بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ١
نسخ
مشاركة
التفسير
عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ١
يقول تعالى منكرا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارا لوقوعها "عم يتساءلون" أي عن أي شيء يتساءلون من أمر القيامة.
عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ١
سورة ( عم )
مكية وتسمى سورة ( النبأ )
وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
عم يتساءلون
قوله تعالى : عم يتساءلون ؟ عم لفظ استفهام ; ولذلك سقطت منها ألف ( ما ) ، ليتميز الخبر عن الاستفهام . وكذلك ( فيم ، ومم ) إذا استفهمت . والمعنى عن أي شيء يسأل بعضهم بعضا وقال الزجاج : أصل عم عن ما فأدغمت النون في الميم ، لأنها تشاركها في الغنة . والضمير في يتساءلون لقريش . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت عم يتساءلون ؟ وقيل : عم بمعنى : فيم يتشدد المشركون ويختصمون .
عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ ١
أي: عن أي شيء يتساءل المكذبون بآيات الله ؟
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ ٢
نسخ
مشاركة
التفسير
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ ٢
وهو النبأ العظيم يعني الخبر الهائل المفظع الباهر قال قتادة وابن زيد النبأ العظيم البعث بعد الموت وقال مجاهد هو القرآن.
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ ٢
قوله تعالى : عن النبأ العظيم أي يتساءلون عن النبأ العظيم فعن ليس تتعلق ب ( يتساءلون ) الذي في التلاوة ; لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام فيكون عن النبأ العظيم كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون ؟ فوجب لما ذكرناه من امتناع تعلقه ب " يتساءلون " الذي في التلاوة ، وإنما يتعلق ب " يتساءلون " آخر مضمر . وحسن ذلك لتقدم يتساءلون ; قاله المهدوي . وذكر بعض أهل العلم أن الاستفهام في قوله : ( عن ) مكرر إلا أنه مضمر ، كأنه قال عم يتساءلون أعن النبأ العظيم ؟ فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى . والنبأ العظيم أي الخبر الكبير .
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ ٢
ثم بين ما يتساءلون عنه فقال: { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ }
ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ ٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ ٣
يعني الناس فيه على قولين مؤمن به وكافر.
ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ ٣
الذي هم فيه مختلفون أي يخالف فيه بعضهم بعضا ، فيصدق واحد ويكذب آخر ; فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو القرآن ; دليله قوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون فالقرآن نبأ وخبر وقصص ، وهو نبأ عظيم الشأن . وروى سعيد عن قتادة قال : هو البعث بعد الموت صار الناس فيه رجلين : مصدق ومكذب . وقيل : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : وذلك أن اليهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء كثيرة ، فأخبره الله - جل ثناؤه - باختلافهم .
ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ ٣
{ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } أي: عن الخبر العظيم الذي طال فيه نزاعهم، وانتشر فيه خلافهم على وجه التكذيب والاستبعاد، وهو النبأ الذي لا يقبل الشك ولا يدخله الريب، ولكن المكذبون بلقاء ربهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.
كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٤
نسخ
مشاركة
التفسير
كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٤
ثم قال تعالى متوعدا لمنكري القيامة : ( كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد .
كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٤
ثم هددهم فقال : كلا سيعلمون أي سيعلمون عاقبة القرآن ، أو سيعلمون البعث : أحق هو أم باطل . و ( كلا ) رد عليهم في إنكارهم البعث أو تكذيبهم القرآن ، فيوقف عليها . ويجوز أن يكون بمعنى حقا أو ( ألا ) فيبدأ بها . والأظهر أن سؤالهم إنما كان عن البعث ; قال بعض علمائنا : والذي يدل عليه قوله - عز وجل - : إن يوم الفصل كان ميقاتا يدل على أنهم كانوا يتساءلون عن البعث .
كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٤
{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } أي: سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يكذبون، حين يدعون إلى نار جهنم دعا، ويقال لهم: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }
ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٥
نسخ
مشاركة
التفسير
ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٥
ثم قال تعالى متوعدا لمنكري القيامة : ( كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد .
ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٥
ثم كلا سيعلمون أي حقا ليعلمن صدق ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ومما ذكره لهم من البعث بعد الموت . وقال الضحاك : كلا سيعلمون يعني الكافرين عاقبة تكذيبهم . ثم كلا سيعلمون يعني المؤمنين عاقبة تصديقهم . وقيل : بالعكس أيضا . وقال الحسن : هو وعيد بعد وعيد . وقراءة العامة فيهما بالياء على الخبر ; لقوله تعالى : يتساءلون وقوله : هم فيه مختلفون . وقرأ الحسن وأبو العالية ومالك بن دينار بالتاء فيهما .
ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ ٥
{ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } أي: سيعلمون إذا نزل بهم العذاب ما كانوا به يكذبون، حين يدعون إلى نار جهنم دعا، ويقال لهم: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ }
أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦
نسخ
مشاركة
التفسير
أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦
ثم شرع وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة ، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره ، فقال : ( ألم نجعل الأرض مهادا ) ؟ أي : ممهدة للخلائق ذلولا لهم ، قارة ساكنة ثابتة .
أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦
دلهم على قدرته على البعث ; أي قدرتنا على إيجاد هذه الأمور أعظم من قدرتنا على الإعادة .
والمهاد : الوطاء والفراش .
وقد قال تعالى : " الذي جعل لكم الأرض فراشا " [ البقرة : 22 ] وقرئ " مهدا " .
ومعناه أنها لهم كالمهد للصبي , وهو ما يمهد له فينوم عليه
أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا ٦
أي: أما أنعمنا عليكم بنعم جليلة، فجعلنا لكم { الْأَرْضَ مِهَادًا } أي: ممهدة مهيأة لكم ولمصالحكم، من الحروث والمساكن والسبل.
وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧
نسخ
مشاركة
التفسير
وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧
( والجبال أوتادا ) أي : جعلها لها أوتادا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها .
وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧
أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها .
وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا ٧
{ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } تمسك الأرض لئلا تضطرب بكم وتميد.
وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا ٨
نسخ
مشاركة
التفسير
وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا ٨
ثم قال : ( وخلقناكم أزواجا ) يعني : ذكرا وأنثى ، يستمتع كل منهما بالآخر ، ويحصل التناسل بذلك ، كقوله : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) [ الروم : 21 ] .
وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا ٨
أي أصنافا : ذكرا وأنثى .
وقيل : ألوانا .
وقيل : يدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن , وطويل وقصير ; لتختلف الأحوال فيقع الاعتبار , فيشكر الفاضل ويصبر المفضول .
وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا ٨
{ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } أي: ذكورا وإناثا من جنس واحد، ليسكن كل منهما إلى الآخر، فتكون المودة والرحمة، وتنشأ عنهما الذرية، وفي ضمن هذا الامتنان، بلذة المنكح.
وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا ٩
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا ٩
وقوله : ( وجعلنا نومكم سباتا ) أي : قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار . وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة " الفرقان " .
وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا ٩
وجعلنا نومكم سباتا
" جعلنا " معناه صيرنا ; ولذلك تعدت إلى مفعولين . " سباتا " المفعول الثاني , أي راحة لأبدانكم , ومنه يوم السبت أي يوم الراحة ; أي قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم , فلا تعملوا فيه شيئا . وأنكر ابن الأنباري هذا وقال : لا يقال للراحة سبات . وقيل : أصله التمدد ; يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلته وأرسلته , فالسبات كالمد , ورجل مسبوت الخلق : أي ممدود . وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد , فسميت الراحة سبتا . وقيل : أصله القطع ; يقال : سبت شعره سبتا : حلقه ; وكأنه إذا نام انقطع عن الناس وعن الاشتغال , فالسبات يشبه الموت , إلا أنه لم تفارقه الروح . ويقال : سير سبت : أي سهل لين ; قال الشاعر : ومطوية الأقراب أما نهارها فسبت وأما ليلها فذميل
وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا ٩
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } أي: راحة لكم، وقطعا لأشغالكم، التي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم .
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا ٠١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا ٠١
( وجعلنا الليل لباسا ) أي : يغشى الناس ظلامه وسواده ، كما قال : ( والليل إذا يغشاها ) [ الشمس : 4 ] وقال الشاعر :
فلما لبسن الليل ، أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
وقال قتادة في قوله : ( وجعلنا الليل لباسا ) أي : سكنا .
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا ٠١
أي تلبسكم ظلمته وتغشاكم ; قاله الطبري .
وقال ابن جبير والسدي : أي سكنا لكم .
وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا ٠١
فجعل الله الليل والنوم يغشى الناس لتنقطع حركاتهم الضارة، وتحصل راحتهم النافعة.
وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا ١١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا ١١
أي جعلناه مشرقا نيرا مضيئا ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك.
وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا ١١
فيه إضمار , أي وقت معاش , أي متصرفا لطلب المعاش وهو كل ما يعاش به من المطعم والمشرب وغير ذلك " فمعاشا " على هذا اسم زمان , ليكون الثاني هو الأول .
ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف المضاف .
وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا ١١
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا
وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا ٢١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا ٢١
يعني السموات السبع في اتساعها وارتفعاها وإحكامها وإتقانها وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات.
وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا ٢١
أي سبع سموات محكمات ; أي محكمة الخلق وثيقة البنيان .
وَبَنَيۡنَا فَوۡقَكُمۡ سَبۡعٗا شِدَادٗا ٢١
{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } أي: سبع سموات، في غاية القوة، والصلابة والشدة، وقد أمسكها الله بقدرته، وجعلها سقفا للأرض، فيها عدة منافع لهم، ولهذا ذكر من منافعها الشمس فقال: { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا }
وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا ٣١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا ٣١
يعني الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم.
وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا ٣١
أي وقادا وهي الشمس .
وجعل هنا بمعنى خلق ; لأنها تعدت لمفعول واحد والوهاج الذي له وهج ; يقال : وهج يهج وهجا ووهجا ووهجانا .
ويقال للجوهر إذا تلألأ توهج .
وقال ابن عباس : وهاجا منيرا متلألئا .
وَجَعَلۡنَا سِرَاجٗا وَهَّاجٗا ٣١
نبه بالسراج على النعمة بنورها، الذي صار كالضرورة للخلق، وبالوهاج الذي فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح
وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا ٤١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا ٤١
قال العوفي ، عن ابن عباس : ( المعصرات ) الريح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وأنزلنا من المعصرات ) قال : الرياح . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وزيد بن أسلم : وابنه عبد الرحمن : إنها الرياح . ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( من المعصرات ) أي : من السحاب . وكذا قال عكرمة أيضا ، وأبو العالية ، والضحاك ، والحسن ، والربيع بن أنس ، والثوري . واختاره ابن جرير .
وقال الفراء : هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد ، كما يقال امرأة معصر ، إذا دنا حيضها ولم تحض .
وعن الحسن ، وقتادة : ( من المعصرات ) يعني : السماوات . وهذا قول غريب .
والأظهر أن المراد بالمعصرات : السحاب ، كما قال [ الله ] تعالى : ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) [ الروم : 48 ] أي : من بينه .
وقوله : ( ماء ثجاجا ) قال مجاهد ، وقتادة ، والربيع بن أنس : ( ثجاجا ) منصبا . وقال الثوري : متتابعا . وقال ابن زيد : كثيرا .
قال ابن جرير : ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج ، وإنما الثج : الصب المتتابع . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أفضل الحج العج والثج " . يعني صب دماء البدن . هكذا قال . قلت : وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنعت لك الكرسف " - يعني : أن تحتشي بالقطن - : قالت : يا رسول الله ، هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجا . وهذا فيه دلالة على استعمال الثج في الصب المتتابع الكثير ، والله أعلم .
وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا ٤١
وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا قال مجاهد وقتادة : والمعصرات الرياح . وقاله ابن عباس : كأنها تعصر السحاب . وعن ابن عباس أيضا : أنها السحاب . وقال سفيان والربيع وأبو العالية والضحاك : أي السحائب التي تنعصر بالماء ولما تمطر بعد ، كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض ، قال أبو النجم :
تمشي الهوينى مائلا خمارها قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
وقال آخر :
فكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
وقال آخر :
وذي أشر كالأقحوان يزينه ذهاب الصبا والمعصرات الروائح
فالرياح تسمى معصرات ; يقال : أعصرت الريح تعصر إعصارا : إذا أثارت العجاج ، وهي الإعصار ، والسحب أيضا تسمى المعصرات لأنها تمطر . وقال قتادة أيضا : المعصرات السماء ، النحاس : هذه الأقوال صحاح ; يقال للرياح التي تأتي بالمطر معصرات ، والرياح تلقح السحاب ، فيكون المطر ، والمطر ينزل من الريح على هذا . ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى وأنزلنا من ذوات الرياح المعصراتماء ثجاجا وأصح الأقوال أن المعصرات السحاب . كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان ( بالمعصرات ) لكان الريح أولى . وفي الصحاح : والمعصرات السحائب تعتصر بالمطر . وأعصر القوم أي أمطروا ; ومنه قرأ بعضهم وفيه يعصرون والمعصر : الجارية أول ما أدركت وحاضت ; يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته ; قال الراجز [ منصور بن مرثد الأسدي ] :
جارية بسفوان دارها تمشي الهوينى ساقطا خمارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
والجمع : معاصر ، ويقال : هي التي قاربت الحيض ; لأن الإعصار في الجارية كالمراهقة في الغلام . سمعته من أبي الغوث الأعرابي . قال غيره : والمعصر السحابة التي حان لها أن تمطر ; يقال أجن الزرع فهو مجن : أي صار إلى أن يجن ، وكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر . وقال المبرد : يقال سحاب معصر أي ممسك للماء ، ويعتصر منه شيء بعد شيء ، ومنه العصر بالتحريك للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرة بالضم أيضا الملجأ . وقد مضى هذا المعنى في سورة ( يوسف ) والحمد لله . وقال أبو زبيد :
صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود
ومنه المعصر للجارية التي قد قربت من البلوغ يقال لها معصر ; لأنها تحبس في البيت ، فيكون البيت لها عصرا . وفي قراءة ابن عباس وعكرمة ( وأنزلنا بالمعصرات ) . والذي في المصاحف من المعصرات قال أبي بن كعب والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : من المعصرات أي من السماوات . ماء ثجاجا صبابا متتابعا ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : ثججت دمه فأنا أثجه ثجا ، وقد ثج الدم يثج ثجوجا ، وكذلك الماء ، فهو لازم ومتعد . والثجاج في الآية المنصب . وقال الزجاج : أي الصباب ، وهو متعد كأنه يثج نفسه أي يصب . وقال عبيد بن الأبرص :
فثج أعلاه ثم ارتج أسفله وضاق ذرعا بحمل الماء منصاح
وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الحج المبرور فقال : العج والثج فالعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة الدماء وذبح الهدايا . وقال ابن زيد : ثجاجا كثيرا . والمعنى واحد .
وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡمُعۡصِرَٰتِ مَآءٗ ثَجَّاجٗا ٤١
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } أي: السحاب { مَاءً ثَجَّاجًا } أي: كثيرا جدا.
لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا ٥١
نسخ
مشاركة
التفسير
لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا ٥١
وقوله : ( لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ) أي : لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك ) حبا ) يدخر للأناسي والأنعام ، ( ونباتا ) أي : خضرا يؤكل رطبا .
لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا ٥١
" لنخرج به " أي بذلك الماء " حبا " كالحنطة والشعير وغير ذلك " ونباتا " من الأب , وهو ما تأكله الدواب من الحشيش .
لِّنُخۡرِجَ بِهِۦ حَبّٗا وَنَبَاتٗا ٥١
{ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا } من بر وشعير وذرة وأرز، وغير ذلك مما يأكله الآدميون.
{ وَنَبَاتًا } يشمل سائر النبات، الذي جعله الله قوتا لمواشيهم.
وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا ٦١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا ٦١
( وجنات ) أي : بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة ، وألوان مختلفة ، وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذهلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعا ; ولهذا قال : ( وجنات ألفافا ) قال ابن عباس ، وغيره : ( ألفافا ) مجتمعة . وهذه كقوله تعالى : ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) الآية [ الرعد : 4 ] .
وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا ٦١
قوله تعالى : وجنات أي بساتين ألفافا أي ملتفة بعضها ببعض لتشعب أغصانها ، ولا واحد له كالأوزاع والأخياف . وقيل : واحد الألفاف لف بالكسر ولف بالضم . ذكره الكسائي ، قال :
جنة لف وعيش مغدق وندامى كلهم بيض زهر
وعنه أيضا وأبي عبيدة : لفيف كشريف وأشراف . وقيل : هو جمع الجمع . حكاه الكسائي . يقال : جنة لفاء ونبت لف والجمع لف بضم اللام مثل حمر ، ثم يجمع اللف ألفافا . الزمخشري : ولو قيل جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان وجيها . ويقال : شجرة لفاء وشجر لف وامرأة لفاء : أي غليظة الساق مجتمعة اللحم . وقيل : التقدير : ونخرج به جنات ألفافا ، فحذف لدلالة الكلام عليه . ثم هذا الالتفاف والانضمام معناه أن الأشجار في البساتين تكون متقاربة ، فالأغصان من كل شجرة متقاربة لقوتها .
وَجَنَّٰتٍ أَلۡفَافًا ٦١
{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } أي: بساتين ملتفة، فيها من جميع أصناف الفواكه اللذيذة.
فالذي أنعم عليكم بهذه النعم العظيمة ، التي لا يقدر قدرها، ولا يحصى عددها، كيف [تكفرون به و] تكذبون ما أخبركم به من البعث والنشور؟! أم كيف تستعينون بنعمه على معاصيه وتجحدونها ؟"
إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا ٧١
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا ٧١
يقول تعالى مخبرا عن يوم الفصل ، وهو يوم القيامة ، أنه مؤقت بأجل معدود ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله - عز وجل - كما قال : ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) [ هود : 104 ] .
إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا ٧١
أي وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين , لما وعد الله من الجزاء والثواب .
وسمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه .
إِنَّ يَوۡمَ ٱلۡفَصۡلِ كَانَ مِيقَٰتٗا ٧١
ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون، ويجحده المعاندون، أنه يوم عظيم، وأن الله جعله { مِيقَاتًا } للخلق.
يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ٨١
نسخ
مشاركة
التفسير
يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ٨١
( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) قال مجاهد : زمرا . قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، كقوله : ( يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ) [ الإسراء : 31 ] .
وقال البخاري : ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما بين النفختين أربعون " .
قالوا : أربعون يوما ؟ قال : " أبيت " . قالوا : أربعون شهرا ؟ قال : " أبيت " . قالوا : أربعون سنة ؟ قال : " أبيت " . قال : " ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى ، إلا عظما واحدا ، وهو عجب الذنب ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة " .
يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ٨١
فخ في الصور فتأتون أفواجا
قوله تعالى : يوم ينفخ في الصور أي للبعث فتأتون أي إلى موضع العرض . أفواجا أي أمما ، كل أمة مع إمامهم . وقيل : زمرا وجماعات . الواحد : فوج . ونصب يوما بدلا من اليوم الأول . وروي من حديث معاذ بن جبل قلت : يا رسول الله ! أرأيت قول الله تعالى : يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم " ثم أرسل عينيه باكيا ، ثم قال : " يحشر عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين ، وبدل صورهم ، فمنهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون : أرجلهم أعلاهم ، ووجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي يترددون ، وبعضهم صم بكم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلاة على صدورهم ، يسيل القيح من أفواههم لعابا ، يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ; فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس - يعني النمام - وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت والحرام والمكس . وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم ، فأكلة الربا ، والعمي : من يجور في الحكم ، والصم البكم : الذين يعجبون بأعمالهم . والذين يمضغون ألسنتهم : فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم . والمقطعة أيديهم وأرجلهم : فالذين يؤذون الجيران . والمصلبون على جذوع النار : فالسعاة بالناس إلى السلطان والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ، ويمنعون حق الله [ والفقراء ] من أموالهم . والذين يلبسون الجلابيب : فأهل الكبر والفخر والخيلاء " .
يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَتَأۡتُونَ أَفۡوَاجٗا ٨١
{ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } ويجري فيه من الزعازع والقلاقل ما يشيب له الوليد، وتنزعج له القلوب .
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَٰبٗا ٩١
نسخ
مشاركة
التفسير
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَٰبٗا ٩١
أي طرقا ومسالك لنزول الملائكة.
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَٰبٗا ٩١
قوله تعالى : وفتحت السماء فكانت أبوابا أي لنزول الملائكة ; كما قال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . وقيل : تقطعت ، فكانت قطعا كالأبواب فانتصاب الأبواب على هذا التأويل بحذف الكاف . وقيل : التقدير فكانت ذات أبواب ; لأنها تصير كلها أبوابا . وقيل : أبوابها طرقها . وقيل : تنحل وتتناثر ، حتى تصير فيها أبواب . وقيل : إن لكل عبد بابين في السماء : بابا لعمله ، وبابا لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب . وفي حديث الإسراء : " ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا " .
وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَٰبٗا ٩١
وتشقق السماء حتى تكون أبوابا
وَسُيِّرَتِ ٱلۡجِبَالُ فَكَانَتۡ سَرَابًا ٠٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَسُيِّرَتِ ٱلۡجِبَالُ فَكَانَتۡ سَرَابًا ٠٢
كقوله : ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) [ النمل : 88 ] وكقوله : ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) [ القارعة : 5 ] .
وقال هاهنا : ( فكانت سرابا ) أي : يخيل إلى الناظر أنها شيء ، وليست بشيء ، بعد هذا تذهب بالكلية ، فلا عين ولا أثر ، كما قال : ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) [ طه : 105 - 107 ] وقال : ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ) [ الكهف : 47 ] .
وَسُيِّرَتِ ٱلۡجِبَالُ فَكَانَتۡ سَرَابًا ٠٢
وسيرت الجبال فكانت سرابا أي لا شيء كما أن السراب كذلك : يظنه الرائي ماء وليس بماء . وقيل : سيرت نسفت من أصولها . وقيل : أزيلت عن مواضعها .
وَسُيِّرَتِ ٱلۡجِبَالُ فَكَانَتۡ سَرَابًا ٠٢
فتسير الجبال، حتى تكون كالهباء المبثوث، ، ويفصل الله بين الخلائق بحمكه الذي لا يجور.
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتۡ مِرۡصَادٗا ١٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتۡ مِرۡصَادٗا ١٢
أي مرصدة معدة وقال الحسن وقتادة في قوله تعالى "إن جهنم كانت مرصادا" يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه جواز نجا وإلا احتبس وقال سفيان الثوري عليها ثلات قناطر.
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتۡ مِرۡصَادٗا ١٢
قوله تعالى : إن جهنم كانت مرصادا مفعال من الرصد والرصد : كل شيء كان أمامك . قال الحسن : إن على النار رصدا ، لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجئ بجواز حبس . وعن سفيان - رضي الله عنه - قال : عليها ثلاث قناطر . وقيل ( مرصادا ) ذات أرصاد على النسب ; أي ترصد من يمر بها .
وقال مقاتل : محبسا . وقيل : طريقا وممرا ، فلا سبيل إلى الجنة حتى يقطع جهنم . وفي الصحاح : والمرصاد : الطريق . وذكر القشيري : أن المرصاد المكان الذي يرصد فيه الواحد العدو ، نحو المضمار : الموضع الذي تضمر فيه الخيل . أي هي معدة لهم ; فالمرصاد بمعنى المحل ; فالملائكة يرصدون الكفار حتى ينزلوا بجهنم . وذكر الماوردي عن أبي سنان أنها بمعنى راصدة ، تجازيهم بأفعالهم . وفي الصحاح : الراصد الشيء : الراقب له ; تقول : رصده يرصده رصدا ورصدا ، والترصد : الترقب . والمرصد : موضع الرصد . الأصمعي : رصدته أرصده : ترقبته ، وأرصدته : أعددت له . والكسائي : مثله .
قلت : فجهنم معدة مترصدة ، متفعل من الرصد وهو الترقب ; أي هي متطلعة لمن يأتي . والمرصاد مفعال من أبنية المبالغة كالمعطار والمغيار ، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار .
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتۡ مِرۡصَادٗا ١٢
وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله وأعدها للطاغين، وجعلها مثوى لهم ومآبا
لِّلطَّٰغِينَ مََٔابٗا ٢٢
نسخ
مشاركة
التفسير
لِّلطَّٰغِينَ مََٔابٗا ٢٢
"للطاغين" وهم المردة العصاة المخالفون للرسل "مآبا" أي مرجعا ومتقلبا ومصيرا ونزلا.
لِّلطَّٰغِينَ مََٔابٗا ٢٢
بدل من قوله : " مرصادا " والمآب : المرجع , أي مرجعا يرجعون إليها ; يقال : آب يئوب أوبة : إذا رجع .
وقال قتادة : مأوى ومنزلا .
والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر , أو في دنياه بالظلم .
لِّلطَّٰغِينَ مََٔابٗا ٢٢
وتوقد نار جهنم التي أرصدها الله وأعدها للطاغين، وجعلها مثوى لهم ومآبا .
لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا ٣٢
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا ٣٢
وقوله : ( لابثين فيها أحقابا ) أي : ماكثين فيها أحقابا ، وهي جمع " حقب " ، وهو : المدة من الزمان . وقد اختلفوا في مقداره . فقال ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مهران ، عن سفيان الثوري ، عن عمار الدهني ، عن سالم بن أبي الجعد قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري : ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل ؟ قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة .
وهكذا روي عن أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعمرو بن ميمون ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والضحاك . وعن الحسن والسدي أيضا : سبعون سنة كذلك . وعن عبد الله بن عمرو : الحقب أربعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون . رواهما ابن أبي حاتم .
وقال بشير بن كعب : ذكر لي أن الحقب الواحد ثلاثمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها كألف سنة . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمر بن علي بن أبي بكر الأسفذني : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) قال : فالحقب [ ألف ] شهر ، الشهر ثلاثون يوما ، والسنة اثنا عشر شهرا ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة . وهذا حديث منكر جدا ، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك .
وقال البزار : حدثنا محمد بن مرداس ، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المعلى قال : سألت سليمان التيمي : هل يخرج من النار أحد ؟ فقال حدثني نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا " . قال : والحقب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون .
ثم قال : سليمان بن مسلم بصري مشهور .
وقال السدي : ( لابثين فيها أحقابا ) سبعمائة حقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون .
وقد قال مقاتل بن حيان : إن هذه الآية منسوخة بقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا )
وقال خالد بن معدان : هذه الآية وقوله : ( إلا ما شاء ربك ) [ هود : 107 ] في أهل التوحيد . رواهما ابن جرير .
ثم قال : ويحتمل أن يكون قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) متعلقا بقوله : ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر . ثم قال : والصحيح أنها لا انقضاء لها ، كما قال قتادة والربيع بن أنس وقد قال قبل ذلك حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير ، عن سالم : سمعت الحسن يسأل عن قوله : ( لابثين فيها أحقابا ) قال : أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار ، ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون .
وقال سعيد ، عن قتادة : قال الله تعالى : ( لابثين فيها أحقابا ) وهو : ما لا انقطاع له ، كلما مضى حقب جاء حقب بعده ، وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة .
وقال الربيع بن أنس : ( لابثين فيها أحقابا ) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله ، ولكن الحقب الواحد ثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون . رواهما أيضا ابن جرير .
لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا ٣٢
لابثين فيها أحقابا أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكلما مضى حقب جاء حقب . والحقب بضمتين : الدهر والأحقاب الدهور . والحقبة بالكسر : السنة ; والجمع حقب ; قال متمم بن نويرة التميمي :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بالضم والسكون : ثمانون سنة . وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، على ما يأتي ، والجمع : أحقاب . والمعنى في الآية ; لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ; فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه ; إذ في الكلام ذكر الآخرة ، وهو كما يقال : أيام الآخرة ; أي أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب . ونحوه وذكر الأحقاب لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونها ، وهي كناية عن التأبيد ، أي يمكثون فيها أبدا . وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ; لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود . والمعنى متقارب ; وهذا الخلود في حق المشركين . ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب .
وقيل : الأحقاب وقت لشربهم الحميم والغساق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العقاب ; ولهذا قال : لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا . و ( لابثين ) اسم فاعل من لبث ، ويقويه أن المصدر منه اللبث بالإسكان ، كالشرب . وقرأ حمزة والكسائي ( لبثين ) بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، وهما لغتان ; يقال : رجل لابث ولبث ، مثل طمع وطامع ، وفره وفاره . ويقال : هو لبث بمكان كذا : أي قد صار اللبث شأنه ، فشبه بما هو خلقة في الإنسان نحو : حذر وفرق ; لأن باب فعل إنما هو لما يكون خلقة في الشيء في الأغلب ، وليس كذلك اسم الفاعل من لبث .
والحقب : ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة ، والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما ، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا ، قاله ابن عباس . وروى ابن عمر هذا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو هريرة : والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوما كل يوم مثل أيام الدنيا . وعن ابن عمر أيضا : الحقب : أربعون سنة . السدي : سبعون سنة . وقيل : إنه ألف شهر . رواه أبو أمامة مرفوعا . بشير بن كعب : ثلاثمائة سنة . الحسن : الأحقاب لا يدري أحد كم هي ، ولكن ذكروا أنها مائة حقب ، والحقب الواحد منها سبعون ألف سنة ، اليوم منها كألف سنة مما تعدون . وعن أبي أمامة أيضا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الحقب الواحد ثلاثون ألف سنة ذكره المهدوي . والأول الماوردي . وقال قطرب : هو الدهر الطويل غير المحدود . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا ، الحقب بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة مما تعدون ; فلا يتكلن أحدكم على أن يخرج من النار . ذكره الثعلبي . القرظي : الأحقاب : ثلاثة وأربعون حقبا كل حقب سبعون خريفا ، كل خريف سبعمائة سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة .
قلت : هذه أقوال متعارضة ، والتحديد في الآية للخلود ، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر ، وليس ذلك بثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما المعنى - والله أعلم - ما ذكرناه أولا ; أي لابثين فيها أزمانا ودهورا ، كلما مضى زمن يعقبه زمن ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع . وقال ابن كيسان : معنى لابثين فيها أحقابا لا غاية لها انتهاء ، فكأنه قال أبدا . وقال ابن زيد ومقاتل : إنها منسوخة بقوله تعالى : فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا يعني أن العدد قد انقطع والخلود قد حصل .
قلت : وهذا بعيد ; لأنه خبر ، وقد قال تعالى : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط على ما تقدم . هذا في حق الكفار ، فأما العصاة الموحدون فصحيح ويكون النسخ بمعنى التخصيص . والله أعلم . وقيل : المعنى لابثين فيها أحقابا أي في الأرض ; إذ قد تقدم ذكرها ويكون الضمير في لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا لجهنم . وقيل : واحد الأحقاب حقب وحقبة ; قال :
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فأنت بما أحدثته بالمجرب
وقال الكميت :
مر لها بعد حقبة حقب
لَّٰبِثِينَ فِيهَآ أَحۡقَابٗا ٣٢
وأنهم يلبثون فيها أحقابا كثيرة و { الحقب } على ما قاله كثير من المفسرين: ثمانون سنة.
لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرۡدٗا وَلَا شَرَابًا ٤٢
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرۡدٗا وَلَا شَرَابًا ٤٢
أي لا يجدون في جهنم بردا لقلوبهم ولا شرابا طيبا يتغذون به.
لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرۡدٗا وَلَا شَرَابًا ٤٢
قوله تعالى : لا يذوقون فيها أي في الأحقاب بردا ولا شرابا البرد : النوم في قول أبي عبيدة وغيره ; قال الشاعر :
ولو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وقاله مجاهد والسدي والكسائي والفضل بن خالد وأبو معاذ النحوي ; وأنشدوا قول الكندي :
بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن تقبيلها البرد
يعني النوم . والعرب تقول : منع البرد البرد ، يعني : أذهب البرد النوم .
قلت : وقد جاء الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل في الجنة نوم . فقال : " لا ; النوم أخو الموت ، والجنة لا موت فيها " فكذلك النار ; وقد قال تعالى : لا يقضى عليهم فيموتوا وقال ابن عباس : البرد : برد الشراب . وعنه أيضا : البرد النوم : والشراب الماء . وقال الزجاج : أي لا يذوقون فيها برد ريح ، ولا ظل ، ولا نوم . فجعل البرد برد كل شيء له راحة ، وهذا برد ينفعهم ، فأما الزمهرير فهو برد يتأذون به ، فلا ينفعهم ، فلهم منه من العذاب ما الله أعلم به . وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردا : أي روحا وراحة ; قال الشاعر [ حميد بن ثور ] :
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء أوقات العشي تذوق
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا جملة في موضع الحال من الطاغين ، أو نعت للأحقاب ; فالأحقاب ظرف زمان ، والعامل فيه لابثين أو ( لبثين ) على تعدية فعل .
لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرۡدٗا وَلَا شَرَابًا ٤٢
وهم إذا وردوها { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا } أي: لا ما يبرد جلودهم، ولا ما يدفع ظمأهم.
إِلَّا حَمِيمٗا وَغَسَّاقٗا ٥٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِلَّا حَمِيمٗا وَغَسَّاقٗا ٥٢
ولهذا قال : ( إلا حميما وغساقا ) قال أبو العالية : استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق . وكذا قال الربيع بن أنس . فأما الحميم : فهو الحار الذي قد انتهى حره وحموه . والغساق : هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم ، فهو بارد لا يستطاع من برده ، ولا يواجه من نتنه . وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة " ص " بما أغنى عن إعادته ، أجارنا الله من ذلك ، بمنه وكرمه .
قال ابن جرير : وقيل : المراد بقوله : ( لا يذوقون فيها بردا ) يعني : النوم ، كما قال الكندي :
بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن قبلاتها ، البرد
يعني بالبرد : النعاس والنوم هكذا ذكره ولم يعزه إلى أحد . وقد رواه ابن أبي حاتم ، من طريق السدي ، عن مرة الطيب . ونقله عن مجاهد أيضا . وحكاه البغوي عن أبي عبيدة ، والكسائي أيضا .
إِلَّا حَمِيمٗا وَغَسَّاقٗا ٥٢
إلا حميما وغساقا استثناء منقطع في قول من جعل البرد النوم ، ومن جعله من البرودة كان بدلا منه . والحميم : الماء الحار ; قاله أبو عبيدة . وقال ابن زيد : الحميم : دموع أعينهم ، تجمع في حياض ثم يسقونه . قال النحاس : أصل الحميم الماء الحار ، ومنه اشتق الحمام ، ومنه الحمى ، ومنه وظل من يحموم : إنما يراد به النهاية في الحر . والغساق : صديد أهل النار وقيحهم . وقيل الزمهرير . وقرأ حمزة والكسائي بتشديد السين ، وقد مضى في ( ص ) القول فيه .
إِلَّا حَمِيمٗا وَغَسَّاقٗا ٥٢
{ إِلَّا حَمِيمًا } أي: ماء حارا، يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، { وَغَسَّاقًا } وهو: صديد أهل النار، الذي هو في غاية النتن، وكراهة المذاق.
جَزَآءٗ وِفَاقًا ٦٢
نسخ
مشاركة
التفسير
جَزَآءٗ وِفَاقًا ٦٢
أي هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا قاله مجاهد وقتادة وغير واحد.
جَزَآءٗ وِفَاقًا ٦٢
جزاء وفاقا أي موافقا لأعمالهم . عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما ; فالوفاق بمعنى الموافقة كالقتال بمعنى المقاتلة . و ( جزاء ) نصب على المصدر ، أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم ; قاله الفراء والأخفش . وقال الفراء أيضا : هو جمع الوفق ، والوفق واللفق واحد . وقال مقاتل . وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة ، فأتاهم الله بما يسوؤهم .
جَزَآءٗ وِفَاقًا ٦٢
استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جزاء لهم ووفاقا على ما عملوا من الأعمال الموصلة إليها، لم يظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم.
إِنَّهُمۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ حِسَابٗا ٧٢
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّهُمۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ حِسَابٗا ٧٢
أي لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارا يجازون فيها ويحاسبون.
إِنَّهُمۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ حِسَابٗا ٧٢
" إنهم كانوا لا يرجون " أي لا يخافون " حسابا " أي محاسبة على أعمالهم .
وقيل : معناه لا يرجون ثواب حساب .
الزجاج : أي إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث فيرجون حسابهم .
إِنَّهُمۡ كَانُواْ لَا يَرۡجُونَ حِسَابٗا ٧٢
وذكر أعمالهم، التي استحقوا بها هذا الجزاء، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا } أي: لا يؤمنون بالبعث، ولا أن الله يجازي الخلق بالخير والشر، فلذلك أهملوا العمل للآخرة.
وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا ٨٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا ٨٢
ثم قال : ( إنهم كانوا لا يرجون حسابا ) أي : لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارا يجازون فيها ويحاسبون ، ( وكذبوا بآياتنا كذابا ) أي : وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله ، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة .
وقوله : ( كذابا ) أي : تكذيبا ، وهو مصدر من غير الفعل . قالوا : وقد سمع أعرابي يستفتي الفراء على المروة : الحلق أحب إليك أو القصار ؟ وأنشد بعضهم :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائيا
وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا ٨٢
وكذبوا بآياتنا كذابا أي بما جاءت به الأنبياء . وقيل : بما أنزلنا من الكتب . وقراءة العامة كذابا بتشديد الذال ، وكسر الكاف ، على كذب ، أي كذبوا تكذيبا كبيرا . قال الفراء : هي لغة يمانية فسيحة ; يقولون : كذبت به كذابا ، وخرقت القميص خراقا ; وكل فعل في وزن ( فعل ) فمصدره فعال مشدد في لغتهم ; وأنشد بعض الكلابيين :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قضاؤها من شفائنا
وقرأ علي - رضي الله عنه - ( كذابا ) بالتخفيف وهو مصدر أيضا . وقال أبو علي : التخفيف والتشديد جميعا : مصدر المكاذبة ، كقول الأعشى :
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه
أبو الفتح : جاءا جميعا مصدر كذب وكذب جميعا . الزمخشري : ( كذابا ) بالتخفيف مصدر كذب ; بدليل قوله :
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله : أنبتكم من الأرض نباتا يعني وكذبوا بآياتنا أفكذبوا كذابا . أو تنصبه ب " كذبوا " . لأنه يتضمن معنى كذبوا ; لأن كل مكذب بالحق كاذب ; لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين ، فبينهم مكاذبة . وقرأ ابن عمر ( كذابا ) بضم الكاف والتشديد ، جمع كاذب ; قاله أبو حاتم . ونصبه على الحال الزمخشري . وقد يكون الكذاب : بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك حسان وبخال ، فيجعله صفة لمصدر كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه . وفي الصحاح : وقوله تعالى : وكذبوا بآياتنا كذابا وهو أحد مصادر المشدد ; لأن مصدره قد يجيء على ( تفعيل ) مثل التكليم وعلى ( فعال ) كذاب وعلى ( تفعلة ) مثل توصية ، وعلى ( مفعل ) ; ومزقناهم كل ممزق .
وَكَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا ٨٢
{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } أي: كذبوا بها تكذيبا واضحا صريحا وجاءتهم البينات فعاندوها.
وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا ٩٢
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا ٩٢
أي وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناهم عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا ٩٢
وكل شيء أحصيناه كتابا ، ( كل ) نصب بإضمار فعل يدل عليه أحصيناه أي وأحصينا كل شيء أحصيناه . وقرأ أبو السمال وكل شيء بالرفع على الابتداء . ( كتابا ) نصب على المصدر ; لأن معنى أحصينا : كتبنا ، أي كتبناه كتابا . ثم قيل : أراد به العلم ، فإن ما كتب كان أبعد من النسيان . وقيل : أي كتبناه في اللوح المحفوظ لتعرفه الملائكة . وقيل : أراد ما كتب على العباد من أعمالهم . فهذه كتابة صدرت عن الملائكة الموكلين بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة ; دليله قوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين .
وَكُلَّ شَيۡءٍ أَحۡصَيۡنَٰهُ كِتَٰبٗا ٩٢
{ وَكُلُّ شَيْءٍ } من قليل وكثير، وخير وشر { أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } أي: كتبناه في اللوح المحفوظ، فلا يخشى المجرمون أنا عذبناهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبوا أنه يضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة، كما قال تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا }
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا ٠٣
نسخ
مشاركة
التفسير
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا ٠٣
وقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) أي : يقال لأهل النار : ذوقوا ما أنتم فيه ، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه ، ( وآخر من شكله أزواج ) .
قال قتادة : عن أبي أيوب الأزدي ، عن عبد الله بن عمرو قال : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) قال : فهم في مزيد من العذاب أبدا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، حدثنا جسر بن فرقد ، عن الحسن قال : سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار . قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) فقال : " هلك القوم بمعاصيهم الله - عز وجل - " .
جسر بن فرقد ضعيف الحديث بالكلية.
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا ٠٣
قال أبو برزة : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ؟ فقال : قوله تعالى : " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " أي " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " [ النساء : 56 ] و " كلما خبت زدناهم سعيرا " [ الإسراء : 97 ] .
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا ٠٣
{ فَذُوقُوا } أيها المكذبون هذا العذاب الأليم والخزي الدائم { فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا } وكل وقت وحين يزداد عذابهم [ وهذه الآية أشد الآيات في شدة عذاب أهل النار أجارنا الله منها ].
إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ مَفَازًا ١٣
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ مَفَازًا ١٣
يقول تعالى مخبرا عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال تعالى "إن للمتقين مفازا" قال ابن عباس والضحاك متنزها وقال مجاهد وقتادة: فازوا فنجوا من النار الأظهر هنا قول ابن عباس.
إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ مَفَازًا ١٣
ذكر جزاء من اتقى مخالفة أمر الله " مفازا " موضع فوز ونجاة وخلاص مما فيه أهل النار .
ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة , تفاؤلا بالخلاص منها .
إِنَّ لِلۡمُتَّقِينَ مَفَازًا ١٣
لما ذكر حال المجرمين ذكر مآل المتقين فقال: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه فلهم مفاز ومنجي، وبعد عن النار.
حَدَآئِقَ وَأَعۡنَٰبٗا ٢٣
نسخ
مشاركة
التفسير
حَدَآئِقَ وَأَعۡنَٰبٗا ٢٣
"حدائق" والحدائق البساتين من النخيل وغيرها.
حَدَآئِقَ وَأَعۡنَٰبٗا ٢٣
هذا تفسير الفوز .
وقيل : " إن للمتقين مفازا " إن للمتقين حدائق ; جمع حديقة , وهي البستان المحوط عليه ; يقال أحدق به : أي أحاط .
والأعناب : جمع عنب , أي كروم أعناب , فحذف .
حَدَآئِقَ وَأَعۡنَٰبٗا ٢٣
وفي ذلك المفاز لهم { حَدَائِقَ } وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية، في الثمار التي تتفجر بين خلالها الأنهار، وخص الأعناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق.
وَكَوَاعِبَ أَتۡرَابٗا ٣٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَوَاعِبَ أَتۡرَابٗا ٣٣
أي وحورا كواعب قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد "كواعب" أي نواهد يعنون أن ثديهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عرب أتراب أي في سن واحد كما تقدم بيانه في سورة الواقعة قال ابن أبي حاتم حدثنا عبدالله بن أحمد بن عبدالرحمن الدستكي حدثني أبي عن أبي سفيان عبدالرحمن بن عبدالله بن تيم حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث عن أبي عبدالرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي عن أبي أمامة أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن قمص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم يا أهل الجنة ماذا تريدون أن أمطركم؟ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب".
وَكَوَاعِبَ أَتۡرَابٗا ٣٣
كواعب : جمع كاعب وهي الناهد ; يقال : كعبت الجارية تكعب كعوبا , وكعبت تكعب تكعيبا , ونهدت تنهد نهودا .
وقال الضحاك : ككواعب العذارى ; ومنه قول قيس بن عاصم : وكم من حصان قد حوينا كريمة ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
والأتراب : الأقران في السن .
وقد مضى في سورة " الواقعة " الواحد : ترب .
وَكَوَاعِبَ أَتۡرَابٗا ٣٣
ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس { كَوَاعِبَ } وهي: النواهد اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن، وقوتهن ونضارتهن .
{ والأَتْرَاب } اللاتي على سن واحد متقارب، ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة، في أعدل سن الشباب .
وَكَأۡسٗا دِهَاقٗا ٤٣
نسخ
مشاركة
التفسير
وَكَأۡسٗا دِهَاقٗا ٤٣
قال ابن عباس مملوءة متتابعة وقال عكرمة صافية وقال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد "دهاقا" الملأى المترعة وقال مجاهد وسعيد بن جبير هي المتتابعة.
وَكَأۡسٗا دِهَاقٗا ٤٣
وكأسا دهاقا قال الحسن وقتادة وابن زيد وابن عباس : مترعة مملوءة ; يقال : أدهقت الكأس : أي ملأتها ، وكأس دهاق أي ممتلئة ; قال :
ألا فاسقني صرفا سقاني الساقي من مائها بكأسك الدهاق
وقال خداش بن زهير :
أتانا عامر يبغي قرانا فأترعنا له كأسا دهاقا
وقال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وابن عباس أيضا : متتابعة ، يتبع بعضها بعضا ; ومنه ادهقت الحجارة ادهاقا ، وهو شدة تلازمها ودخول بعضها في بعض ; فالمتتابع كالمتداخل . وعن عكرمة أيضا وزيد بن أسلم : صافية ; قال الشاعر :
لأنت إلى الفؤاد أحب قربا من الصادي إلى كأس دهاق
وهو جمع دهق ، وهو خشبتان يغمز بهما الساق ، والمراد بالكأس الخمر ، فالتقدير : خمرا ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت ; قاله القشيري . وفي الصحاح : وأدهقت الماء : أي أفرغته إفراغا شديدا : قال أبو عمرو : والدهق - بالتحريك : ضرب من العذاب . وهو بالفارسية أشكنجه . المبرد : والمدهوق : المعذب بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه . ابن الأعرابي : دهقت الشيء كسرته وقطعته ، وكذلك دهدقته : وأنشد لحجر بن خالد :
ندهدق بضع اللحم للباع والندى وبعضهم تغلي بذم مناقعه
ودهمقته بزيادة الميم : مثله . وقال الأصمعي : الدهمقة : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ; ومنه حديث عمر : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوما فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها .
وَكَأۡسٗا دِهَاقٗا ٤٣
{ وَكَأْسًا دِهَاقًا } أي: مملوءة من رحيق، لذة للشاربين.
لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا كِذَّٰبٗا ٥٣
نسخ
مشاركة
التفسير
لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا كِذَّٰبٗا ٥٣
وقوله : ( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) كقوله : ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) [ الطور : 23 ] أي : ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ، ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام ، وكل ما فيها سالم من النقص .
لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا كِذَّٰبٗا ٥٣
قوله تعالى : لا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا ولا كذابا اللغو : الباطل ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ; ومنه الحديث : إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو ; بخلاف أهل الدنيا . ولا كذابا تقدم ، أي لا يكذب بعضهم بعضا ، ولا يسمعون كذبا . وقرأ الكسائي ( كذابا ) بالتخفيف من كذبت كذابا أي لا يتكاذبون في الجنة . وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنما خففها هاهنا لأنها ليست مقيدة بفعل يصير مصدرا له ، وشدد قوله : وكذبوا بآياتنا كذابا لأن كذبوا يقيد المصدر بالكذاب .
لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوٗا وَلَا كِذَّٰبٗا ٥٣
{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي: كلاما لا فائدة فيه { وَلَا كِذَّابًا } أي: إثما.
كما قال تعالى: { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا }
جَزَآءٗ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابٗا ٦٣
نسخ
مشاركة
التفسير
جَزَآءٗ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابٗا ٦٣
وقوله : ( جزاء من ربك عطاء حسابا ) أي : هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه ، بفضله ومنه وإحسانه ورحمته ; ( عطاء حسابا ) أي : كافيا وافرا شاملا كثيرا ; تقول العرب : " أعطاني فأحسبني " أي : كفاني . ومنه " حسبي الله " ، أي : الله كافي .
جَزَآءٗ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابٗا ٦٣
جزاء من ربك نصب على المصدر . لأن المعنى جزاهم بما تقدم ذكره ، جزاءه وكذلك عطاء لأن معنى أعطاهم وجزاهم واحد . أي أعطاهم عطاء . حسابا أي كثيرا ، قاله قتادة ; يقال : أحسبت فلانا : أي كثرت له العطاء حتى قاله حسبي . قال :
ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع
وقال القتبي : ونرى أصل هذا أن يعطيه حتى يقول حسبي . وقال الزجاج : حسابا أي ما يكفيهم . وقاله الأخفش . يقال : أحسبني كذا : أي كفاني . وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشرا . مجاهد : حسابا لما عملوا ، فالحساب بمعنى العد . أي بقدر ما وجب له في وعد الرب ، فإنه وعد للحسنة عشرا ، ووعد لقوم بسبعمائة ضعف ، وقد وعد لقوم جزاء لا نهاية له ولا مقدار ; كما قال تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب . وقرأ أبو هاشم عطاء حسابا بفتح الحاء ، وتشديد السين ، على وزن فعال أي كفافا ; قال الأصمعي : تقول العرب : حسبت الرجل بالتشديد : إذا أكرمته ; وأنشد قول الشاعر :
إذا أتاه ضيفه يحسبه وقرأ ابن عباس ( حسانا ) بالنون .
جَزَآءٗ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابٗا ٦٣
وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل [من فضله وإحسانه]. { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ } لهم { عَطَاءً حِسَابًا } أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها ثمنا لجنته ونعيمها .
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلرَّحۡمَٰنِۖ لَا يَمۡلِكُونَ مِنۡهُ خِطَابٗا ٧٣
نسخ
مشاركة
التفسير
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلرَّحۡمَٰنِۖ لَا يَمۡلِكُونَ مِنۡهُ خِطَابٗا ٧٣
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله ، وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء .
وقوله : ( لا يملكون منه خطابا ) أي : لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه ، كقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة : 255 ] ، وكقوله : ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) [ هود : 105 ]
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلرَّحۡمَٰنِۖ لَا يَمۡلِكُونَ مِنۡهُ خِطَابٗا ٧٣
قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن قرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو وابن كثير وزيد عن يعقوب ، والمفضل عن عاصم : ( رب ) بالرفع على الاستئناف ، الرحمن خبره . أو بمعنى : هو رب السماوات ، ويكون الرحمن مبتدأ ثانيا . وقرأابن عامر ويعقوب وابن محيصن كلاهما بالخفض ، نعتا لقوله : جزاء من ربك أي جزاء من ربك رب السماوات ( الرحمن ) . وقرأ ابن عباس وعاصم وحمزة والكسائي : رب السماوات خفضا على النعت ، الرحمن رفعا على الابتداء ، أي هو الرحمن . واختاره أبو عبيد وقال : هذا أعدلها ; خفض رب لقربه من قوله : من ربك فيكون نعتا له ، ورفع الرحمن لبعده منه ، على الاستئناف ، وخبره لا يملكون منه خطابا أي لا يملكون أن يسألوه إلا فيما أذن لهم فيه . وقال الكسائي : لا يملكون منه خطابا بالشفاعة إلا بإذنه . وقيل : الخطاب : الكلام ; أي لا يملكون أن يخاطبوا الرب سبحانه إلا بإذنه ; دليله : لا تكلم نفس إلا بإذنه . وقيل : أراد الكفار لا يملكون منه خطابا ، فأما المؤمنون فيشفعون .
قلت : بعد أن يؤذن لهم ; لقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله تعالى : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا .
رَّبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا ٱلرَّحۡمَٰنِۖ لَا يَمۡلِكُونَ مِنۡهُ خِطَابٗا ٧٣
أي: الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الذي خلقها ودبرها { الرَّحْمَنِ } الذي رحمته وسعت كل شيء، فرباهم ورحمهم، ولطف بهم، حتى أدركوا ما أدركوا.
ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون لا يتكلمون و { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صوابا، لأن { ذَلِكَ الْيَوْمُ } هو { الْحَقُّ } الذي لا يروج فيه الباطل، ولا ينفع فيه الكذب
يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ صَفّٗاۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَقَالَ صَوَابٗا ٨٣
نسخ
مشاركة
التفسير
يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ صَفّٗاۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَقَالَ صَوَابٗا ٨٣
وقوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون ) اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا ، ما هو ؟ على أقوال :
أحدها : رواه العوفي ، عن ابن عباس : أنهم أرواح بني آدم .
الثاني : هم بنو آدم . قاله الحسن ، وقتادة ، وقال قتادة : هذا مما كان ابن عباس يكتمه .
الثالث : أنهم خلق من خلق الله ، على صور بني آدم ، وليسوا بملائكة ولا ببشر ، وهم يأكلون ويشربون . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو صالح والأعمش .
الرابع : هو جبريل . قاله الشعبي ، وسعيد بن جبير ، والضحاك . ويستشهد لهذا القول بقوله : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) [ الشعراء : 193 ، 194 ] وقال مقاتل بن حيان : الروح : أشرف الملائكة ، وأقرب إلى الرب - عز وجل - وصاحب الوحي .
والخامس : أنه القرآن . قاله ابن زيد ، كقوله : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) الآية [ الشورى : 52 ] .
والسادس : أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات ; قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : ( يوم يقوم الروح ) قال : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا رواد بن الجراح ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن ابن مسعود قال : الروح : في السماء الرابعة هو أعظم من السماوات ومن الجبال ومن الملائكة ، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفا وحده ، وهذا قول غريب جدا .
وقد قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري ، حدثنا وهب [ الله بن رزق أبو هريرة ، حدثنا بشر بن بكر ] ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عطاء ، عن عبد الله بن عباس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن لله ملكا لو قيل له : التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث كنت " .
وهذا حديث غريب جدا ، وفي رفعه نظر ، وقد يكون موقوفا على ابن عباس ، ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات ، والله أعلم .
وتوقف ابن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها ، والأشبه - والله أعلم - أنهم بنو آدم .
وقوله : ( إلا من أذن له الرحمن ) كقوله : ( لا تكلم نفس إلا بإذنه ) [ هود : 105 ] . وكما ثبت في الصحيح : " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل " .
وقوله ( وقال صوابا ) أي : حقا ، ومن الحق : " لا إله إلا الله " ، كما قاله أبو صالح ، وعكرمة .
يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ صَفّٗاۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَقَالَ صَوَابٗا ٨٣
قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا " يوم " نصب على الظرف ; أي يوم لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح . واختلف في الروح على أقوال ثمانية :
الأول : أنه ملك من الملائكة . قال ابن عباس : ما خلق الله مخلوقا بعد العرش أعظم منه ، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا وقامت الملائكة كلهم صفا ، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم . ونحو منه عن ابن مسعود ; قال : الروح ملك أعظم من السماوات السبع ، ومن الأرضين السبع ، ومن الجبال . وهو حيال السماء الرابعة ، يسبح الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة ; يخلق الله من كل تسبيحة ملكا ، فيجيء يوم القيامة وحده صفا ، وسائر الملائكة صفا .
الثاني : أنه جبريل - عليه السلام - . قاله الشعبي والضحاك وسعيد بن جبير . وعن ابن عباس : إن عن يمين العرش نهرا من نور ، مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والبحار السبع ، يدخل جبريل كل يوم فيه سحرا فيغتسل ، فيزداد نورا على نوره ، وجمالا على جماله ، وعظما على عظمه ، ثم ينتفض فيخلق الله من كل قطرة تقع من ريشه سبعين ألف ملك ، يدخل منهم كل يوم سبعون ألفا البيت المعمور ، والكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليهما إلى يوم القيامة . وقال وهب : إن جبريل - عليه السلام - واقف بين يدي الله تعالى ترعد فرائصه ; يخلق الله تعالى من كل رعدة مائة ألف ملك ، فالملائكة صفوف بين يدي الله تعالى منكسة رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا أنت ; وهو قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الكلام وقال صوابا يعني قول : لا إله إلا أنت .
والثالث : روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الروح في هذه الآية جند من جنود الله تعالى ، ليسوا ملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل ، يأكلون الطعام . ثم قرأ يوم يقوم الروح والملائكة صفا فإن هؤلاء جند ، وهؤلاء جند . وهذا قول أبي صالح ومجاهد . وعلى هذا هم خلق على صورة بني آدم ، كالناس وليسوا بناس .
الرابع : أنهم أشراف الملائكة ; قاله مقاتل بن حيان .
الخامس : أنهم حفظة على الملائكة ; قاله ابن أبي نجيح .
السادس : أنهم بنو آدم ، قاله الحسن وقتادة . فالمعنى ذوو الروح . وقال العوفي والقرظي : هذا مما كان يكتمه ابن عباس ; قال : الروح : خلق من خلق الله على صور بني آدم ، وما نزل ملك من السماء إلا ومعه واحد من الروح .
السابع : أرواح بني آدم تقوم صفا ، فتقوم الملائكة صفا ، وذلك بين النفختين ، قبل أن ترد إلى الأجساد ; قاله عطية .
الثامن : أنه القرآن ; قال زيد بن أسلم ، وقرأ وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا . و ( صفا ) : مصدر أي يقومون صفوفا . والمصدر ينبئ عن الواحد والجمع ، كالعدل ، والصوم . ويقال ليوم العيد : يوم الصف . وقال في موضع آخر : وجاء ربك والملك صفا صفا هذا يدل على الصفوف ، وهذا حين العرض والحساب . قال معناه القتبي وغيره . وقيل : يقوم الروح صفا ، والملائكة صفا ، فهم صفان . وقيل : يقوم الكل صفا واحدا .
لا يتكلمون أي لا يشفعون إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة وقال صوابا يعني حقا ; قاله الضحاك ومجاهد . وقال أبو صالح : لا إله إلا الله . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : يشفعون لمن قال لا إله إلا الله
. وأصل الصواب . السداد من القول والفعل ، وهو من أصاب يصيب إصابة ; كالجواب من أجاب يجيب إجابة . وقيل : لا يتكلمون يعني الملائكة والروح الذين قاموا صفا ، لا يتكلمون هيبة وإجلالا إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة وهم قد قالوا صوابا ، وأنهم يوحدون الله تعالى ويسبحونه . وقال الحسن : إن الروح يقول يوم القيامة : لا يدخل أحد الجنة إلا بالرحمة ، ولا النار إلا بالعمل . وهو معنى قوله تعالى : وقال صوابا .
يَوۡمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ صَفّٗاۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَقَالَ صَوَابٗا ٨٣
وفي ذلك اليوم { يَقُومُ الرُّوحُ } وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أشرف الملائكة { وَالْمَلَائِكَةِ } [أيضا يقوم الجميع] { صَفًّا } خاضعين لله { لَا يَتَكَلَّمُونَ } إلا بما أذن لهم الله به .
ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مََٔابًا ٩٣
نسخ
مشاركة
التفسير
ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مََٔابًا ٩٣
"ذلك اليوم الحق" أي الكائن لا محالة "فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" أي مرجعا وطريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه.
ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مََٔابًا ٩٣
قوله تعالى : ذلك اليوم الحق أي الكائن الواقع فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أي مرجعا بالعمل الصالح ; كأنه إذا عمل خيرا رده إلى الله - عز وجل - ، وإذا عمل شرا عده منه . وينظر إلى هذا المعنى قوله - عليه السلام - : والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك . وقال قتادة : مآبا : سبيلا .
ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلۡحَقُّۖ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِۦ مََٔابًا ٩٣
فلما رغب ورهب، وبشر وأنذر، قال: { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا } أي: عملا، وقدم صدق يرجع إليه يوم القيامة.
إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا ٠٤
نسخ
مشاركة
التفسير
إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا ٠٤
وقوله : ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) يعني : يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا ، لأن كل ما هو آت آت .
( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) أي : يعرض عليه جميع أعماله ، خيرها وشرها ، قديمها وحديثها ، كقوله : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) [ الكهف : 49 ] ، وكقوله : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) [ القيامة : 13 ] .
( ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا ) أي : يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا ، ولم يكن خلق ، ولا خرج إلى الوجود . وذلك حين عاين عذاب الله ، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة ، وقيل : إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا ، فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور ، حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء . فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها : كوني ترابا ، فتصير ترابا . فعند ذلك يقول الكافر : ( ياليتني كنت ترابا ) أي : كنت حيوانا فأرجع إلى التراب . وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور وورد فيه آثار عن أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهما .
[ آخر تفسير سورة " عم " ]
إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا ٠٤
قوله تعالى : إنا أنذرناكم عذابا قريبا يخاطب كفار قريش ومشركي العرب ; لأنهم قالوا : لا نبعث . والعذاب عذاب الآخرة ، وكل ما هو آت فهو قريب ، وقد قال تعالى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها قال معناه الكلبي وغيره . وقال قتادة : عقوبة الدنيا ; لأنها أقرب العذابين . قال مقاتل : هي قتل قريش ببدر . والأظهر أنه عذاب الآخرة ، وهو الموت والقيامة ; لأن من مات فقد قامت قيامته ، فإن كان من أهل الجنة رأى مقعده من الجنة ، وإن كان من أهل النار رأى الخزي والهوان ; ولهذا قال تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه
يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ بين وقت ذلك العذاب ; أي أنذرناكم عذابا قريبا في ذلك اليوم ، وهو يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي يراه ] ، وقيل : ينظر إلى ما قدمت فحذف إلى . والمرء هاهنا المؤمن في قول الحسن ; أي يجد لنفسه عملا ، فأما الكافر فلا يجد لنفسه عملا ، فيتمنى أن يكون ترابا . ولما قال : ويقول الكافر علم أنه أراد بالمرء المؤمن . وقيل : المرء هاهنا : أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط .
ويقول الكافر أبو جهل . وقيل : هو عام في كل أحد وإنسان يرى في ذلك اليوم جزاء ما كسب . وقال مقاتل : نزلت قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا : في أخيه الأسود بن عبد الأسد .
وقال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الكافر : هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب ، وافتخر بأنه خلق من نار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ، والرحمة ، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب ، تمنى أنه يكون بمكان آدم ، فيقول : ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا قال : ورأيته في بعض التفاسير للقشيري أبي نصر . وقيل : أي يقول إبليس يا ليتني خلقت من التراب ولم أقل أنا خير من آدم . وعن ابن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم ، وحشر الدواب والبهائم والوحوش ، ثم يوضع القصاص بين البهائم ، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء بنطحتها ، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها : كوني ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا . ونحوه عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - . وقد ذكرناه في كتاب ( التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ) ، مجودا والحمد لله . ذكر أبو جعفر النحاس : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع ، قال حدثنا سلمة بن شبيب ، قال حدثنا عبد الرازق ، قال حدثنا معمر ، قال أخبرني جعفر بن برقان الجزري ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة ، قال : إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ، ثم يقال للبهائم والطير كوني ترابا ، فعند ذلك ( يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) . وقال قوم : يا ليتني كنت ترابا : أي لم أبعث ، كما قال : يا ليتني لم أوت كتابيه . وقال أبو الزناد : إذا قضي بين الناس ، وأمر بأهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ترابا ، فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم يا ليتني كنت ترابا .
وقال ليث بن أبي سليم : مؤمنو الجن يعودون ترابا . وقال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد : مؤمنو الجنة حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها . وهذا أصح ، وقد مضى في سورة ( الرحمن ) بيان هذا ، وأنهم مكلفون : يثابون ويعاقبون ، فهم كبني آدم ، والله أعلم بالصواب .
إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا ٠٤
{ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } لأنه قد أزف مقبلا، وكل ما هو آت فهو قريب.
{ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي: هذا الذي يهمه ويفزع إليه، فلينظر في هذه الدنيا إليه ، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } الآيات.
فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم.
نسأل الله أن يعافينا من الكفر والشر كله، إنه جواد كريم.
تم تفسير سورة عم، والحمد لله رب العالمين
صَدَق الْلَّه الْعَظِيْم