالحبل ، وجعلوا يقودونه ويقولون ، له : أنت كنت تحيي الموتى ، وتنهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا .
ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام ، فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال : علام تبكيان ؟ فقالتا : عليك . فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شبه لهم فأمرا الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا . فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر . وفقدوا الذي كان باعه ودل عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه فقال : إنه ندم على ما صنع فاختنق ، وقتل نفسه فقال : لو تاب لتاب الله عليه . ثم سألهم عن غلام كاد يتبعهم ، يقال له : يحيى ، قال : هو معكم ، فانطلقوا ، فإنه سيصبح كل إنسان يحدث بلغة قومه ، فلينذرهم وليدعهم . سياق غريب جدا .
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلا منهم ، يقال له : داود ، فلما أجمعوا لذلك منه ، لم يفظع عبد من عباد الله بالموت - فيما ذكر لي - فظعه ولم يجزع منه جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه ، حتى إنه ليقول - فيما يزعمون - " اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني " وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما . فدخل - المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه - هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى ، عليه السلام ، فلما أيقن أنهم داخلون عليه قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلا فطرس ويعقوب بن زبدي ويحنس أخو يعقوب ، وأنداربيس ، وفيلبس ، وأبرثلما ومنى وتوماس ، ويعقوب بن حلفيا ، وتداوسيس ، وقثانيا ويودس زكريا يوطا .
قال ابن حميد : قال سلمة ، قال ابن إسحاق : وكان [ فيهم فيما ] ذكر لي رجل اسمه سرجس ، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى ، عليه السلام ، جحدته النصارى ، وذلك أنه هو الذي شبه لليهود مكان عيسى [ عليه السلام ] قال : فلا أدري ما هو ؟ من هؤلاء الاثني عشر ، أو كان ثالث عشر ، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى ، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه . فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر ، وإن كانوا اثني عشر ، فإنهم دخلوا المدخل [ حين دخلوا ] وهم ثلاثة عشر .
قال ابن إسحاق : وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم : أن عيسى حين جاءه من الله ( إني متوفيك ورافعك إلي ) قال : يا معشر الحواريين ، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يشبه للقوم في صورتي ، فيقتلوه في مكاني ؟ فقال سرجس : أنا ، يا روح الله . قال : فاجلس في مجلسي . فجلس فيه ، ورفع عيسى ، عليه السلام ، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به ، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم وأحصوا عدتهم . فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى ، فيما يرون وأصحابه ، وفقدوا رجلا من العدة ، فهو الذي اختلفوا فيه وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه فإني سأقبله ، وهو الذي أقبل ، فخذوه . فلما دخلوا وقد رفع عيسى ، ورأى سرجس في صورة عيسى ، فلم يشكك أنه عيسى ، فأكب عليه فقبله فأخذوه فصلبوه .
ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه ، وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه ، وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم ، فصلبوه وهو يقول : " إني لست بصاحبكم . أنا الذي دللتكم عليه " . والله أعلم أي ذلك كان .
وقال ابن جرير ، عن مجاهد : صلبوا رجلا شبهوه بعيسى ، ورفع الله ، عز وجل ، عيسى إلى السماء حيا .
واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه .
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٨٥١
بل رفعه الله إليه ابتداء كلام مستأنف ؛ أي إلى السماء ، والله تعالى متعال عن المكان ؛ وقد تقدم كيفية رفعه في " آل عمران " . وكان الله عزيزا أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن أستيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة . حكيما حكم عليهم باللعنة والغضب .
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيۡهِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٨٥١
تفسير الايات 152 حتى 159 :ـ هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا ٩٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا ٩٥١
وقوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا
)
قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ) يعني بعيسى ( قبل موته ) يعني : قبل موت عيسى - يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية ، دين إبراهيم ، عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : قبل موت عيسى ابن مريم . وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك .
وقال أبو مالك في قوله : ( إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) يعني : اليهود خاصة . وقال الحسن البصري : يعني النجاشي وأصحابه . ورواهما ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : قبل موت عيسى . والله إنه الآن حي عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن عثمان اللاحقي ، حدثنا جويرية بن بشر قال : سمعت رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله ، [ عز وجل ] ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : " قبل موت عيسى . إن الله رفع إليه عيسى [ إليه ] وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر " .
وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد . وهذا القول هو الحق ، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع ، إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان .
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ) قبل موت الكتابي . ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل ; لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى .
حدثني المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( إلا ليؤمنن به قبل موته ) كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته - قبل موت صاحب الكتاب - وقال ابن عباس : لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى .
حدثنا ابن حميد ، حدثنا أبو نميلة يحيى بن واضح ، حدثنا حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل عليه بالسلاح .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : هي في قراءة أبي : ( قبل موتهم ) ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى . قيل لابن عباس : أرأيت إن خر من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهوي . فقيل : أرأيت إن ضربت عنق أحد منهم ؟ قال : يلجلج بها لسانه .
وكذا روى سفيان الثوري عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ، عليه السلام ، وإن ضرب بالسيف تكلم به ، قال : وإن هوى تكلم [ به ] وهو يهوي .
وكذا روى أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي هارون الغنوي عن عكرمة ، عن ابن عباس . فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس ، وكذا صح عن مجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين . وبه يقول الضحاك وجويبر ، والسدي ، وحكاه عن ابن عباس ، ونقل قراءة أبي بن كعب : " قبل موتهم " .
وقال عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن فرات القزاز ، عن الحسن في قوله : ( إلا ليؤمنن به قبل موته ) قال : لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت .
وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه ، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثنا حماد ، عن حميد قال : قال عكرمة : لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته )
ثم قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى ، عليه السلام ، إلا آمن به قبل موته ، أي قبل موت عيسى ، عليه السلام ، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه [ الله ] هو الصحيح ; لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه ، وإنه باق حي ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة - التي سنوردها إن شاء الله قريبا - فيقتل مسيح الضلالة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية - يعني : لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف - فأخبرت هذه الآية الكريمة أن يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ; ولهذا قال : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) أي : قبل موت عيسى ، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب .
( ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) أي : بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض . فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد ، عليهما [ الصلاة و ] والسلام فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يتجلى له ما كان جاهلا به ، فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له ، إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى في [ أول ] هذه السورة : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [ ولا الذين يموتون وهم كفار ] ) الآية [ النساء : 18 ] وقال تعالى : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده [ وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ] ) الآيتين [ غافر : 84 ، 85 ] وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد هذا القول ، حيث قال : ولو كان المراد بهذه الآية هذا ، لكان كل من آمن بمحمد أو بالمسيح ، ممن كفر بهما - يكون على دينهما ، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه ; لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته . فهذا ليس بجيد ; إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ، ألا ترى إلى قول ابن عباس : ولو تردى من شاهق أو ضرب بسيف أو افترسه سبع ، فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى " فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافع ، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه ، والله أعلم .
ومن تأمل هذا جيدا وأمعن النظر ، اتضح له أن هذا ، وإن كان هو الواقع ، لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا ، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى ، عليه السلام ، وبقاء حياته في السماء ، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ; ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادت وتعاكست وتناقضت ، وخلت عن الحق ، ففرط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى : تنقصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم ، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه ، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية ، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس لا إله إلا هو .
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة ، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له :
قال البخاري ، رحمه الله ، في كتاب ذكر الأنبياء ، من صحيحه المتلقى بالقبول : ( نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام ) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها " . ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا )
وكذا رواه مسلم عن الحسن الحلواني وعبد بن حميد كلاهما ، عن يعقوب ، به وأخرجه البخاري ومسلم ، أيضا ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكون فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل الدجال ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين " . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل ) موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات .
طريق أخرى عن أبي هريرة : قال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن حنظلة بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليهلن عيسى ابن مريم بفج الروحاء بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعا " .
وكذا رواه مسلم منفردا به من حديث سفيان بن عيينة ، والليث بن سعد ، ويونس بن يزيد ، ثلاثتهم عن الزهري به .
وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان - هو ابن حسين - عن الزهري ، عن حنظلة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ، ويمحو الصليب ، وتجمع له الصلاة ، ويعطي المال حتى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما " قال : وتلا أبو هريرة : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ] ) فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى ، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي موسى محمد بن المثنى ، عن يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين عن الزهري ، به .
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا ابن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري ; أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنتم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم ، وإمامكم منكم ؟ " تابعه عقيل والأوزاعي .
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، وعن عثمان بن عمر ، عن ابن أبي ذئب ، كلاهما عن الزهري ، به . وأخرجه مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب ، به .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ; لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض ، حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم ، فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون " .
وكذا رواه أبو داود ، عن هدبة بن خالد ، عن همام بن يحيى . رواه ابن جرير - ولم يورد عند هذه الآية سواه - عن بشر بن معاذ ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عروبة - كلاهما عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم - وهو مولى أم برثن - صاحب السقاية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، وقال : فيقاتل الناس على الإسلام .
وقد روى البخاري ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ، ليس بيني وبينه نبي " .
ثم روى عن محمد بن سنان : عن فليح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد " وقال إبراهيم بن طهمان ، عن موسى بن عقبة ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . .
حديث آخر : قال مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا معلى بن منصور ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثنا سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو بدابق - فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافوا قال الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم . فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا . فيقاتلونهم ، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ، ويقتل ثلثه أفضل الشهداء عند الله [ عز وجل ] ويفتتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية ، فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون ، إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم . فيخرجون ، وذلك باطل . فإذا جاؤوا الشام خرج ، فبينما هم يعدون للقتال : يسوون الصفوف ، إذ أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى ابن مريم فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده ، فيريهم دمه في حربته " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، عن العوام بن حوشب ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عفازة ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، عليه السلام ، فتذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن الدجال خارج قال : ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافرا فتعال فاقتله : قال : فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيطؤون بلادهم ، فلا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ، قال : ثم يرجع الناس إلي يشكونهم ، فأدعو الله عليهم ، فيهلكهم ويميتهم ، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم ، وينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى نقذفهم في البحر ، ففيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارا .
رواه ابن ماجه ، عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب ، به نحوه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نضرة قال : أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة ; لنعرض عليه مصحفا لنا على مصحفه ، فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا ، ثم أتينا بطيب فتطيبنا ، ثم جئنا المسجد فجلسنا إلى رجل ، فحدثنا عن الدجال ، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه ، فجلسنا فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكون للمسلمين ثلاثة أمصار : مصر بملتقى البحرين ، ومصر بالحيرة ، ومصر بالشام . فيفزع الناس ثلاث فزعات ، فيخرج الدجال في أعراض الناس ، فيهزم من قبل المشرق ، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين ، فيصير أهلهم ثلاث فرق : فرقة تقيم تقول : نشامه ننظر ما هو ؟ وفرقة تلحق بالأعراب ، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم . ومع الدجال سبعون ألفا عليهم السيجان وأكثر من معه اليهود والنساء ، ثم يأتي المصر الذي يليه ، فيصير أهله ثلاث فرق : فرقة تقول : نشامه وننظر ما هو ؟ وفرقة تلحق بالأعراب ، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغرب الشام وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق فيبعثون سرحا لهم ، فيصاب سرحهم ، فيشتد ذلك عليهم وتصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد ، حتى إن أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السحر : " يا أيها الناس ، أتاكم الغوث ثلاثا " فيقول بعضهم لبعض : إن هذا لصوت رجل شبعان ، وينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، عند صلاة الفجر ، فيقول له أميرهم : روح الله ، تقدم صل . فيقول : هذه الأمة أمراء ، بعضهم على بعض . فيتقدم أميرهم فيصلي ، فإذا قضى صلاته أخذ عيسى حربته ، فيذهب نحو الدجال ، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص ، فيضع حربته بين ثندوته فيقتله وينهزم أصحابه ، فليس يومئذ شيء يواري أحدا ، حتى إن الشجرة لتقول : يا مؤمن ، هذا كافر . ويقول الحجر : يا مؤمن ، هذا كافر " . تفرد به أحمد من هذا الوجه .
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه المشهورة : حدثنا علي بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع أبي رافع ، عن أبي زرعة الشيباني يحيى بن أبي عمرو ، عن أبي أمامة الباهلي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال ، وحذرناه ، فكان من قوله أن قال :
" لم تكن فتنة في الأرض ، منذ ذرأ الله ذرية آدم ، عليه السلام ، أعظم من فتنة الدجال ، وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال . وأنا آخر الأنبياء ، وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم ، فأنا حجيج لكل مسلم ، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق ، فيعيث يمينا ويعيث شمالا " .
يا عباد الله ، أيها الناس ، فاثبتوا . وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي : إنه يبدأ فيقول أنا نبي " فلا نبي بعدي ، ثم يثني فيقول : " أنا ربكم " ، ولا ترون ربكم حتى تموتوا . وإنه أعور وإن ربكم ، عز وجل ، ليس بأعور ، وإنه مكتوب بين عينيه : كافر ، يقرؤه كل مؤمن ، كاتب وغير كاتب . وإن من فتنته أن معه جنة ونارا ، فناره جنة وجنته نار . فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف ، فتكون عليه بردا وسلاما ، كما كانت النار على إبراهيم [ عليه السلام ] وإن من فتنته أن يقول لأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك ؟ فيقول : نعم . فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه ، فيقولان : يا بني ، اتبعه ، فإنه ربك . وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار ، حتى يلقى شقين ثم يقول : انظروا إلى عبدي هذا ، فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له ربا غيري . فيبعثه الله ، فيقول له الخبيث : من ربك ، فيقول : ربي الله . وأنت عدو الله ، الدجال ، والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم " . قال أبو الحسن الطنافسي : فحدثنا المحاربي ، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك الرجل أرفع أمتي درجة في الجنة " .
قال : قال أبو سعيد : والله ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب ، حتى مضى لسبيله .
قال المحاربي : ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر ، فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، فتنبت ، [ وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه ، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ] وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه ، فيأمر السماء أن تمطر ، فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، فتنبت . حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه ، وأمده خواصر ، وأدره ضروعا ، وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه ، إلا مكة والمدينة ، فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة ، حتى ينزل عند الظريب الأحمر ، عند منقطع السبخة ، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، فتنفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد ، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص .
فقالت أم شريك بنت أبي العكر يا رسول الله ، فأين العرب يومئذ ؟ قال : " هم قليل ، وجلهم ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح ، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل [ عليهم ] عيسى [ ابن مريم ] عليه السلام ، الصبح ، فرجع ذلك الإمام ينكص ، يمشي القهقرى ; ليقدم عيسى يصلي بالناس ، فيضع عيسى ، عليه السلام ، يده بين كتفيه ثم يقول : تقدم فصل ، فإنها لك أقيمت . فيصلي بهم إمامهم ، فإذا انصرف قال عيسى ، عليه السلام : افتحوا الباب . فيفتح ، ووراءه الدجال ، معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج ، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء ، وينطلق هاربا ، ويقول عيسى [ عليه السلام ] إن لي فيك ضربة لن تستبقني بها . فيدركه عند باب لد الشرقي ، فيقتله ، ويهزم الله اليهود ، فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى يتوارى به اليهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء ، لا حجر ، ولا شجر ، ولا حائط ، ولا دابة - إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال : يا عبد الله المسلم ، هذا يهودي ، فتعال اقتله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإن أيامه أربعون سنة ، السنة كنصف السنة ، والسنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة ، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي " . فقيل له : يا نبي الله كيف نصلي ، في تلك الأيام القصار ؟ قال : " تقدرون فيها الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال . ثم صلوا " .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مقسطا ، يدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويترك الصدقة ، فلا يسعى على شاة ولا بعير ، وترتفع الشحناء والتباغض ، وتنزع حمة كل ذات حمة ، حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره ، وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها ، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها ، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء ، وتكون الكلمة واحدة ، فلا يعبد إلا الله ، وتضع الحرب أوزارها ، وتسلب قريش ملكها ، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها كعهد آدم ، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ، ويكون الثور بكذا وكذا ، من المال ، ويكون الفرس بالدريهمات .
قيل : يا رسول الله ، وما يرخص الفرس ؟ قال : " لا تركب لحرب أبدا " قيل له : فما يغلي الثور ؟ قال : " تحرث الأرض كلها " .
وإن قبل خروج [ الدجال ] ثلاث سنوات شداد ، يصيب الناس فيها جوع شديد ، يأمر الله السماء في السنة [ الأولى أن تحبس ثلث مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ، ثم يأمر الله السماء في السنة ] الثالثة فتحبس مطرها كله ، فلا تقطر قطرة ، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله ، فلا تنبت خضراء ، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت ، إلا ما شاء الله " .
فقيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان ؟ قال : " التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام " .
قال ابن ماجه : سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول : سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول : ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب ، حتى يعلمه الصبيان في الكتاب .
هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد من أحاديث أخر ; ولنذكر حديث النواس بن سمعان هاهنا لشبهه بسياقه هذا الحديث ، قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ( ح ) وحدثنا محمد بن مهران الرازي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ، فخفض فيه ورفع ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : " ما شأنكم ؟ " قلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم : إنه شاب قطط عينه طافية ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلة بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وعاث شمالا . يا عباد الله ، فاثبتوا " : قلنا : يا رسول الله ، وما لبثته في الأرض ؟ قال : " أربعين يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " .
قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : " لا اقدروا له قدره " . قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على قوم فيدعوهم ، فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى ، وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم ، فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم ، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم . ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك . فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل . ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا ، فيضربه بالسيف ، فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم ، عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مهرودتين ، واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله .
ثم يأتي عيسى ، عليه السلام ، قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله ، عز وجل ، إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور .
ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء . ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة .
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله .
ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ، ثم يقال للأرض : أخرجي ثمرك وردي بركتك . فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، ويبارك الله في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من الفم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة " .
ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، به . وسنذكره أيضا من طريق أحمد ، عند قوله تعالى في سورة الأنبياء : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج [ وهم من كل حدب ينسلون ] ) [ الأنبياء : 96 ] .
حديث آخر : قال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم قال : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو - وجاءه رجل فقال - : ما هذا الحديث الذي تحدث به تقول : إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله ؟ ! - أو : لا إله إلا الله ، أو كلمة نحوها - لقد هممت ألا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما : يحرق البيت ، ويكون ويكون . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج الدجال في أمتي ، فيمكث أربعين ، لا أدري أربعين يوما ، أو أربعين شهرا ، أو أربعين عاما ، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم ، كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه " قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دار رزقهم ، حسن عيشهم . ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ، ورفع ليتا ، قال : وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ويصعق الناس . ثم يرسل الله - أو قال : ينزل الله - مطرا كأنه الطل - أو قال : الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، ( وقفوهم إنهم مسئولون ) [ الصافات : 24 ] قال : " ثم يقال : أخرجوا بعث النار . فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين " . قال ( يجعل الولدان شيبا ) [ المزمل : 17 ] وذلك ( يوم يكشف عن ساق ) [ القلم : 42 ] .
ثم رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعا عن محمد بن بشار ، عن غندر ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة الأنصاري ، عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ، عن مجمع بن جارية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد - أو : إلى جانب لد " .
ورواه أحمد أيضا ، عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي ، ثلاثتهم عن الزهري ، عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة ، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقتل ابن مريم الدجال بباب لد " .
وكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الليث ، به . وقال : هذا حديث صحيح . قال : وفي الباب عن عمران بن حصين ، ونافع بن عتبة ، وأبي برزة ، وحذيفة بن أسيد ، وأبي هريرة . وكيسان ، وعثمان بن أبي العاص ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وسمرة بن جندب ، والنواس بن سمعان ، وعمرو بن عوف ، وحذيفة بن اليمان ، رضي الله عنهم .
ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال . وقتل عيسى ابن مريم ، عليه السلام له . فأما أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جدا ، وهي أكثر من أن تحصر ; لانتشارها وكثرة رواتها في الصحاح والحسان والمسانيد ، وغير ذلك .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن فرات ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة حتى ترون عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب . ونار تخرج من قعر عدن ، تسوق - أو تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا " .
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فرات القزاز به . ورواه مسلم أيضا من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري ، موقوفا والله أعلم .
فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة ، وابن مسعود ، وعثمان بن أبي العاص ، وأبي أمامة ، والنواس بن سمعان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومجمع بن جارية وأبي سريحة وحذيفة بن أسيد ، رضي الله عنهم .
وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه ، من أنه بالشام ، بل بدمشق ، عند المنارة الشرقية ، وأن ذلك يكون عند إقامة الصلاة للصبح وقد بنيت في هذه الأعصار ، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأموي بيضاء ، من حجارة منحوتة ، عوضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وكان أكثر عمارتها من أموالهم ، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها [ المسيح ] عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين ، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان ، حيث تنزاح عللهم ، وترتفع شبههم من أنفسهم ; ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى ، عليه السلام ، وعلى يديه ; ولهذا قال تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ] ) .
وهذه الآية كقوله [ تعالى ] ( وإنه لعلم للساعة ) [ الزخرف : 61 ] وقرئ : " علم " بالتحريك ، أي إشارة ودليل على اقتراب الساعة ، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال ، فيقتله الله على يديه ، كما ثبت في الصحيح : " إن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء " ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج ، فيهلكهم الله [ به ] ببركة دعائه ، وقد قال تعالى : ( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق ) الآية [ الأنبياء : 96 ، 97 ] .
صفة عيسى عليه السلام : قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل " . وفي حديث النواس بن سمعان : " فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه " .
وروى البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليلة أسري بي لقيت موسى " ، قال : فنعته " فإذا رجل - حسبته قال : - مضطرب رجل الرأس ، كأنه من رجال شنوءة " . قال : " ولقيت عيسى " فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ربعة أحمر ، كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " الحديث .
وروى البخاري ، من حديث مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت موسى وعيسى وإبراهيم ، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر ، وأما موسى فآدم جسيم سبط ، كأنه من رجال الزط " .
وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة ، عن نافع قال : قال عبد الله بن عمر : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال : " إن الله ليس بأعور ، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية وأراني الله عند الكعبة في المنام ، فإذا رجل آدم ، كأحسن ما ترى من أدم الرجال ، تضرب لمته بين منكبيه ، رجل الشعر ، يقطر رأسه ماء ، واضعا يديه على منكبي رجلين ، وهو يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : المسيح ابن مريم ثم رأيت وراءه رجلا جعدا قططا ، أعور عين اليمنى ، كأشبه من رأيت بابن قطن ، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : المسيح الدجال " . تابعه عبيد الله عن نافع .
ثم رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : لا والله ما قال النبي صلى الله عليه سلم لعيسى [ عليه السلام ] أحمر ، ولكن قال : " بينما أنا نائم أطوف بالكعبة ، فإذا رجل آدم سبط الشعر ، يتهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء - أو يهراق رأسه ماء - فقلت : من هذا ؟ فقالوا : ابن مريم . فذهبت ألتفت ، فإذا رجل أحمر جسيم ، جعد الرأس ، أعور عينه اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية . قلت : من هذا ؟ قالوا : الدجال . وأقرب الناس به شبها ابن قطن " . قال الزهري : رجل من خزاعة هلك في الجاهلية .
هذه كلها ألفاظ البخاري ، رحمه الله ، وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة : أن عيسى ، عليه السلام ، يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون .
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم : أنه يمكث سبع سنين ، فيحتمل - والله أعلم - أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة ، مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله ، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح ، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة : أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة . وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رفع وله مائة وخمسون سنة ، فشاذ غريب بعيد . وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم من تاريخه ، عن بعض السلف : أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته ، فالله أعلم .
وقوله تعالى : ( ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله ، وأقر بالعبودية لله عز وجل ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس [ اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد . إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت ] العزيز الحكيم ) [ المائدة : 116 - 118 ] .
وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا ٩٥١
قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا
قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة : المعنى ليؤمنن بالمسيح قبل موته أي الكتابي ؛ فالهاء الأولى عائدة على عيسى ، والثانية على الكتابي ؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك ، ولكنه إيمان لا ينفع ؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت ؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله ، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله . وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال : إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه ، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان ؛ فقال له شهر بن حوشب : إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبد الله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه ؛ فقال له الحجاج : من أين أخذت هذا ؟ قال : أخذته من محمد بن الحنفية ؛ فقال له الحجاج : أخذت من عين صافية . وروي عن مجاهد أنه قال : ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته ؛ فقيل له : إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ؟ فقال : نعم ! وقيل : إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام ؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة ؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري . وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال : قبل موت عيسى ؛ والله إنه لحي عند الله الآن ؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون ؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد بن جبير . وقيل : ليؤمنن به أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر ؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به ، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا ؛ إذ لا يجوز أن يفرق بينهم . وقيل : ليؤمنن به أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة . والتأويلان الأولان أظهر . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين ، ثم قال أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته قال أبو هريرة : قبل موت عيسى ؛ يعيدها ثلاث مرات . وتقدير الآية عند سيبويه : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به . وتقدير الكوفيين : وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به ، وفيه قبح ، لأن فيه حذف الموصول ، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم .
قوله تعالى : ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه .
وَإِن مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤۡمِنَنَّ بِهِۦ قَبۡلَ مَوۡتِهِۦۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا ٩٥١
تفسير الايات 152 حتى 159 :ـ هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل، وهذا غاية الظلم منهم والجهل، فإن الرسول بشر عبد مدبر، ليس في يده من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا } وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة، بل ولا شبهة، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه؟ بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به. من سؤالهم له رؤية الله عيانا، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة، حتى رفع الطور من فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم، فقبلوا ذلك على وجه الإغماض والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين، فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره، فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه، وبصدهم الناس عن سبيل الله، فصدوهم عن الحق، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع، بل أشار إليها، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها. وقوله: { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يحتمل أن الضمير هنا في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعود إلى أهل الكتاب، فيكون على هذا كل كتابي يحضره الموت ويعاين الأمر حقيقة، فإنه يؤمن بعيسى عليه السلام ولكنه إيمان لا ينفع، إيمان اضطرار، فيكون مضمون هذا التهديد لهم والوعيد، وأن لا يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل مماتهم، فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟" ويحتمل أن الضمير في قوله: { قَبْلَ مَوْتِهِ } راجع إلى عيسى عليه السلام، فيكون المعنى: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بالمسيح عليه السلام قبل موت المسيح، وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور علاماتها الكبار. فإنه تكاثرت الأحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلام في آخر هذه الأمة. يقتل الدجال، ويضع الجزية، ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين. ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا، يشهد عليهم بأعمالهم، وهل هي موافقة لشرع الله أم لا؟ وحينئذ لا يشهد إلا ببطلان كل ما هم عليه، مما هو مخالف لشريعة القرآن وَلِمَا دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، علمنا بذلك، لِعِلْمِنَا بكمال عدالة المسيح عليه السلام وصدقه، وأنه لا يشهد إلا بالحق، إلا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلال وباطل.
فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا ٠٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا ٠٦١
يخبر ، تعالى ، أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، وقال : قرأ ابن عباس : " طيبات كانت أحلت لهم " .
وهذا التحريم قد يكون قدريا ، بمعنى : أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم ، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم ، فحرموها على أنفسهم ، تشديدا منهم على أنفسهم وتضييقا وتنطعا . ويحتمل أن يكون شرعيا بمعنى : أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك ، كما قال تعالى : ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) [ آل عمران : 93 ] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد : أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم ، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها . ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) [ الأنعام : 146 ] أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ; لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه . ولهذا قال : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ) أي : صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق . وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ; ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خلقا من الأنبياء ، وكذبوا عيسى ومحمدا ، صلوات الله وسلامه عليهما .
فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا ٠٦١
قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا
قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا قال الزجاج : هذا بدل من فبما نقضهم . والطيبات ما نصه في قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم . وبصدهم عن سبيل الله أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل كله تفسير للظلم الذي تعاطوه ، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده ؛ وقد مضى في " آل عمران " أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها .
فَبِظُلۡمٖ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا عَلَيۡهِمۡ طَيِّبَٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيرٗا ٠٦١
ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلالا عليهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله، ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل، فعاقبهم الله من جنس فعلهم فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها، لكونها طيبة، وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم.
وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٦١
وقوله : ( وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) أي : أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه ، واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه ، وأكلوا أموال الناس بالباطل . قال تعالى : ( وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما )
وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٦١
الثانية : قال ابن العربي : لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون ، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل ؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت ، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة ، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا ؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد . والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم ؛ فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة ؛ قال الله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهذا نص ؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله . والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا ، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم . فإن قيل : كان ذلك قبل النبوة ؛ قلنا : إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث ، ولا منع منه إذ نبئ ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته ؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب ، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره ؛ وقد يجب وقد يكون ندبا ؛ فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح .
وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰاْ وَقَدۡ نُهُواْ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا ١٦١
ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت حلالا عليهم، وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم، وصدهم الناس عن سبيل الله، ومنعهم إياهم من الهدى، وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه، فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل، فعاقبهم الله من جنس فعلهم فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها، لكونها طيبة، وأما التحريم الذي على هذه الأمة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي تضرهم في دينهم ودنياهم.
لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا ٢٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا ٢٦١
ثم قال تعالى : ( لكن الراسخون في العلم منهم ) أي : الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع . وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران .
( والمؤمنون ) عطف على الراسخين ، وخبره ( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )
قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية . وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد ، الذين دخلوا في الإسلام ، وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( والمقيمين الصلاة ) هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أبي بن كعب . وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود : " والمقيمون الصلاة " ، قال : والصحيح قراءة الجميع . ثم رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم : هو منصوب على المدح ، كما جاء في قوله : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا ) [ البقرة : 177 ] ، قالوا : وهذا سائغ في كلام العرب ، كما قال الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين همو سم العداة وآفة الجزر النازلين بكل معترك
والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون : هو مخفوض عطفا على قوله : ( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) يعني : وبالمقيمين الصلاة .
وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة ، أي : يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم ، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة ، وهذا اختيار ابن جرير ، يعني : يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، وبالملائكة . وفي هذا نظر والله أعلم .
وقوله : ( والمؤتون الزكاة ) يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ، ويحتمل زكاة النفوس ، ويحتمل الأمرين ، والله أعلم .
( والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : يصدقون بأنه لا إله إلا الله ، ويؤمنون بالبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها .
وقوله : ( أولئك ) هو الخبر عما تقدم ( سنؤتيهم أجرا عظيما ) يعني : الجنة .
لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا ٢٦١
قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما
قوله تعالى : لكن الراسخون في العلم منهم استثنى مؤمني أهل الكتاب ؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا ؛ فنزل لكن الراسخون في العلم والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ الثبوت ؛ وقد تقدم في " آل عمران " والمراد عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما . والمؤمنون أي من المهاجرين والأنصار ، أصحاب محمد عليه السلام . والمقيمين الصلاة وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة : " والمقيمون " على العطف ، وكذا هو في حرف عبد الله ، وأما حرف أبي فهو فيه " والمقيمين " كما في المصاحف . واختلف في نصبه على أقوال ستة ؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح ؛ أي وأعني المقيمين ؛ قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ؛ ومن ذلك والمقيمين الصلاة وأنشد :
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
ويروى ( أمر مرشدهم ) .
الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد :
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين . وقال الكسائي : والمقيمين معطوف على ما قال النحاس قال الأخفش : وهذا بعيد ؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين . وحكى محمد بن جرير أنه قيل له : إن المقيمين هاهنا الملائكة عليهم السلام ؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار ، واختار هذا القول ، وحكى أن النصب على المدح بعيد ؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الراسخين في أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما فلا ينتصب المقيمين على المدح . قال النحاس : ومذهب سيبويه في قوله : والمؤتون رفع بالابتداء . وقال غيره : هو مرفوع على إضمار مبتدأ ؛ أي هم المؤتون الزكاة . وقيل : والمقيمين عطف على الكاف التي في قبلك . أي من قبلك ومن قبل المقيمين . وقيل : المقيمين عطف على الكاف التي في إليك . وقيل : هو عطف على الهاء والميم ، أي منهم ومن المقيمين ؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز ؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض .
والجواب السادس : ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية وعن قوله : إن هذان لساحران ، وقوله : والصابئون في المائدة ، فقالت للسائل : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا . وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون ثم قال له : ما أكتب ؟ فقيل له : اكتب والمقيمين الصلاة فمن ثم وقع هذا . قال القشيري : وهذا المسلك باطل ؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل . وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل ، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري ، والله أعلم .
لَّٰكِنِ ٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا ٢٦١
لما ذكر معايب أهل الكتاب، ذكر الممدوحين منهم فقال: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } أي: الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ الإيقان في أفئدتهم فأثمر لهم الإيمان التام العام { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } وأثمر لهم الأعمال الصالحة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللذين هما أفضل الأعمال، وقد اشتملتا على الإخلاص للمعبود والإحسان إلى العبيد. وآمنوا باليوم الآخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد. { أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } لأنهم جمعوا بين العلم والإيمان والعمل الصالح، والإيمان بالكتب والرسل السابقة واللاحقة.
۞ إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ٣٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ٣٦١
قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال سكين وعدي بن زيد : يا محمد ، ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى . فأنزل الله في ذلك من قولهما : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) إلى آخر الآيات .
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : أنزل الله : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) إلى قوله ( وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) فما تلاها عليهم - يعني على اليهود - وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة ، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا موسى ولا عيسى ، ولا على نبي من شيء . قال : فحل حبوته ، وقال : ولا على أحد . . فأنزل الله عز وجل : ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) [ الأنعام : 91 ] .
وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر ; فإن هذه الآية مكية في سورة الأنعام ، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية ، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، قال الله تعالى ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) [ النساء : 153 ] ، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه ، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء . ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين ، فقال : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا )
والزبور : اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود ، عليه السلام ، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء ، عليهم من الله [ أفضل ] الصلاة والسلام ، عند قصصهم في السور الآتية ، إن شاء الله ، وبه الثقة ، وعليه التكلان .
إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ٣٦١
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا
قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح هذا متصل بقوله : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء . وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق : نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله . والوحي إعلام في خفاء ؛ يقال : وحى إليه بالكلام يحي وحيا ، وأوحى يوحي إيحاء . إلى نوح قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع . وقيل غير هذا ؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال : أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وقد كان سام بن نوح نبيا ، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا ؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر ، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة ، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام ، ثم لوط وإبراهيم عمه ، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب ، ثم هود بن عبد الله ، ثم صالح بن أسف ، ثم موسى وهارون ابنا عمران ، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون ، ثم داود بن إيشا ، ثم سليمان بن داود ، ثم يونس بن متى ، ثم إلياس ، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب ؛ قال : وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط ؛ ثم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم . قال الزبير : كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح . ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة : هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين ؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم .
قوله تعالى : والنبيين من بعده هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال : وأوحينا إلى إبراهيم فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم ؛ كقوله تعالى : وملائكته ورسله وجبريل وميكال ثم قال وعيسى وأيوب قدم عيسى على قوم كانوا قبله ؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود . وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه ، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه ؛ ومثله قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية ؛ ونوح مشتق من النوح ؛ وقد تقدم ذكره موعبا في " آل عمران " وانصرف وهو اسم أعجمي ؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف ؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف ، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة ؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ " ويونس " بكسر النون وكذا " يوسف " يجعلهما من آنس وآسف ، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف . ومن لم يهمز قال : يوانس ويواسف . وحكى أبو زيد : يونس ويوسف بفتح النون والسين ؛ قال المهدوي : وكأن " يونس " في الأصل فعل مبني للفاعل ، و " يونس " فعل مبني للمفعول ، فسمي بهما .
قوله تعالى : وآتينا داود زبورا الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ . والزبر الكتابة ، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب ، كالرسول والركوب والحلوب . وقرأ حمزة " زبورا " بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس ، وزبر بمعنى المزبور ؛ كما يقال : هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه ؛ والأصل في الكلمة التوثيق ؛ يقال : بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة ، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به . وكان داود عليه السلام حسن الصوت ؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته ، وكان متواضعا يأكل من عمل يده ؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص ، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها ، وكان يصنع الدروع ؛ وسيأتي . وفي الحديث : الزرقة في العين يمن وكان داود أزرق .
إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ٣٦١
تفسير الايات من 163 حتى 165 :ـ يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد: منها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد. ومنها: أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا. ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم؛ وأخلاقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة، فلم يقرنه بالمجهولين؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين. ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: { سَلَامٌ عَلَى نُــوحٍ فـِي الْعَـالَمِيـنَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه. والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان. ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم، فذكر أنه آتى داود الزبور، وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه، وأنه كلم موسى تكليما، أي: مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال: "موسى كليم الرحمن". وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله، ومنهم من لم يقصصه عليه، وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم، بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا: { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار، فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضا من فضله وإحسانه، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار، فله الحمد وله الشكر. ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم، أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم، إنه جواد كريم.
وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ٤٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ٤٦١
وقوله ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ) أي : من قبل هذه الآية ، يعني : في السور المكية وغيرها .
وهذه تسمية الأنبياء الذين نص على أسمائهم في القرآن ، وهم : آدم وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى [ عليهم الصلاة والسلام ] وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( ورسلا لم نقصصهم عليك ) أي : خلقا آخرين لم يذكروا في القرآن ، وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل ، وذلك فيما رواه ابن مردويه ، رحمه الله ، في تفسيره ، حيث قال : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن ، والحسين بن عبد الله بن يزيد قالا حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا " . قلت : يا رسول الله ، كم الرسل منهم ؟ قال : " ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير " . قلت : يا رسول الله ، من كان أولهم ؟ قال : " آدم " . قلت : يا رسول الله ، نبي مرسل ؟ قال : " نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم سواه قبلا " . ثم قال : " يا أبا ذر ، أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخنوخ - وهو إدريس ، وهو أول من خط بقلم - وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر ، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى . وأول النبيين آدم ، وآخرهم نبيك " .
قد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه : " الأنواع والتقاسيم " وقد وسمه بالصحة ، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي ، فذكر هذا الحديث في كتابه " الموضوعات " ، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث فالله أعلم .
وقد روي الحديث من وجه آخر ، عن صحابي آخر ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قلت : يا نبي الله ، كم الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا " .
معان بن رفاعة السلامي ضعيف ، وعلي بن يزيد ضعيف ، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضا .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعث الله ثمانية آلاف نبي ، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل ، وأربعة آلاف إلى سائر الناس " .
وهذا أيضا إسناد ضعيف فيه الربذي ضعيف ، وشيخه الرقاشي أضعف منه أيضا والله أعلم .
وقال أبو يعلى : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا محمد بن ثابت العبدي ، حدثنا محمد بن خالد الأنصاري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ، ثم كان عيسى ابن مريم ، ثم كنت أنا " .
وقد رويناه عن أنس من وجه آخر ، فأخبرني الحافظ أبو عبد الله الذهبي ، أخبرنا أبو الفضل بن عساكر ، أنبأنا الإمام أبو بكر القاسم بن أبي سعيد الصفار ، أخبرتنا عمة أبي ، عائشة بنت أحمد بن منصور بن الصفار ، أخبرنا الشريف أبو السنابك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القرشي ، حدثنا الإمام الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني قال : أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن طارق ، حدثنا مسلم بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن محمد بن المنكدر ، عن صفوان بن سليم ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت على إثر من ثلاثة آلاف نبي من بني إسرائيل " . وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به ، رجاله كلهم معروفون إلا أحمد بن طارق هذا ، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح والله أعلم .
حديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام :
قال محمد بن الحسين الآجري : حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين ، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني ، حدثنا أبي ، عن جده عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر قال : دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده ، فجلست إليه فقلت : يا رسول الله ، إنك أمرتني بالصلاة . قال : " الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل " . قال : قلت : يا رسول الله ، فأي الأعمال أفضل ؟ قال : " إيمان بالله ، وجهاد في سبيله " . قلت : يا رسول الله ، فأي المؤمنين أفضل ؟ قال : " أحسنهم خلقا " . قلت : يا رسول الله ، فأي المسلمين أسلم ؟ قال : " من سلم الناس من لسانه ويده " . قلت : يا رسول الله ، فأي الهجرة أفضل ؟ قال : " من هجر السيئات " . قلت : يا رسول الله ، أي الصلاة أفضل ؟ قال : " طول القنوت " . قلت : يا رسول الله ، فأي الصيام أفضل ؟ قال : " فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة " . قلت : يا رسول الله ، فأي الجهاد أفضل ؟ قال : " من عقر جواده وأهريق دمه " . قلت : يا رسول الله ، فأي الرقاب أفضل ؟ قال : " أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها " . قلت : يا رسول الله فأي الصدقة أفضل ؟ قال : " جهد من مقل ، وسر إلى فقير " . قلت : يا رسول الله ، فأي آية ما أنزل عليك أعظم [ منها ] ؟ قال : " آية الكرسي " . ثم قال : " يا أبا ذر ، وما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " . قال : قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا " قال : قلت : يا رسول الله ، كم الرسل من ذلك ؟ قال : " ثلاثمائة ، وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب " . قلت : فمن كان أولهم ؟ قال : " آدم " . قلت : أنبي مرسل ؟ قال : " نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسواه قبيلا ثم قال : " يا أبا ذر ، أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، وخنوخ - وهو إدريس ، وهو أول من خط بقلم - ونوح . وأربعة من العرب : هود ، وشعيب ، وصالح ، ونبيك يا أبا ذر . وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى . وأول الرسل آدم ، وآخرهم محمد " . قال : قلت : يا رسول الله ، كم كتابا أنزله الله ؟ قال : " مائة كتاب وأربعة كتب ، وأنزل الله على شيث خمسين ، صحيفة ، وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف والإنجيل والزبور والفرقان " . قال : قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : " كانت كلها : يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر . وكان فيها مثال : وعلى العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب . وعلى العاقل ألا يكون ضاغنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم . وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه " . قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى ؟ قال : " كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل " قال : قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا شيء مما في أيدي إبراهيم وموسى ، وما أنزل الله عليك ؟ قال : " نعم ، اقرأ يا أبا ذر : ( قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى . بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى . إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى ) [ الأعلى : 14 - 19 ] .
قال : قلت يا رسول الله ، فأوصني . قال : " أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس أمرك " .
قال : قلت يا رسول الله ، زدني . قال : " عليك بتلاوة القرآن ، وذكر الله ، فإنه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الأرض " .
قال : قلت : يا رسول الله ، زدني . قال : " إياك وكثرة الضحك . فإنه يميت القلب ، ويذهب بنور الوجه " . قلت : زدني . قال : " عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية أمتي " . قلت : زدني . قال : " عليك بالصمت إلا من خير ، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك " .
قلت : زدني . قال : " انظر إلى من هو تحتك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك ، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك " .
قلت : زدني . قال : " أحبب المساكين وجالسهم ، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك " . قلت : زدني . قال : " صل قرابتك وإن قطعوك " . قلت : زدني . قال : " قل الحق وإن كان مرا " .
قلت : زدني . قال : " لا تخف في الله لومة لائم " .
قلت : زدني . قال : " يردك عن الناس ما تعرف عن نفسك ، ولا تجد عليهم فيما تحب ، وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك . أو تجد عليهم فيما تحب " .
ثم ضرب بيده صدري ، فقال : " يا أبا ذر ، لا عقل كالتدبير ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق "
وروى الإمام أحمد ، عن أبي المغيرة ، عن معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة : أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أمر الصلاة ، والصيام ، والصدقة ، وفضل آية الكرسي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأفضل الشهداء ، وأفضل الرقاب ، ونبوة آدم ، وأنه مكلم ، وعدد الأنبياء والمرسلين ، كنحو ما تقدم .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت في كتاب أبي بخطه : حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال : قال أبو سعيد : هل تقول الخوارج بالدجال ؟ قال : قلت : لا . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني خاتم ألف نبي أو أكثر ، وما بعث نبي يتبع إلا وقد حذر أمته منه ، وإني قد بين لي ما لم يبين [ لأحد ] وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى ، كأنها نخامة في حائط مجصص ، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري ، معه من كل لسان ، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء ، وصورة النار سوداء تدخن " .
وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي ، عن يحيى بن معين ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا مجالد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أختم ألف ألف نبي أو أكثر ، ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال . . . . " وذكر تمام الحديث ، هذا لفظه بزيادة " ألف " وقد تكون مقحمة والله أعلم . وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة ، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم ، وروي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لخاتم ألف نبي أو أكثر ، وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال ، وإني قد بين لي ما لم يبين لأحد منهم وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور " .
وقوله : ( وكلم الله موسى تكليما ) وهذا تشريف لموسى ، عليه السلام ، بهذه الصفة ; ولهذا يقال له : الكليم . وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي ، حدثنا مسيح بن حاتم ، حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال : جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال : سمعت رجلا يقرأ : " وكلم الله موسى تكليما " فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر ، قرأت على الأعمش ، وقرأ الأعمش على [ يحيى ] بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي ، وقرأ أبو عبد الرحمن ، على علي بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكلم الله موسى تكليما ) .
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش ، رحمه الله ، على من قرأ كذلك ; لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه ، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن [ يكون ] الله كلم موسى ، عليه السلام ، أو يكلم أحدا من خلقه ، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ : " وكلم الله موسى تكليما " فقال له : يا ابن اللخناء ، فكيف تصنع بقوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) [ الأعراف : 143 ] ، يعني : أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن الحسين بن بهرام ، حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا هانئ بن يحيى ، عن الحسن بن أبي جعفر ، عن قتادة عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما كلم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء " . وهذا حديث غريب ، وإسناده لا يصح ، وإذا صح موقوفا كان جيدا .
وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه ، من حديث حميد بن قيس الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف ، وكساء صوف ، وسراويل صوف ، ونعلان من جلد حمار غير ذكي " .
وقال ابن مردويه بإسناده عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة ، في ثلاثة أيام ، وصايا كلها ، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب ، عز وجل .
وهذا أيضا إسناد ضعيف ، فإن جويبرا ضعيف ، والضحاك لم يدرك ابن عباس ، رضي الله عنه . فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : لما كلم الله موسى يوم الطور ، كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه ، فقال له موسى : يا رب ، هذا كلامك الذي كلمتني به ؟ قال : لا يا موسى ، أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ، ولي قوة الألسنة كلها ، وأنا أقوى من ذلك . فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، صف لنا كلام الرحمن . قال : لا أستطيعه . قالوا : فشبه لنا . قال : ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنها قريب منه ، وليس به . وهذا إسناد ضعيف ، فإن الفضل هذا الرقاشي ضعيف بمرة .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، عن جزء بن جابر الخثعمي ، عن كعب قال : إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها سوى كلامه ، فقال له موسى يا رب ، هذا كلامك ؟ قال : لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له . قال : يا رب ، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأشد خلقي شبها بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق .
فهذا موقوف على كعب الأحبار ، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل ، وفيها الغث والسمين .
وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ٤٦١
قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما
قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل يعني بمكة . ورسلا منصوب بإضمار فعل ، أي وأرسلنا رسلا ؛ لأن معنى وأوحينا إلى نوح وأرسلنا نوحا . وقيل : هو منصوب بفعل دل عليه قصصناهم أي وقصصنا رسلا ؛ ومثله ما أنشد سيبويه :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه إن مررت به
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي وأخشى الذئب . وفي حرف أبي " ورسل " بالرفع على تقدير ومنهم رسل . ثم قيل : إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه ، ولم يذكر أسماء بعض ، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر . قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى ؛ فنزلت وكلم الله موسى تكليما تكليما مصدر معناه التأكيد ؛ يدل على بطلان من يقول : خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى ، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما . قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، وأنه لا يجوز في قول الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني
أن يقول : قال قولا ؛ فكذا لما قال : تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل . وقال وهب بن منبه : إن موسى عليه السلام قال : " يا رب بم اتخذتني كليما " ؟ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه ؛ فقال الله تعالى له : أتذكر إذ ند من غنمك جدي فاتبعته أكثر النهار وأتعبك ، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له : أتعبتني وأتعبت نفسك ، ولم تغضب عليه ؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما .
وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ٤٦١
تفسير الايات من 163 حتى 165 :ـ يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد: منها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد. ومنها: أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا. ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم؛ وأخلاقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة، فلم يقرنه بالمجهولين؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين. ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: { سَلَامٌ عَلَى نُــوحٍ فـِي الْعَـالَمِيـنَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه. والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان. ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم، فذكر أنه آتى داود الزبور، وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه، وأنه كلم موسى تكليما، أي: مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال: "موسى كليم الرحمن". وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله، ومنهم من لم يقصصه عليه، وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم، بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا: { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار، فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضا من فضله وإحسانه، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار، فله الحمد وله الشكر. ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم، أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم، إنه جواد كريم.
رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٥٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٥٦١
وقوله : ( رسلا مبشرين ومنذرين ) أي : يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب .
وقوله : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) أي : أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة ، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه ; لئلا يبقى لمعتذر عذر ، كما قال تعالى : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) [ طه : 134 ] ، وكذا قوله تعالى : ( ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم [ فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ] ) [ القصص : 47 ] .
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ، [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين " وفي لفظ : " من أجل ذلك أرسل رسله ، وأنزل كتبه " .
رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٥٦١
قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما
قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين هو نصب على البدل من ورسلا قد قصصناهم ويجوز أن يكون على إضمار فعل ؛ ويجوز نصبه على الحال ؛ أي كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده رسلا . لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولا ، وما أنزلت علينا كتابا ؛ وفي التنزيل : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك وفي هذا كله دليل واضح أنه لا يجب شيء من ناحية العقل . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : كان الأنبياء ألفي ألف ومائتي ألف . وقال مقاتل : كان الأنبياء ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرين ألفا . وروى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : بعثت على أثر ثمانية آلاف من الأنبياء منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ذكره أبو الليث السمرقندي في التفسير له ؛ ثم أسند عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث الأعور عن أبي ذر الغفاري قال : قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء وكم كان المرسلون ؟ قال : كانت الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر .
قلت : هذا أصح ما روي في ذلك ؛ خرجه الآجري وأبو حاتم البستي في المسند الصحيح له .
رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ٥٦١
تفسير الايات من 163 حتى 165 :ـ يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد: منها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد. ومنها: أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا. ومنها: أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم؛ وأخلاقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة، فلم يقرنه بالمجهولين؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين. ومنها: أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم، والثناء الصادق عليهم، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم، واقتداء بهديهم، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم، ويكون ذلك مصداقا لقوله: { سَلَامٌ عَلَى نُــوحٍ فـِي الْعَـالَمِيـنَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه. والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان. ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم، فذكر أنه آتى داود الزبور، وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه، وأنه كلم موسى تكليما، أي: مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال: "موسى كليم الرحمن". وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله، ومنهم من لم يقصصه عليه، وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله واتبعهم، بالسعادة الدنيوية والأخروية، ومنذرين من عصى الله وخالفهم بشقاوة الدارين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا: { مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } فلم يبق للخَلْق على الله حجة لإرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار، فمن كفر منهم بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وذلك أيضا من فضله وإحسانه، حيث كان الناس مضطرين إلى الأنبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الاضطرار، فله الحمد وله الشكر. ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم، أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم، إنه جواد كريم.
لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا ٦٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا ٦٦١
لما تضمن قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) إلى آخر السياق ، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب ، قال الله تعالى : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك ) أي : وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك ، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو : القرآن العظيم الذي ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) [ فصلت : 42 ] ; ولهذا قال : ( أنزله بعلمه ) أي : فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ، من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل ، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة ، التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، إلا أن يعلمه الله به ، كما قال [ تعالى ] ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) [ البقرة : 255 ] ، وقال ( ولا يحيطون به علما ) [ طه : 110 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الحسن بن سهل الجعفري وخزز بن المبارك قالا حدثنا عمران بن عيينة ، حدثنا عطاء بن السائب قال : أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن ، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال : قد أخذت علم الله ، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل ، ثم يقرأ : ( أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ) وقوله ( والملائكة يشهدون ) أي : بصدق ما جاءك وأوحي إليك وأنزل عليك ، مع شهادة الله تعالى لك بذلك ( وكفى بالله شهيدا )
وقد قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود ، فقال لهم : " إني لأعلم - والله - إنكم لتعلمون أني رسول الله " . فقالوا : ما نعلم ذلك . فأنزل الله عز وجل : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه [ والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا ] ) .
لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا ٦٦١
قوله تعالى : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
قوله تعالى : لكن الله يشهد رفع بالابتداء ، وإن شئت شددت النون ونصبت . وفي الكلام حذف دل عليه الكلام ؛ كأن الكفار قالوا : ما نشهد لك يا محمد فيما تقول فمن يشهد لك ؟ فنزل لكن الله يشهد . ومعنى أنزله بعلمه أي وهو يعلم أنك أهل لإنزاله عليك ؛ ودلت الآية على أنه تعالى عالم بعلم . والملائكة يشهدون ذكر شهادة الملائكة ليقابل بها نفي شهادتهم . وكفى بالله شهيدا أي كفى الله شاهدا ، والباء زائدة .
لَّٰكِنِ ٱللَّهُ يَشۡهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيۡكَۖ أَنزَلَهُۥ بِعِلۡمِهِۦۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَشۡهَدُونَۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا ٦٦١
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى إخوانه من المرسلين، أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما جاء به، وأنه { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتملا على علمه، أي: فيه من العلوم الإلهية والأحكام الشرعية والأخبار الغيبية ما هو من علم الله تعالى الذي علم به عباده. ويحتمل أن يكون المراد: أنزله صادرا عن علمه، ويكون في ذلك إشارة وتنبيه على وجه شهادته، وأن المعنى: إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن المشتمل على الأوامر والنواهي، وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله عليه، وأنه دعا الناس إليه، فمن أجابه وصدقه كان وليه، ومن كذبه وعاداه كان عدوه واستباح ماله ودمه، والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب دعواته، ويخذل أعداءه وينصر أولياءه، فهل توجد شهادة أعظم من هذه الشهادة وأكبر؟" ولا يمكن القدح في هذه الشهادة إلا بعد القدح بعلم الله وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملائكة على ما أنزل على رسوله، لكمال إيمانهم ولجلالة هذا المشهود عليه. فإن الأمور العظيمة لا يستشهد عليها إلا الخواص، كما قال تعالى في الشهادة على التوحيد: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وكفى بالله شهيدا.
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّواْ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٧٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّواْ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٧٦١
وقوله : ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا ) أي : كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق ، وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به ، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه ، وبعدوا منه بعدا عظيما شاسعا .
ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله ، الظالمين لأنفسهم بذلك ، وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه ، بأنه لا يغفر لهم
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّواْ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٧٦١
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا
قوله تعالى : إن الذين كفروا يعني اليهود أي ظلموا . وصدوا عن سبيل الله أي عن اتباع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقولهم : ما نجد صفته في كتابنا ، وإنما النبوة في ولد هارون وداود ، وإن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ . قد ضلوا ضلالا بعيدا لأنهم كفروا ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام .
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّواْ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ٧٦١
لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأخبر برسالة خاتمهم محمد، وشهد بها وشهدت ملائكته -لزم من ذلك ثبوت الأمر المقرر والمشهود به، فوجب تصديقهم، والإيمان بهم واتباعهم. ثم توعد من كفر بهم فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } أي: جمعوا بين الكفر بأنفسهم وصدِّهم الناس عن سبيل الله. وهؤلاء هم أئمة الكفر ودعاة الضلال { قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا } وأي ضلال أعظم من ضلال من ضل بنفسه وأضل غيره، فباء بالإثمين ورجع بالخسارتين وفاتته الهدايتان
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ طَرِيقًا ٨٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ طَرِيقًا ٨٦١
"ولا يهديهم طريقا" أي سبيلا إلى الخير.
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ طَرِيقًا ٨٦١
قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا
قوله تعالى : إن الذين كفروا وظلموا يعني اليهود ؛ أي ظلموا محمدا بكتمان نعته ، وأنفسهم إذ كفروا ، والناس إذ كتموهم . لم يكن الله ليغفر لهم هذا فيمن يموت على كفره ولم يتب .
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمۡ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِيَهۡدِيَهُمۡ طَرِيقًا ٨٦١
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا } وهذا الظلم هو زيادة على كفرهم، وإلا فالكفر عند إطلاق الظلم يدخل فيه. والمراد بالظلم هنا أعمال الكفر والاستغراق فيه، فهؤلاء بعيدون من المغفرة والهداية للصراط المستقيم. ولهذا قال: { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا}
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩٦١
( إلا طريق جهنم ) وهذا استثناء منقطع ( خالدين فيها أبدا [ وكان ذلك على الله يسيرا ] ) .
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩٦١
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٗا ٩٦١
{إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ } وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية لأنهم استمروا في طغيانهم، وازدادوا في كفرانهم فطبع على قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } أي: لا يبالي الله بهم ولا يعبأ، لأنهم لا يصلحون للخير، ولا يليق بهم إلا الحالة التي اختاروها لأنفسهم.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فََٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٠٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فََٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٠٧١
ثم قال تعالى : ( يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم ) أي : قد جاءكم محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بالهدى ودين الحق ، والبيان الشافي من الله ، عز وجل ، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيرا لكم .
ثم قال : ( وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض ) أي : فهو غني عنكم وعن إيمانكم ، ولا يتضرر بكفرانكم ، كما قال تعالى : ( وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد ) [ إبراهيم : 8 ] وقال هاهنا : ( وكان الله عليما حكيما ) أي : بمن يستحق منكم الهداية فيهديه ، وبمن يستحق الغواية فيغويه ) حكيما ) أي : في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فََٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٠٧١
قوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما
قوله تعالى : يا أيها الناس هذا خطاب للكل . قد جاءكم الرسول يريد محمدا عليه الصلاة والسلام . بالحق بالقرآن . وقيل : بالدين الحق ؛ وقيل : بشهادة أن لا إله إلا الله ، وقيل : الباء للتعدية ؛ أي جاءكم ومعه الحق ؛ فهو في موضع الحال .
قوله تعالى : فآمنوا خيرا لكم في الكلام إضمار ؛ أي وأتوا خيرا لكم ؛ هذا مذهب سيبويه ، وعلى قول الفراء نعت لمصدر محذوف ؛ أي إيمانا خيرا لكم ، وعلى قول أبي عبيدة يكن خيرا لكم .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فََٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٠٧١
يأمر تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وذكر السبب الموجب للإيمان به، والفائدة في الإيمان به، والمضرة من عدم الإيمان به، فالسبب الموجب هو إخباره بأنه جاءهم بالحق.أي: فمجيئه نفسه حق، وما جاء به من الشرع حق، فإن العاقل يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون، وفي كفرهم يترددون، والرسالة قد انقطعت عنهم غير لائق بحكمة الله ورحمته، فمن حكمته ورحمته العظيمة نفس إرسال الرسول إليهم، ليعرفهم الهدى من الضلال، والغي من الرشد، فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوته. وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم. فإن فيه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، والخبر عن الله وعن اليوم الآخر -ما لا يعرف إلا بالوحي والرسالة. وما فيه من الأمر بكل خير وصلاح، ورشد وعدل وإحسان، وصدق وبر وصلة وحسن خلق، ومن النهي عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق، والكذب والعقوق، مما يقطع به أنه من عند الله. وكلما ازداد به العبد بصيرة، ازداد إيمانه ويقينه، فهذا السبب الداعي للإيمان. وأما الفائدة في الإيمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر. فالإيمان خير للمؤمنين في أبدانهم وقلوبهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم. وذلك لما يترتب عليه من المصالح والفوائد، فكل ثواب عاجل وآجل فمن ثمرات الإيمان، فالنصر والهدى والعلم والعمل الصالح والسرور والأفراح، والجنة وما اشتملت عليه من النعيم كل ذلك مسبب عن الإيمان. كما أن الشقاء الدنيوي والأخروي من عدم الإيمان أو نقصه. وأما مضرة عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على الإيمان به. وأن العبد لا يضر إلا نفسه، والله تعالى غني عنه لا تضره معصية العاصين، ولهذا قال: { فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: الجميع خلقه وملكه، وتحت تدبيره وتصريفه { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } بكل شيء { حَكِيمًا } في خلقه وأمره. فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية، الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما.
يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ١٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ١٧١
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى ، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ، ممن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقا أو باطلا أو ضلالا أو رشادا ، أو صحيحا أو كذبا ; ولهذا قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ التوبة : 31 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم قال : زعم الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله ورسوله " .
ثم رواه هو وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري كذلك . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح سنده وهكذا رواه البخاري ، عن الحميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به . ولفظه : " فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك : أن رجلا قال : محمد يا سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، عليكم بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " . تفرد به من هذا الوجه .
وقوله : ( ولا تقولوا على الله إلا الحق ) أي : لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ; ولهذا قال : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) أي : إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، أي : خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ، عليه السلام ، إلى مريم ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ، عز وجل ، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها ، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله ، عز وجل ; ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ; لأنه لم يكن له أب تولد منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها : كن ، فكان . والروح التي أرسل بها جبريل ، قال الله تعالى : ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ) [ المائدة : 75 ] . وقال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ آل عمران : 59 ] . وقال تعالى : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى : ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها [ فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ] ) [ التحريم : 12 ] . وقال تعالى إخبارا عن المسيح : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه [ وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ] ) [ الزخرف : 59 ] .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : ( وكلمته ألقاها إلى مريم ) هو كقوله : ( كن ) [ آل عمران : 59 ] فكان وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شاذ بن يحيى يقول : في قول الله : ( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) قال : ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى .
وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله : ( ألقاها إلى مريم ) أي : أعلمها بها ، كما زعمه في قوله : ( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه ) [ آل عمران : 45 ] أي : يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كما قال تعالى : ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ) [ القصص : 86 ] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله ، فكان عيسى ، عليه السلام .
وقال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عمير بن هانئ ، عن جنادة زاد : " من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء " .
وكذا رواه مسلم ، عن داود بن رشيد ، عن الوليد ، عن ابن جابر ، به ومن وجه آخر ، عن الأوزاعي ، به .
فقوله في الآية والحديث : ( وروح منه ) كقوله ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) [ الجاثية : 13 ] أي : من خلقه ومن عنده ، وليست " من " للتبعيض ، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية ، كما في الآية الأخرى .
وقد قال مجاهد في قوله : ( وروح منه ) أي : ورسول منه . وقال غيره . ومحبة منه . والأظهر الأول أنه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله ، في قوله : ( هذه ناقة الله ) [ هود : 64 ] . وفي قوله : ( وطهر بيتي للطائفين ) [ الحج : 26 ] ، وكما ورد في الحديث الصحيح : " فأدخل على ربي في داره " أضافها إليه إضافة تشريف لها ، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد .
وقوله : ( فآمنوا بالله ورسله ) أي : فصدقوا بأن الله واحد أحد ، لا صاحبة له ولا ولد ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ; ولهذا قال : ( ولا تقولوا ثلاثة ) أي : لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد ) [ المائدة : 73 ] . وكما قال في آخر السورة المذكورة : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني [ وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ] ) الآية [ المائدة : 116 ] ، وقال في أولها : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) الآية [ المائدة : 72 ] ، فالنصارى - عليهم لعنة الله - من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلها ، ومنهم من يعتقده شريكا ، ومنهم من يعتقده ولدا . وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا . ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير ، وهو سعيد بن بطريق - بترك الإسكندرية - في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم ، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة ، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافا لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أسقفا ، فكانوا أحزابا كثيرة ، كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة ، وسبعون على مقالة ، وأزيد من ذلك وأنقص . فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرا ، وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها - وكان فيلسوفا ذا هيئة - ومحق ما عداها من الأقوال ، وانتظم دست أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر ، وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتبا وقوانين ، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار - ليعتقدوها - ويعمدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم الملكية . ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيا فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعا ثالثا فحدث فيهم النسطورية . وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم ! هل اتحدا ، أو ما اتحدا ، بل امتزجا أو حل فيه ؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ; ولهذا قال تعالى : ( انتهوا خيرا لكم ) أي : يكن خيرا لكم ( إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ) أي : تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا ( له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا ) أي : الجميع ملكه وخلقه ، وجميع ما فيها عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد ؟ كما قال في الآية الأخرى : ( بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) [ الأنعام : 101 ] ، وقال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئا إدا . [ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولدا . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا . إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا . لقد أحصاهم وعدهم عدا . وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ] ) [ مريم : 88 : 95 ] .
يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ١٧١
قوله تعالى : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
قوله تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم نهي عن الغلو . والغلو التجاوز في الحد ؛ ومنه غلا السعر يغلو غلاء ؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها ؛ ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا ؛ فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ؛ ولذلك قال مطرف بن عبد الله : الحسنة بين سيئتين ؛ وقال الشاعر :
وأوف ولا تستوف حقك كله وصافح فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر :
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله .
قوله تعالى : ولا تقولوا على الله إلا الحق أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا . ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته وفيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إنما المسيح المسيح رفع بالابتداء ؛ و عيسى بدل منه وكذا ابن مريم . ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى : إنما المسيح ابن مريم . ودل بقوله : عيسى ابن مريم على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها ، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا . ويكون رسول الله خبرا بعد خبر .
الثانية : لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران ؛ فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ ؛ فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملإ ، ولا يبتذلون أسماءهن ؛ بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك ؛ فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها ؛ فلما قالت النصارى في مريم ما قالت وفي ابنها صرح الله باسمها ، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها ؛ وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها .
الثالثة : اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب ، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه ، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله ، والله أعلم .
قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم أي هو مكون بكلمة " كن " فكان بشرا من غير أب ؛ والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه . وقيل : كلمته بشارة الله تعالى مريم عليها السلام ، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام ؛ وذلك قوله : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه . وقيل : " الكلمة " هاهنا بمعنى الآية ؛ قال الله تعالى : وصدقت بكلمات ربها و ما نفدت كلمات الله . وكان لعيسى أربعة أسماء ؛ المسيح وعيسى وكلمة وروح ، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن . ومعنى ألقاها إلى مريم أمر بها مريم .
قوله تعالى : وروح منه هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال ؛ فقالوا : عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا ؛ وعنه أجوبة ثمانية : الأول : قال أبي بن كعب : خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ؛ ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام ؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام ؛ فلهذا قال : وروح منه . وقيل : هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه ؛ وهذا كقوله : وطهر بيتي للطائفين ، وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ، وتضاف إلى الله تعالى فيقال : هذا روح من الله أي من خلقه ؛ كما يقال في النعمة إنها من الله . وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم . وقيل : يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام ، ويسمى النفخ روحا ؛ لأنه ريح يخرج من الروح . قال الشاعر - هو ذو الرمة :
فقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا
وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله ؛ وعلى هذا يكون وروح منه معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في ألقاها التقدير : ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم . وقيل : روح منه أي من خلقه ؛ كما قال : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه أي من خلقه . وقيل : روح منه أي رحمة منه ؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه ؛ ومنه قوله تعالى : وأيدهم بروح منه أي برحمة ، وقرئ : " فروح وريحان " . وقيل : وروح منه وبرهان منه ؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله ، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها . ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة عن الزجاج . قال ابن عباس : يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه . وقال الفراء وأبو عبيد : أي لا تقولوا هم ثلاثة ؛ كقوله تعالى : سيقولون ثلاثة . قال أبو علي : التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة ؛ فحذف المبتدأ والمضاف . والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون : إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم ؛ فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ؛ فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ، وبالابن المسيح ، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين . ومحصول كلامهم يئول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته ؛ وقالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية ؛ فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته ، وليس كذلك ؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به ؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا ؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام ، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام ، مثل قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى ، وغير ذلك ؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء ؛ فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام ، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى ؛ فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن ، ويكذبون من أتى به ، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر . وقد قيل : إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى ؛ يصلون إلى القبلة ؛ ويصومون شهر رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس ، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا ، ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار ؛ وكان له فرس يقال لها العقاب ، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى : أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ؛ فخرج وقال : نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله ، ثم توجه إلى اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله . وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك ؛ ثم دعا رجلا يقال له الملك فقال له ؛ إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له : أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها ، فادع الناس إلى نحلتك ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ؛ فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد منهم طائفة ، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث ؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال ؛ والله أعلم . وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى : فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسيأتي إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : انتهوا خيرا لكم خيرا منصوب عند سيبويه بإضمار فعل ؛ كأنه قال : ائتوا خيرا لكم ، لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم ؛ قال سيبويه : ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره انتهوا خيرا لكم لأنك إذا قلت : ائته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في آخر ؛ وأنشد :
فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما أسهلا
ومذهب أبي عبيدة : انتهوا يكن خيرا لكم ؛ قال محمد بن يزيد : هذا خطأ ؛ لأنه يضمر الشرط وجوابه ، وهذا لا يوجد في كلام العرب . ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف ؛ قال علي بن سليمان : هذا خطأ فاحش ؛ لأنه يكون المعنى : انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم .
قوله تعالى : إنما الله إله واحد هذا ابتداء وخبر ؛ وواحد نعت له . ويجوز أن يكون إله بدلا من اسم الله عز وجل وواحد خبره ؛ التقدير إنما المعبود واحد .
سبحانه أن يكون له ولد أي تنزيها عن أن يكون له ولد ؛ فلما سقط " عن " كان أن في محل النصب بنزع الخافض ؛ أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له ، ولا شبيه لله عز وجل . له ما في السماوات وما في الأرض فلا شريك له ، وعيسى ومريم من جملة ما في السماوات وما في الأرض ، وما فيهما مخلوق ، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له . وكفى بالله وكيلا أي لأوليائه ؛ وقد تقدم .
يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فََٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا ١٧١
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر المشروع إلى ما ليس بمشروع. وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى عليه السلام، ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي لا يليق بغير الله، فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات، فالغلو كذلك، ولهذا قال: { وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } وهذا الكلام يتضمن ثلاثة أشياء: أمرين منهي عنهما، وهما قول الكذب على الله، والقول بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله، والثالث: مأمور به وهو قول الحق في هذه الأمور. ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية، وكان السياق في شأن عيسى عليه السلام نصَّ على قول الحق فيه، المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية فقال: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ } أي: غاية المسيح عليه السلام ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال أعلى حالة تكون للمخلوقين، وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأجلّ المثوبات. وأنه { كَلِمَتُهُ } التي { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي: كلمة تكلم الله بها فكان بها عيسى، ولم يكن تلك الكلمة، وإنما كان بها، وهذا من باب إضافة التشريف والتكريم. وكذلك قوله: { وَرُوحٌ مّنْهُ } أي: من الأرواح التي خلقها وكملها بالصفات الفاضلة والأخلاق الكاملة، أرسل الله روحه جبريل عليه السلام فنفخ في فرج مريم عليها السلام، فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلام. فلما بيّن حقيقة عيسى عليه السلام، أمر أهل الكتاب بالإيمان به وبرسله، ونهاهم أن يجعلوا الله ثالث ثلاثة أحدهم عيسى، والثاني مريم، فهذه مقالة النصارى قبحهم الله. فأمرهم أن ينتهوا، وأخبر أن ذلك خير لهم، لأنه الذي يتعين أنه سبيل النجاة، وما سواه فهو طريق الهلاك، ثم نزه نفسه عن الشريك والولد فقال: { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: هو المنفرد بالألوهية، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. { سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس { أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } لأن { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } فالكل مملوكون له مفتقرون إليه، فمحال أن يكون له شريك منهم أو ولد. ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي أخبر أنه قائم بمصالحهم الدنيوية والأخروية وحافظها، ومجازيهم عليها تعالى.s
لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ٢٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ٢٧١
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ) لن يستكبر .
وقال قتادة : لن يحتشم ( المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ) وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال : ( ولا الملائكة المقربون ) وليس له في ذلك دلالة ; لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ; لأن الاستنكاف هو الامتناع ، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح ; فلهذا قال : ( ولا الملائكة المقربون ) ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل .
وقيل : إنما ذكروا ; لأنهم اتخذوا آلهة مع الله ، كما اتخذ المسيح ، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عبيده وخلق من خلقه ، كما قال الله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون . ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ] ) الأنبياء : [ 26 - 29 ] .
ثم قال : ( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) أي : فيجمعهم إليه يوم القيامة ، ويفصل بينهم بحكمه العدل ، الذي لا يجور فيه ولا يحيف
لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ٢٧١
قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا
قوله تعالى : لن يستنكف المسيح أي لن يأنف ولن يحتشم . أن يكون عبدا لله أي : من أن يكون ؛ فهو في موضع نصب . وقرأ الحسن : " إن يكون " بكسر الهمزة على أنها نفي هو بمعنى " ما " والمعنى : ما يكون له ولد ؛ وينبغي رفع يكون ولم يذكره الرواة . ولا الملائكة المقربون أي من رحمة الله ورضاه ؛ فدل بهذا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين . وكذا ولا أقول إني ملك وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى في " البقرة " . ومن يستنكف أي يأنف عن عبادته ويستكبر فلا يفعلها . فسيحشرهم إليه أي إلى المحشر . جميعا فيجازي كلا بما يستحق ، كما بينه في الآية بعد هذا
لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا ٢٧١
لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام، وذكر أنه عبده ورسوله، ذكر هنا أنه لا يستنكف عن عبادة ربه، أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها، لا هو { وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى، ونفي الشيء فيه إثبات ضده. أي: فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم، وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم، فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم، فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته، بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار. ولا يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة كمالا، بل هو النقص بعينه، وهو محل الذم والعقاب، ولهذا قال: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه، المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين، فيحكم بينهم بحكمه العدل، وجزائه الفصل.
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡتَنكَفُواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡتَنكَفُواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٧١
ولهذا قال : ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) يعني : فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه .
وقد روى ابن مردويه من طريق بقية ، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي ، عن الأعمش ، عن سفيان عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) قال : أجورهم : أدخلهم الجنة " . ( ويزيدهم من فضله ) قال : " الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم " .
وهذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد .
( وأما الذين استنكفوا واستكبروا ) أي : امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك ( فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ) كما قال تعالى ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر : 60 ] أي : صاغرين حقيرين ذليلين ، كما كانوا ممتنعين مستكبرين .
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡتَنكَفُواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٧١
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إلى قوله : نصيرا . وأصل يستنكف نكف ، فالياء والسين والتاء زوائد ؛ يقال : نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه ؛ ومنه الحديث سئل عن " سبحان الله " فقال : إنكاف الله من كل سوء يعني تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد . وقال الزجاج : استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك ، ومنه الحديث ما ينكف العرق عن جبينه أي ما ينقطع ؛ ومنه الحديث جاء بجيش لا ينكف آخره أي لا ينقطع آخره . وقيل : هو من النكف وهو العيب ؛ يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب : أي لن يمتنع المسيح ولن يتنزه من العبودية ولن ينقطع عنها ولن يعيبها .
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡتَنكَفُواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمۡ عَذَابًا أَلِيمٗا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٗا وَلَا نَصِيرٗا ٣٧١
ثم فصل حكمه فيهم فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: جمعوا بين الإيمان المأمور به، وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات، من حقوق الله وحقوق عباده. { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي: الأجور التي رتبها على الأعمال، كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله. { وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ } من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم، ولم يخطر على قلوبهم. ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب، والمناكح، والمناظر والسرور، ونعيم القلب والروح، ونعيم البدن، بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على الإيمان والعمل الصالح. { وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا } أي: عن عبادة الله تعالى { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وهو سخط الله وغضبه، والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة. { وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } أي: لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب، ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب، بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين، وتركهم في عذابهم خالدين، وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ٤٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ٤٧١
يقول تعالى مخاطبا جميع الناس ومخبرا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم ، وهو الدليل القاطع للعذر ، والحجة المزيلة للشبهة ; ولهذا قال : ( وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) أي : ضياء واضحا على الحق ، قال ابن جريج وغيره : وهو القرآن .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ٤٧١
قوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا
قوله تعالى : يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ عن الثوري ؛ وسماه برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة . وقال مجاهد : البرهان هاهنا الحجة ؛ والمعنى متقارب ؛ فإن المعجزات حجته صلى الله عليه وسلم . والنور المنزل هو القرآن ؛ عن الحسن ؛ وسماه نورا لأن به تتبين الأحكام ويهتدى به من الضلالة ، فهو نور مبين ، أي واضح بين .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا ٤٧١
يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة، ويوضح لهم المحجة، فقال: { يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَّبِّكُمْ } أي: حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه، وتبين ضده. وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية، الآيات الأفقية والنفسية { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ } وفي قوله: { مِن رَّبِّكُمْ } ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية، فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنات النعيم. { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدۡخِلُهُمۡ فِي رَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَفَضۡلٖ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَيۡهِ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٥٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدۡخِلُهُمۡ فِي رَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَفَضۡلٖ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَيۡهِ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٥٧١
( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به ) أي : جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم . وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن . رواه ابن جرير .
( فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ) أي : يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم ، من فضله عليهم وإحسانه إليهم ، ( ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) أي : طريقا واضحا قصدا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف . وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات ، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات . وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن صراط الله المستقيم وحبل الله المتين " . وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة .
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدۡخِلُهُمۡ فِي رَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَفَضۡلٖ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَيۡهِ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٥٧١
قوله تعالى : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
قوله تعالى : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به أي بالقرآن عن معاصيه ، وإذا اعتصموا بكتابه فقد اعتصموا به وبنبيه . وقيل : اعتصموا به أي بالله . والعصمة الامتناع ، وقد تقدم . ويهديهم أي : وهو يهديهم فأضمر هو ليدل على أن الكلام مقطوع مما قبله . إليه أي إلى ثوابه . وقيل : إلى الحق ليعرفوه . صراطا مستقيما أي دينا مستقيما . و " صراطا " منصوب بإضمار فعل دل عليه " ويهديهم " التقدير ؛ ويعرفهم صراطا مستقيما . وقيل : هو مفعول ثان على تقدير ؛ ويهديهم إلى ثوابه صراطا مستقيما . وقيل : هو حال . والهاء في إليه قيل : هي للقرآن ، وقيل : للفضل ، وقيل للفضل والرحمة ؛ لأنهما بمعنى الثواب . وقيل : هي لله عز وجل على حذف المضاف كما تقدم من أن المعنى ويهديهم إلى ثوابه . أبو علي : الهاء راجعة إلى ما تقدم من اسم الله عز وجل ، والمعنى ويهديهم إلى صراطه ؛ فإذا جعلنا صراطا مستقيما نصبا على الحال كانت الحال من هذا المحذوف . وفي قوله : " وفضل " دليل على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه ؛ إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا . والله أعلم .
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدۡخِلُهُمۡ فِي رَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَفَضۡلٖ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَيۡهِ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ٥٧١
انقسم الناس -بحسب الإيمان بالقرآن والانتفاع به- قسمين: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ } أي: اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، وتنزيهه من كل نقص وعيب. { وَاعْتَصَمُــوا بِـهِ } أي: لجأوا إلى الله واعتمدوا عليه وتبرأوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم. { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي: فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة، فيوفقهم للخيرات ويجزل لهم المثوبات، ويدفع عنهم البليات والمكروهات. { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي: يوفقهم للعلم والعمل، معرفة الحق والعمل به. أي: ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه، منعهم من رحمته، وحرمهم من فضله، وخلى بينهم وبين أنفسهم، فلم يهتدوا، بل ضلوا ضلالا مبينا، عقوبة لهم على تركهم الإيمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان، نسأله تعالى العفو والعافية والمعافاة.
سۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ٦٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
سۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ٦٧١
قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء قال : آخر سورة نزلت : " براءة " ، وآخر آية نزلت : ( يستفتونك ) .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا مريض لا أعقل ، قال : فتوضأ ، ثم صب علي - أو قال صبوا عليه - فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث ؟ قال : فنزلت آية الفرائض .
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، به . وفي بعض الألفاظ : فنزلت آية الميراث : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) الآية .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان وقال ابن الزبير قال - يعني جابرا - : نزلت في : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) .
وكأن معنى الكلام - والله أعلم - ( يستفتونك ) : عن الكلالة قل : الله يفتيكم فيها ، فدل المذكور على المتروك .
وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها ، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ; ولهذا فسرها أكثر العلماء : بمن يموت وليس له ولد ولا والد ، ومن الناس من يقول : الكلالة من لا ولد له ، كما دلت عليه هذه الآية : ( إن امرؤ هلك ) [ أي مات ] ( ليس له ولد ) .
وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة قال : قال عمر بن الخطاب : ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : " يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " .
هكذا رواه مختصرا وقد أخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا .
طريق أخرى : قال [ الإمام ] أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك - يعني ابن مغول - سمعت الفضل بن عمرو ، عن إبراهيم ، عن عمر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف " . فقال : لأن أكون سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم . وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعا بين إبراهيم وبين عمر ، فإنه لم يدركه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف " . وهذا إسناد جيد ، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عياش ، به . وكأن المراد بآية الصيف : أنها نزلت في فصل الصيف ، والله أعلم .
ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها - فإن فيها كفاية - نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها ; ولهذا قال : فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير عن الشيباني ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن المسيب قال : سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : " أليس قد بين الله ذلك ؟ " فنزلت : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ] ) الآية . وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا بكر الصديق [ رضي الله عنه ] قال في خطبته : ألا إن الآية التي أنزلت في أول " سورة النساء " في شأن الفرائض ، أنزلها الله في الولد والوالد . والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم . والآية التي ختم بها " سورة النساء " أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها " سورة الأنفال " أنزلها في أولي الأرحام ، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، مما جرت الرحم من العصبة . رواه ابن جرير .
ذكر الكلام على معناها وبالله المستعان ، وعليه التكلان :
قوله تعالى : ( إن امرؤ هلك ) أي : مات ، قال الله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] كل شيء يفنى ولا يبقى إلا الله ، عز وجل ، كما قال : ( كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 26 ، 27 ] .
وقوله : ( ليس له ولد ) تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عمر بن الخطاب ، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه . ولكن الذي رجع إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق : أنه من لا ولد له ولا والد ، ويدل على ذلك قوله : ( وله أخت فلها نصف ما ترك ) ولو كان معها أب لم ترث شيئا ; لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص عند التأمل أيضا ; لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد ، بل ليس لها ميراث بالكلية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن مكحول وعطية وحمزة وراشد ، عن زيد بن ثابت : أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم ، فأعطى الزوج النصف والأخت النصف . فكلم في ذلك ، فقال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك .
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وقد نقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتا وأختا : إنه لا شيء للأخت لقوله : ( إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ) قال : فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا ، فلا شيء للأخت ، وخالفهما الجمهور ، فقالوا في هذه المسألة : للبنت النصف بالفرض ، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب ، بدليل غير هذه الآية وهذه نصب أن يفرض لها في هذه الصورة ، وأما وراثتها بالتعصيب ; فلما رواه البخاري من طريق سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : النصف للابنة ، والنصف للأخت . ثم قال سليمان : قضى فينا ولم يذكر : على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت ، فقال : للابنة النصف ، وللأخت النصف ، وأت ابن مسعود فسيتابعني . فسئل ابن مسعود - وأخبر بقول أبي موسى - فقال : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس ، تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .
وقوله : ( وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ) أي : والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة ، وليس لها ولد ، أي : ولا والد ; لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئا ، فإن فرض أن معه من له فرض ، صرف إليه فرضه ; كزوج ، أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ ; لما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر " .
وقوله : ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك ) أي : فإن كان لمن يموت كلالة ، أختان ، فرض لهما الثلثان ، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات ، في قوله : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) .
وقوله : ( وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ) . هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم ، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين .
وقوله : ( يبين الله لكم ) أي : يفرض لكم فرائضه ، ويحد لكم حدوده ، ويوضح لكم شرائعه .
وقوله : ( أن تضلوا ) أي : لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان . ( والله بكل شيء عليم ) أي : هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده ، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى .
وقد قال أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن علية ، أنبأنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين قال : كانوا في مسير ، ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة . قال : ونزلت : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) فلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ، فلقاها حذيفة عمر ، فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال : والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقانيها ، والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا . قال : فكان عمر [ رضي الله عنه ] يقول : اللهم إن كنت بينتها له فإنها لم تبين لي .
كذا رواه ابن جرير . ورواه أيضا عن الحسن بن يحيى ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين كذلك بنحوه . وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة ، وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في : حدثنا يوسف بن حماد المعني ، ومحمد بن مرزوق قالا : أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه : " نزلت الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو بحذيفة ، وإذا رأس ناقة حذيفة عند مؤتزر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقاها إياه ، فنظر حذيفة فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فلقاها إياه ، فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة ، فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتك كما لقاني ، والله إني لصادق ، ووالله لا أزيد على ذلك شيئا أبدا .
ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة ، ولا نعلم له طريقا عن حذيفة إلا هذا الطريق ، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى . وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى .
وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد - [ هو ] ابن المسيب - أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يورث الكلالة ؟ قال : فأنزل الله ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ] ) الآية ، قال : فكأن عمر لم يفهم . فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه عنها ، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها ، فقال : " أبوك ذكر لك هذا ؟ ما أرى أباك يعلمها " . قال : وكان عمر يقول : ما أراني أعلمها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال .
رواه ابن مردويه ، ثم رواه من طريق ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس : أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فأملاها عليها في كتف ، فقال : " من أمرك بهذا ؟ أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أوما تكفيه آية الصيف ؟ " قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء : ( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ) ، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية التي هي خاتمة النساء ، فألقى عمر الكتف . كذا قال في هذا الحديث ، وهو مرسل .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عثام ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : " أخذ عمر كتفا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن . فخرجت حينئذ حية من البيت ، فتفرقوا ، فقال : لو أراد الله ، عز وجل ، أن يتم هذا الأمر لأتمه . وهذا إسناد صحيح .
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري : حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة ، حدثنا الهيثم بن خالد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب قال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم : من الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا : نقر في الزكاة من أموالنا ولا نؤديها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ثم روي بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن مرة ، عن مرة ، عن عمر قال : ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها : الخلافة ، والكلالة ، والربا . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال : سمعت سليمان الأحول يحدث ، عن طاوس قال : سمعت ابن عباس قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر ، فسمعته يقول : القول ما قلت : قلت : وما قلت ؟ قال : قلت : الكلالة ، من لا ولد له . ثم قال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه .
وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار وسليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، قال : اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة ، والقول ما قلت . قال : وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأب وللأم ، وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا ، وخالفه أبو بكر ، رضي الله عنهما .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا محمد بن حميد المعمري ، عن معمر عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر كتب في الجد والكلالة كتابا ، فمكث يستخير الله فيه يقول : اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه ، حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحي ، ولم يدر أحد ما كتب فيه . فقال : إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا ، وكنت استخرت الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه .
قال ابن جرير : وقد روي عن عمر ، رضي الله عنه ، أنه قال : إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر . وكأن أبو بكر ، رضي الله عنه ، يقول : هو ما عدا الولد والوالد .
وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة ، في قديم الزمان وحديثه ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة . وقول علماء الأمصار قاطبة ، وهو الذي يدل عليه القرآن ، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله : ( يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم ) .
سۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ٦٧١
قوله تعالى : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم فيه ست مسائل :
الأولى : قال البراء بن عازب : هذه آخر آية نزلت من القرآن ؛ كذا في كتاب مسلم . وقيل : نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم متجهز لحجة الوداع ، ونزلت بسبب جابر ؛ قال جابر بن عبد الله : مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين ، فأغمي علي ؛ فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أقضي في مالي ؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت آية الميراث يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة رواه مسلم ؛ وقال : آخر آية نزلت : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وقد تقدم . ومضى في أول السورة الكلام في الكلالة مستوفى ، وأن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأب والأم أو للأب وكان لجابر تسع أخوات .
الثانية : إن امرؤ هلك ليس له ولد أي ليس له ولد ولا والد ؛ فاكتفى بذكر أحدهما ؛ قال الجرجاني : لفظ الولد ينطلق على الوالد والمولود ، فالوالد يسمى والدا لأنه ولد ، والمولود يسمى ولدا لأنه ولد ؛ كالذرية فإنها من ذرا ثم تطلق على المولود وعلى الوالد ؛ قال الله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون
الثالثة : والجمهور من العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ ، غير ابن عباس ؛ فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات ؛ وإليه ذهب داود وطائفة ؛ وحجتهم ظاهر قول الله تعالى : إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ولم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد ؛ قالوا : ومعلوم أن الابنة من الولد ، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها . وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس في هذه المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد : أن معاذا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين .
الرابعة : هذه الآية تسمى بآية الصيف ؛ لأنها نزلت في زمن الصيف ؛ قال عمر : إني والله لا أدع شيئا أهم إلي من أمر الكلالة ، وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها ، حتى طعن بإصبعه في جنبي أو في صدري ثم قال : يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء . وعنه رضي الله عنه قال : ثلاث لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن أحب إلي من الدنيا وما فيها : الكلالة والربا والخلافة ؛ خرجه ابن ماجه في سننه .
الخامسة : طعن بعض الرافضة بقول عمر : ( والله لا أدع ) الحديث .
السادسة : قوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا قال الكسائي : المعنى يبين الله لكم لئلا تضلوا . قال أبو عبيد ؛ فحدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة فاستحسنه . قال النحاس : والمعنى عند أبي عبيد لئلا يوافق من الله إجابة ، وهذا القول عند البصريين خطأ صراح ؛ لأنهم لا يجيزون إضمار لا ؛ والمعنى عندهم : يبين الله لكم كراهة أن تضلوا ، ثم حذف ؛ كما قال : واسأل القرية وكذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي كراهية أن يوافق من الله إجابة . والله بكل شيء عليم تقدم في غير موضع . والله أعلم .
تمت سورة " النساء " والحمد لله الذي وفق .
وتم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس مبتدئا بتفسير سورة المائدة ونرجو من الله التوفيق
سۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ ٦٧١
أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي: في الكلالة بدليل قوله: { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ْ} وهي الميت يموت وليس له ولد صلب ولا ولد ابن، ولا أب، ولا جد، ولهذا قال: { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ْ} أي: لا ذكر ولا أنثى، لا ولد صلب ولا ولد ابن. وكذلك ليس له والد، بدليل أنه ورث فيه الإخوة، والأخوات بالإجماع لا يرثون مع الوالد، فإذا هلك وليـس لـه ولـد ولا والـد { وَلَهُ أُخْتٌ ْ} أي: شقيقة أو لأب، لا لأم، فإنه قد تقدم حكمها. { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ْ} أي نصف متروكات أخيها، من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك، وذلك من بعد الدين والوصية كما تقدم. { وَهُوَ ْ} أي: أخوها الشقيق أو الذي للأب { يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ ْ} ولم يقدر له إرثا لأنه عاصب فيأخذ مالها كله، إن لم يكن صاحب فرض ولا عاصب يشاركه، أو ما أبقت الفروض. { فَإِن كَانَتَا ْ} أي: الأختان { اثْنَتَيْنِ ْ} أي: فما فوق { فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً ْ} أي: اجتمع الذكور من الإخوة لغير أم مع الإناث { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ْ} فيسقط فرض الإناث ويعصبهن إخوتهن. { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ْ} أي: يبين لكم أحكامه التي تحتاجونها، ويوضحها ويشرحها لكم فضلا منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه، وتعملوا بأحكامه، ولئلا تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم وعدم علمكم. { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ} أي: عالم بالغيب والشهادة والأمور الماضية والمستقبلة، ويعلم حاجتكم إلى بيانه وتعليمه، فيعلمكم من علمه الذي ينفعكم على الدوام في جميع الأزمنة والأمكنة. آخر تفسير سورة النساء فلله الحمد والشكر.
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم